مما سمعته من الشيخ محمد عوض الدمشقي رحمه الله في واقعة حدثت مع أحد قضاة دمشق من عائلة الشرباتي ، والشيخ كان على اطلاع على أحداثها .
كان لهذا القاضي شاب على وشك التخرج من كلية الطب في جامعة دمشق ، وفي أحد الأيام عندما خرج من الكلية يريد قطع الشارع لم ينتبه إلا وسيارة أجرة تدهسه ، وكان السائق من أسرة فقيرة ، وبعد أن سلّم السائق نفسه للشرطة : جاء بعض أفراد أسرته للشيخ محمد عوض يطلبون منه المساعدة في جمع ما تيسر من المال لدفع الدية ، والتوسط لدى القاضي والد الشاب المتوفَّى ، وبعد سؤال الشيخ عن هذه الحادثة ، وتأكده من حالة السائق تم جمع بعض المال من أهل الخير ، وذهب الشيخ مع مجموعة من المشايخ لتعزية الوالد ، وبعد كلمة طيبة ألقاها الشيخ في الصبر والرضا ومواساتهم في هذا المصاب الجلل ، خلا المشايخ بالوالد وكلموه في شأن السائق المحبوس وأنهم أحضروا معهم مبلغاً لدفع الدية ، وإذا بالقاضي الوالد ينتفض ويقول :
" معاذ الله أن آخذ ليرة واحدة ، فأنا رضيت بما قدره الله على ولدي ، ولا أقبل أن أبيع دمه "
فقال له الشيخ محمد :
" نرجوك أن تقبل منا هذا المال واجعله جبر خاطر لوالدتها ليخفف شيئاً من مصابها "
فقال القاضي : " والله إنها أشد صبرا ورضاً مني ، بل هي التي تصبرني وتذكرني بالتسليم لله وما أعده الله للصابرين " .
ثم قال القاضي :
" يا شيخ محمد عوض لقد دخلت أنت والمشايخ بيتي ومعاذ الله أن أردكم خائبين ، والله لأذهبنّ غداً للمحكمة وأتنازل عن حقي ، وسأخرج السائق من السجن بنفسي ، وأعيده لأهله "
بالفعل تم ذلك .
وتمضي الأيام ويتعاقد القاضي مع وزارة العدل في السعودية ، ويُعيَّـن قاضياً في محكمة التمييز بالرياض ، وبعد عدة سنوات من العمل فيها يصاب القاضي بجلطة دماغية أدت لشلل نصفي مع عدم القدرة على الكلام ، وبعد محاولات متعددة للعلاج في مستشفيات الرياض ، وكذلك خارج السعودية لم تجدِ في تحقيق أي تقدم في حالته ، وبعد عودتهم للرياض قررت العائلة العودة بأبيهم القاضي المشلول لدمشق ليعيش آخر أيامه فيها ، واتصلوا بالشيخ محمد عوض الذي كان مقيماً في تلك الفترة بالمدينة وأخبروه بحالة القاضي وما عزموا عليه . وبعد أن جهزوا أنفسهم للرحيل أرادوا وداع المملكة بعمرة مباركة ، وبعد وصولهم للحرم ، وطلبِ الحمالين الذين يحملون العاجز الكبير على حمالة على أعناقهم كما كان يفعل ذلك في السابق ، وضعوا القاضي المشلول على تلك الحمالة وبدؤوا الطواف به ، وبعد انقضاء شوطين من أشواط الطواف : وإذا بالقاضي يلهمه الله تعالى بدعاء يقوله في سره ، فخاطب الحق سبحانه بقلبه فقال :
( أي رب إن الشيخ محمد عوض عندما جاء بيتي ومن معه من المشايخ ليكلموني في قضية ولدي قلت لهم : " إنكم دخلتم بيتي فمعاذ الله أن أردكم خائبين ، وها أنا دخلت بيتك فأسألك بعظمتك ألا تخيب رجائي فيك ، وأن تمنَّ عليَّ بالشفاء ).
يقول القاضي : " شعرت بنشاط في أعضائي المشلولة ، وطلبت من الحمالين أن يتوقفوا وأن ينزلوني "
وبالفعل نزل ، وأكمل بقية أشواط الطواف مشياً على أقدامه باكياً حامداً لله على نعمة الشفاء .
وبعد انقضاء العمرة ذهب القاضي إلى المدينة المنورة ، وقصد بيت الشيخ محمد عوض ، وعندما فتح الشيخ الباب وإذا له يفاجأ بالقاضي واقفاً على أقدامه ، فقال القاضي للشيخ :
( أرأيت يا شيخ محمد فضل الله علي كرمه؟!
أتذكر يوم دخلت بيتي أنت والمشايخ عندما أتيتم لأجل السائق الفقير ، وما قلته لكم في ذلك اليوم ؟!
ولقد رجوت ربي عندما دخلت بيته ألا يخيبني وأن يمنّ علي بالشفاء ، فأجاب دعوتي ، أرأيت ببركة عفوي عن ذلك السائق الفقير ، وعدم رفضي لطبلكم بماذا أكرمني ربي ؟؟ !!
فمن الرابح أنا أم ذلك السائق الفقير ؟؟!!)
د. خلدون مخلوطة