الطائفة الباغية
(4)
قال نزار قباني (1923-1998):
"رِسَالَةٌ ٌمِنْ سَيِّدَةٍ حَاقِدَةٍ
لَا تَدْخُلِي وَسَدَدْتَ فِي وَجْهِي الطَّرِيقَ بِمِرْفَقَيْكْ وَزَعَمْتَ لِي أَنَّ الرِّفَاقَ أَتَوْا إِلَيْكْ أَهُمُ الرِّفَاقُ أَتَوْا إِلَيْكْ أَمْ أَنَّ سَيِّدَةً لَدَيْكْ تَحْتَلُّ بَعْدِيَ سَاعِدَيْكْ وَصَرَخْتَ مُحْتَدِمًا قِفِي وَالرِّيحُ تَمْضَغُ مِعْطَفِي وَالذُّلُّ يَكْسُو مَوْقِفِي لَا تَعْتَذِرْ يَا نَذْلُ لَا تَتَأَسَّفِ أَنَا لَسْتُ آسِفَةً عَلَيْكْ لَكِنْ عَلَى قَلْبِي الْوَفِي قَلْبِي الَّذِي لَمْ تَعْرِفِ مَاذَا لَوَ انَّكَ يَا دَنِي أَخْبَرْتَنِي أَنِّي انْتَهَى أَمْرِي لَدَيْكْ فَجَمِيعُ مَا وَشْوَشْتَنِي أَيَّامَ كُنْتَ تُحِبُّنِي مِنْ أَنَّنِي بَيْتُ الْفَرَاشَةِ مَسْكَنِي وَغَدِي انْفِرَاطُ السَّوْسَنِ أَنْكَرْتَهُ أَصْلًا كَمَا أَنْكَرْتَنِي لَا تَعْتَذِر فَالْإِثْمُ يَحْصُدُ حَاجِبَيْكْ وَخُطُوطُ أَحْمَرِهَا تَصِيحُ بِوَجْنَتَيْكْ وَرِبَاطُكَ الْمَشْدُوهُ يَفْضَحُ مَا لَدَيْكَ وَمَنْ لَدَيْكْ يَا مَنْ وَقَفْتُ دَمِي عَلَيْكْ وَذَلَلْتَنِي وَنَفَضْتَنِي كَذُبَابَةٍ عَنْ عَارِضَيْكْ وَدَعَوْتَ سَيِّدَةً إِلَيْكْ وَأَهَنْتَنِي مِنْ بَعْدِ أَنْ كُنْتُ الضِّيَاءَ بِنَاظِرَيْكْ إِنِّي أَرَاهَا فِي جِوَارِ الْمَوْقِدِ أَخَذَتْ هُنَالِكَ مَقْعَدِي فِي الرُّكْنِ ذَاتَ الْمَقْعَدِ وَأَرَاكَ تَمْنَحُهَا يَدًا مَثْلُوجَةً ذَاتَ الْيَدِ سَتُرَدِّدُ الْقِصَصَ الَّتِي أَسْمَعْتَنِي وَلَسَوْفَ تُخْبِرُهَا بِمَا أَخْبَرْتَنِي وَسَتَرْفَعُ الْكَأْسَ الَّتِي جَرَّعْتَنِي كَأْسًا بِهَا سَمَّمْتَنِي حَتَّى إِذَا عَادَتْ إِلَيْكْ لِتَرُودَ مَوْعِدَهَا الْهَنِي أَخْبَرْتَهَا أَنَّ الرِّفَاقَ أَتَوْا إِلَيْكْ وَأَضَعْتَ رَوْنَقَهَا كَمَا ضَيَّعْتَنِي".
لقد احتشدت لنزار بهذا النص الجيد، مواهبه الفنية المختلفة (الرسم والموسيقى والشعر)، جميعا معا، وحاطتها خبرته السياسية، وكان أعلم بذلك من غيره؛ فضمنه كتابه "أحلى قصائدي"، وغنته له فايزة أحمد بلديته السورية المصرية، بتلحين محمد سلطان زوجها المصري، وإن كان أقل كثيرا مما يتحمله النص ويستحقه، فضلا عن تغيير بعض ما لا غنى عنه من الكلمات!
لقد ادعى نزار في عنوان نصه أنه رسالة من سيدة حاقدة، ليوحي بأن صاحبته قد تركته مكتوبا لصاحبها وذهبت عنه، من حيث لم تستطع أن تواجهه بما حدث بعدما كان وهي السيدة الآن لا الفتاة، وأنها ربما احتقرت نفسها، واستهانت بحياتها. وقد جعلها حاقدة فألبنا عليها من حيث الحقد إمساك العداوة في القلب والتربص لفرصة الانتقام، وما زال كريها إلينا منذ قال المقنع الكندي المتوفى سنة 70 الهجرية -وأحسن-:
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس كريم القوم من يحمل الحقدا
حتى إذا ما مضينا في النص تألبنا على الشاعر نفسه لا السيدة؛ وهذا أسلوب السياسي الماهر الذي تعنيه النتائج أكثر من المقدمات!
إن النص قصيدة حرة العروض (كاملية الأوزان متعددة القوافي)،
ذات اثنين وأربعين جزءا بيتيا متفاوتة الأطوال، في أربعة فصول مختلفة الألوان متداخلة الحدود:
الفصل الأول أصفر (16 جزءا بيتيا): 1-5، 10، 15، 22-25، 27-28، 30، 39، 41.
والفصل الثاني أزرق (6 أجزاء بيتية): 6-9، 11-12.
والفصل الثالث أحمر (16 جزءا بيتيا): 13-14، 16-21، 26، 29، 35-38، 40، 42.
والفصل الرابع أغبر (4 أجزاء بيتية): 31-34.
لقد اصفر في عيني حديث الفصل الأول عن الحبيب الخبيث الخائن المعتذر بالكذب المفضوح، على رغم اختصاصه بقافية العويل الكافية الساكنة المردفة بياء اللين؛ إذ التبس فيها بكاء الحبيبة عليه، بما ينبغي له في رأيها من بكائه على نفسه!
وازرق في عيني حديث الفصل الثاني عن الحبيبة المحترقة بهوانها على حبيبها في موقف الافتقار إليه، على رغم اختصاصه بقافية الرفيف الفائية المكسورة المجردة الموصولة بالياء؛ إذ التبس فيها انكسار القلب باحتقار الوفاء!
واحمر في عيني حديث الفصل الثالث عن الحبيبة المقهورة بانتكاس أحلامها وانكشاف أوهامها وابتذال أيامها، على رغم اختصاصه بقافية الامتنان النونية المكسورة المجردة الموصولة بالياء؛ إذ التبس فيها انعطاف الحني (الثني) الواهن، بانقلاب الحين (الهلاك) الحائن!
واغبر في عيني حديث الفصل الرابع عن البديلة الجديدة باستسلامها المنتظر لألاعيب الحبيب الخبيث الخائن وأكاذيبه نفسها، على رغم اختصاصه بقافية الانفجار الدالية المكسورة المجردة الموصولة بالياء؛ إذ التبس فيها إيقاع التدهور بإيقاع الاندفاع!
وألطف ما في تفصيل هذه الفصول بعد تداخلها الدال على مبلغ تعقد الأزمة، استواء عددي أبيات الفصلين الأول الأصفر والثالث الأحمر، دلالة خفية على ألا حقد بالسيدة المظلومة، بل رغبة كامنة في أن يعيدها حبيبها إلى جنته، فيراجعا نعيمها الزائل!
ولا ريب لدي في أن هذه القصيدة من زمان ما قبل اعتقاد الركاكة -ولا تتناقض عندي السهولة والجزالة كما استفاض مقال سابق- فقد ازدهت بإحكام أصواتها ومقاطعها وكلمها وتعابيرها وجملها وفقرها وفصولها، مباني ومعاني، إلا أربعة مواضع:
أما أولها فقوله في الجزء البيتي 4 من الفصل الأول الأصفر: "أَمْ أَنَّ سَيِّدَةً لَدَيْكْ"؛ فإن المعطوف أو المستأنف ب"أم" هذه المنقطعة، لا يكون بعض جملة، ولو كان قال: "أَمْ إنَّ سَيِّدَةً لَدَيْكْ"، لاستقام؛ فإن المصدر المؤول من "أَنَّ سَيِّدَةً لَدَيْكْ"، بمنزلة بعض جملة لا يتحمل فائدة الجملة الكاملة إلا بتكلف مقيت.
وأما الموضع الثاني فقوله في الجزء البيتي 26 من الفصل الثالث الأحمر: "وَذَلَلْتَنِي"؛ ف"ذل" فعل لازم لا يتعدى، ولو كان قال: "أَذَلَلْتَنِي"، لاستقام، ولكنه آثر وجهه العامي تشوفا كامنا إلى الركاكة التي سينتهجها في شعره بعد، وحرص على مثل إيقاع "وَأَهَنْتَنِي"، الجزء البيتي 29 من هذا الفصل الثالث الأحمر نفسه، وكلاهما على "دددن ددن=متفاعلن=سالمة"، على حين "أَذَلَلْتَنِي"، إنما هي على "دن دن ددن=متفاعلن=مضمرة".
وأما الموضعان الثالث والرابع فقوله في الجزأين البيتيين 33 و34 من الفصل الرابع الأغبر: "ذَاتَ الْمَقْعَدِ"، و"ذَاتَ الْيَدِ"؛ ف"ذات" بمعنى "صاحبة" لا تكون بمعنى "نفس" عند المجزلين من الشعراء، ولو كان قال: "نَفسَ الْمَقْعَدِ"، و"نَفسَ الْيَدِ"، لاستقاما، ولكنه آثر الوجه المبتذل تضجرا كامنا بالجزالة التي سيطرحها عن شعره بعد، وكل شيء بمقدار!