حــريـــــــر أســـــود
السرد الموجع لقصة النزوح والاشتياق حملت رواية «حرير أسود» للكاتبة أنيسة عبود أزمنة متعددة، امتدت منذ نكبة 1948 وتهجير الفلسطينيين ولجوئهم إلى الأردن.. ومن ثم القنيطرة لتأتي نكسة حزيران 1967 وتعود من جديد قصة النزوح والتشتت والاشتياق «وعندما قامت حرب حزيران واحتل الصهاينة الجولان تهجرت العائلات وتشتت الجيران.. احترقت حكاياتنا الصغيرة مع قنابل النابالم وضاعت تحت القصف وجوهنا القديمة» ص36، إلى أن جاءت حرب تشرين وعودة القنيطرة المحررة والوقوف على وادي الصراخ-كما سمته الكاتبة- الذي يفصل بين أهلنا في الجولان المحتل والقنيطرة.. «وهناك مصور يصور وادي الصراخ، أما الذي يحمل مكبر صوت فراح يغني الأغاني السورية الوطنية التي ترفع المعنويات وتوقظ المشاعر، فجأة نسمع الرصاص يدوي ونرى أهلنا في الجولان يتراكضون لكنهم خرجوا ثانية، يتحدون المحتل..» ص224.
«حرير أسود» رواية توثيقية لتاريخ سورية بكل تياراته والأحزاب المتصارعة والأشخاص الذين استغلوا نفوذهم، ومناصبهم وزجوا المناضلين بالسجن فخرج بعضهم منكسراً مثل «المشاكس» فقد دمجت الكاتبة عبر عتبات السرد الموجع بين فضاء سردي بسيط وحكايات مشحونة بالتوتر والصراع، وعبّرت من خلاله عن اندماج الذات الخاصة بالذات العامة، وهيمنت البطلة«هادية» الشخصية الرئيسية على السرد، معتمدة على ضمير المتكلم فكانت هي الحامل الروائي للمتن الحكائي مستخدمة كتابة المذكرات بالاشتراك مع صديقتها وفاء على الصفحات البيضاء الفارغة.. «في الدفتر الذي تركه الشهيد والد هادية قلت لصديقتي: اكتبي كنت أريد أن أطير.. أطير وأغرد.. أنا أحب مروان.. تخيلي كيف ستتصرفين عندما تلتقينه في الشارع» ص44.
أخذتنا الكاتبة في عالم ساحر من الوصف البانورامي للمكان والومضات الساحرة التي تغير مسار السرد أحياناً، وتنقله من الواقعية إلى رائحة البحر وروعة المكان واشتياق الحب، فكانت الرواية سلسلة من المشاهد السينمائية تتمثل باسترجاع المشهدية وتداعيات الحلم المفقود وذاك الهاجس الذي يؤرق الاشخاص للعودة «هبت رياح حزيران العاتية، صهلت الروح في التلال وغردت بعيداً القلوب الصغيرة وخرجنا بثيابنا.. تأخرنا عن الجيران في مغادرة بيتنا كنا ننتظر أبي، لكن أبي لم يعد..»ص38.
تميزت الرواية بالارتباط بالمكان كعنصر أساسي من عناصر السرد والالتصاق بفلسطين والقنيطرة والجولان ثم اللاذقية وشاطىء البحر ودير الملك البلدة الصغيرة واتسمت بالوصف السيكولوجي الخارجي والداخلي للشخصيات وأفردت مساحة خاصة للبوح الداخلي للمعاناة الممزوج بالعبارات والتراكيب اللغوية الرقيقة، التي تشبه النوتة الموسيقية.
لم تدخل الكاتبة الكثير من الشخصيات في الرواية فظلت محصورة بعائلة هادية وأخوتها (عامر ورهف) ووالدتها نبيلة الشخصية الأساسية وامتدت أحداث الرواية مع مسيرة عمرها، واحتمالها الشقاء والفقر والبرد والتعب لتربية أولادها، والأب الشهيد الذي خصصت له الكاتبة جانباً خاصاً طال الطفولة المعذبة والنضال والسفر إلى بيروت وأخيراً الشهادة ،«كنت أحمل بارودتي، كنت يائساً وحزيناً، أراقب جنود العدو الصهيوني يتحركون على خط الحدود، شعرت أنني وحيد في هذا العالم لا أهل ولا أب ولا رفاق..» ص 84.
وتمضي الأحداث منذ زواج هادية وهي فتاة صغيرة من غزوان الصياد، خوفاً عليها من قسوة الحياة، وبعدما خذلها حبيبها مروان، الذي نزح مع عائلته أيضاً من الجولان لكن غزوان مريض لا يستطيع أن يكون زوجاً... ومن هنا تبدأ معاناة هادية، التي تتمسك بخيوط الأمل بعدما تعرفت إلى الخياطة فيوليت، ونورا المناضلة التي تنتظر المنحة الدراسية فتحضر هادية مع نورا الندوات والجلسات السرية، وتدرس سراً لتقديم امتحان الاعدادية... «مازال الشارع مقفراً عند الظهيرة والسوق مغلقاً واللاذقية تركض وراء الخريف الرطب... تكرر أن حملت الرسائل تحت ملاءتي... تكرر أن خُفت كثيراً وتابعني المشاكس وقلبه على يده ...» ص 192، وهنا يتغير مسار الحبكة المتعددة ، إذ يدخل حازم الرسام المناضل الذي كان حبيب نبيلة والدة هادية قبل زواجها ، فترتبط هادية بصداقة قوية ويشجعها على عوالم الثقافة والنضال، وتمضي الكاتبة بتسجيل الأحداث السياسية الداخلية ووجود الأحزاب والتيارات المختلفة والمراقبة، والزج بالسجن، في القسم الثاني من الرواية تتطور الأحداث سريعاً، إذ تتعرض نورا للاتهام بالخيانة من قبل زوجها وتتعرض للعنف النفسي والجسدي والضرب، فتطلب الطلاق، وتتسارع الأحداث فتغيب رهف أخت هادية عن صفحات الرواية إثر تعرضها لحادثة اعتداء من قبل شقيق صديقتها ولا نعرف مصيرها إلا في نهاية الرواية... ومن ثم يلقى القبض على هادية وعدنان في الحديقة ، وكان عدنان مفاجأة الكاتبة الشاب المثقف القادم من فرنسا، الذي تسلل إلى داخل هادية رويداً رويداً... وفي الصفحات الأخيرة تصل خطوط الحبكة إلى مسارها الأخير إذ تحصل العائلة على منزل من الدولة لأنها عائلة شهيد، فتقرر نبيلة أن يكون في القنيطرة المحررة، لتطل من بعيد على جبل الشيخ، وتكون قريبة من الكنيسة المهدمة، والمدينة المدمرة ليتجدد الأمل بالتحرير دائماً، وتودع المشاكس الذي خرج من السجن منكسراً فيسافر خارج البلاد، وظهور رهف في الثوب الأبيض عبر الأثير في البرنامج الوطني، وهي تقطع الأسلاك الشائكة لتعود إلى الجولان المحتل وتتزوج من بلال «سامحيني ياأمي إنني ذاهبة لرؤية أبي، وقالت: ليس أمامي من طريق إلا أن أعود إلى الجولان...؟» ص 263.
وأرادت الكاتبة أن تنهي عذابات هادية بزواجها من عدنان على الرغم من محاولات أهله إبعاده عنها «تلفت حولي فلم أجد غير عدنان يناديني ويقول : هيا لنشرب القهوة على الشرفة، إن شروق الشمس في الجولان جميل ياهادية قلت ... علي أن أملأ الصفحة الأخيرة في دفتر أبي ....» 299.
وبهذه الكلمات أسدلت الستارة على رواية حرير أسود التي دوّنت السرد الموجع الذي مازال مستمراً...
حرير أسود - رواية - دار التكوين - 2010