بقلم: نارام سرجون
هجرة سمك السلمون العربي الى الغرب .. رحلة الانتحار والوصية
---------------------------------
كلما أطلت علينا صورة مأساة تعوذت من الشيطان الرجيم الذي سيرافق التماسيح .. وتعوذت من دموع التماسيح .. لأن من يتصدر مشاهد البكاء والنحيب والتفجع هم أولئك المنافقون والممثلون في أرجاء العالم الذين يبكون على الضحايا فيما لاتزال أشلاء الضحايا معلقة بأسنانهم ودمها على ياقاتهم البيضاء ..
كل من اعتلى منصة العالم اليوم ليدلي بدلوه الباكي على المسرح حزنا على صورة الطفل السوري الغريق انما كان يمعن في اغراقه واهانتنا .. وكل السياسيين الذين تبرعوا بالدموع والكلمات الملوعة انما كانوا كالكلاب الضالة الجائعة التي تتجاذب جثة الطفل الغريق .. كل يريد قطعة لحم يعود بها الى الرأي العام ليقنعه أنه حنون ورقيق وشفاف القلب .. وكانوا جميعا أشبه بكتلة من المنافقين حول ملك ميت يتدافعون حول الجثمان ليظهروا لولي عهده كم هم حزانى على الفقيد ولكن عيونهم تجوس بين الكراسي بحثا عن أقرب مكان من العرش ..
الطفل الغريق مات ولكن شيعه حشد كبير جدا من المنافقين والمجرمين واللصوص والتماسيح فيما غاب المشيعون الحقيقيون في غبار الأخبار .. وان كنا نريد أن نتوخى الدقة فان من شيعه اليوم ونعاه هم أنفسهم الذين دفعوه الى الغرق دفعا بأيديهم بل وأبقوا رأسه تحت الماء حتى لفظ أنفاسه الأخيرة .. وأنا لاأصدق دمعة واحدة من كل الدموع التي تنهمر من عيون التماسيح والتي ستنهمر .. ولاأصدق كلمة عطف وكلمة غضب لأن الغضب العالمي صار صناعة وبضاعة في سوق النذالة السياسية ..فكيف لي أن أصدق من أرسل السكاكين وسقى الكراهية بالكؤوس أنه يمكن أن يكون له قلب وضمير ودموع؟؟
الكل يمسك بالجثة ويدور بها يستغلها في برنامج سياسي حقير خاص به وفي مرافعة استعراضية مضمخة بالكذب والنفاق .. والكل يمسك جثة الطفل ويضرب بها عدوه وخصومه ..ويسدد بها على هدف سياسي حقير ..
أردوغان الوغد الذي دمر بلاد الطفل ومدينة أبيه (عين العرب) وأرسل عليهم الدواعش وجبهة النصرة والانتحاريين ومجاهدي النكاح .. أمسك جثة الطفل كما لو كانت حجرا أو مقذوف منجنيق عثماني وضرب بها كل أوروبة التي قال بأنها (حولت البحر المتوسط الى مقبرة للمهاجرين) .. عند أردوغان كل شيء يمكن أن يتحول الى سلاح حتى الأطفال يمكن أن تفيد جثثهم في التراشق السياسي مع خصومه .. تخيلوا أن اللاجئين السوريين الذين وعدهم أردوغان بأن يكونوا في تركيا مثلما كان المهاجرون أيام النبي بين الأنصار في يثرب يعاملون كالحيوانات المريضة ..
يثرب التركية أذلت السوريين اللاجئين اذلالا لم يذله انسان من قبل .. وسمعت من لاجئين كثيرين كيف يبصق الناس عليهم في الطرقات وكيف لايمنحونهم سكنا حتى بالايجار ويطردونهم كالدواب الجرباء ..ورغم أنهم نظريا حواضن الثورة السورية فان الحكومة التركية تتفنن في تقليص تحركاتهم ومنعهم من العمل الا في الأعمال الوضيعة جدا ومن الدراسة .. مع أن أردوغان يرسل مهاجرين من شتى أنحاء العالم ليسرقوا كل مافي حلب وادلب من مصانع وأثار وتحف ومياه ومزارع .. وتحولت يثرب أردوغان الى جحيم لايطاق لايستطيع العابرون المهاجرون فيها الا أن يحلموا بالغرق خارجها .. كخلاص منها ..
والزعماء الاوروبيون تراكضوا وتسابقوا لابداء الأسف الشديد على مشهد الطفل والكارثة الانسانية رغم أنهم جميعا ضالعون في الكارثة وهم يشددون الحصار على الشعب السوري ويستقبلون الارهابيين على أنهم أحرار ويتغزلون بالقاعدة على أنها اعتدال .. وان كنا نتوخى الدقة فان علينا أن نقول بأن الزعماء الاوربيين هم المساهمون الحصريون في ملكية مصنع الكارثة .. وكل مايقولونه لايعدو ثرثرة متخمة بالأخلاقيات القذرة ومحاضرات القتلة في القتل الرحيم ..ولو تمكن الطفل من النهوض لنظر في وجوههم وتقيأ عليها قبل أن يعود الى موته في تلك الوضعية الأبدية على الشاطئ ..
ولم يتأخر العرب ومشايخهم في الهرولة الى جثة الطفل وجرجرتها بينهم كالضباع التي فاتها بعض اللحم الباقي على العظام وانبروا يحاضرون في الوعظ ويمارسون التكسب من دروس الوعظ الأخلاقي للعالم وتحقيره على صمته .. وهؤلاء تحديدا هم الذين تمتلئ رقابهم وبطونهم بدماء السوريين وأطفالهم .. وهؤلاء جميعا يستحقون الاعدام شنقا بسبب نفاقهم ولأنهم هم الذين كانوا يرون لنا الملائكة تقاتل الى جانب الثوار ولكن تلك الملائكة لاتملك زوارق مطاط لأخذ المهاجرين الى شواطئ آمنة .. ولو نهض الطفل لحظات من ميتته لنظر الى هؤلاء الشيوخ مليا وبصق على لحاهم واحدا واحدا قبل أن يعود الى مكانه وينام على بطنه كما وجد ميتا ..
وأما المعارضة السورية فانها كالعادة عندما تقتل الناس وتمسح السكاكين بثياب الحكومة السورية ..ورغم أنها تسببت بكل الكوارث الا أن عقلها العفن لايستطيع أن يقرأ الكارثة الا على أنها سبب مباشر لسياسات الحكومة السورية ولاشي آخر .. وبذلك أمسكت المعارضة جثة الطفل ورشقت بها الحكومة السورية بقوة كما لو كانت الجثة كيسا رمليا .. علها تصيب من الحكومة السورية مقتلا أو نقطة حرجة رغم أن المعارضة تكبر لحرمان الناس وأطفالهم من الماء والكهرباء والغاز وكل وسائل العيش وترميهم بالقذائف في الشوارع وتهلل لارتفاع الأسعار والدولار وأسعار الشقاء .. عل في شقاء الناس وهجرتهم طريقا للنصر الثوري .. هؤلاء يذكرونني بقول الله "بأنهم يأكلون في بطونهم نارا" ..
ولكن أيضا نحن جميعا نساهم في صناعة ثقافة الهجرة لأننا لانقول للناس شيئا عن مآسي الهجرة ولاعن الذل الذي يعيشه المهاجر اللاشرعي ..
فهناك دوما من يروج قصصا خرافية ..حتى يكاد الشرق تأكله الأساطير .. لأنه يقتات على الاساطير ويشرب عصير الحكايا في المقاهي .. ولأن المقاهي هي التي تقرر لنا حياتنا فاننا لانزال نعيش على أسطورة العالم الغربي المتحضر الراقي المتفوق أخلاقيا وانسانيا وحضاريا لأنه متفوق علميا .. ولكن لايوجد مقهى واحد في الشرق ولاحكواتي واحد يقول لنا أن الأخلاق جزء لايتجزأ .. وبأن الغرب الذي يحرق الشرق لايمكن أن يكون ودودا تجاه المهاجرين الشرقيين .. في المقاهي الشرقية يتساوى المثقفون والكتاب ورواة سيرة الزير سالم أبو ليلى المهلهل ..
الحكواتيون يروون لك الأساطير عن نعمة اللجوء الى الغرب حتى جعلوا الناس يتركون كل الخيارات أمام خيار الهجرة نحو الغرب حتى ولو عبر شاحنات يموتون فيها مع اطفالهم أو عبر بحار لاضفاف لها ولاشواطئ ..ولكن من ذا الذي يروج عند هؤلاء أن الغرب جمعية خيرية وأن من يصل فانه سيصبح شجرة مثمرة هناك؟؟ فينتحر الناس وهم يتدافعون الى الموت .. لماذا لايقول الناس الحقيقة للناس بأن من بين ألف مهاجر فان من يصبح شجرة مثمرة هو واحد فقط أما الباقون فانهم يخسرون حياتهم وأولادهم وبناتهم .. وأحيانا دينهم ..ويموتون وهم أحياء ..
كيف تصور الدراما العربية في مشاهد كثيرة المغتربين على أنهم يعيشون في كوكب النعيم؟؟ .. وكيف تصور المواقع الالكترونية العربية جميعها كل من يهاجر الى الغرب بأنه يعيش عيشة الملوك وأنه يعود فاتحا الى بلاده؟؟ .. وكيف يباهي الاعلام العربي بأبنائه المهاجرين الذين أبدعوا في الغربة دون أن ينوه الى أن معظمهم لم يهاجر عبر البحر في برميل أو صندوق شاحنة بل دخل معظمهم بشكل شرعي وخاضوا منافسة قاسية وشق بعضهم طريقه بصعوبة حتى وصل الى النجاح ؟؟ كيف يحدثنا الاعلام العربي عن أطفال لاجئين تكرمهم البلديات الأوربية لتفوقهم دون أن يقول لنا ملايين القصص عن الذين لم يبدعوا بل ضاعوا وذابوا وتشردوا ولم يكن لهم نصيب من الرعاية وأن القضية لامثيل لها الا المقامرة؟؟ .. فأنت تهاجر الى بلد في شاحنة أو مركب ولكنك ان وصلت عوملت على أنك مجرم ولص تريد سرقة ثروة ليست لك ومشاركة أبناء البلاد طاولة طعامهم سواء سمي لجوءك انسانيا أو سياسيا ..
الاعلام العربي هو المسؤول الأول والأخير لأنه ترك قضية الهجرة اللاشرعية لثقافة المقاهي الشعبية ولم يوجد محاولة جادة للبحث في تفاصيل المجتمع الشرقي المهاجر منذ عشرات السنين الذي يتعرض للتمييز والاحتقار والمعاملة الدونية والقوانين التي تذيبه وتعصره رويدا رويدا حتى حولته الى شباب متطرف يهاجر الى حلم أرض الميعاد والهوية في دولة ينتمي اليها عاطفيا هي دولة الخلافة المناقضة لمجتمعه الذي يعامله بعنصرية .. وكل من يقول غير ذلك يكذب على نفسه ..
وأنا التقيت في اغترابي الطويل عشرات من المهاجرين الذين هربوا بعائلاتهم يوما في براميل وبين بضائع السفن وفي بطون الشاحنات وكثيرا من الذين كذبوا وحلفوا للسلطات الأوروبية أنهم مطاردون سياسيا وهم ليسوا بمطاردين سياسيا ..ولكن هؤلاء مروا بمرحلة الاذلال والانتظار ..وهؤلاء كانوا مجموعة من الكسالى الحالمين برحمة الغرب الذي أعطاهم ماأرادوا بعد أن أخذ منهم أهم شيء وهو قوة "الرفض والتمرد" لأنه يقوم بترويضهم جميعا ويهددهم بالابعاد والطرد .. ولاتجد فيهم من يجرؤ على العصيان أو التمرد وازعاج السلطات رغم أن مادفعه للهجرة اعتقاده أنه سيكون أكثر حرية في التمرد ..ولذلك فانك لن تجد في الغرب أكثر لينا وانصياعا وانضباطا من المهاجرين ..
وبعد أن تنتزع شوكة التمرد والرفض تبدأ خسارة الأبناء الصامتة .. الأبناء الذين ذابوا واختلطوا بمياه الغرب وصاروا بنصف لسان ونصف شخصية ونصف هوية .. تجد العائلة موزعة على القارات الخمس .. وبعضهم يجد أبناءه في المساجد الباكستانية والسعودية يبحث عن هويته وارتدى ثياب طالبان ثم انتهى في رحلة جهادية ظلامية .. وبعضهم وجد نفسه بلا جذر ولاانتماء ..
الاعلام العربي لايزال يقدم المهاجر على أنه سيسكن يوما في قصر منيف وأن ولده صار استاذا جامعيا محاضرا.. ولايزال يقدم المهاجر على أنه في رحلة ولادة بعد أن ضاقت عليه بلاده .. ورحلة لاستنشاق الأنفاس بعد غرق طويل في ذل الوطن .. حتى صارت الهجرة ثقافة الولادة .. والبقاء ثقافة الموت .. ولكن ماذا عن ملايين القصص المروعة عن الذوبان والانتحار والشتات بين القارات؟
لاتشبه قوافل الهجرة غير الشرعية المغادرة من الشرق نحو الغرب الا هجرة سمك السالمون آلاف الكيلومترات عكس التيار للوصول الى البحيرات العذبة في رحلة شاقة لايصل بعدها الا القليل منه الى بحيرات الاستقرار حيث تقع ملايين منه في أشداق الدببة وشباك الصيادين التي تتربص بها .. وعندما تصل قوافل السلمون المهاجر تكون مجهدة متعبة وتموت هناك بعد أن ترمي بذورها وبيوضها .. لتواصل ذرياتها رحلة شقاء جديدة ..
ولايشبه هذا النزوح تاريخيا الا هجرة الاوروبيين الى أميريكا الأرض الجديدة أرض الميعاد وأرض اللبن والعسل .. ولكن كم مات على طريق الهجرة من المهاجرين الاوربيين .. وبعد النجاة الأولى انتقت الحياة القاسية وفق قانون الاصطفاء الطبيعي وقانون البقاء للأقوى أولئك الذين لم يموتوا واجتازوا اختبار البقاء ولكن لاندري ماذا بقي منهم ومن روحهم المعذبة ..
كيف يمكن لهذا الغرب الذي تدمر نخبه الثقافية والسياسية الشرق وتنشر فيه الفوضى الخلاقة والدمار .. كيف له أن يعامل المهاجرين اللاشرعيين الا على أنهم زوائد دودية ؟؟ وكيف له أن يضمن لأبنائهم حياة كريمة وهو الذي يربي أبناءه على أن القادمين من ماوراء البحار خطر عليكم ولاينتمون لكم مالم يخلعوا جلودهم التي جاؤوا بها ..
لو كان الغرب أخلاقيا ويكترث للمعاناة الشرقية وللاجئين لتوقف عن التغاضي عن الحقيقة .. الحقيقة هي أن الغرب تنكر للفلسطينيين قبلا وكان يعلم لاحقا أن الربيع ليس ربيعا بل محرقة ولكنه نفخ فيها ولم يقل الحقيقة .. الغرب نفسه قتل ملايين العراقيين والليبيين واليمنيين والسوريين والسودانيين واللبنانيين والفلسطينيين .. وهو نفسه الذي قتل ملايين الأفارقة والهنود والفيتناميين والكوريين .. وهذا الغرب الذي لايرحم لن يرحم المهاجرين مهما تشدق .. الغرب نفسه هو الذي دفع كثيرين في سورية للتورط في حرب بلا أخلاق تحت وعد الحرية ودفعهم الى حمل السلاح ودافع عن المجازر التي ارتكبتها المعارضة بحجة الدفاع عن النفس ..
متى يتوقف سمك السلمون العربي عن القفز عكس تيار الماء بحثا عن البحيرات العذبة .. ومتى يتوقف عن القفز في أشداق الدببة .. ؟؟ أليس من واجبنا جميعا أن نقول له الحقيقة ..
ياسمك السلمون المهاجر .. ليست هناك بحيرات عذبة ..
ياسمك السلمون المهاجر .. في الطريق نصف الموت .. ونصفه الثاني في البحيرات العذبة حيث تكمن النهايات القاسية .. ياسمك السلمون العربي .. ليست لك الا أوطانك لتعيش فيها .. فلاتخربها ولاتهدمها ولاتهرب منها بل دافع عنها ولاتتركها للدببة .. سواء كانوا دببة الداخل .. أو دببة الخارج .. ورسالة الغرق الأخيرة هي رسالة هداية ووصية بألا تهاجر .. فلا تنس الوصية الأخيرة التي كتبها جسد طفل على الشاطئ ..