في ذكرى رحيله
الرحالة العربي عدنان تللو.... تجربة برسم الأجيال في العام 1956 كان عدنان حسني تللو (1918 – 2009 ) يعمل في الكويت مدرباً لكرة القدم والسباحة، وتناهت إلى سمعه أخبار العدوان الثلاثي على مصر الشقيقة فعقد العزم على المشاركة في المقاومة ضد الاستعمار والعدوان، وذلك من خلال الدعاية والتعريف بالبلاد العربية وحقها في الحياة عزيزة كريمة، وخاصة في الجزائر وفلسطين عبر التواصل مع الشبيبة الرياضية العالمية وتعريفهم بما يتمتع به شباب العرب من حب للتفاهم، والتعاون، وما يتسمون به من الجرأة والبطولة والإقدام, بالإضافة – بالطبع – لرؤية الكون الفسيح بما فيه من جمال وسحر، والاطلاع على عجائب الإنسان وغرائب الطبيعة والحيوان, مستبعداً أي منفعة شخصية أو كسب مادي أو سبيل إلى الفخر والتفاخر, مكرساً حبه لوطنه وأرضه الطاهرة وهو يلقي بنفسه في خضم المجهول...
وبين مؤيد ومعارض لما عزم عليه تللو امتطى دراجته النارية التي خَبِرها، قبل ذلك في جولة تمهيدية في أرجاء سورية، في اليوم الأول من عام 1957 خرج متسللاً من دار العائلة في حي القنوات (زقاق البركة) نحو الميدان فالقدم فدرعا، حاملاً معه الوثائق اللازمة، وحاجياته الشخصية، وآلة تصوير، وصوراً عن سورية، وخيمة، وفرشة كاوتشوك، وأدوية، وعدة خياطة، وسكيناً كشفية، إضافة لخرائط بعض الدول التي يزمع زيارتها، ومبلغ من المال لا يتجاوز 270 دولاراً...
لقد قطع عدنان تللو على مدى سبع سنوات 153 ألف كيلو متر، وزار 64 عاصمة من عواصم العالم تحدث عنها مفصلاً في كتابه الصادر بطبعته الأولى في العام 1964 (حول العالم على دراجة نارية) الذي تجاوزت صفحاته – بجزأيه – 1500 صفحة... والتي عاد وكثفها في العام 1992 على مدى 250 صفحة في كتابه (كشف الستار عما خفي من أسرار).
وتجدر الإشارة إلى أنه بتاريخ 9-4-1962، السنة السادسة في رحلته، وهو في طريقه على دراجته النارية إلى سيراليون واجهته سيارة "لوري" مسرعة سحقته بمقدمتها وجثمت فوقه وفوق دراجته فلم يعد يستطيع حراكاً أو فكاكاً، وأغمي عليه للتو ليجد نفسه، بعد أيام، في المشفى مسربلاً بالجص حتى صدره، ويشرح تللو بتفاصيل موسعة ودقيقة في كتابه الملمح إليه ظروف هذا الحادث المؤسف ومضاعفاته وآثاره والنتائج المنبثقة عنه, واستكمال علاجه في لندن، ومن بعد في دمشق التي وصلها بتاريخ 1-6-1963 والتي استقبلته بكل الحب والشوق والمودة مكبرة إنجازاته معربة عن إعجابها برحلته والرسالة العظيمة التي أداها من خلالها...
أثناء رحلته التقى عدنان تللو عدداً كبيراً من الشخصيات: من رؤساء دول، ملوك، أمراء، رؤساء وزارات، وزراء، سفراء ودبلوماسيين، رؤساء اتحادات ومنظمات وجمعيات، أدباء ومفكرين، شجعوه وأيدوه في هدفه ومسعاه وزودوه بتقديراتهم وكتبهم ورسائلهم وبعضهم أكثر من مرة، وقد قام في العام 1987 بجمعها ونشرها تحت عنوان (السجل الذهبي لتواقيع وكلمات الملوك والزعماء والرؤساء والسفراء) وأفرد، في الكتاب نفسه، حيزاً لما نشرته الصحافة العربية والعالمية عن رحلته المتميزة...
وقد تصدر السجل كلمة للرئيس شكري القوتلي، مؤرخة في 13-10-1956 يقول فيها: عرفت السيد حسني تللو وطنياً صادقاً وقومياً مخلصاً مؤمناً بعروبته، عاملاً نافعاً لأمته وبلاده، وإني أعتقد أن نجله السيد عدنان سوف لايكون في إخلاصه لأمته ونفعه لبلاده وحرصه وغيرته على وطنه وسمعة أمته ورفع لوائها أقل من والده، وإني إذ أبارك فيه هذه الصفات أرجو له التوفيق في رحلته متمنياً أن يرفع رأس بلاده ويعمل للدعاية لها في مختلف الأقطار...
وعندما حلّ رحالتنا ضيفاً على الشاعر عمر أبو ريشة، سفير سورية في الهند، نظم بتاريخ 4-5-1957 يقول شعراً:
عدنان، ليس لما يريـــد شبـــابــــــــك حـــــــدّ
طوّفت في الدنيا وعزمك من شـــــــدائدها أشدّ
وحديث قومك أينما يممت، تسبيـــــح وحمــــد
لا عاش من لم يغره في ملعب الأمجاد مجد
لم يثن الحادث الذي وقع لرحالتنا في سيراليون عن معاودة الرحلة مجدداً بعد أن تعافى ولكن هذه المرة بوسائط النقل العامة، فقد كان تواقاً لاستكمال ما فاته ولم يزره سابقاً...
بتاريخ 30-7-1975 كتب سفير سورية في بوخارست وليد المعلم يقول: بدد السيد عدنان تللو فكرة المستحيل، فكان خير ممثل لشباب أمتي التي أعطت العالم الحضارة والنور، أمة يناضل أبناؤها للوصول إلى المستحيل، أمة لا بد أن تنتصر حتى ينتصر الحق والعدل والنور كانت لحظات سعيدة، لحظات اللقاء بالأخ عدنان في رومانيا فلقد لمست روح وحكمة الحياة فأحسست وطني وشعبي، وتبينت التصميم الأكيد على متابعة الطريق من أجل الوصول إلى الأفق البعيد...
لقد أراد عدنان تللو أن يفيد من تجربته في رحلتيه الموسعتين من يقرأ عنهما ويطلع على تفاصيلهما بحيث لا يكتفي بما كتب عنهما وعن وقائعهما فأصدر في العام 1993 كتاباً بعنوان : القوة و الاقتدار في بحور الأسفار، ليكون دليلاً ومرشداً لكل رحالة ومسافر، عاكساً من خلاله مشاهداته ومغامراته والتحديات التي واجهها. وأتبعه في العام 2003 بـ (علامات على طريق الحياة) وقد ضمنه عدداً من الوقائع والوجدانيات والمقالات...
لم يفد الرحالة عدنان تللو من مشاهداته ومغامراته وتجاربه عبر الرحلات فحسب، وقد وثقها – كما لاحظنا، في مصنفات وكتب – وإنما أفاد من تجاربه وممارساته الحياتية, حيث عاش مقتبل عمره في ظل الانتداب الفرنسي والذي واجهه مع أسرته، والأسر السورية كافة، بكل عزم واقتدار إلى أن خرج من بلادنا مذموماً مدحوراً...
ونجد في عدد ليس بالقليل من مؤلفات تللو قصصاً وحكايات وذكريات حول ذلك تشكل صفحة من صفحات البطولة والمقاومة في تاريخ دمشق...
لقد اغتنى عدنان تللو في صباه وفتوته وشبابه وكهولته ونهل من معين الثقافة السورية ليجسدها – من بعد ذلك – في كتب تبهج النفس وتحفز الشعور وتغذي العقل، نذكر منها: رجال ظرفاء ورجال أشداء ( 1997 ) طرف – أطرف من الجنون ( 1999 ) غرفة للإيجار ( 1990 ) ذكريات قديمة (1992 ) ياللعجب ( 2002 )
وأخيراً، لقد افتقدناك يا أبا بيهس، ولكنك ستبقى في قلوبنا، وسيبقى صدى أحاديثك في وجداننا ونحن الذين كنا نجتمع إليك كل ثلاثاء... أهي مصادفة أم تقدير إلهي أن تغادرنا ( الثلاثاء ) لتلتقي مع من تعودت أن تلتقيهم كل ثلاثاء : سليم كنج، عمر الحلبي، وأحمد السيد. أما الذين تركتهم وغادرتهم إلى الملأ الأعلى: مروان متولي، سليم الجابي، سعيد النوري، مأمون كلثوم، كمال الجابي، فاروق قباني، أحمد أبو الدهب، عدنان درويش، وأنس تللو، فإنهم يرجون – وكل محبيك – أن يتغمدك الله بواسع رحمته.
غسان كلاس
http://www.albaath.news.sy/user/?id=1576&a=135870