التحدّي الإبداعي
* من طبيعة النفس البشرية أنها جبلتْ على النقص و التحاسد ، مِماّ كان سبباً في أن يقتل قابيل أخاه هابيل ، و كذلك رَفَضَ أبوجهْل دخول الإسلام و الاعتراف لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنبوّة ، فتكون في قوم "عبدمناف" دون قوم أبي جهل .. ، و امتدّت النقائصُ مُصاحبةً للتحاسد ، و كان من نتائج هذه المصاحبة شنّ هجماتٍ وصلتْ حدّ الاتهامات للرموز و الأفذاذ من المبدعين في شتّى المجالات ، و قد شهد مجال الأدب صوَراً كثيرة من هذه الهجمات الشرسة ، و منْ أبرز الذين تعرضوا لهذه الهجمات هوميروس ، باسكال ، أرستوفان ، هيرودوتس ، و من المبدعين العرب أبوتمام ، المتنبي ، الجاحظ ، أحمد شوقي ، العقاد ، طه حسين ، محمد الشحات محمد ، و غيرهم .
دافع الجاحظ عن نفسه في آخر أيامه ، و تحت عنوان "رسالة إلى مجهول" بقوله :-"زعمت أني أسرق الألفاظ ، وأنتحل الكلام ، كيف وأنا ابن البلاغة ،وأنا تربُ الكتابة ، وجهبذ الكلام ،ونقاد المعاني"
و كما دافع الجاحظ عن نفسه بعد اشتهاره –في آخر أيامه- ، فقد دافع كل مَنْ تعرضوا لهجمات النقص و التحاسد عن أنفسهم بطرق و أساليب عديدة .. ، و على رأسها "التحدّي الإبداعي" الذي حلّق في سماواته النسر الشاعر محمد الشحات محمد ، و هو مَنْ أطلق عليه الشاعر الكبير محمد يونس لقب "جاحظ هذا العصر" .. ، فلم يلتفتْ محمد الشحات محمد إلى أصحاب هذه الهجمات إلاّ برسم عدد من علامات التعجب ، يليها التنوّع المتميز لإبداعاته في الشعر بكافة أشكاله ، و القص ، الكتابة للمسرح ، النقد ، القصص الشاعرة التي ابتكرها ،الدراسات و الأبحاث ، و المقال ، الرسم ، الموسيقى (كان عازفاً على الناي) ، الإخراج المسرحي ، المحاضرات ، فقد كان مُحاضراً مركزياًّ بالهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية ، و غير ذلك مَماّ عُرف بتعدّد مواهبه ، و كفاءاته في العمل الاجتماعي و السياسي حيثُ أسس جمعية دار النسر الأدبية لرعاية المواهب ، و كان عضواً بهيئة مكتب الحزب الوطني بعين شمس بالقاهرة ، كما أسّس عدداً كبيراً من المنتديات والجماعات الأدبية .
* لقد واجه محمد الشحات محمد كل مّنْ شنوا عليه الهجمات أو ألقوا عليه اتهامات –رغم قلّتهم بالنسبة لمَنْ شهدوا له- بقدراتٍ خاصة ، و كفاءة إبداعية تخترقُ المسافات و الأزمنة .. ، وكشف بإبداعٍ كلّ المدّعين و أصحاب القلوب المريضة بالحسد و الغيرة
لقد كان محمد الشحات محمد حباًّ ينير الأروقة ، و يترجمُ في العطاء و الصفح ، و النصح ، و النقد الإبداعي ، وكشف القدرات و المواهب و توجيهها و رعايتها ، كما كانتْ سياسته الاحتواء لا الإقصاء ، و كان مُجاملاً غيرَ كتومٍ للشهادة ، و قوياًّ صبوراً غير مُتحاملٍ ، و مبدعاً راقياً غير متعالٍ ، مُتّجهاً لله و مُسلّماً الأمر له سبحانه و تعالى ، و ما كان يعملُ سوى الأخذ بالأسباب (في إطار مشروعية الكتابة و الشرع)
يقول محمد الشحات محمد :- "نعم أنا أعمل بتجارة الأثاث و الملابس ، و بارك الله في التجارة، أماّ عن الأدب فقد وهبني الله ما أغناني و جعلني أديباً قادراً على جمْع الأضداد في نفقها حتى أُنيرَه ، و أنرْته بأمر الله في إطار مشروعية الكتابة و الشرع ، و أماّ أن يجمع أحدهم بين تجارتي و أدبي ، فهذا دليلٌ قاطع على الغيرة و الحسد لأنّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان تاجراً ، و كذلك فقد اختاره اللهُ نبياًّ ورسولاً، و لمْ يجمع عاقلٌ بين تجارته و نبوّته ، و لم يقلْ أحدهم أنه تاجر بالنبوّة ، أو تاجر الرسالة ، و إنما شهد له الجميع بالصدق و الأمانة ، و ما منع بعضهم الاعتراف له بالنبوّة سوى ما منع أبا جهلٍ ، و المغيرة .. ، و هل في امتناعهما أو في الهجمات التي شنّها أمثالهما ما يُشكّكُ في كتاب الله ، أو سنّة رسوله؟ يكفي أنّ أمة الحقِّ بخيرٍ إلى يوم القيامة حيثُ يقضي الله بين الجميع فيما كانوا فيه يختلفون ، ثمّ إن الإبداع الأدبي لا يُباع و لا يُشترى ، و إنما يُقدّر من ذوي الأحاسيس المُرهفة و العقول الراجحة، و حسبنا الله و نعم الوكيل"
كان هذا ردّ محمد الشحات محمد على أحد المُدّعين ، وقد طلب هذا المُدّعي من "الشحات" أن يكتب دراسة نقدية تدور حول أحد رموز الشعر ، و سوف يدفع ثمن الكتابة بشرط أن يضع المُدّعي اسمه على تلك الدراسة حتى يتسنّى له دخول اتحاد الكتاب المصري ، و رفض "الشحات" الطلب ، و نصحه ان يقرأ الدراسة التي كتبها حول "فاروق جويدة" ، و يُحاول أن يتعلّم منها ، و وعده بمساعدته ، و هنا لجأ المُدّعي إلى بعض الأدباء كي يتوسّطوا له عند مُبدعنا "النسر الشاعر" ، و ما إنْ رفض مُبدعنا هذه الوساطة و أعلن أنه سوف يفضح أمرهم ، قاموا بتهديده بشنّ هجمة شرسة عليه ، و الادّعاء بأنّه طلب مبلغاً كبيراً مقابل بيْع إبداعاته ، و هدّده هذا المُدّعي بأنه بلديات وزير التضامن الاجتماعي المصري ، و سوف يطلب منه حلّ الجمعية التي أسّسها مُبدعنا ، و هي جمعية دار النسر للمواهب ، فردّ مُبدعنا الشحات عليهم بمقولته السايقة ، و انطلق يكتبُ بشراهة لتشجيع المواهب الحقيقية و رعايتها ، و من جانبٍ آخر يكشف أمثال هؤلاء المُدّعين ، و يرد على هجماتهم بإبداعاتٍ يشهدُ لها تاريخ الأدب العربي و العالمي
- الغريب أنّ هذا المُدّعي ، و الذي شهدتُ بعيني رأسي واقعته مع مُبدعنا صار الآن عضواً بعدد من الاتحادات و النقابات ، و له دائرة كبيرة من الاتصالات ، و لكنّه لم يستطع أن يمسّ الجمعية و مؤسّسها المبدع بأي سوء رغم إصراره على الاستمرار في هذه الهجمة ، وبينما كان المُدّعي و زمْرته يركبون عربة الزيف ، كان مُبدعنا تحمله أجنحة "النسر الشاعر" و تدفعه إلى قمم الإبداع الراقي ،
و من هنا .. يُمكننا أن نُدرك معاً كيف كانَ التوازي الذي رسمه "الشحات" بين مُدّعي الأدب و بين إبي جهْل و المغيرة توازياًّ إبداعياًّ يفكّ كثيراً من شفرات "التحدي الإبداعي" ، فلا يستسلم المبدع الحقيقي للزيف الذي يجعل من الهجمات و الاتهامات وسيلة لتعطيل مراكب الإبداع أو ابتزاز المبدعين و تشويه صوَرِهم ، إنما على المبدع في مثل هذه الحالة مقابلة هذا الزيف بالتحدّي ، و يجعل من كفاءة هذا التحدي وسيلته الإبداعية كي يفرد أشرعته و يفرض عناصره ، ويؤكّد وجوده في تمدّد مسيرة الإبداع دون توقف ،
و يُمكن لنا بعد فكّ هذه الشفرات أن نرى المبدع الحقيقي من خلال مواجهته للزيف ، و كيف يُحوّل هذا المبدع أيّ خسارةٍ إلى مكسب .
من كتاب "الأسرة و أثرها في حياة المبدعين .. محمد الشحات محمد نموذجاً"/ زاهية سلمي