منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 6 من 6

العرض المتطور

  1. #1

    تفسير سورة الفاتحة بمنهجية جديدة وفريدة/الحسن محمد ماديك

    من بيان سورة الفاتحة

    بسم الله الرحمان الرحيم
    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه وبعد :
    فلقد حرصت ـ من خلال هذا التفسير ـ على إظهار دلالة الحديث النبوي في وصف الفاتحة بأنها أم الكتاب، إذ تبينت من ذلك ولله الحمد قبل عشر سنوات تتبعت فيها الكتاب المنزل على النبي الأمي صلى الله عليه وسلم كلمة كلمة، معنى معنى، دلالة دلالة، وتمكنت من إثبات حقيقة عجيبة هي أن الفاتحة تحوي معاني ودلالات القرآن كله الموجود بين دفتي المصحف العثماني، وبصيغة أخرى فما من معنى ولا دلالة إلا وفي الفاتحة أصلها وتأصيلها بل وتفصيلها وبصيغة أخرى سيدرك الباحثون المتفرغون لدراسة القرآن أنه حوى الكتب المنزلة قبله وهي التوراة والإنجيل والصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى إذ استنبطت نصوص كل منها من القرآن دون زيادة مني ولا تفسير ولا تأويل وإنما بتأصيل أصلته فإذا به يطرد لا ينخرم، وحوى القرآن كذلك جميع ما أوحى الله إلى النبيين والرسل من قبل ـ كما استنبطت ذلك أيضا من القرآن أي منه وحده دونما زيادة مني ولا تأويل، وحوت الفاتحة ذلك كله أي أن الكتاب المنزل كله مختصر في سورة الفاتحة المعلومة المقروءة في الصلاة وغيرها بآياتها السبع.
    ورحم الله أختكم ـ يا أهل شبكة القراءات ـ نسيت اسمها التي توفيت في حادثة انفجار صهريج الغاز في الرياض فلقد كان للوفية ارتقاء الفضل في كتابة هذا الموضوع تفسير سورة الفاتحة .
    حرف الباء:
    تعددت معانيه: فمنها بيان القصد والنية كالابتداء باسم الله الذي شرع الطاعة.
    ـ ومنها الاستعانة كالاستعانة بالله والاستعاذة به وكغرفة باليد.
    ومنها التعليل والسببية كما في قوله ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ﴾ البقرة، وقوله ﴿فَيَقُولُونَ مَا ذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ البقرة، وعاقب الله في الدنيا الذين ظلموا بظلمهم وبما كانوا يفسقون وبعصيانهم وعدوانهم، وأخذت العزة بالإثم ألدّ الخصام، وأخذ الله بالعذاب في الدنيا قوما بذنوبهم وسيوبقهم بسبب كفرهم وتكذيبهم بعذاب جهنم في اليوم الآخر.
    ـ ومنها الشمول والكلية كما في قوله ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ البقرة، أي لم يُبْقِ لهم شيئا من الإبصار، وقوله ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ أي بالغيب كله لا يستثنون منه شيئا وهو كل ما وعد الله به في الكتاب المنزل، وكذلك دلالة التكليف بالإيمان بما أنزل إلى النبي الأمي وبالكتاب كله، وبالإيمان باليوم الآخر وبالملائكة والكتب المنزلة وبالرسل وبالقدر، وكذلك دلالة أن الله بكل شيء عليم وبصير وخبير، ولقد أنبأ آدمُ الملائكة بجميع أسماء المخلصين، وعلم إبليس أنه يومئذ لا سلطان له عليهم.
    ـ ومنها العوض كالذين يشترون بأيمانهم وبآيات الله ثمنا قليلا أي يبيعونها به ويتبدلون الكفر بالإيمان
    ـ ومنها التكافؤ كما في قوله ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ البقرة، يعني إبطال ما تعارف عليه أهل الجاهلية من باطل ومنه رفع الحر عن المؤاخذة بجريرته ووضع الأنثى والعبد عن المؤاخذة، وأقرّ القرآن أن الحرّ مأخوذ بجريرة الحرّ وكذا الأنثى وكذا العبد كل مأخوذ بجريرة نفسه وكذلك كلية ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ الأنعام، وكما في قوله ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ البقرة، أي أن لجماعة المسلمين رد الاعتداء بمثله فإن كان في الأشهر الحرم فليعتدوا فيها كما اعتدي عليهم فيها.
    ـ ومنها المصاحبة والملازمة كقوله ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ البقرة، أي مستصحبا العدل في كل صغيرة وكبيرة، وقوله ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ البقرة، وكذا التسبيح بحمد الله كتكليف النبي الأمي بالتسبيح مستصحبا نعم الله الظاهرة والباطنة التي أتمها عليه وكذا التسريح بإحسان وإيتائهن بالمعروف.
    ـ ومنها الجزئية كما في قوله ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ في سياق الوعد بالمحاسبة ونفي أي جزء أو نوع من الغفلة عما قدّم المبطلون من أعمال في الدنيا، وكالإيمان ببعض الكتاب أي بالتوراة وحدها أو بالإنجيل والتوراة، ذلكم أن الكتاب وِحدة متكاملة بعضه في صحف إبراهيم وموسى وبعضه في التوراة وبعضه في الإنجيل وبعضه في القرآن المنزل على النبي الأمي وقد أمر الله أن يوصل بعضه ببعض وإن منه قوله ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ عبس.
    وكثرت تعدية بعض الكلمات بالباء فاختلفت الدلالة كتعدية الإيمان بالباء وباللام وشتّان ما بينهما لدلالة تعديتها بالباء على الغيب المنتظر ودلالة تعديتها باللام على التصديق من المعاصر، وبينته تفصيلا في كل موضع من القرآن حسب مواضعه في المعجم.
    ويأتي في مادة اسم بيان الفرق بين الشروع في عبادة وتكليف باسم الله وبين الإتيان بها وتمثّلها باسم ربنا تمثّلا لا يملك العبد خلافه ولا يستطيعه.
    الاسم هو مجموعة من الحروف للدلالة على مُسمًّى يتميز به عن غيره، والاسم غير المسمى، ولقد احترقت أسماء مرقومة في الورق وبقي المسمى سالما لم يتأثر، وكم مسمّى مات ولا يزال اسمه حيّا يتحدث الناس به يذكرونه بخير أو بشرّ.
    وتضمن الكتاب المنزل أسماء بعض الملائكة كجبريل وميكال وكذا مالك أمير خزنة جهنم.
    ولقد صور الله جميع بني آدم قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم كما هي دلالة قوله ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ الأعراف، وعلّم رب العالمين عبده آدم أسماء المصطفيْنَ المخلصين من ذريته، وعرض صورهم على الملائكة فلم يعلموا أسماءهم وأنبأ آدمُ الملائكةَ بأسماء المصطفين المخلصين من ذرية آدم ثم وقع تكليف الملائكة بالسجود لآدم، وسجد الملائكة كلهم أجمعون، وسجد بسجود الملائكة من دونهم من المخلوقات، لأن خطاب الأعلى يشمل من دونه رتبة كما أصّلت في تأصيلي الجديد للفقه، ويعني أن جميع المخلوقات سجدوا ولم يشذّ منهم غيرُ الجنيّ إبليسُ.
    ومن تلك الأسماء إسحاقُ ويعقوبُ بشّرت بهما الملائكة إبراهيم وزوجته، ومنها يحيى بشّرت به الملائكة زكريا ومنها عيسى بشّرت به الملائكة مريم وهم الذين قالوا ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ البقرة، وبشّر يوسف بموسى وأنزل الله في التوراة والإنجيل البشارة بمحمد الأميّ.
    وتضمن الكتاب المنزل من أسماء الرسل والنبيين ومن أسماء بعض الصالحين وبعض المبطلين وبعض الأصنام.
    وإن لله ربنا أسماءً وصفت بالحُسْنَى في الأعراف وطه والحشر والإسراء، وتعني دلالة وصفها بالحسنى أن كلا منها قد تضمن وعدا حسنا سيقع نفاذه إذا وافق الأجل الذي جعل الله له وهو الميعاد والله لا يخلف الميعاد.
    وإن الوعد غير المكذوب كما في قوله ﴿فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ هود، هو الوعد الحسن كما في قوله ﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ﴾ القصص، وكما في قوله ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا﴾ طه.
    ووقع الوصف بالحَسَنِ على الوعد الـمُذَكَّر، ووقع الوصف بالحسنى على الكلمات وعلى الأسماء ليتفق الوصف مع الموصوف.
    وإن قوله ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ القصص، لمن الوعد الحسن أي غير المكذوب، وقد وقع لـمّا وافق الأجل الذي جعل الله له كما في قوله ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا التِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَونُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾ الأعراف، ويعني أن كلمة ربنا الحسنى التي تمت أي نفذت هي وعده المذكور في سورة القصص.
    وكلّف الله عباده أن يدعوه بأسمائه الحسنى وحذّر في سورة الأعراف من الإلحاد فيها ووعد بحساب الملحدين فيها على إلحادهم، وتضمنت سورة الحشر نماذج منها تقاربت دلالاتها ومعانيها مما يهدي إلى ترتيبها.
    أما إحصاؤها فلهو الحمل الثقيل والعمل الصالح الذي تقاصرت قبل إتمامه الجهود رغم الجائزة الكبرى التي أعلنها النبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم في حديثه عن أبي هريرة مرفوعا: "إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة" متفق عليه.
    وإن عدم تبيان النبيّ صلى الله عليه وسلم الأسماء الحسنى واحدا تلو الآخر حتى يكمل إحصاء تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا ليذكّرنا بمثل صنيعه بالقرآن إذ بَيَّن للناس ما نُزِّل إليهم وهو القرآن وترك الأمةَ مكلفةً بتدبّره وبالاهتداء به.
    وحسب الناس قديما وحديثا عبر التاريخ الإسلامي أن النبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم قد بيّن معاني القرآن ودلالاته كلها ويستشهدون بقوله تعالى ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ النحل.
    وإنما بيّن النبي الأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس ما نزّل إليهم وهو القرآن فكان كلما أنزل عليه بعض من القرآن قرأه عليهم وأمر بكتابته وأن يجعل في السورة كذا بعد الآية كذا ونهي أن يكتب عنه شيء غير القرآن لئلا يختلط بالقرآن، وتلا عليهم القرآن وسمعوه منه وأقرأهم إياه فذلك ما كلّف به النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، وكلفت الأمة كلها بعد ذلك بالتفكر في القرآن كما هي دلالة قوله ﴿ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ وبالتدبر.
    ومن زعم أن خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم قد بيّن القرآن أي فسّره كله فليأتنا على سبيل المثال لا الحصر بما بيّن به النبي صلى الله عليه وسلم الفواتح وهي مما نزّل إلى الناس من القرآن ومما كلفوا أن يتدبروه.
    إن تدبر القرآن واستنباط ما فيه من معاني ودلالات وهداية إلى الرشد وإلى التي هي أقوم لهي المسابقة إلى الخيرات المأمور بها في القرآن كما في سورة المائدة.
    وهنيئا للذي يسبق الناس إلى الكشف عن كنز القرآن ليفتح على الناس فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم، ذلكم السابق ليرفعنّه رفيع الدرجات ذو العرش ولهو الأحسن عملا ـ منذ فتح باب المسابقة بموت النبي صلى الله عليه وسلم أي بانقضاء تنزل القرآن ـ ذلكم الأحسن عملا الموعود في القرآن بحسنة في الأولى وفي الأخرى كما في سورة الملك وهود والكهف.
    وكذلك مسابقة إحصاء الأسماء الحسنى هي مسابقة أخرى كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم "من أحصاها دخل الجنة".
    ولقد كان إحصاء الأسماء الحسنى ودرايتها والدعاء بها قبل هذا الحديث النبوي مما كلفت به الأمة في القرآن ولكن النبي الأمي صلى الله عليه وسلم حريص على المؤمنين وبهم رءوف رحيم دفعهم دفعا وشجعهم ليأخذوا الكتاب بقوة ليستنبطوا منه الأسماء الحسنى.
    ولقد تكلف بعض رواة الحديث إحصاءها دون استقراء مؤصل أو ضابط متفق عليه فأدرجوا فيها ما لا يسلم من الملاحظات.
    ولا خلاف في أن إدراج الأسماء في الحديث النبوي إنما هو من اجتهاد الرواة وتأويلهم.
    وهكذا أدرج فيها أحد رجال الترمذي هو الوليد بن مسلم القرشي (ت195هـ) أسماء منها: الخافضُ الرَّافِعُ المعزُّ المذِل العَدْلُ الجَلِيلُ البَاعِثُ المُحْصِي المُبْدِئ المُعِيدُ المُحْيِي المُمِيتُ الوَاجِدُ المَاجِدُ الوَالِي المنتَقِمُ المُقْسِط الجَامِعُ المُغْنِي المَانِعُ الضَّارُّ النَّافِعُ النُّورُ الهَادِي البَدِيعُ البَاقِي الرَّشِيدُ الصَّبُور.
    ومن بعده أدرج فيها الترمذي أسماء منها: القَابِضُ البَاسِطُ الحَكَمُ الحَفِيظُ المُقِيتُ الحَسِيبُ الرَّقِيبُ الْوَاسِعُ الشَّهِيدُ الوَكِيلُ المُبْدِئ المُقَدِّمُ المُؤَخِّرُ.
    وأدرج فيها أحد رجال ابن ماجه هو عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّنْعَانِيُّ أسماء منها: الْبَارُّ الْجَلِيلُ الْمَاجِدُ الْوَاجِدُ الْوَالِي الرَّاشِدُ الْبُرْهَانُ الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ الْبَاعِثُ الشَّدِيدُ الضَّارُّ النَّافِعُ الْبَاقِي الْوَاقِي الْخَافِضُ الرَّافِعُ الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ الْمُقْسِطُ ذُو الْقُوَّةِ الْقَائِمُ الدَّائِمُ الْحَافِظُ الْفَاطِرُ السَّامِعُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ الْمَانِعُ الْجَامِعُ الْهَادِي الْكَافِي الأَبَدُ الْعَالِمُ الصَّادِقُ النُّورُ الْمُنِيرُ التَّامُّ الْقَدِيمُ.
    وأدرج فيها عبد العزيز بن حصين بن الترجمان أحد سلسلة الحاكم أسماء منها: الحنان البديع المبدئ المعيد النور الكافي الباقي المغيث الدائم ذو الجلال والإكرام الباعث المحيي المميت الصادق القديم الفاطر العلام المدبر الهادي الرفيع ذو الطول ذو المعارج ذو الفضل الكفيل الجليل البادي المحيط .
    وأدرج فيها الحاكم أسماء منها : الإله الواسع الحنان المنان البديع المبدئ المعيد النور الكافي الباقي الوكيل المغيث الدائم المولى النصير الباعث المجيب المحيي المميت الجميل الصادق الحفيظ القريب الرقيب القديم الوتر الفاطر المليك المدبر المالك الهادي الشاكر الرفيع الشهيد ذو الطول ذو المعارج ذو الفضل الكفيل الجليل .
    وقد أكمل البيهقي بأربعة أسماء خمسة وتسعين اسما اقتصر عليها الحاكم ومما أدرجه البيهقي من الأسماء : البادي المحيط .
    وكذلك كان للمتأخرين كابن عثيمين والعباد والغصن محاولات كالتي حاولها من تقدمهم.
    ولا تأصيل لهذا الجمع وإنما هو اجتهاد من ذُكِروا، وأسأل الله أن يجزيهم أجر الاجتهاد، وإنما العلم عند الله.
    ولقد استنبطت بالاستقراء من الكتاب المنزل تأصيلا جديدا هو كالتالي:
    أولا: الأسماء الحسنى التي سمّى الله بها نفسه في الكتاب المنزل وجميعها مسبوق بـ ﴿أنا﴾ في سياق كلام الله مع رسله كما في قوله ﴿إِنَّنِي أَنَا اللهُ﴾ طـه
    ثانيا: أن يتضمنها الكتاب المنزل وصفا لربنا أو وصفا لله متصلا بالموصوف في سياق إخباره عن نفسه كما في قوله:
    ـ ﴿يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ الجمعة
    ـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ الأعلى
    ـ ﴿وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾ محمد
    ويعني أن كلا من الملك القدّوس العزيز الحكيم الأعلى الغنيّ اسم من الأسماء الحسنى.
    ثالثا: أن يتضمنها الكتاب المنزل وصفا لربنا أو وصفا لله مفصولا ب ﴿هو﴾ في سياق إخبار الله عن نفسه كما في قوله:
    ـ ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ الملك
    ـ ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُوُد﴾ البروج
    ـ ﴿إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ﴾ الذاريات
    ويعني أن كلا من العزيز الغفور الودود الرزاق اسم من الأسماء الحسنى.
    رابعا: أن يتضمنها الكتاب المنزل وصفا لربنا أو وصفا الله في سياق إخبار الملائكة عن ربهم كما في قوله ﴿قَالُوا مَا ذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ سبأ
    ويعني أن كلا من العلي الكبير اسم من الأسماء الحسنى.
    خامسا : أن يتضمنها الكتاب المنزل وصفا لربنا أو وصفا الله في سياق إخبار الرسل والنبيين عن ربهم كما في قوله:
    ـ ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾
    ـ ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
    ويعني أن كلا من التواب الرحيم السميع العليم اسم من الأسماء الحسنى.
    قلت : وهكذا لا نتقوّلُ على الله بل نعتصم بحبل الله فنحصي الأسماء الحسنى بما تضمنه الكتاب المنزل على النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلى الناس ولعلهم يتفكرون.
    وسنأتي على ذكر ما تضمنته الأحاديث النبوية الصحيحة ولم يتضمنه الكتاب المنزل.
    وبينت كلا منها في موضعه من المعجم.
    ﴿بسم الله﴾
    إن قوله ﴿بِسْمِ اللهِ﴾ حيث وقع في الكتاب المنزل فإنما هو للدلالة على عبادة وتكليف من الله يجب أن يقوم به المكلف العابد مستعينا ومبتدئا باسم الله الذي شرع له ذلك الفعل ومخلِصا له فيه من غير إشراك معه وكما بدأ طاعته بإعلان أنها باسم الله المعبود الذي شرعها له.
    وركب نوح ومن معه في السفينة كما في قوله ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ هود، فأطاع أمر الله حين أوحي إليه قوله ﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ﴾ هود.
    ولم يحل من الذبائح والصيد البري إلا ما ذُكِر اسم الله عليه كما في المائدة وتكرر في الأنعام والحج.
    إن حرف الأنعام ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ الأنعام، ليعني أن إزهاق الحياة في الطير والدواب إنما يجب أن يكون باسم الله الذي شرع لنا أكلها لنحيى ونقوى على العبادة، أما ما لم يذكر اسم الله عليه منها مجردا من هذا القصد والنية فهو فسق خرج به الإنسان عن الوحي الذي جاء به النبيون وعن مقتضى العبودية إلى المعصية والعبث فحرم على المسلمين أكله، ولئن كان النهي عن الأكل من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكي منها بإنهار دمه وذكر اسم الله عليه فما ظنك بقتل الصحيح من الطير والأنعام عبثا وما ظنك بقتل الإنسان إذا لم يكن من المكلف به طاعة لله ورسوله.
    إن الذي يقول "باسم الله" قبل طعامه وشرابه المباح قد أطاع الله في قوله ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ الأعراف.
    وإن الذي يقول "باسم الله" ويأكل الخنزير والميتة والدم غير مضطر فقد افترى على الله كذبا وادعى أن الله قد شرع ذلك.
    وإن الذي يقول "باسم الله" ويطأ زوجته قد أطاع الله في قوله ﴿وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرُ مُسَافِحِينَ﴾ النساء، فهي كلمة الله التي تُسْتَحَلُّ بها فروجُ النساء.
    وإن الذي يقول "باسم الله" ويزني قد افترى على الله وادعى أن الله شرع له الزنا وكلّفه به وما أشبهه بسلفه من القرامطة الذين كانوا يقرأون القرآن لابتداء الليالي الحمراء فإذا سكت القارئ أطفئت المصابيح ووقع كل رجل على من تقع يده عليها ولو كانت أخته أو أمه كما سنّه عليٌّ ابن الفضل الجدني القرمطي في آخر القرن الثالث الهجري في اليمن واتبعه الإذاعات والتلفزيونات التي تبتدئ برامجها بتلاوة القرآن وتختتمها بها ويشيعون عبر الأثير الفواحش والزور وما يفتن المسلم عن دينه من مسلسلات ساقطة.
    إن قوله ﴿باسم الله﴾ ليعني أن قائلها ككاتبها يشهد على نفسه ويقر بأنه يبتدئ فعلا هو من تكليف الله تماما كما تعني رسالة سليمان إلى ملكة سبإ والملإ معها من قومها ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَــــنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ النمل، أن سليمان رسول الله إلى الناس وأن كتابه هذا هو من رسالته إليهم وهم أعم من بني إسرائيل فزيادة التكليف بقدر زيادة التمكين كما بينت في بحثي "فقه المرحلة"، وتعني كذلك ما أصّلته من أصول فقه أن خطاب الأعلى يشمل من دونه رتبة، وكذلك خطاب ملكة سبإ شمل من دونها رتبة من القادة والوزراء.
    أما تعلق التكليف باسم ربنا فيعني أن المكلف به لا يملك خيار المعصية ولا يطيقه بل سيتم تمثله تمثلا خارقا معجزا كما في قوله ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذِي خَلَقَ﴾ ويعني أن قراءة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم القرآن من أوله إلى آخره كما نزّله جبريل على قلبه هي خارقة معجزة لا يقدر على مثلها لنفسه أحد من العالمين وإنما تمت باسم ربه الذي خلق كما أن خلق الإنسان من علق لا يقدر عليه غير ربه.
    ولا مبالغة بل لو أبدل النبي الأمي صلى الله عليه وسلم اسما من أسماء الله الحسنى بآخر منها أو حرفا بآخر ولو كان من فواتح السور التسع والعشرين لانخرمت المثاني في الكتاب ولفسد نظم الكلام ومعناه، ولوقع فيه اختلاف كثير كما أثبته في تفسيري، ولبطل وصف البدل بأنه من كلام الله.
    إن القرآن هو من عند الله وإنما محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله به وخاتم النبيين بلّغ وحيَ الله ولم يزده حرفا أو ينقصه منه رغم أنه كان أميّا لا علم له بالكتاب والإيمان قبل نزول الوحي عليه كما في قوله ﴿بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ يوسف، ومن المثاني معه قوله ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾ الشورى.
    وكانت قراءة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم قد تمت باسم ربه لأنها خارقة معجزة، وكانت قراءة القرآن بعدها غير خارقة فابتدئت الفاتحة كما السور بقوله ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ وتعني أنها كسائر العبادات يسع كلا طاعتها وعصيانها، وعلى الذي أنعم الله عليه بالطاعة أن يضمر في نفسه فعل "أقرأ أو أتلو القرآن " أي طاعة لله الذي كلفه واستعانة منه.
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  2. #2
    الرحمة: هي النعمة بالسلامة من الآفات والضر والعذاب كما في قوله ﴿وَلَئِنْ أَذّقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾ هود، وإنما هي النعمة بالعافية والأمن فما دونهما، وبينت في مادة السيئة دلالتها على المصائب والآفات.
    ووقعت رحمة الله على الماء ينزل من السحاب وأرسل الرياح مبشراتٍ بين يديها، ولا يخفى أثر رحمة الله بماء السحاب يحيي به الأرض الميتة بعد موتها، وعلى سائر الغيث ويفتح منها للناس ويمسك.
    ووقعت الرحمة في تفصيل الكتاب المنزل في مقابلة العذاب والسوء كما في الوعد المنتظر من ربنا هذه الأمة في قوله ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ﴾ الإسراء
    وتضرع أيوب لمّا مسّه الضرّ، وكان كشف الضرّ عنه هو رحمة أرحم الراحمين به، ومن محاورة إبراهيم ضيفه قوله ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ الحجر، ويعني أن على المكروب والمحروم من نعمة أن لا يقنط من الفرّج بعد الشدة ومن المثاني معه قوله ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ يوسف، وأخرج الشقيُّ نفسَه بقتلها من سَعَةِ رحمة الرحيم بالمؤمنين.
    وكتب الله على نفسه الرحمة فأخّر عرض الأعمال والفضيحة بها إلى يوم القيامة موطن المغفرة أو المؤاخذة، واقترف المكلفون ذنوبا تأخر عنهم عقابها بفضل الله ورحمته.
    وكتب ربّنا على نفسه الرحمة فوعد بالمغفرة والرحمة الذين يؤمنون بآيات ربهم الخارقة للتخويف والقضاء كلما عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعدها وأصلحوا، ويعني الوعد بهما أن لن تُعرَض عليهم الأعمال السيئة بل سيغفرها الله وسيرحمهم فلا يعذبهم في النار.
    وأخّر ربنا الغني ذو الرحمة عن المكذبين بعد نزول القرآن العذاب المستأصل إلى موعد في آخر الأمة، ويومئذ لن يردّ بأسه عن القوم المجرمين.
    ووقعت رحمة ربنا على الفرَج من الضيق دون جهد من المرحوم وسألها أصحاب الكهف حين فرارِهم بِدينهم من الفتنة، واستخرج اليتيمان كنزهما بظهوره على حين فقر وحاجة إليه، وكذلك رحمة ربنا عبدَه زكريا إذ نادته الملائكة بالبشارة بيحيى بعد ما وهن العظم منه، وكذلك سدُّ ذي القرنين رحمة بقوم لا يكادون يفقهون قولا، وتنزَّلَ الوحيُ والكتابُ على النبي الأمِّيِّ صلى الله عليه وسلم رحمة من ربه وفضلا كبيرا عليه ما كان يرجوه ولا علم له به ومن غير جهد منه، ولينتظر المعرضون عن اللغو والإيذاء وعدا من الله بفرَج ويسْرٍ وعِزٍّ دون جهد منهم كما هي دلالة قوله ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا﴾ الإسراء، ووهب ربُّنا من رحمته لموسى نبوة أخيه هارون، ووهب لإبراهيم وإسحاق ويعقوب من رحمته فرَجا ومخرجا دونما جهد منهم.
    وجعل الله بين الزوجين رحمة أي لم يشرع لأحدهما إيذاء الآخر، وإنّ رَحِمَ الأمِّ لقرارٌ مكين لا يضرّ بالجنين ولا يؤذيه، وحرُم الإجهاضُ بقوله ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ البقرة، والقتلُ بالإجهاض أكبرُ من كِتمان النطفة في الرَّحِمِ الذي لا يحِلُّ وكذا ضرْبُ الوالدين أكبر من قول الشقيّ لوالديه ﴿أُفٍّ لَّكُمَا﴾ الأحقاف، ولا تسل عن عقوق الغلام قتيل الخضر وجفائه والديه كالأبعد منهم رُحْما وإرهاقهما طغيانا وكفرا، ومن خفض جناح الذل من الرحمة لوالديه تباعد عن الإيذاء والإضرار بهما، وجعل الله للرَّحِم حقوقا لا إثم على من سألها ذوي رَحِمِهِ، وكان التواصي بالمرحمة مما تُتَجاوز به العقبة في يوم القيامة، ومن عادة المنافقين يوم يتولَّوْن أي يصبحون ولاة في الأرض الإفساد فيها وتقطيع الأرحام، وشرع الله في الكتاب المنزل ولاية أولي الأرحام بعضهم على بعض.
    وبرحمة من الله لَانَ خُلُقُ النبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم مع الناس، وكان الصحابة الكرام رضي الله عنهم رحماء بينهم أي لا يؤذي بعضهم بعضا.
    ووقعت الرحمة على صرْفِ عذابِ يومٍ عظيم عن المرحوم، وكذلك وقاية السيئات يومئذ، ولا يغني يوم الفصل مولى عن مولى شيئا بل الكل موبَقٌ إلا من رحم الله، وكل نفس أمّارة بالسوء إلا ما رحم ربنا من الأنفس المطمئنة أو اللوامة.
    ووقعت الرحمة على أسباب النجاة من العذاب أي ﴿لَعَلَّكُمْ تُرحَمُونَ﴾ على طاعة الله والرسول، وعلى اتباع كتابٍ مباركٍ منزَّلٍ على النبيّ الأميّ، وعلى استغفار ربنا على لسان رسول الله صالح، وعلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول، ويوم تقع تلاوة القرآن على الاستماع له والإنصات، وعلى تمثل التقوى يوم يقال ﴿اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ يس، وعلى الإصلاح بين المؤمنين المتقاتلين.
    وأشفق كل من آدم وحواء ونوح من الخسران إلا يغفر له ربه ويرحمه.
    ومن رحمة ربنا بالناس تشريعُ العفو عن الجروح والعفوُ عن قاتل الفرد الواحد لا المحاربين السفاحين الذين يسعون في الأرض فسادا.
    ووقع وصف الكتاب المنزل ـ توراة وإنجيلا وقرآنا ـ بالرحمة لنجاة من اتبعه من العذاب في الدنيا والآخرة والبرزخ بينهما، ولن يزول الاستضعاف والذل والصغار والهرج والقتل وتسلط المنافقين ومن لا يرعون في مؤمن إلًّا ولا ذمة عن المؤمنين إلا باتباع القرآن الموصوف ببصائر من ربنا وهدى ورحمةٍ.
    ويعني إيتاء الرحمة من ربنا عبدا من عباده كنوح وصالح والخضر معلم موسى اصطفاءه وللمصطفين عهد من الله أن لا يعذبهم.
    وأرسل ربّنا النبيّ الأميّ بالقرآن رحمة للعالمين ولن ينزل العذاب في الدنيا على المكذبين إلا بعد رفع القرآن المبارك، والنبيّ الأميُّ رحمةٌ للذين آمنوا خاصة وهم الصحابة الكرام لا يحتاجون في حياته إلى اجتهاد قد يخطئ.
    ونجّى ربّنا برحمته نوحا والرسل بالآيات بعده من عذاب في الدنيا أهلك به المجرمين المكذبين، ويوم وقع الطوفان لم ينج من الإغراق إلا من رحم الله مع نوح.
    ووقعت الرحمة على زوال الاستضعاف ـ بقرينة الوعد بالجنة بعدها ـ عن المؤمنين الذين يوالي بعضهم بعضا ويتآمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ براءة، وكان ذريةٌ من بني إسرائيل يكتمون تصديقَهم موسى خوفا من فرعون أن يفتنهم ومما تضرعوا به إلى ربهم دعاؤهم ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ يونس، ومن وقوع الرحمة على زوال الاستضعاف قوله ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ يوسف، وسيصيب المؤمنين استضعاف بفتنة السامري الدجال وسينال الذين آمنوا صلوات من ربهم ورحمة يزول بهما القتل والقرح والجرح وهم المهتدون في آخر الأمة، وكانوا يدعون ربهم ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً﴾ آل عمران، أي لا تزغ قلوبنا بالدجال بعد إذ هديتنا بصالح المؤمنين وهب لنا رحمة يزول بها الاستضعاف.
    ووقع وصف الجنة برحمة الله يُخَلِّد فيها الذين ابيَضّت وجوههم، وسيُدخِلها الذين آمنوا بالله واعتصموا به، وما يكون للمسلمين ولو أسرفوا على أنفسهم أن يقنَطوا من رحمة الله، وسأل موسى ربه أن يغفر له ولأخيه هارون وأن يدخلهما في رحمته، وكره الصالحون دعاءهم من دون الله وابتغَوُا الوسيلة إلى ربهم أيهم أقرب إليه ويرجون رحمته بالجنة ويخافون عذابه بالنار، واقتربت رحمة الله من المحسنين، وبشّر ربنا بها ﴿الذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾براءة، ويَئِسَ من رحمة الله أي جنته الذين كفروا بآيات الله ولقائه، ويرجو رحمة الله أي جنته ﴿الذِينَ آمَنُوا وَالذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ البقرة.
    وتضمن تفصيل الكتاب المنزل تقديم المغفرة على الرحمة وبينته في تأصيلي الجديد للتفسير ومنه تقديم الموعود المتأخر في سياق خطاب المؤمنين بالغيب الذين يحرصون أوّلًا على أن تغفر ذنوبهم في يوم الحساب فلا تعرض عليهم ويحرصون بعد ذلك على الرحمة ومنها ما يقع في الدنيا.
    وتقع رحمة ربنا على الآيات الخارقة كما هي دلالة قوله ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾ الزخرف، وإن القرآن لآية خارقة معجزة ومن رحمة ربنا كما في قوله ﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ الزخرف، وإنّ مما يجمعون أموالا وأسلحة ذات بأس شديد وأحزابا وجيوشا، وقد وعد الله في القرآن أن يكفّه وأن يبطله يوم يُحِقُّ اللهُ الحقَّ بكلماته فيزهقَ الباطلُ.
    ولقد أدخل الله في رحمته قبل نزول القرآن كلا من لوط وإسماعيل وإدريس وذا الكفل، ووعد في القرآن أن يدخل في رحمته من يشاء كما في الشورى والفتح الإنسان.
    ومن الوعد في القرآن أن يتنزل خير من ربنا كما في قوله ﴿وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ البقرة، وبينته في مادة اختص.
    ومن الوعد في القرآن كذلك قوله ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ آل عمران، وبينته في مادة اختص ومادة هدى.
    ومن الوعد في القرآن كذلك قوله ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ الحديد، وبينته في مادة كفل.
    وبينت دلالة قوله ﴿أّمَّنْ هُوَ قَائِمٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ وَالذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذّكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ﴾ الزمر، في الرجاء وفي أولي الألباب.
    وبينت دلالة قوله ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ هود، في مادة الاختلاف.
    وبينت دلالة قوله ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضَيًّا﴾ في مادة عيسى.
    وبينت دلالة قوله ﴿رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾ في مادة البيت.
    وأما قوله ﴿إِمَامًا وَرَحْمَةً﴾ فهو حال من الفاعل في ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ﴾ هود، وبينته في مادة شاهد، وكذلك حرف الأحقاف وبينته في مادة مثل ومادة كتاب .
    وبينت فاتحة لقمان في مادة كتاب.
    من الأسماء الحسنى ﴿الرحمان الرحيم﴾
    يتواصل

    من الأسماء الحسنى ﴿الرحمان الرحيم﴾
    ـ أولا: ﴿الرحمان﴾
    الرحمان الرحيم اسمان من الأسماء الحسنى تضمن كل منهما وعدا حسَنا غير مكذوب سيُلاقيه المرحوم إذا وافق الأجل الذي جعل الله له وهو الميعاد ولا يخلف الله الميعاد ولا وعْدَهُ أي ما وَعَدَ به.
    وحيث قرأْتَ في الكتاب المنزل اسمَ اللهِ الرحمانَ فاعلم أن الله وعد برحمة منه، ولتختر لنفسك أيها المكلف بين الشكر والطاعة وأن تسعك رحمة الرحمان وبين الكفر والعصيان وأن تحرم من رحمة الرحمان.
    وكذلك دلالة قوله ﴿بسم الله الرحمان الرحيم﴾ في أوائل السور، إذ يسع المكلّفَ القراءةُ وتركُها، فإن قرأ وتدبّر واستبصر وتذكّر نال وعد الرحمان الرحيم برحمة منه، وإن قرأ وأعرض فهو محروم من رحمة الرحمان الرحيم،كما هي دلالة قوله ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ الأعراف، وكذلك دلالة البسملة في ابتداء الطاعات على أن من لم ينتفع بطاعته فهو محروم من رحمة الرحمان الرحيم.
    وقد وعد الرحمان في سورة الرحمان برحمة من تعلم القرآن وبرحمة السعيد الموصوف أن الرحمان علمه البيان، والذين سيخرون سجّدا وبكيا يوم تُتلى عليهم آيات الرحمان ومن خشيَ الرحمان بالغيب، ووعد بجنات عدن عبادَه الذين يمشون على الأرض هوْنا ولهم صفاتهم المعلومة في سورة الفرقان، وسيجعل في الدنيا للذين آمنوا وعملوا الصالحات وُدًّا، وسيُساق المتقون إليه وفدا.
    ويعني تذكير النبيّ هارون قومه بأن ربهم الرحمان: أنّ من عبد العجل منهم فقد حرم نفسه من رحمة الرحمان، وكذلك دلالة خطاب الصّدّيقة مريم الملكَ الرسول مستعيذة بالرحمان منه، ومفوِّضة أمرها إلى الرحمان ليرحمها مما قد يقصدها به الذي تمثل لها بشرا، وقد أحصنت فرجها من قبل ووجدت نفسها أمام رجل غريب في خلاء من الأرض وقد ابتعدت عن أهلها مسافة كالحجاب لا يرونها ولا يصل إليهم صراخها واستغاثتها، ويعني نذْرها للرحمان صوما أن لن تحاسب ذا الجهل على جهله وجهالته وهو يطعن فيها ويتهمها.
    وإنما المحروم من عذّبه الرحمان بذنوب قصرت به عن رحمته التي وسعت كل شيء، وأشفق الخليل الصّدّيق النبيّ على أبيه أن يمسّه عذاب من الرحمان كما في قوله ﴿ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ مريم، ويعني أن أولياء الشيطان في الدنيا أو في الآخرة هم من وقع عليهم عذاب من الرحمان كما هي دلالة قوله ﴿تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ النحل، أي هم معذّبون في البرزخ، ولهم عذاب أليم بعده في اليوم الآخر.
    ويا حسرة على الذين يسبّون الرحمانَ ويشركون به حسب مبلغهم من الكفر، لقد قطعوا عن أنفسهم كل أسباب النجاة وحرموها من رحمة الرحمان ولا تسل عن غرور الكافرين وهم يكفرون بالرحمان ولن يجدوا جُندا ينصرهم منه يوم يقع عليهم العذاب في الدنيا وفي الآخرة، وأشد الناس عذابا في جهنم هم الأشد عتيا في الدنيا على الرحمان.
    ويا حسرة على الذين عاصروا النبي الأمي يتلو عليهم آيات الرحمان يسمعونها ولا يسلمون بل يكفرون بالرحمان، ويكفرون بذكر الرحمان، ويعني أن الرحمان لن يرحمهم.
    وأيس من رحمة الرحمان الذين كذبوا وافتروا أن الرحمان اتخذ ولدا أو آلهة تعبد من دونه، وكذلك سيفتريها مبلسون في آخر الأمة وبينته في مادة ولد.
    وقد عذّب الرحمان في الدنيا المكذبين بذكر ربهم ولن يجد خلفهم في آخر هذه الأمة من يكلؤهم بالليل والنهار منه.
    وامتلأ حكمة رجل جاء يسعى من أقصا المدينة ليعز الرسل الثلاثة إذ علم أن من يُرِدْهُ الرحمان بضر لن تغني عنه شفاعة الشافعين.
    ونسي فرعون نفسه فتكبر وعظم في نفسه كما في قوله ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ الشعراء، وتبعه خلَفه من كفار قريش كما في قوله ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَانُ﴾ الفرقان.
    ولا يزال الجاهل أحمقَ أخرقَ كأصحاب القرية الذين كذّبوا الرسل الثلاثة وقالوا ﴿مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَانُ مِنْ شَيْءٍ﴾ يــــس.
    ويألف المشركون سلوكا ويكْذبون باتخاذه دينا كما في قوله ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ﴾ الزخرف.
    وعلى المؤمنين بالغيب ألا يفتتنوا بزخرف الحياة الدنيا التي قد يُمتّع فيها من يكفر بالرحمان متاعا منه البيوت ذات المعارج والأبوابُ والسررُ وسقفٌ من فضة، واستدرج الرحمانُ برحمته الكفارَ ومن في الضلالة فأمدّ لهم نِعمه مدَّا حتى حسبوا أنفسهم من المكرمين عنده فمنهم من قال ﴿لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا﴾ يعني في يوم الدين لو بعث وجهل أن الـمُلْك في يوم الدين لله وحده وجهل أنه ليس من الرسل والنبيين وهم الذين اطلعوا الغيب واتخذوا عند الرحمان عهدا أن لا يعذبهم.
    وإن يوم القيامة ليومٌ يغضب فيه الجبّار غضبا معلوما يُشفق منه النبيون فيتدافعون الشفاعة الكبرى، ولتُعرَضنّ جهنمُ فيه عرْضا وقد وعد الرحمان في الدنيا بالجزاء في يوم الحساب ويومئذ يعلم المكذبون من قبلُ صدقَ المرسلين.
    وإن المـُلك في يوم الدين للرحمان فمن هلك فيه فليدْعُ ثبورا أن حرم من رحمة الرحمان.
    وليُبعثنَّ كل منا فردا إلى الرحمان ولتخشعنّ الأصوات للرحمان من رهبة الموقف ومبلغ الخطب ويخسر الذين كانوا يسبون الرحمان في الدنيا.
    وإنما أذن الرحمان بالشفاعة في يوم القيامة لمن اتخذ عنده عهدا في الدنيا أن لا يعذّبهم وهم الرسل والنبيون.
    وتعني الضراعة إلى الرحمان في آخر سورتي الأنبياء والملك أن المسلمين سيعجزون عن دفع الفتن والهرج والمرج والقتل والاستضعاف وعليهم أن يؤمنوا بالرحمان وأن يتوكلوا عليه ويستعينوا به ليحكم بالحق بينهم وبين عدوهم المتغلب، ولعلها مرحلة قد بدأت وفتنة قد اشرأبّت.
    ولقد خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام لأجْل أن يُعبدَ فيهما، وتضمن تفصيل الكتاب المنزل الاستواء على العرش سبع مرات أي في الأعراف ويونس والرعد وطــه والفرقان والسجدة والحديد وأسند الاستواء إلى الله في غير الفرقان وطــه وإلى الرحمان فيهما، ولا يَفتقر القرآن إلى تأويلنا نحن المكلفين القاصرين بل يفسِّرُ بعضه بعضا ويستدل ببعضه على بعض، وعلم أولوا الألباب أن الله ما خلق السماوات والأرض باطلا بل لأجل التكليف والجزاء في اليوم الآخر كما في سورتي آل عمران وص، وتأخر الاستواء على العرش عن خلق السماوات والأرض وما بينهما بقرينة حرف ﴿ثم﴾ المقترنة بجميع الأحرف، للدلالة على أن إجراءات المحكمة الكبرى أو القضاء بين الناس في يوم الفصل قد بدأ مع بدء التكليف والخطاب الأول على آدم وحواء لأن الله علام الغيوب سيسأل المرسَلين ويسأل الذين أُرسِل إليهم ، ويقصُّ عليهم ما اختلفوا فيه بعلم أي يعرض أعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء، وما كان الله وملائكته الحفظة غائبين بل كانوا شهودا على كل شأن وعمل، وكذلك دلالة المثاني:
    ـ ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾ الأعراف
    ـ ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنُه مِنْ قُرْآنٍ ولَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ يونس
    ولْيَفْرَقْ فرَقًا أولوا الألباب ولْيَخافوا ولْيُشْفِقوا من يوم يُنبَّأ الإنسان بما قدّم وأخّر، ومن نبّأه الله عرَض عليه كل شيء يتعلق بالنبإ، كذلك تعرض الخطايا غير المغفورة في يوم الدين ويُعرَض على المحتضر حين موته كلُّ شيء مما يستقبل وعُرِض على كل نبيٍّ ما يتعلق بأمته وهكذا سأل موسى ربه ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ الأعراف، لأنه رأى بأم عينيه عرْضا كُلَّ شيء فتاقت نفسه إلى المزيد، وذلك فرْقُ ما بين أن ينبّئ الله وأن ينبِّئ المخلوق فاعلم.
    ويعني إسناد الاستواء على العرش إلى الله أن الله يُحَذّر المكلفين من الطغيان والمعصية والكفر لأنه سيحاسبهم.
    ويعني إسناد الاستواء على العرش إلى الرحمان أن الرحمان لم يعجل بعقوبة العاصين والمبطلين بل أمهلهم إلى يوم يجيء ربنا والملك صفا صفا ويحمل عرش ربنا يومئذ ثمانية.
    وعجبي من المفسرين كيف وسِعَهم الإعراض عن الحدَث الخطير في المثاني:
    ـ ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِم مِّنْ ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾
    ـ ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ ذِكْرٍ مِّن الرَّحْمَانِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾ الشعراء
    ـ ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيَّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾ طـــه
    ولقد كانت الإنجيل ذكرا مُحدَثا بعد التوراة وكان القرآن ذكرا مُحدَثا بعد الإنجيل، وبينته في مادة حدث وذكر صحف وكتاب، وأشفق من الوعد في قوله ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ الزخرف.
    يتواصل
    الرحيم
    وحيث قرأت في الكتاب المنزل اسم الله ربنا ﴿الرحيم﴾ فاعلم أنه بنعمته عليك قد صرف عنك شرّا مستطيرا لا طاقة لك بصرفه عن نفسك ويعني قوله ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَحِيمٍ﴾ يس، أن ربّنا الرحيم قد صرف عن أهل الجنة عذاب النار، ويعني قوله ﴿لِيُخْرِجَكُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ الأحزاب، أنهم لا يقدرون على إخراج أنفسهم من الظلمات وإنما أخرجهم منها اللهُ الرحيمُ إذ أرسل إليهم رسولا، ويعني قوله ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ النساء، أن الله الرحيم قد حرّم قتلَ النفس وأن من قتل نفسَه فقد أخرجها من رحمة الرحيم أي لن يدخل الجنة أبدا، وإنه لحَرِيٌ إذن إن كان من المؤمنين أن يصبح بعد الأحقاب من وقود النار كالحجارة، ويعني قوله ﴿رَبُّكُمُ الذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ الإسراء، أن الفلك تجري في البحر فلا تستقر ولا تغرق برحمة ربنا الرحيم، ولا خصوصية اختص بها المؤمنون دون غيرهم في هذا الحرف برحمة الرحيم كما توهمه البعض.
    وتعني دلالة الاسمين ﴿الرحمان الرحيم﴾ حيث اقترنا استغراق رحمته التي شملت قارئ القرآن طاعة لله الذي كلّفه به وشملت الحامدين اللهَ ربَّ العالمين وشملت الـمُقِرّين أن إلــههم هو إلــه واحد لا إلــه إلا هو وشملت المؤمنين بتنزيل القرآن من الرحمان الرحيم وبينته في مادة التنزيل.
    وتعدد اقتران الاسمين ﴿الغفور الرحيم﴾ وتأصيلُه كما استنبطت هو تقديمُ الموعودِ المتأخر أو الأعظم في خطاب المؤمنين بالغيب وهو هنا مغفرة الغفور ومحلها وموعدها هو يوم الدين يومُ يعرض من الخطايا والذنوب ما لم يغفره الغفور فيحاسب به صاحبه، وتأخير الموعود المتقدم وهو رحمةُ الرحيم ولا تختص باليوم الآخر بل تشمل الدنيا.
    وسأل النبيون والرسل وأتباعهم المغفرة قبل الرحمة لما عظم في أنفسهم من افتضاح غير المغفور له أمام جميع الملائكة وجميع بني آدم وجميع الجن، ولدلالة المغفرة على الرحمة، وقد رحم الله في الدنيا الكافرين وإنهم لمعذبون في اليوم الآخر.
    وإنما تقدمت الرحمة على المغفرة في دعاء طائفة بني إسرائيل عبدت العجل وخافوا العذاب في الدنيا أكثر من خوفهم عذاب الآخرة.
    ومن المفردات اقتران الاسمين ﴿الرحيم الغفور﴾ بتقديم الرحمة على المغفرة في قوله ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ﴾ سبإ، ويعني تقديم الأغلبية وتأخير الأقلية إذ يخفى اختصاص المكلفين بالمغفرة وهم أقل عددا من سائر العالمين ومنهم الملائكة والطير والزواحف والدواب، أي تقدم الأغلب وتأخر الأقل.
    وتعدد اقتران الاسمين ﴿التواب الرحيم﴾ وفصّلته في بيان اسم الله ﴿التواب﴾ ويعني جملة أن المكلف سيُعانِي من البلاء والتمحيص في الدنيا توبة عليه من الله ينال بها رحمة الرحيم في اليوم الآخر، كما لا يخفى في الثلاثة الذين خلّفوا، وفي أبويْنا بعد أكلهم الشجرة، وفي اللذيْن يأتيان الفاحشة ويتوبان ويصلحان.
    وتعدد اقتران الاسمين ﴿الرؤوف الرحيم﴾ في سياق التذكير بنعم الله التي قصر المكلفون عن شكرها ولم يقع عليهم العذاب الذي استحقوه بجحودهم رأفة ورحمة من الله بهم، وبينته مفصلا في مادة اسم الله ﴿الرؤوف﴾.
    وتعدد اقتران الاسمين ﴿العزيز الرحيم﴾ للدلالة على أن جهود المؤمنين القاصرة لم تُبَلِّغْهم النصرَ على عدوِّهم وسينصرُهم الله بعزّته رحمة من ربهم الرحيم بهم وجميعه من الوعد الحسن ومواضعها في سورة الشعراء في الأمم المكذبة المهلكة في الدنيا تعني أن الرسل قد وعَدُوا القلّةَ المؤمنةَ معهم بنصر من العزيز الرحيم وبينته مفصلا في اسم الله ﴿العزيز﴾.
    ومن المفردات اقتران الاسمين ﴿البر الرحيم﴾ في قوله ﴿إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾ الطور، ويعني أن الله البرّ الرحيم وعد في الكتاب المنزل أن يمنّ على المشفقين في الدنيا بالوقاية من عذاب السموم وأن يدخلهم الجنة، وبينته مفصلا في اسم الله ﴿البرّ﴾.
    ومن المفردات اقتران الاسمين﴿الرحيم الودود﴾ في قوله ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾ هود، من كلام شعيب يخاطب قومه مدين وبيّنه النبيّ الأمّيّ صلى الله عليه وسلم بالحديث القدسي أنه من تقرب إلى الله شِبْرًا تقرب الله إليه ذراعا، وبينته في اسم الله ﴿الودود﴾.
    رد مع اقتباس رد مع اقتباس
    الحمد
    الحمد تعبير عن تمام معاني النعم والخير وهكذا كملت وتمت في النبي الأمي محمد صلى الله وبارك عليه وعلى آله وسلم معاني الفضل والخير والبركة امتلاء فاض فلم يبق معه موضع أو موطئ للشر والسوء، وسيبعث رب العالمين عبده محمدا قبل انقضاء الدنيا مقاما محمودا لا يتأتى معه ذمّه أو النيل منه.
    وغفَل المنافقُ الـمُمَكَّن في الأرض عن حمد الله، فأحب أن يُحْمَد بما لم يفعل، فرحا بسلوكه وعمله، وليْتَه تعلّم الإنصاف من الكتاب المنزل فلم يكلّف رعيتَه بحمده على نيته وتسويفه بالإصلاح كما هو مفصل في آخر سورة آل عمران.
    ويوم ينفخ في الصور ويدعو الداعي أهل القبور سيستجيبون بحمد الله استجابة كاملة لا يعتريها ضَعف أو نقص، إذ قد تمّ إحياء كل ميِّت حياةً تامة وتجددت قوى أجسامهم وليخرجوا سراعا من القبور يتبعون الداعي إلى حيث يقوم الناس لرب العالمين.
    ويسارع من يسبّح بحمد الله إلى البراءة من الشرك والمعصية إلى الإقرار بحمد الله ذي النعم الظاهرة والباطنة ومنه تسبيح الرعد بحمد الله، وتسبيح الملائكة براءةً من متمكن يفسد في الأرض ويسفك الدماء قبيل ظهور خليفة في الأرض، وتسبّح المخلوقاتُ غيرُ الإنس والجن بحمد الله براءةً من شرك ومعاصي الثقلين.
    وبينته في مادة التسبيح.
    وإن من تفصيل الكتاب وبيان القرآن أن ﴿الحَمْدُ للهِ﴾ حيث وقع في الكتاب المنزل فإنما لبيان نعمة هي من وعد الله وعد بها من قبلُ قد تمّت ونفذَت يوم نزل القرآن أو لبيان نعمة هي من وعْد الله سيتِمّ نفاذُه في الدنيا أو في الآخرة.
    ومن الأول قوله:
    ـ ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الأنعام
    ـ ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الحَمْدُ للهِ الذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ الفلاح
    ـ ﴿ الحَمْدُ للهِ الذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ إبراهيم
    ـ ﴿ الحَمْدُ للهِ الذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾ الكهف
    ـ ﴿ الحَمْدُ للهِ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ الأنعام
    ولا يخفى أن جميعه مما مضى وانقضى.
    ويعني حرف الأنعام أن قطع دابر القوم الذين ظلموا من قوم نوح والأحزاب من بعدهم هو مما وعد الله به رسلهم نوحا وهودا وصالحا ولوطا وشعيبا وموسى وقد تمّت النعمة به على المؤمنين فليحمد المسلمون بألسنتهم وليعملوا شكرا بسائر جوارحهم.
    ويعني حرف الفلاح أن الله وعد نوحا أن ينجّيَه هو ومن معه من الطوفان وأمرهم بحمده إذا تم الوعد به، ويدل على الوعد به قوله ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ﴾ هود ، يعني تمسك نوح بوعد الله أن ينجيه ومن معه ظنّا منه دخول ابنه في من معه.
    ويعني حرف إبراهيم أن الله قد استجاب دعوة إبراهيم ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ وبشّره بغلامين صالحين هما إسماعيل وإسحاق كما هو معلوم من بشارته هو وزوجته بإسحاق الغلام العليم على ألسنة ضيفه الملائكة المكرمين، ومعلوم في سورة الصافات من بشارته بغلام حليم وهو إسماعيل كما في حرف مريم الذي وصف إسماعيل بأنه كان صادق الوعد، ولم يتضمن تفصيل الكتاب المنزل وعْدا من إسحاق وإنما من إسماعيل إذ قال: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ وقد صدق وعده كما هي دلاله إسلامه كأبيه كما في قوله جلّ جلاله ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾.
    ويعني حرف الكهف أن الله قد وعد أنبياءه من قبل أن سيُنزّل على النبيّ الأمِّيّ صلى الله عليه وسلم الكتاب ومن ذلك الوعد قوله تعالى في التوراة والإنجيل والقرآن ﴿فَالذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ وقد نفذ الوعد وتم يوم كان القرآن يتنزل.
    وتعني فاتحة الأنعام أن الله وعد بعض ملائكته ولعلّهم الذين يحملون العرش ومن حوله من الملائكة المقربين أن يخلق السماوات والأرض وأن يجعل الظلمات والنور ولا يخفى نفاذ الوعد وتمامه وأن العرش وما حوله فوق السماء السابعة.
    ومن وعد الله الذي سيتم نفاذه في الآخرة قوله ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ لقمان، ويعني أن الله الذي خلق السماوات والأرض سيخلق مثلهم ليوم البعث أي بعد إعدامهما فلا يبقى منهم شيء وعدا منه سيتم نفاذه بحمد الله ولو جهله أكثر الناس.
    وقوله ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يعقلون﴾ العنكبوت، ويعني أن الله الذي نزّل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها وعد بإحياء الموتى يوم البعث وسيتم بحمد الله ذلك الوعد ولو كذّب الذين لا يعقلون.
    وقوله ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ الزمر، ويعني أن جميع موعودات الله عن اليوم الآخر ستتحقق كلها.
    ومن وعد الله الذي سيتم نفاذه في الدنيا قوله ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا﴾ النمل، ويعني أن قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم وتلاوته القرآن سيتم بعدها نفاذ وعد الله بإنزال الآيات الخارقة للتخويف والقضاء يراها الناس فيعرفونها بالقرآن ولا ينكرونها، وبينته في مادة رأى.
    وأما قوله ﴿فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ غافر، فهو من الأمر في القرآن الذي سيقع نفاذه في الدنيا خاصة كما أصلت في تأصيلي للتفسير، والخطاب للأخيار في آخر الأمة سيقومون بالكتاب والحكم والنبوة حق القيام كما هو مدلول قوله ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ ومن المثاني معه قوله ﴿مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ أولئك الأخيار سيُستخلفون في الأرض وَعْدًا من الله من قبلُ ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ التي نبّأ الله جميع النبيين من قبل ويومئذ يحمد الحامدون ربهم رب العالمين.
    وقوله ﴿قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الذِينَ اصْطَفَى﴾ النمل، يعني أن الله وعَد وعْدا سيتم نفاذه يوم ينجِّي من العذاب الموعود في الدنيا عباده الذين اصطفى ومنهم يقينا ثلاثة في حرف فاطر ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ وبينته في مادة اصطفى.
    وبيّنتُ قوله ﴿وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ خاتمة الصافات، في مادة رسل.
    وقوله ﴿ الْحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فاطر، يعني أن البشرية قبل انقضاء الدنيا ستشاهد رسل الله من الملائكة تتنزل من السماء فيعرفونهم بأجنحتهم مثنى وثلاث ورباع ولا ينكرونهم وهم يبشّرون المتّقين في ليلة القدر أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون بل ناجون من العذاب وبالجنة في اليوم الآخر ، أولئكم الملائكة ليصبحن غيبهم في الدنيا شهادة وليشهدوا على أن محمدا الأمي رسول الله بالقرآن، ولم تقع بعد شهادة الملائكة عليها رغم تكليفهم بها في القرآن كما في قوله:
    ـ ﴿لـَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ النساء
    ـ ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَــــهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ عمران
    وبينتها في مادة شهد، وبينْتُ من حرف فاطر في مادة فطر.
    وبينتُ قوله ﴿يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمٌلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ التغابن، في مادة التسبيح ومادة الملك.
    ومن الوعد الذي سيتم نفاذه في اليوم الآخر قوله ﴿ الْحَمْدُ للهِ الذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ سبإ، ويعني أن وعد الله في السماوات والأرض سيتم نفاذه كله فيهما وفي ما بينهما.
    وقوله ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ يونس، أن أهل الجنة تجاب دعوتهم عند فراغهم من الدعاء فيعطون ما يشاءون فيكون آخر دعواهم ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ يعني أن قد صدقهم الوعد وأتم النعمة فأعطاهم ما يشاءون ويبتغون، وإنما دعاؤهم التسبيح أي تنزيه الله أن يخلف وعده في الدنيا أن لهم في الجنة ما يشاءون.
    وأما في فاتحة الكتاب ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فتعني:
    وأما في فاتحة الكتاب ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فتعني:
    ـ أن العالمين كلهم وهم جميع المخلوقات قد تمت عليهم النعمة يوم نزل القرآن بإرسال الرسول به رحمة للعالمين من الله ربهم كما بينته مفصلا في مادة خليفة.
    ـ أن من نعم ربنا القيام بالتكليف حامدين لله ربنا
    ـ أن الحمد لله هو أصل الطاعات كلها ومنه تتفرع كلها كالتسبيح والاستغفار وسائر التكاليف فمن صلى وصام وقرأ القرآن وتدبّره وحجّ وأنفق فقد حمِد الله على نعمه بصرفها في طاعته عزّ وجلّ
    ـ أن العالمين جميعا مكلفون بالحمد إذ تمت عليهم نعمة الله ربنا يوم نزل القرآن على النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، ولقد علموا من القرآن من تفصيل الغيب الذي وقع التكليف بالإيمان به جملة وتفصيلا.
    وعلِم العالَمون من القرآن أن من نعم الله عليهم:
    ـ أن رسالة النبيّ الأميّ بالقرآن هي رحمة للعالمين وإذن فلن يقع العذاب على العالمين قبل أن يرفع القرآن من الأرض فما ظنّ الذي مات ولم يقرإ القرآن في عمره كله مرة واحدة ولم يتدبره ولم يهتد به
    ـ وأن الله لا يريد ظلما للعالمين وبينته في مادة ظلم
    ـ وأن الله غنيٌّ عن العالمين وأنهم الفقراء إليه
    وأن البيت العتيق في بكة مباركٌ وهدًى للعالمين فيا لسفاهة الذين ظلموا من الناس سيهدمونه، ولا يزال الناس يتمتعون بنظُم وتقاليد وموازين ما لم يهدم البيتُ الحرام فإن هُدِم انفلت الأمن كما هي دلالة قوله ﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ﴾ المائدة، وسينعدم قيامُ الناس في شؤونهم آمنين مطمئنين بانعدام البيت.
    ـ وأن الله ذو فضل على العالمين، وبينته في مادة فضل.
    ـ وأن القرآن ذكرى وذكر للعالمين، وبينته في مادة ذكر.
    ـ وأن تفصيل الكتاب وتنزيله كلاهما لا ريب فيه من رب العالمين وبينته في مادة ريب ومادة تفصيل ومادة تنزيل ومادة كتاب ومادة صحف.
    ـ وأن من الوعد الحسن غير المكذوب أن يقوم الناس لرب العالمين ليفصل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون قبل الجزاء بالجنة أو النار.
    أما الحمد المقترن بالتسبيح فيعني أن الحامد قد علم من الله وعْدا وعَدَه به سيُدركه ويناله في حياته ولإيمانه بالغيب فقد سبّح ربه مستشعرا نعمته فقدّسه ونزّهه عن خُلْف الوعْد وعن العجْز عن إتمامه ونفاذه.
    وهكذا سبّح زكريا بالعشيّ والإبكار بعد بشارته بيحيى في سورة آل عمران تسبيحا لم يقترن بالحمد لأن زكريا مات قبل أن يولد عيسى ولأن المصدّق بعيسى هو يحيى الذي عاصره ولو عاش زكريا إلى حين ولادة عيسى لصدّق به.
    ووعد الله نبيّه الأمي بنصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا وكلّف بالتسبيح المقرون بالحمد لأنه سيدرك ذلك كله في حياته، وبينته في مادة التسبيح.
    الله عز وجل:
    إن العبد لحقيق بدراية افتقاره وأنه ليس قائما على نفسه ليشكر فاطر السماوات والأرض على نعمه الظاهرة والباطنة وإذ خلقه فجعله شيئا مذكورا بعد أن لم يكن، وفضّله على كثير من العالمين كالجن والأنعام والدوابّ والطير ...
    هو الله لا تدركه الأبصار، وليس كمثله شيء، لم يلد، ولو يولد، وهو على كل شيء وعد به قدير ، وبكل شيء من الغيب عليم، فعّال لما يريد، اصطفى من بني آدم رسلا وأنبياء فأنزل عليهم الكتاب والميزان ليحكم بين الناس بالحق وليهتدوا إلى صراط مستقيم ووعد بإعدام الكون وبإعادة نشأته مرة أخرى وبالبعث بعد الموت والحساب والجزاء بالنار أو الجنة.
    ويعني أن ليس كمثله شيء أن قدرة كل ذي قدرة من الخلق ليست كقدرة الله وهكذا لا يماثل علمه علم عليم ولا قوته قوة قويّ وهو السميع البصير، ولن يبلغ غيرُه من خلقه مثل أسمائه الحسنى، رغم ثبوت الرحمة والقوة والسمع والبصر والخلق في المخلوقات ولا يجحده إلا المغفلون، كما لا يتأوّل أسماء الله وصفاته إلا المعطلون بما ألحدوا، وأما قولنا "ليس مثله شيء" فيعني أن ليس شيء مثله ويشمل الذاتَ والصفاتِ ولا يقول به إلا المشبّهون بما أشركوا .
    وإن من تفصيل الكتاب وأصول الخطاب أن اسم ﴿الله﴾ حيث ورد ذكره في الكتاب المنزل فإنما :
    ـ لبيان عبادة وتكليف من الله المعبود يسع جميع المخاطبين به الطاعة والعصيان .
    ـ أو لبيان أسباب العبادة التي أمدّ الله بها المكلفين.
    ـ أو لبيان أثر الإيمان والطاعة على المكلفين في الدنيا.
    ـ أو لبيان أثر الكفر والمعصية على المكلفين في الدنيا.
    ـ أو لبيان الحساب والجزاء في الآخرة.
    فأما بيان ما كلف الله به من العبادة فكما في قوله ﴿اعْبْدُوا اللهَ﴾ وقوله ﴿اتَّقُوا اللهَ﴾.
    وأما بيان أسباب العبادة التي أمدّ الله بها المكلفين وأعانهم بها ليعبدوه فكما في قوله ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ﴾ العنكبوت، من قول إبراهيم يعني اسألوا الله أن يرزقكم لتقوى أجسامكم على الطاعة والعبادة، وقوله ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ الذاريات، يعني أن الله يرزق الإنس والجن ليتمكنوا بالرزق والقوت من العبادة وقوله ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللهِ﴾ البقرة، وقوله ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ آل عمران.
    وأما أثر الطاعة على المكلفين في الدنيا فكما في قوله ﴿وَيَزِيدُ اللهُ الذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ مريم، وقوله ﴿ دَعَوُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ يونس، فكانت نجاتهم بسبب أثر طاعتهم في دعوتهم الله مخلصين له الدين.
    وأما بيان أثر المعصية على المكلفين في الدنيا فكما في قوله ﴿إِنَّ الذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ البقرة، أي بسبب كفرهم وإعراضهم عن النذير عوقبوا بذلك ، وقوله ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ الأنفال، والمعنى أنهم بسبب كفرهم بنعم الله التي أنعم عليهم بها ليعبدوه ويطيعوه عذبهم في الدنيا .
    وأما بيان الحساب بعد البعث فكما في قوله ﴿وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ النور، وقوله ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾ النور.
    وأما بيان الجزاء فكما في قوله ﴿فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَاُر خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾ المائدة، وقوله ﴿ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ فصلت.
    رب:
    تضمن تفصيل الكتاب المنزل ورودها في وصف بعض الناس وأكثر ما وردت وصفا لله الواحد القهار.
    أما ورودها في وصف ولِيّ النعمة من البشر ففي قوله ﴿فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ﴾ يوسف، وأما في وصف ما يتصوره الناس من معبوداتهم ففي قوله ﴿فَلَمَّا رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ الأنعام.
    وأما قول يوسف مخاطبا امراة العزيز ﴿مَعَاذَ اللهُ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ فيتجلى فيه أن ربه قد آتاه من قبل حكما وعلما، إذ لم تفهم امرأة العزيز غير استحيائه من خيانة زوجها المنعم عليه، غير أن كلام الصديق يوسف صريح في إقراره واستشعاره نعم ربه الخالق عليه بإبعاده عن كيد إخوته وإيوائه في بيت عزيز مصر، وبقرينة إضافة نفسه إلى ربه على غير نسق خطابه صاحب السجن ورسول الملِكِ إذ أضاف كلا منهما إلى الملِك وحرِيٌ بغيره من العوام في مثل حاله أن يقول لصاحب السجن اذكرني عند ربي الملك ليخرجني من السجن.
    ووردت في وصف الله غير مقترنة في السياق بمربوب في قوله ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ سبأ، وقوله ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ في يس.
    واقترنت في السياق بالمربوبات التالية: العرش العظيم، العالمين، كل شيء، السماوات والأرض وما بينهما، السماوات السبع ، السماء والأرض، رب المشرق والمغرب وما بينهما، المشارق والمغارب، المشرق والمغرب ، المشرقين، المغربين، هذه البلدة التي حرّمها، هذا البيت، العزة، الشعرى، الفلق، موسى وهارون، الناس، وآباؤهم الأولون، وبضمائر يأتي تفصيلها في مادة المضمرات.
    وأضاف النبيون والرسل والمتضرعون خفية أنفسهم إلى ربهم فابتدأ كل منهم مناجاته الخفية بقوله : ربِّ، بحذف حرف النداء إلا في قوله ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرآنَ مَهْجُورًا﴾ في الفرقان، ثبتت فيه ياء النداء لأن الرسول سيسمع المكلفين شكواه إلى ربه أنهم اتخذوا القرآن مهجورا فلم يتدبروه ليهتدوا به للتي هي أقوم وإلى الرشد.
    وتضمن تفصيل الكتاب المنزل تأصيلا عجيبا من أصول التفسير في سياق خطاب الله نبيا أو رسولا مضيفا ربوبيته إليه لتنبيهه إلى وعده بنصره كما في قوله ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ هود ﴿قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ﴾ هود ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى﴾ ﴿وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا﴾ الأنبياء ﴿وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ وبينته في تأصيلي الجديد للتفسير.
    ولا تسل عن الخفة من المرسل إليهم وهم يخاطبون رسلهم بإضافة الرب إلى الرسول المخاطب كما في قوله ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ﴾ البقرة، ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ﴾ الزخرف
    وإن اسم ﴿رب العالمين﴾ حيث ورد ذكره في الكتاب المنزل فإنما:
    ـ ليقوم به أمر أو فعل خارق يعجز العالمون عن مثله وإيقاعه كما يعجزون عن دفعه.
    ـ أو لبيان نعمه التي لا كسب للمخلوق فيها وما يجب له من العبادة والشكر.
    ـ أو لاستعانته ليهب لنا في الدنيا ما لا نبلغه بجهدنا ولا نستحقه بعملنا القاصر.
    وأما بيان أن كل فعل أو أمر أسند إلى ربنا فإنما هو أمر خارق يعجز العالمون عن مثله فكما في قوله ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ﴾ الإسراء ، من قول موسى في وصف الآيات المعجزة التي أرسله ربه بها.
    وأما بيان أمر ربنا الذي يعجز العالمون عن دفعه فكما في قوله ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ هود، من قول رسل ربنا من الملائكة الذين أرسلوا بعذاب قوم لوط.
    وأما بيان نعم ربنا التي لا كسب للمخلوق فيها فكما في قوله ﴿رَبُّكُمُ الذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ الإسراء.
    وأما بيان ما يجب لربنا من العبادة والشكر على نعمه فكما في قوله ﴿ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ﴾ الزخرف.
    وأما بيان ما يجب علينا من استعانته ليهب لنا في الدنيا والآخرة من نعمه ويصرف عنا من الضر والكرب ما لا نستطيعه بجهدنا ولا نستحقه بعملنا القاصر القليل فكما في دعاء النبيين وضراعتهم ربهم حيث وقعت في القرآن كما في قوله ﴿وَأَيُّوبُ إٍذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ الأنبياء .
    وبينتُ الفرق بين كل ما أضيف أو أسند إلى الله وإلى ربنا في مواضعه من المعجم.
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #3
    ﴿العالمين﴾
    إن قوله ﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الجاثية، ليعني أن العالَمين هم المخلوقات ذوات الأنفس في السماوات وفي الأرض، وسيتم نفاذ وعد الله في السماوات وفي الأرض وفي العالَمين، ومن الغيب في القرآن أن سيسجد لله من في السماوات ومن في الأرض وهم العالَمون طوْعا وكرها، وأن سينفخ في الصور فيَصعَق من في السماوات ومن في الأرض أي العالَمون إلا من شاء الله، وهو صريح في التفرقة بين السماوات والأرض وبين مَن فيهما.
    وكلّف الله العالَمين بحمده، وأعرض شقي الجِنّ وبني آدم في الدنيا، وسيستأصل العذاب في الدنيا المتأخرين منهم لنفاذ وعد الله في قوله ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الأنعام، ذالكم العذاب سينزل وعْدا من الله بساحة المنذَرين فيسُوء صباحُهم بالعذاب يستأصلهم بعد مطلع الفجر من ليلة القدر، وهو يوم متأخر عن حياة النبيّ الأمّيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقرينة قوله ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ الصافات، وبقرينة تأكيده بقوله ﴿ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ الصافات، ذلك اليوم سيحقق فيه الوعد ﴿وَسَلَامٌ عَلَى الْمرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ خاتمة الصافات، ومن المثاني معه قوله ﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يونس.
    ذالكم العذاب هو نصر من الله يتحقق به وعْدُه الذي نبّأ به النبيين جميعا أن العاقبة في آخر الأمة هي للمتقين في صراعهم مع المبطلين، أولئك المتقون هم القوم الذين سيأتي اللهُ بهم ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾ المائدة، وهم القوم السعداءُ الذين وكّلَهُم ربُّ العالمين على القيام بالحُكم والنبوّة والكتاب كما في قوله ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ الأنعام، وهم الذين سيتمثلون وعْد الله ﴿فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ غافر، سينعمون بدعاء الله مخلصين له الدين بعد موت الشيطان الصاغر مع الصاغرين في فجر ليلة القدر، وسيتم ذلك الوعد بحمد الله، وعْدا لن ينالَه غيرُ الحامدين يومئذ.
    ومن الموعودات في اليوم الآخر:
    ـ ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ يونس
    ـ ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ آخر الزمر
    وبينت حرف يونس، ويعني حرف الزمر أنه بانقضاء الحساب ونفاذ الوعد بدخول أهل النارِ النارَ ودخول أهل الجنةِ الجنةَ يومئذ في اليوم الآخر سيقول الملائكة ومن في الجنة ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، فانظر كيف حرم الجاحدون في الدنيا أنفسهم من الحمد في اليوم الآخر.
    ويعني قوله ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ استغراقَ الحمدِ كله بالتعريف بالألف واللام الواجب على العالمين كلهم لله ربهم.
    ويعني قوله ﴿الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ﴾ أن رحمته بالعالمين رحمة كتبها على نفسه كما في المثاني:
    ـ ﴿قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُل لِّلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ الأنعام
    ـ ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ الأنعام
    ويعني أن الله خلق ما في السماوات والأرض لأجل أن يعبدوه، فمنهم من غفل ومنهم من كفر ومنهم طغى وبغى في الدنيا وسبقت رحمةُ الله غضبَه فلم يؤاخذهم بما كسبوا ولو عجّل غضبه ما ترك على ظهر الأرض من دابة وكذلك دلالة الحديث القدسي إذ سبق في فاتحة الكتاب ذكرُ رحمة ربنا قبل ذكر غضبه على من خالف الصراط المستقيم.
    .
    وكذلك سبقت رحمة الله غضبه فأمهل شيخ الكافرين المستكبرين إبليس منذ أبى أن يسجد لآدم وأنظره إلى يوم الوقت المعلوم في آخر الحياة الدنيا ويومئذ سيبتلى مرة أخرى ولكن لن يتوب لأن عليه لعنة ربه إلى يوم الدين أي سيموت فاسقا كافرا ويبعث كذلك.
    ويعني أن الله الذي كلّف العباد بالطاعة قد أخّر عن المبطلين العذاب إلى يوم يجمعهم في يوم القيامة فيدانون ويجزون الجزاء الأوفى.
    ولقد وسعت رحمةُ ربنا المؤمنين بالغيب فتاب عليهم كلما عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعدها وأصلحوا.
    ووسعت رحمةُ الله المجرمين الذين كذّبوا من قبل فعذّبهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يذّكّرون، وكذلك المجرمون في آخر هذه الأمة لعلهم يرجعون عن تكذيبهم.
    ووسعت رحمة ربنا المكلفين في الدنيا إذ أرسل الله الرسل والنبيين مبشرين ومنذِرين، وأنزل الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا.
    ووسعت رحمةُ ربنا العالمين فأمسك السماوات والأرض أن تزولا كلما وقع في الأرض الكفر والشرك والطغيان والفساد في الأرض وسفكٌ الدماء.
    ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾
    ﴿مَالِكِ﴾ في سورة الفاتحة بالمدّ هي قراءة عاصم ويعقوب وحمزة والكسائي كالمتفق عليه في آل عمران ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾، وقصَرَها الباقون من العشرة كالمتفق عليه في الناس ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾، ووقع كل منهما على مملوك.
    وظهرت دلالة ﴿مَالِكِ﴾ بالمد على التصرّف،وإن بني آدم لمالكون الأنعام يتصرفون فيها كما شاءوا، والله مالِكُ الملْك يُصَرّفه كيف شاء يهبه هذا من غير سليل الملوك ومن سليلهم، وينزعه عن الذي أوتيه من قبل، وتضمنت سورة النحل مقارنة بين أعلى درجات الرجولة وأدنى دركاتها أي بين الممدوح بالمنفِق سرّا وجهرا من رزق ربه وبين المذموم بالعجز ﴿عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾ ويتصرف فيه مالكه ولو كان صعلوكا في البادية وليس ملكا، وملكت أيمانُ بعضِ الناس بعضا قاصرين لا يسعهم الابتعاد عن أيمان وسلطان سادتها، وذالكم الوصيّ مالِك مفاتيح ما ائتُمِن عليه يتصرف فيه وليس هو ملِكها، واعتذر موسى إلى ربه أنه لا يملك إلا نفسه وأخاه هارون أي لا يتصرف في بني إسرائيل الراغبين عن طاعة الله ورسوله بدخول القرية المقدسة التي كتبها الله لهم.
    وظهرت دلالة الملِك بالقصر والكسر على التكليف والخطاب فالملِك من الناس هو الذي يكلفهم ويأمرهم وينهاهم ويقوم على شؤونهم كما في صريح قول الملإ في سبإ يخاطبون ملكتهم ﴿وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَا ذَا تَأْمُرِينَ﴾، واصطفى الله لبني إسرائيل المستضعفين بجالوت وجنوده رجلا من عامتهم وفقرائهم جعله ملِكا عليهم يأمرهم وينهاهم ويُدير حربهم مع جالوت وجنوده، وجعل الله في بني إسرائيل ملوكا كطالوت وداوود وسليمان يخاطبون الناس ليطيعوهم.
    وإن من تفصيل الكتاب أن ملْكا آتاه ربنا فهو خارق كالذي أوتيه يوسف وداوود وسليمان وذو القرنين وسيؤتاه في آخر الأمة خليفة في الأرض نبّأ الله به ملائكته قبل تكليفهم بالسجود لآدم.
    وإن من تفصيل الكتاب أن مُلْكا آتاه الله فهو تكليف وتمحيص واختبار كالذي آتاه الله شقيّا عاصر إبراهيم فكفر وحاجّه في ربه وكالـمُـلْك يؤتيه الله من يشاء وينزعه عمّن يشاء.
    وإن من تفصيل الكتاب وأصول التفسير أنه حيث ذُكِر في الكتاب المنزل أن لله ملْكَ السماوات والأرض فإنما في سياق وعْد وعَد به ولا يملك أحد منع نفاذه لأن ﴿للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾
    ووقع الملك على أقل جزء من الاستطاعة كما في قول المفتونين بالعجل ﴿مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا﴾ طــه، مثلثة القراءات ومنها بضم الميم لحمزة والكسائي وخلف.
    وفي يوم الدين لا تملك نفس لنفس شيئا الرحمة، ولم يملك إبراهيم لأبيه شيئا من الهداية.
    ولا يملك النبي الأميّ صلى الله عليه وسلم لنفسه ولا لأمته ضرا ولا نفعا بل الأمر كله لله.
    ولا يملك النبيّ الأمي كذلك شيئا من الهداية لمن يرد الله فتنته.
    يتواصل
    ومن أسماء الله الحسنى ﴿المَلِكُ﴾ ويعني أن الله وعَد وعْدًا حسنا غير مكذوب في قوله ﴿فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَـــهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ الفلاح، ويعني أن العالمين في يوم الدين يوم نفاذ وعد الله بالبعث والحساب وهم يرون العرش الكريم والملائكة حوله يسبحون بحمد ربهم سيتبينون أن الملك لله الملك الحق الذي كلّف العباد وخاطبهم في الدنيا بالإيمان والطاعة ووعَد بالجزاء وعْدا تعالى عن خلفِه ويومئذ ﴿لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ﴾.
    وفي قوله ﴿أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ طــه، ومن المثاني معه ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِم مِّنْ ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ بداية سورة الأنبياء، وقوله ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَانِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾ الشعراء، ويعني أنه في آخر الحياة الدنيا إذا اقترب الحساب سيُحدثُ الله ربنا الرحمان للناس ذكرا فيسمعه من على ظهر الأرض وكثير منهم في لهو غافلون فيعرضون عنه ولعل ذلك الذكر المحدث هو الموعود بقوله ﴿فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة﴾ عبس، وسيتبين المكلفون في الذي سيتلوها على الناس أن الملك لله وحده ويومئذ في ظل خلافة على منهاج النبوة وبعد هلاك المجرمين المكذبين بعد مطلع الفجر من ليلة القدر سيقع نفاذ وعد الله ﴿يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ بداية الجمعة، تلك كرامة المتقين الموعودين في القرآن أن العاقبة لهم وسيبحون الله أن صدقهم وعده وسيسبح بتسبيحهم ما في السماوات وما في الأرض من الدواب والطير والأنعام ويسجدون ويسجد بسجودهم ما في السماوات وما في الأرض ويومئذ يتبين الناس دلالة الأسماء الحسنى بعد فقههم المثال التي ضربها الله في القرآن للناس لعلهم يتفكرون.
    وإن من تفصيل الكتاب وأصول التفسير أن ما أسند إلى الله في الكتاب المنزل فهو مقترن بالتكليف والخطاب أو أسبابهما أو الجزاء عليهما وكذلك المثاني:
    ـ ﴿تَبَارَكَ الذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
    ـ ﴿وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ البقرة
    ـ ﴿فَسُبْحَانَ الذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يـــس
    وبينته في مادة خليفة.
    ومن أسماء الله الحسنى المليك كما في قوله ﴿في مقعد صدق عند مليك مقتدر﴾ خاتمة القمر، ولا يخفى ما فيه من الوعد الحسن من مليك مقتدر سينعم به المتقون في اليوم الآخر.
    ﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾
    يوم
    وتضمن تفصيل الكتاب المنزل معان لليوم منها:
    ـ ستة أيام خلق الله فيها السماوات والأرض كما هو مفصل في سورة فصلت وليست كأيامنا المعلومة بعد خلق السماوات والأرض وما بينهما كالشمس والقمر، ولا كأيام تدبير الأمر من السماء إلى الأرض.
    ـ أيام تدبير الأمر كما في قوله ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ السجدة، وقوله ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ الحج، ومقدار كل يوم منها ألف سنة من سني أهل الأرض وهي السنوات الشمسية والحرفان في سياق تأكيد نفاذ وعد الله ولو تراءى الوعد للمؤمنين به بعيدا أو استعجله المكذبون إنكارا.
    ـ جزء من الزمن جامع بين ليل ونهار بمقدارهما المعلوم ومنه تكليف الحاج بالدعاء في أيام معلومات ومعدودات، وكما حسب أصحاب الكهف بعد بعثهم أنهم لبثوا يوما أو بعض يوم وهم رقود، وكما حسب الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه أنها يوم أو بعض يوم، وكما سيحسب المجرمون حين البعث أنهم قد لبثوا في الأرض يوما أو بعض يوم أو عشرا.
    ـ دلالته على النهار خاصة دون الليل كما في قوله ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾ البقرة، وإنما تقع عبادة الصوم في النهار خاصة كما هو صريح دلالة اليوم في قوله ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ﴾ الحاقة، وقوله ﴿سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴾ سبأ، إذ تضمن فصلا وتمييزا عن الليل.
    ووعد الله بمداولة الأيام بالتمكين في الأرض للناس ابتلاء منه لكل الأجناس وأهل الأديان ومنه قول رجل مؤمن من آل فرعون يخاطبهم ﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ أي ممكنين لا يغلبكم متغلب.
    وإن لله أياما أهلك فيها المجرمين أعداء الرسل بالآيات من قبل وهي الموصوفة على لسان رجل مؤمن من آل فرعون كما في قوله ﴿وَقَالَ الذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ غافر، وكلف الله موسى أن يذكّر قومه بأيّام الله أي يخوّفهم منها ووعد الله في القرآن المكذبين أن سيأتيهم في الدنيا يوم من أيّام الله كما في قوله ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ هود، ويعني أن لم تنقض بعدُ أيّام الله بل لا تزال البشرية على موعد مع عذاب يوم عقيم يوم يبطش ربنا بالمجرمين البطشة الكبرى منتقما منهم فيُولون الدُّبُر حين يرون الملائكةَ والروحَ فيها تتنزل بالعذاب وذلك يومُ الفتح الذي كلّف النبيّ الأمّيّ والمؤمنون بالقرآن بانتظاره كما في آخر سورة السجدة ووعد بتحقيقه في سورة المائدة وهو يومٌ معلوم له وقت معلوم بينته في بياني سورة القدر وسيقطع الله فيه دابر المجرمين أجمعين ومنهم الصّاغرون وشيخهم إبليس العاجزين عن إبطال الآيات الخارقة الموعودة
    ووقع في تفصيل الكتاب وصفُه باليوم العقيم والعظيم وغيرهما وبينته ضمن معاني كل منها.
    ـ يوم كان القرآن يتنزل أي مدة حياة الرسول النبي الأمي صلى الله عليه وسلم بعد الوحي إليه كما في قوله ﴿لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ مريم.
    وعجبي من المفسرين والمحدثين كيف رغبوا عن تدبر القرآن فلم يعدّوا العدّة للأيام التالية:
    ـ يوم القضاء ويوم الحسرة كما في قوله ﴿وَهُوَ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ في سورة الأنعام وبينته في مادة القضاء.
    وظهر تأخر القضاء عن نزول القرآن لاقترانه باقتراب أجل السماوات والأرض كما هي دلالة قوله ﴿وَهُوَ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِالْحَقِّ﴾ للتذكير بالفناء والبعث والحساب أي لم يخلقهما عبثا لغير غاية وكما هي دلالة قوله ﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ مما يعني أنهما يومان مختلفان أما أحدهما فهو القضاء المنتظر يوم يقول ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾ وأما ثانيهما فهو يوم ينفخ في الصور، فقوله ﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ عطف على قوله ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾ والمعنى أن رب العالمين يوم يقول كن فيكون قد قضى قضاء لن يسع المؤمنين الكفرُ به وذلك قبيل يوم ينفخ في الصور واليومان غيب لم يقعا بعد وقوله ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ إنما جاءت بصيغة المستقبل على نسق قوله ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾.
    وقد تضمن تفصيل الكتاب المنزل تِبيان يومين موعودين بعد يومِ تنزُّلِ القرآن في قوله ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ مريم، إذ وقعت تسمية ثلاثة أيام يوم يأتون ربهم للحساب بعد البعث ويوم كان القرآن يتنزل على النبيّ الأمّيّ صلى الله عليه وسلم وهو اليوم المعرف بأل وكان الظالمون خلاله في ضلال مبين عن القرآن والرسول به، أما ثالثها فهو الذي كُلّف الرسول بالقرآن النبيّ الأمّيّ صلى الله عليه وسلم أن ينذره الظالمين في قوله ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وهو اليوم الموعود في الدنيا محل الإيمان والغفلة إذ لا كفر ولا غفلة في يوم القيامة يوم يأتون ربهم للحساب بل ما أسمعهم وما أبصرهم يومئذ.
    إن يوم الحسرة الذي سيقضى فيه الأمر فجأة هو يوم يقول الله فيه كن فيكون أي أن قوله ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ في سورة الأنعام من المثاني مع قوله ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وهو يوم قبيل الساعة كما في تفصيل الكتاب بعده ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُون﴾.
    ـ يوم تأتي آياتُ ربنا الخارقة للتخويف والقضاء بين الفريقين كما في قوله ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ ومنها يوم يُصبِح الماء غَوْرا ويوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس وبينته في الآيات.
    ـ يوم يفرح المؤمنون بنصر الله العزيز الرحيم، وبينته في مادة النصر.
    ومن الأيام الآتية بعد مرحلة الموت والفناء :
    ـ يوم بين موت المكلف والبعث أو ما يسمى بالبرزخ ومنه قوله ﴿تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ النحل، وقد بينت في مادة الولاية أن ولِيّ الله هو من رحمه الرحمان فنجّاه من العذاب وأن ولِيّ الشيطان هو من وقع عليه العذاب كما هي دلالة قول الصدّيق النبيّ إبراهيم ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ مريم، ويعني أن الذين كذّبوا الرسل بالآيات قبل نزول القرآن ومنهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين والمؤتفكات وقوم إبراهيم وغيرهم، لا يزال كل منهم منذ دمّرهم الله بالعذاب في الدنيا في عذاب إلى يوم البعث وكما في المثاني معه في قوله ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ في سورة نوح أي أن المكذبين من قوم نوح ماتوا بالغرق ولا يزالون يعذبون في البرزخ بالنار.
    ـ يوم تُطوَى السّماء فتمور مورا وتسير الجبال سيرا وتُدَكُّ الأرض والجبال فتقع الواقعة.
    ـ يوم يُنفَخ في الصور ويُنقَر في الناقور لإعلان يوم الخروج يوم البعث وذلك يوم عسير على الكافرين غير يسير لعله والله أعلم كخمسين ألف سنة من سِنِي أهل الأرض يبدأ بنداء المنادي كما في قوله ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ﴾ الإسراء، أي تخرُجون من القبور أجمعون لا يتخلّف منكم أحد كما بينت في مادة الحمد وينتهي باليوم الآخر باستقرار كل من الفريقين في منزله.
    ـ يوم الجمع ويوم التغابن كما في قوله ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمً التَّغَابُنِ﴾ ويعني أن الفريقين ليسوا سواء منهم الذين آمنوا يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ويقابلهم المجرمون المكذبون بآيات ربهم يحشرون على وجوههم عُميا وبكما وصما وسائر المرسل إليهم بين هؤلاء وهؤلاء.
    ـ يوم القيامة ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ﴾ ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ و ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ وقد بلغ الكرْب مَبلغا جعل الرسل والنبيين يضرعون بدعائهم المعلوم "رب سلّم سلّم " ووقع في تفصيل الكتاب وصفه باليوم الثقيل وباليوم الحق وغيرهما من الصفات وبينته في كل منها.
    ـ يوم الدين ويوم الحساب وذلك ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ ليوم الفصل ويوم يُجاء بجهنم و ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾، وَلقد أشفق الصّدّيق النبي الخليل إبراهيم منه كما في قوله ﴿وَالذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ .
    ـ اليوم الآخر ويوم الخلود.
    ﴿يوم الدين﴾
    أما الدين فهو:
    ومن أسماء الله الحسنى ﴿المَلِكُ﴾ ويعني أن الله وعَد وعْدًا حسنا غير مكذوب في قوله ﴿فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَـــهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ الفلاح، ويعني أن العالمين في يوم الدين يوم نفاذ وعد الله بالبعث والحساب وهم يرون العرش الكريم والملائكة حوله يسبحون بحمد ربهم سيتبينون أن الملك لله الملك الحق الذي كلّف العباد وخاطبهم في الدنيا بالإيمان والطاعة ووعَد بالجزاء وعْدا تعالى عن خلفِه ويومئذ ﴿لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ﴾.
    وفي قوله ﴿أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ طــه، ومن المثاني معه ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِم مِّنْ ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ بداية سورة الأنبياء، وقوله ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَانِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾ الشعراء، ويعني أنه في آخر الحياة الدنيا إذا اقترب الحساب سيُحدثُ الله ربنا الرحمان للناس ذكرا فيسمعه من على ظهر الأرض وكثير منهم في لهو غافلون فيعرضون عنه ولعل ذلك الذكر المحدث هو الموعود بقوله ﴿فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة﴾ عبس، وسيتبين المكلفون في الذي سيتلوها على الناس أن الملك لله وحده ويومئذ في ظل خلافة على منهاج النبوة وبعد هلاك المجرمين المكذبين بعد مطلع الفجر من ليلة القدر سيقع نفاذ وعد الله ﴿يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ بداية الجمعة، تلك كرامة المتقين الموعودين في القرآن أن العاقبة لهم وسيبحون الله أن صدقهم وعده وسيسبح بتسبيحهم ما في السماوات وما في الأرض من الدواب والطير والأنعام ويسجدون ويسجد بسجودهم ما في السماوات وما في الأرض ويومئذ يتبين الناس دلالة الأسماء الحسنى بعد فقههم المثال التي ضربها الله في القرآن للناس لعلهم يتفكرون.
    وإن من تفصيل الكتاب وأصول التفسير أن ما أسند إلى الله في الكتاب المنزل فهو مقترن بالتكليف والخطاب أو أسبابهما أو الجزاء عليهما وكذلك المثاني:
    ـ ﴿تَبَارَكَ الذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
    ـ ﴿وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ البقرة
    ـ ﴿فَسُبْحَانَ الذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يـــس
    وبينته في مادة خليفة.
    ومن أسماء الله الحسنى المليك كما في قوله ﴿في مقعد صدق عند مليك مقتدر﴾ خاتمة القمر، ولا يخفى ما فيه من الوعد الحسن من مليك مقتدر سينعم به المتقون في اليوم الآخر.
    ﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾
    يوم
    وتضمن تفصيل الكتاب المنزل معان لليوم منها:
    ـ ستة أيام خلق الله فيها السماوات والأرض كما هو مفصل في سورة فصلت وليست كأيامنا المعلومة بعد خلق السماوات والأرض وما بينهما كالشمس والقمر، ولا كأيام تدبير الأمر من السماء إلى الأرض.
    ـ أيام تدبير الأمر كما في قوله ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ السجدة، وقوله ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ الحج، ومقدار كل يوم منها ألف سنة من سني أهل الأرض وهي السنوات الشمسية والحرفان في سياق تأكيد نفاذ وعد الله ولو تراءى الوعد للمؤمنين به بعيدا أو استعجله المكذبون إنكارا.
    ـ جزء من الزمن جامع بين ليل ونهار بمقدارهما المعلوم ومنه تكليف الحاج بالدعاء في أيام معلومات ومعدودات، وكما حسب أصحاب الكهف بعد بعثهم أنهم لبثوا يوما أو بعض يوم وهم رقود، وكما حسب الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه أنها يوم أو بعض يوم، وكما سيحسب المجرمون حين البعث أنهم قد لبثوا في الأرض يوما أو بعض يوم أو عشرا.
    ـ دلالته على النهار خاصة دون الليل كما في قوله ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾ البقرة، وإنما تقع عبادة الصوم في النهار خاصة كما هو صريح دلالة اليوم في قوله ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ﴾ الحاقة، وقوله ﴿سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴾ سبأ، إذ تضمن فصلا وتمييزا عن الليل.
    ووعد الله بمداولة الأيام بالتمكين في الأرض للناس ابتلاء منه لكل الأجناس وأهل الأديان ومنه قول رجل مؤمن من آل فرعون يخاطبهم ﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ أي ممكنين لا يغلبكم متغلب.
    وإن لله أياما أهلك فيها المجرمين أعداء الرسل بالآيات من قبل وهي الموصوفة على لسان رجل مؤمن من آل فرعون كما في قوله ﴿وَقَالَ الذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ غافر، وكلف الله موسى أن يذكّر قومه بأيّام الله أي يخوّفهم منها ووعد الله في القرآن المكذبين أن سيأتيهم في الدنيا يوم من أيّام الله كما في قوله ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ هود، ويعني أن لم تنقض بعدُ أيّام الله بل لا تزال البشرية على موعد مع عذاب يوم عقيم يوم يبطش ربنا بالمجرمين البطشة الكبرى منتقما منهم فيُولون الدُّبُر حين يرون الملائكةَ والروحَ فيها تتنزل بالعذاب وذلك يومُ الفتح الذي كلّف النبيّ الأمّيّ والمؤمنون بالقرآن بانتظاره كما في آخر سورة السجدة ووعد بتحقيقه في سورة المائدة وهو يومٌ معلوم له وقت معلوم بينته في بياني سورة القدر وسيقطع الله فيه دابر المجرمين أجمعين ومنهم الصّاغرون وشيخهم إبليس العاجزين عن إبطال الآيات الخارقة الموعودة
    ووقع في تفصيل الكتاب وصفُه باليوم العقيم والعظيم وغيرهما وبينته ضمن معاني كل منها.
    ـ يوم كان القرآن يتنزل أي مدة حياة الرسول النبي الأمي صلى الله عليه وسلم بعد الوحي إليه كما في قوله ﴿لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ مريم.
    وعجبي من المفسرين والمحدثين كيف رغبوا عن تدبر القرآن فلم يعدّوا العدّة للأيام التالية:
    ـ يوم القضاء ويوم الحسرة كما في قوله ﴿وَهُوَ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ في سورة الأنعام وبينته في مادة القضاء.
    وظهر تأخر القضاء عن نزول القرآن لاقترانه باقتراب أجل السماوات والأرض كما هي دلالة قوله ﴿وَهُوَ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِالْحَقِّ﴾ للتذكير بالفناء والبعث والحساب أي لم يخلقهما عبثا لغير غاية وكما هي دلالة قوله ﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ مما يعني أنهما يومان مختلفان أما أحدهما فهو القضاء المنتظر يوم يقول ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾ وأما ثانيهما فهو يوم ينفخ في الصور، فقوله ﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ عطف على قوله ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾ والمعنى أن رب العالمين يوم يقول كن فيكون قد قضى قضاء لن يسع المؤمنين الكفرُ به وذلك قبيل يوم ينفخ في الصور واليومان غيب لم يقعا بعد وقوله ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ إنما جاءت بصيغة المستقبل على نسق قوله ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾.
    وقد تضمن تفصيل الكتاب المنزل تِبيان يومين موعودين بعد يومِ تنزُّلِ القرآن في قوله ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ مريم، إذ وقعت تسمية ثلاثة أيام يوم يأتون ربهم للحساب بعد البعث ويوم كان القرآن يتنزل على النبيّ الأمّيّ صلى الله عليه وسلم وهو اليوم المعرف بأل وكان الظالمون خلاله في ضلال مبين عن القرآن والرسول به، أما ثالثها فهو الذي كُلّف الرسول بالقرآن النبيّ الأمّيّ صلى الله عليه وسلم أن ينذره الظالمين في قوله ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وهو اليوم الموعود في الدنيا محل الإيمان والغفلة إذ لا كفر ولا غفلة في يوم القيامة يوم يأتون ربهم للحساب بل ما أسمعهم وما أبصرهم يومئذ.
    إن يوم الحسرة الذي سيقضى فيه الأمر فجأة هو يوم يقول الله فيه كن فيكون أي أن قوله ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ في سورة الأنعام من المثاني مع قوله ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وهو يوم قبيل الساعة كما في تفصيل الكتاب بعده ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُون﴾.
    ـ يوم تأتي آياتُ ربنا الخارقة للتخويف والقضاء بين الفريقين كما في قوله ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ ومنها يوم يُصبِح الماء غَوْرا ويوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس وبينته في الآيات.
    ـ يوم يفرح المؤمنون بنصر الله العزيز الرحيم، وبينته في مادة النصر.
    ومن الأيام الآتية بعد مرحلة الموت والفناء :
    ـ يوم بين موت المكلف والبعث أو ما يسمى بالبرزخ ومنه قوله ﴿تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ النحل، وقد بينت في مادة الولاية أن ولِيّ الله هو من رحمه الرحمان فنجّاه من العذاب وأن ولِيّ الشيطان هو من وقع عليه العذاب كما هي دلالة قول الصدّيق النبيّ إبراهيم ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ مريم، ويعني أن الذين كذّبوا الرسل بالآيات قبل نزول القرآن ومنهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين والمؤتفكات وقوم إبراهيم وغيرهم، لا يزال كل منهم منذ دمّرهم الله بالعذاب في الدنيا في عذاب إلى يوم البعث وكما في المثاني معه في قوله ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ في سورة نوح أي أن المكذبين من قوم نوح ماتوا بالغرق ولا يزالون يعذبون في البرزخ بالنار.
    ـ يوم تُطوَى السّماء فتمور مورا وتسير الجبال سيرا وتُدَكُّ الأرض والجبال فتقع الواقعة.
    ـ يوم يُنفَخ في الصور ويُنقَر في الناقور لإعلان يوم الخروج يوم البعث وذلك يوم عسير على الكافرين غير يسير لعله والله أعلم كخمسين ألف سنة من سِنِي أهل الأرض يبدأ بنداء المنادي كما في قوله ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ﴾ الإسراء، أي تخرُجون من القبور أجمعون لا يتخلّف منكم أحد كما بينت في مادة الحمد وينتهي باليوم الآخر باستقرار كل من الفريقين في منزله.
    ـ يوم الجمع ويوم التغابن كما في قوله ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمً التَّغَابُنِ﴾ ويعني أن الفريقين ليسوا سواء منهم الذين آمنوا يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ويقابلهم المجرمون المكذبون بآيات ربهم يحشرون على وجوههم عُميا وبكما وصما وسائر المرسل إليهم بين هؤلاء وهؤلاء.
    ـ يوم القيامة ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ﴾ ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ و ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ وقد بلغ الكرْب مَبلغا جعل الرسل والنبيين يضرعون بدعائهم المعلوم "رب سلّم سلّم " ووقع في تفصيل الكتاب وصفه باليوم الثقيل وباليوم الحق وغيرهما من الصفات وبينته في كل منها.
    ـ يوم الدين ويوم الحساب وذلك ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ ليوم الفصل ويوم يُجاء بجهنم و ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾، وَلقد أشفق الصّدّيق النبي الخليل إبراهيم منه كما في قوله ﴿وَالذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ .
    ـ اليوم الآخر ويوم الخلود.
    ﴿يوم الدين﴾
    أما الدين فهو:
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  4. #4
    ﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾
    إن لكلمة ﴿الدِّينِ﴾ بكسر الدال ومشتقاتها في تفصيل الكتاب المنزل معان منها:
    ـ الحساب في يوم الدِّين بمغفرة الذنوب وسترها أو بعرضها في ما بين العبد وربه حسابا يسيرا أو بعرضها عليه وعلى العالمين إنسهم وجنّهم وملائكة أجمعين، ويبدأ يومُ الدين بزجرة واحدة يقوم بها أصحاب القبور ليشهدوا يوما لا تملك فيه نفس لنفس شيئا من النصرة والشفاعة إذ الأمر يومئذ لله، وأشفق الخليل من الحساب وعرض الأعمال في يوم الدين فضرع إلى ربه ليغفر له خطيئته يوم الدين.
    وينتهي يوم الدين بالجزاء في اليوم الآخر بالجنة أو النار.
    وتساءل المكذبون ﴿أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾ وكذّبوا به، كما كذّب به الذي حاور قرينَه بقوله ﴿أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ﴾ الصافات، وكما في قوله ﴿فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا﴾ الواقعة.
    وإن من تأصيلي الجديد لعلم التفسير ومما يطرد ولا ينخرم أن قوله ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا﴾ حيث وقعت في الكتاب المنزّل فإنما في وصف غيْب يوم نزل القرآن وكلّف الله بالإيمان بالغيب:
    وكان من الغيب في البرزخ كتاب مرقوم في عليين وكتاب مرقوم في سجين.
    ومن الغيب في اليوم الآخر القارعة والحاقة ويوم الدين والحُطَمة نار الله الموقدة ونار حامية وسقر.
    ومن الغيب في الدنيا يوم نزل القرآن النجم الثاقب وليلة القدر.
    ولقد أخذ الله أخذة رابية فرعون ومن قبله من الأحزاب وكان أقلُّ منه كافيا لإبادتهم وعذابهم قبل الموت به، أخذهم أخذةً رابيةً أي زائدة على ما كان كافيا لإبادتهم، وكذلك كانت اللّعنة التي لعن الله بها إبليس إلى يوم الدين زائدة على ما يستحق به الخلود في النار، ذالكم أن اللعنة من الله هي الحيلولة بين الملعون بها وببن التوبة والإسلام ساعة مصيبة الموت أي هي الحيلولة بين الملعون وبين رحمة الرحمان الرحيم، واشتد غضب الله على إبليس بما استكبر وأبى عن السجود وكفر فوقعت عليه لعنة الله إلى يوم الدين أي إلى حين الحساب والجزاء.
    ولقد أنظر الله منظرين أخّر عنهم الموت كما بينت في مادة أنظر، وكذلك أُنظِر إبليسُ إلى يوم الوقت المعلوم ليهلك مع الصاغرين وساعة هلاك الصاغرين معلوم من القرآن كفلق الشمس، ولعن الله إبليس إلى يوم الدين ليبدأ معه الحساب فالعذاب في جهنم، ولم يستجب ربنا دعاء إبليس أن ينظره إلى يوم يبعثون إذ هو كافر، ودعاءُ الكافرين في ضلال وتباب.
    وجعل الله في اليوم الآخر شجرةَ الزقوم نُزُلَ الضالّين المكذّبين بيوم الدين.
    وجعل عذاب سقر في الآخر جزاء المجرمون بتكذيبهم بيوم الدين.
    ويجزي الله المصدّقين بيوم الدين بإكرامهم في جنات في اليوم الآخر.
    والتصديق كما بينت في مادة صدق إنما يقع من المعاصر ويعني التصديقُ بيوم الدين الخشوعَ دائما في جميع أحواله بتذكر الحساب كما في قوله ﴿وَالذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ﴾ المعارج، ومن المثاني معه قوله ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ البقرة، فالخاشع هو الذي يُصَلّي صلاةَ مودّع لغلبة ظنِّه أنه قد يموت قبل الفريضة اللّاحقة فيستقبل يوم الدين للحساب، فذلك الترقُّب ليوم الدين وتذكُّره وتصوُّر الموقف الرهيب يجادل المكلف فيه عن نفسه هو التصديق به.
    يتواصل
    وقد وعَد الله وعْدَه:
    ـ ﴿وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ الذاريات
    ـ ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ﴾ النور
    ـ ومن معاني كلمة ﴿الدِّينِ﴾ التشريعُ المنزل أي ما شرع الله للمكلفين أن يدينوا به في سلوكهم وتصوراتهم وسيُدانون أي يحاسبون في يوم الدين كلٌّ حسَب تقصيره وعصيانه، ووصّى الله به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا النبي الأميّ صلى الله عليه وسلم، ووقع الإنكار في سورة الشورى على المشركين إذ لم يدينوا بالإسلام كأنما لهم شركاء شرعوا لهم ما لم يأذن به الله من الدين أي الشرع.
    وعلى من شهد الشهادتين إيمانا منه بالغيب أن يسلم لله الذي كلفه بالإسلام انقيادا منه وتمثلا سلوكا وتصورات يَدِين بها ما حيِيَ يرجو بالطاعة المغفرة والرحمة بالجنة ورضوانا من الله هو أكبر، ويخاف باجتناب المنهيات الحساب والعذاب بالنار ولَمَقْتُ الله أكبر.
    وإن من دين القيّمة الذي شرع الله لأهل الكتاب من قبل وشرع لهذه الأمة أن يعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة
    ومن التشريع القيم الذي شرع الله للناس أن السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم.
    ومنه تكليف جماعة المسلمين في ظل سلطانهم جلد الزاني مائة جلدة على الملإ.
    وحيث اقترن الدين في الكتاب المنزل بالتكليف بالإخلاص فإنما يعني أن الله لا يقبل من العبادة إلا ما شرع منها وكان خالصا.
    وما جعل الله في ما شرع لعباده من الدين من حرج أي لم يكلفهم إلا بما يطيقون.
    ووقعت كلمة ﴿الدين﴾ كذلك على كل شرع كما في قوله:
    ـ ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ يوسف
    ـ ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ﴾ غافر
    ـ ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ﴾ الكافرون
    ـ ﴿هُوَ الذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ التوبة، الفتح، الصف
    ولا يقع شيء منه على الإسلام وإنما هو تشريع ملك مصر، وشرع فرعون ذي الأوتاد ،وشريعة الكافرين الذين لا يعبدون الله، والشرائع كلها غير الإسلام.
    ويعني قوله ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ المائدة، التشريع الذي شرع الله للنبي الأمي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه من صحابته الكرام، والمسلمين من ورائهم إلى آخر الحياة الدنيا، وقد كمُل الدينُ يوم الحج الأكبر في حجة الوداع في السنة العاشرة بعد الهجرة.
    وتتابع نزولُ الوحي بعد نزول هذه الآية في حجة الوداع ونزل من القرآن بعدها طيلة ثلاثة أشهر ومنه قوله ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ البقرة، ولا شك أنها من الدين الذي كمُل في حجة الوداع رغم تأخر نزولها عن حرف المائدة.
    وإن جميع ما تضمن القرآن من الغيب الموعود في الدنيا هو من الدين الذي كمل في حجة الوداع وأتمه الله وارتضاه ويجب الإيمان به كالغيب الموعود في الآخرة.
    ومن الغيب الموعود في الدنيا تلكم الآيات الخارقة للتخويف والقضاء بين الفريقين كما في قوله ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ يونس.
    ومن الغيب الموعود في الدنيا قوله ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ القيامة، ولعله كالموصوف في قوله ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ عبس.
    ومن الغيب الموعود في الدنيا أن ينصر الله المؤمنين في القتال في سبيل الله كما في المثاني:
    ـ ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ المائدة
    ـ ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ براءة
    ومن الغيب الموعود في الدنيا أن ينصر ربنا في يوم الفتح المؤمنين بإهلاك المكذبين بعد مطلع فجر القدر ويستخلف في الأرض المؤمنين لتكون العاقبة للمتقين خلافة على منهاج النبوة.
    تلك الحوادث الموعودة من الغيب في القرآن ونبوة النبيين جميعا وكلّف الله المسلمين بالإيمان بها انقيادا منهم لدين الإسلام الذي ارتضى الله للمسلمين ومن يكفر بها فقد أعرض وتولى عن الإسلام.
    وإن مما أقعده إبليسُ من الصراط المستقيم تلك المتون الفقهية التي قصرت عن الغيب في القرآن واتخذها الناس بديلا شرعيا عن القرآن والهدي النبويّ.
    وليس من الدين في شيء ما في التراث من فهم المفسرين والمحدثين والفقهاء الذي خالف الكتاب المنزل من عند الله وحسب الناس أنه من عند الله واتخذوه دينا.
    إن قوله ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ ليقع على النبي الأمي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه يوم الحج الأكبر في حجة الوداع وقد أتمّ الله عليهم نعمته وأراهم مناسكهم ونصرهم ومكّن لهم في الأرض ودخل الناس في دين الله أفواجا ولا يعني دخول من بعدهم من الأجيال اللاحقة معهم في الخطاب كالذين قتلهم وأذلّهم جنكيز خان وهولاكو وتيمورلنك والصليبيون والعبيديون وكالمسلمين الذين سلط الله عليهم في العصر الحديث من يسومونهم سوء العذاب.
    ولقد أتمّ الله نعمته على آل يعقوب واقتصر الخطاب على آل يعقوب أي على يوسف وإخوته خاصة دون أحفادهم الذين أذلّهم وقتلهم فرعون والذين شرّدهم جالوت وجنوده وجاسوا خلال ديارهم والذين قالوا يد الله مغلولة والذين قالوا إن الله فقير والذين قالوا عزير ابن الله وقالوا المسيح ابن الله سبحان الله وتعالى عن ذلك كله ولم يتم الله نعمته عليهم.
    وإن قوله ﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ ليعني أن الله رضِيَ أن يعبد بدين الإسلام ومن الإسلام الاهتداء بالقرآن والانقياد لجميع تكاليفه ومنها ما لا يزال غيبا منتظرا كُلّفنا الإيمان به.
    يتواصل
    وإن قوله ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ وقوله ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ﴾ آل عمران، وأنه دين الله، وقوله ﴿هُوَ الذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ براءة والفتح والصف، ووصفه بأنه دِين القيّمة ودِين قيّم، في خطاب هذه الأمة لمن المثاني مع الذكر من الأولين من قول يعقوب ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ﴾ البقرة، ويعني أن الله ربَّ العالمين قد اختار لعباده دِين الإسلام.
    وإن من دين الله قوله ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ البقرة، ومن المثاني معه قوله ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ الكهف.
    ولقد شرع الله لهذه الأمة من الدّين ما وصّى به النبيين من قبل ووصّى به النبي الأميّ صلى الله عليه وسلم فكان من سُنّته أن يُقيمَ وجهه للدين حنيفا وللدين القيم، ولا يسع المؤمنين الرغبةُ عن سنة نبيهم أو الخروج عنها، ولأن خطاب الأعلى ليشمل من دونه رتبة كما أصّلت في أصول الفقه فقد وصّى الله به الأمة كلها ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ الشورى، وبينت دلالة كلمة حنيفا في مادتها وقيمّا كذلك في مادتها من المعجم.
    ونهى الله المسلمين نهيا صريحا في قوله ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذِينِ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُم فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ الممتحنة، فما ظننا بمن مالأ وموّل ووطأ واتخذهم وليجة من دون المؤمنين المستضعفين المشردين المقاتَلين في دينهم كالذين يتراءون مسلمين ويوالون ويدعمون الذين مزقوا إخواننا الروهينكا المسلمين في ميانمار، ويوالون الحكومة اللادينية الحاقدة على المسلمين في بنجلاديش ويوالون الذين استضعفوا إخواننا في الأحواز وغيرها ويوالون النظام السوري النصيري الذي شرّد المسلمين وسفك الدماء وأفسد في الأرض وأهلك الحرث والنسل.
    واتخذ قوم من أهل الكتاب دينهم هزوا ولعبا معرِضين عما فيه من الهدى باتخاذه هَزْلا ولعبا ولهوا وهزوا أو باعتباره للتسلية والتبرك فقط،
    واتخذ الكفار من الاستهزاء واللعب دِينا لا يفترون عنه.
    ونهى الله المؤمنين عن موالاة الطائفتين.
    وتضمن تفصيل الكتاب المنزل النهي عن الغُلُوّ في الدّين في سياق ذمّ إفراط النصارى في حبّ المسيح ابن مريم إفراطا أخرجهم من العبودية والإيمان إلى الكفر بالله والشرك به، ويعني حرف المائدة أن النصارى بغلوّهم في المسيح ابن مريم قد اتبعوا ﴿أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ وإنما هم المجوس الثنويون الذين يزعمون حلول اللاهوت في الناسوت غُلُوا منهم في تعظيم أسر أو طبقات من المجتمع، ولقد كان أول تحريف التوراة على يد فِيلُونْ اليهودي تلميذ الفلسفة المجوسية ذات التعاليم الباطنية.
    ويأتي قريبا بيان دلالة الضلال والإضلال في آخر السورة.
    ومن الطعن في الدين التنقيص من أهلية رسل الله وأنبيائه لما اصطفاهم الله له كما في المثاني:
    ـ ﴿وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾ براءة
    ـ ﴿مِنَ الذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ النساء
    ـ ﴿قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ براءة
    ـ ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ الزخرف
    ـ ﴿أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ﴾ الدخان
    ووقع في تفصيل الكتاب المنزل في سورة الماعون أن من التكذيب بالدين دعّ اليتيم أي دفعه عن حاجته إذا استطعم أو استسقى أو استكسى أو التجأ، والإعراض عن الحضّ على طعام المسكين، ومن المثاني معه في سورة المدثر من سلوك الذين كانوا يكذّبون بيوم الدين ودخلوا سقر سيعترفون أنهم لم يكونوا من المصلين ولم يكونوا ممن يطعمون المسكين وبينته في مادة الإطعام.
    ومن الوعد في الدنيا قوله ﴿وَعَدَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ النور، وذلك يوم تكون العاقبة فيه للمتقين آخر الصراع بين الفريقين.
    ولقد كان من الذكر من الأولين قوله:
    ـ ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا فِرعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَن لَّا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الأعراف
    ـ ﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الشعراء
    ـ ﴿فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ﴾ طــــه
    ـ ﴿وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ﴾
    ويعني أن رسول رب العالمين موسى بدأ رسالته بالسعي إلى التميز والهجرة بقومه عن سلطان فرعون وليتركه وما اختار لنفسه من كفر وطغيان وفساد، وابتعد الرسول الكليم الوجيه عن الاغتيال وقطع الطريق.
    ومن المثاني معه وعدا في الآخرين قوله:
    ـ ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ آل عمران
    ـ ﴿لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ الأنفال
    ـ ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ الفتح
    وبينته في مادة هجر وغيرها.
    ولعل بدء الصراع قد أوشك وليقع التميز الموعود ويوم يقع الصراع بين الفريقين أو السوادين سيصطفي الله للأمة قائدا هو خليفة في الأرض من رب العالمين يُؤتَى التمكين والتسخير الخارق نواميس الكون ونظام الحياة آيات خارقة هي من الغيب في القرآن وليقع في هذه الأمة استخلاف كما استخلف الذين من قبلهم وهم داوود وسليمان وذو القرنين، وسيقع بعده استخلاف آخر بتدمير المكذبين ونجاة المؤمنين كالقلة من قبل مع نوح وهود وصالح وشعيب ويومئذ يمكن الله لهم دينهم الذي ارتضى لهم فيعبدونه لا يشركون به شيئا ولا وسوسة ولا شياطين إذ قد أهلكوا مع الصاغرين في يوم من أيام الله يبدأ بمطلع الفجر من ليلة القدر.
    ومن الوعد في الدنيا قوله ﴿هُوَ الذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهَرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ الصف وبراءة، وقوله ﴿هُوَ الذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهَرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ الفتح، ويعني أن دين الحق سيظهر على جميع الأديان والملل والنحل غيره وإنما هو تمكين دين الحق خاصة في الأرض تمكينا لا سلطان معه لغيره من الأديان لتكون العاقبة للمتقين، وعدا معلوما نبّأ الله به جميع النبيين من قبل ومنهم النبي الأمي، وكذلك دلالة قوله ﴿لِيُظْهَرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ حيث وردت لوقوع الظهور على التمكين في الأرض والملك والتملك كما في قول رجل مؤمن من آل فرعون ﴿يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض﴾ غافر، وهو من الذكر من الأولين ومن المثاني معه وعدا في الآخرين قوله ﴿فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين﴾ الصف، وبينته في مادة ظهر، ويعني قوله في سورة الفتح ﴿ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ أن الهدى ودين الحق الذي أرسل الله به النبيّ الأمّيّ سيظهر على الأديان كلها ظهورا شهد الله عليه، ومن أكبر من الله شهادة، ولن يبقى ما شهد الله سرّا مخفيا بل سيصبح معلوما للعالمين جميعا يوم يقع نفاذ الوعد بها في الدنيا أو في الآخرة، وبينته في مادة شهد.
    ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
    إن قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ليعني أن من آمن بيوم الدّين وانتظره ستنحصر نيّتُه وأعمالُه وسعيُه في عبادة الله وحده، فإن عجَز أو فتَر استعان بالله وحده، وحسُن أدبُ الحامدين المؤمنين بيوم الدين بتقديم ضمير النصب المنفصل على فِعلَيِ العبادة والاستعانة ومن قام بهما من العابدين المستعينين ليمُدَّهم بالعافية والأمن والرزق ليتمكنوا من العبادة كما في قوله ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الذِي أَطْعَمَهُم مِّنْ جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ قريش، وكما في المثاني معه من الذكر من الأولين قوله ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ﴾ النحل، أي لم تستعن بنعمتي الرزق والأمن على العبادة، وكما في توجيه النبي الصّدّيق الخليل إبراهيم يخاطب قومه ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ العنكبوت، يعني ابتغُوا عند الله الرزق لتستعينوا به على العبادة، وكذلك دلالة قوله ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ الذاريات.
    إن قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ بنوني الجماعة للدلالة على إقرار وعهد من الحامد المؤمن بيوم الدين أن يعبد الله مع العابدين وأن يستعين بالله مع المستعينين به، ووقع تكليف بني إسرائيل وتكليف مريم ابنة عمران بالركوع مع الراكعين.
    وحريٌ بالعابد أن يحرص على هداية الناس كلهم ويفرح بعبادة العابدين إشفاقا من غضب الله على العاصين.
    ولقد أنعم الله على المكلفين بهدايتهم إلى عبادته، وضلّ عنها كثير من الجن والإنس فعبد بعضهم بعضا، واتخذوا من أسماء وأصناما فعبدوها من دون الله.
    وعرفت البشرية في الجاهليات الأولى ظلم المستضعفين المغلوبين والذين انقطعت بهم السبل كما باعت سيارة من الناس يوسف فجعلت منه عبدا مُفَرَّغا للقيام بخدمة سيّدته زوجة عزيز مصر، وتضمن القرآن تفصيل تعامل يوسف مع الواقع غير الشرعي، واتخذ فرعون ذو الأوتاد طائفة من الناس هم بنو إسرائيل فجعلهم قائمين مُسخّرين في خدمة آل فرعون وتعامل الرسول موسى مع الواقع غير الشرعي فسأل فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل كما هو مفصل في سورة الأعراف وطـــه والشعراء، وتعامل القرآن مع الواقع غير الشرعي فحضّ على فكاك الرقاب وكلّف به، وتمثّله النبيّ الأمّيّ فأعان سلمان الفارسي على فكاك رقبته من رقّ اليهودي، ذلكم ديننا الحنيف الأبيض النقي الذي لم يكلّف المستضعفين جُهدا يزداد به الجرح والقرح، لو علمه الإسلاميون المعاصرون.
    ولم يهتدِ كثيرٌ من الناس إلى عبادة الله رب العالمين فاتخذوا أسماء وأصناما عبدوها من دون الله أي عكفُوا على تقديسها كما وصف طائفةٌ من المشركين أنفسَهم ﴿قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾ الأنبياء، سخّروا أنفسَهم لتقديسها، والحقيقة أن الضّالّين قد اتخذوا أهواءهم آلهة كما في قوله ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَــهَهُ هَوَاهُ﴾ الجاثية، وكذا حرف الفرقان، وإنما أعرضَ العابدون أهواءَهم عن عبادة الله فعبدوا ما وافق أهواءهم أصناما أو أسماء أو غيرها.
    ولا يخفى قصور التراث الإسلامي العريض عن تصور مدلول عبادة الله رب العالمين، وكأن لم يلاحظوا من تفصيل الكتاب المنزل أن العبادة ليست هي الركوع ولا السجود ولا التوكل على الله ولا تقواه ولا الإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى وقول الحسنى للناس ولا إقام الصلاة ولا إيتاء الزكاة، ولا القنوت ولا التوبة ولا السياحة ولا فعل الخير ولا الحمد ولا الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر ولا حفظ حدود الله، بل لعبادة الله مدلول مغاير لكل من هذه التكاليف من ربّنا وإلا لَلَزِم القولُ أن السجودَ هو برُّ الوالدين وأن النهيَ عن المنكر هو الركوعُ وهو ظاهر الفساد.
    ويلاحظ في تفصيل الكتاب المنزل ورود العبادة بعد الدين كما في سورة الفاتحة وفي قوله ﴿إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ يونس، ويعني المغايرة بين مدلول الكلمتين وأن الإيمان بالدين وتصوره يسبق العبادة وأن العبادة لاحقة بعد الإيمان بالدين المنزل من عند الله، كلُحوقها بعد التوبة في قوله:
    ـ ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ﴾ التحريم
    ـ ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ﴾ براءة
    ويعني ورود العبادة بعد التوبة أن عبادة الله هي أول ما يبدأ به التائب إلى الله مما سلف من شروده أي هي الاستعداد في كل أحواله لتمثل ما يقع عليه من الخطاب والتكليف طاعة غير مشوبة بحرَج ولا تردّد، ذلكم أن عبادة الله هي استعداد المسلم في كل أحواله لتمثُّلِ ما يقع عليه من التكليف والخطاب في الكتاب المنزل والهدي النبوي.
    ويعني حرف هود ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ قبول التوكل على الله ممن عبَدَه بتمثّل ما وقع عليه من الخطاب.
    ويعني حرف العنكبوت ﴿اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ﴾ من خطاب إبراهيم قومه أن يطيعوا ما يقع عليهم من الخطاب والتكيف وليتقوه بالحذر من التفريط والإفراط والمعصية.
    ويعني حرف طــه ﴿إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَــهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ أن أول تكليف وقع على موسى هو خطابه أن يكون في كل أحواله مستعدا لتمثل ما يقع عليه من التكاليف وأولها إقامة الصلاة ليذكر الله فيها.
    ويعني حرف النجم ﴿فَاسْجُدُوا للهِ وَاعْبُدُوا﴾ تكليف المكلفين بالسجود وبعد الفراغ منه بالمسارعة إلى تمثل ما يقع عليهم من التكاليف كقوله ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ﴾ الشرح.
    ويعني حرف الحج ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اركْعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ تكليف الذين آمنوا بالصلاة وبالمسارعة بعدها إلى تمثل ما يقع عليهم من التكليف وأن يفعلوا الخير.
    ويعني حرف الإسراء ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ أن الإحسان بالوالدين هو أول ما وقع من التكاليف بعد الخطاب بالاستعداد لتمثل ما يقع على الناس من خطاب رب العالمين.
    ويعني حرف البقرة أن أول ما وقع من الخطاب على بني إسرائيل في التوراة هو تكليفهم بالعبادة التي هي الاستعداد لتمثل وطاعة خطاب الله وتكليفه وبعْدَه كلّفهم الله بالإحسان بالوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين وأن يقولوا للناس حُسْنا وأن يقيموا الصلاة وأن يؤتوا الزكاة.
    ومن عجب القرآن أن جميع الرسل أمَروا أقوامَهم بعبادة الله إلا لوطا فلم يأمرهم بها وإنما بما يلزم قبلها إذ كلّفهم بالتخلي عن الفاحشة وأمرَهم بالتطهّر لأنهم قبل ذلك ليسوا مخاطبين بالعبادة ولا أهلا لها إذ ليسُوا على استعداد لتمثل ما يقع عليهم من خطاب رب العالمين، فخوطبوا بالتكليف الأول فلو أجابوا لخوطبوا بالثاني وإلا لم يتجاوز خطاب المرحلة الأولى وهكذا لم يستجيبوا فلم يتجاوز لوط دعوة قومه إلى الطهارة والعودة إلى الفطرة فرحم الله لوطا ما أشد ما ابتلي به وهو ينظر إلى طمس الفطرة في قومه الذين سبقوا العالمين إلى إتيان الفاحشة بإتيان أدبار الذكران من العالمين أي من البشر فإن لم يتمكنوا أتوا أدبار الذكور من الأنعام وغيرها من الحيوانات.
    وإن لوطا الذي آتاه الله حُكْما وعلما قد أصاب في حكمه يوم قال لقومه ﴿هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ هود، ومن المثاني معه قوله ﴿هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ الحجر، وإنما أراد لوط أن يرُدَّ قومه إلى الفطرة كما في قوله ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾ الشعراء، أي فروج النساء، ولو تمكن لوط من إرجاع قومه إلى الفطرة لسارع إلى تكليفهم بعبادة الله رب العالمين.
    إن الذي جنح إليه المفسرون من التأويل هو من الأباطيل ومنه قولهم إنما يعني لوط نساء أمته فهم بناته ويردّه قوله ﴿قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ﴾ هود، ويعني أنهم علِموا أنه يريد بناتِه لا بناتهم اللاتي لا سلطان له عليهم.
    إن الله لم يعتب على لوط دعوته قومه إلى بناته وأنهن أطهر لهم من الفاحشة بالذكور وإنما وصفه بأنه آتاه حكما وعلما وأنه من المحسنين وأنه فضله على العالمين وآتاه الكتاب والحكم والنبوة كما في الأنعام.
    ولقد منّ الله على النبيين فوفّقهم إلى تحقيقهم العبادة في الدنيا في جميع أحوالهم في أنفسهم وفي ما يملكون أي للاستعداد لتمثل التكليف المنزل، وكان إسلامهم كإسلام من في السماوات والأرض يوم القيامة لله كما في قوله ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا ﴾ مريم، أي مسلما خاضعا يستجيب للداعي، ولا كرامة بالإسلام في يوم القيامة وإنما في الدنيا كإسلام الملائكة والنبيين فيها.
    ومن الحسنة التي آتاها الله النبيين أن وصف كلا منهم بالعبد في القرآن لبيان كرامته ووجاهته عند ربه كما في المثاني:
    ـ ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ الإسراء
    ـ ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ﴾ سورة ص
    ـ ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا﴾ الكهف
    ـ ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ﴾ سورة ص
    ـ ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ﴾ سورة ص
    ـ ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾ مريم
    ـ ﴿سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ فاتحة الإسراء
    ومن الوعد والغيب في القرآن الذي لم يقع بعدُ نفاذه ولا تزال البشرية على موعد معه قوله:
    ـ ﴿وَالذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ فاطر
    ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ﴾
    ـ ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَـــــهَ إِلَّا أَنَا فَاتّقُونِ﴾ النحل
    ـ ﴿قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الذِينَ اصْطَفَى﴾ النمل
    ـ ﴿وَلَــــــكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ إبراهيم
    ـ ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ فاطر
    ـ ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ...﴾ الأنبياء
    ـ ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ ص، وكذلك حرف الحجر وأحرف الصافات
    وبينته في معجم معاني كلمات القرآن وحروفه مادة اصطفى وأخلص وأكرم وعلم ومنّ وسلام وغيرها.
    ومن الوعد والغيب في القرآن الذي لم يقع بعدُ نفاذه ولا تزال البشرية على موعد معه قوله:
    ـ ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ النساء
    يتواصل
    ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
    أعانه أي أمدّه بقدرة تبلِّغ العاجزَ ما يحتاجه للاستمرار أو لبلوغ المراد، واحتاج ذو القرنين إلى قوَة الأيدي العاملة لبناء السّدّ، واعترف كفّار قريش بإعجاز القرآن، فاتهموا النبي الأميّ الرسول به كما في وصفهم ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ الفرقان، وتَنَزّل الكتاب بتكليف الناس أن يُعين بعضُهم بعضا على البرّ والتقوى وبنَهْيِهم عن التعاون على الإثم والعدوان، وبينت دلالة كل من البرّ والتقوى والإثم والعدوان في مواضعها من المعجم.
    وتضمنت سورةُ الفاتحة إقرارَ الحامدين المؤمنين بغيب يوم الدين وتعهّدَهم أن يعبدوا الله مع العابدين وأن يستعينوا بالله مع المستعينين.
    واستعان النبي يعقوب بالله لما عجَز عن دفع كيد بنيه بيوسف فقال ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ يوسف، ويوم أصبح موسى في مصر خائفا يترقب أن يقتله فرعون خرج هاربا واستعان بالله وحده ﴿قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ القصص، ويوم مسّ الضرُّ أيوبَ استعان بالله وحده كما في قوله ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ الأنبياء، ويونس إذ التقمه الحوت استعان بالله وحده كما في قوله ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَــهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ الأنبياء.
    أولئك النبيون الذين كلَّفَ الله نبيّنا الأميّ أن يهتدي بهداهم استعانوا بالله ولم يستعينوا بأجدادهم ولا بالقبور ولا بما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.
    ومن تفصيل الكتاب المنزل خطابُ الجماعة المسلمة المستضعَفة بتكليفها بالصبر والاستعانة بالله حتى يزولَ عنها الاستضعافُ وتتجاوزَ مرحلةَ التميز بالانفصال عن دار الغالب، ليتأتّى خطابُها وتكليفها بالانتصار برد الاعتداء بمثله وبالقتال، ومن الذكر من الأولين قوله ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ الأعراف، من توجيه رسول رب العالمين موسى قومَه المستضعَفين الذين توعّدهم فرعونُ بالمزيد من القتل والقهر والاستعباد، ولم يأمرهم بالاغتيال والتنظيمات السرية ولا الحرابة، وكذلك خوطب بنو إسرائيل في التوراة أي بعد هلاك فرعون بقوله ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ البقرة، ومن المثاني معه في خطاب هذه الأمة قوله ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ البقرة، في وصف مرحلة المسلمين يوم يقع تسلط الذين ظلموا فيهدمون الكعبة وليهتدي المسلمون يومئذ كما أي بمثل الهداية الموصوفة في قوله ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ البقرة.
    ومن الوعد في القرآن أن سيشتدّ الكرْبُ بالمؤمنين ويستفْتح صالح المؤمنين يومئذ كما في قوله ﴿قَاَل رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ خاتمة سورة لأنبياء.
    ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
    أعانه أي أمدّه بقدرة تبلِّغ العاجزَ ما يحتاجه للاستمرار أو لبلوغ المراد، واحتاج ذو القرنين إلى قوَة الأيدي العاملة لبناء السّدّ، واعترف كفّار قريش بإعجاز القرآن، فاتهموا النبي الأميّ الرسول به كما في وصفهم ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ الفرقان، وتَنَزّل الكتاب بتكليف الناس أن يُعين بعضُهم بعضا على البرّ والتقوى وبنَهْيِهم عن التعاون على الإثم والعدوان، وبينت دلالة كل من البرّ والتقوى والإثم والعدوان في مواضعها من المعجم.
    وتضمنت سورةُ الفاتحة إقرارَ الحامدين المؤمنين بغيب يوم الدين وتعهّدَهم أن يعبدوا الله مع العابدين وأن يستعينوا بالله مع المستعينين.
    واستعان النبي يعقوب بالله لما عجَز عن دفع كيد بنيه بيوسف فقال ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ يوسف، ويوم أصبح موسى في مصر خائفا يترقب أن يقتله فرعون خرج هاربا واستعان بالله وحده ﴿قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ القصص، ويوم مسّ الضرُّ أيوبَ استعان بالله وحده كما في قوله ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ الأنبياء، ويونس إذ التقمه الحوت استعان بالله وحده كما في قوله ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَــهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ الأنبياء.
    أولئك النبيون الذين كلَّفَ الله نبيّنا الأميّ أن يهتدي بهداهم استعانوا بالله ولم يستعينوا بأجدادهم ولا بالقبور ولا بما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.
    ومن تفصيل الكتاب المنزل خطابُ الجماعة المسلمة المستضعَفة بتكليفها بالصبر والاستعانة بالله حتى يزولَ عنها الاستضعافُ وتتجاوزَ مرحلةَ التميز بالانفصال عن دار الغالب، ليتأتّى خطابُها وتكليفها بالانتصار برد الاعتداء بمثله وبالقتال، ومن الذكر من الأولين قوله ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ الأعراف، من توجيه رسول رب العالمين موسى قومَه المستضعَفين الذين توعّدهم فرعونُ بالمزيد من القتل والقهر والاستعباد، ولم يأمرهم بالاغتيال والتنظيمات السرية ولا الحرابة، وكذلك خوطب بنو إسرائيل في التوراة أي بعد هلاك فرعون بقوله ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ البقرة، ومن المثاني معه في خطاب هذه الأمة قوله ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ البقرة، في وصف مرحلة المسلمين يوم يقع تسلط الذين ظلموا فيهدمون الكعبة وليهتدي المسلمون يومئذ كما أي بمثل الهداية الموصوفة في قوله ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ البقرة.
    ومن الوعد في القرآن أن سيشتدّ الكرْبُ بالمؤمنين ويستفْتح صالح المؤمنين يومئذ كما في قوله ﴿قَاَل رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ خاتمة سورة لأنبياء.
    ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾
    الهداية
    إن قوله ﴿قَالَ رَبُّنَا الذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ طـه، ليعني أن ربّ العالمين قد هَدَى كلّ مخلوق إلى ما جَبَله عليه مما يصلُح لبقائه وحفظ نوعه، وذلك التوفيق الذي فتح به المولود فاه ساعة يولد ليمصّ الثدي، وذلك التوفيق الذي جعل كل مخلوق على الأرض يسلك سلوكا خاصا لبقائه، وجعل أنثى الطير تهتدي إلى فقص بيضها في أجل معلوم لا تضل عنه ولا تخطئه، هو الهداية من رب العالمين إلى أسباب بقائه.
    والمستضعفون من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة تُخَلّصهم من الاستضعاف ولا يعرفون الطريق التي توصلهم إلى حيث يبتغون إذ لا يهتدون إليها.
    وتكلف بنو إسرائيل التقيد بأوصاف بقرة بذاتها ليهتدوا إليها فلا تتشابه مع غيرها من البقر.
    واختبر سليمان عقلَ ملكة سبإ ليعلم رأي العين هل ستهتدي إلى معرفة عرشِها رغم ما لحقه من التنكير أم سيَلتبس عليها وتضلّ عنه فلا تعرفه.
    وإن قوله ﴿اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ يـس، ليعني أن النبيين والرسل في الدنيا كأهل الجنة قد هداهم ربهم إلى الطيب من القول وإلى صراط مستقيم فلا يملك أحدهم لنفسه ضلالا ولا زيغا كما في قوله ﴿أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ﴾ النور، ويعني أن رسل الله لا يحيفون ولا يميلون عن الحق أبدا بما هداهم ربهم ووفقهم إذ هداهم ربهم فاهتدوا ومن قبل قد آتاهم حكما وعلما وجعلهم أئمة يهدون غيرهم من الناس بأمره وإذنه وأوحى إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهداهم في الدنيا إلى الطيب من القول وإلى العمل الصالح فلا يخطئونه ولا يضلون عنه.
    وأما هداية عامة الناس فإنما تعني تبيُّنَهم ما جاء به النبيون والرسل من الهدى والبينات والإيمان به واتباعه من غير ضلال عنه إلى ما تهوى الأنفس أو يدعو إليه الشيطان.
    إن الكتاب المنزل من عند الله هو هُدًى للناس يهتدون به إلى رضوان الله وإلى أسباب النجاة في الدنيا والآخرة من عذاب الله كما في قوله:
    ـ ﴿هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾ عمران
    ـ ﴿هَـذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُـدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ الأعراف
    ـ ﴿فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ الأنعام
    ـ ﴿هُوَ الذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ التوبة والفتح والصف
    ـ ﴿وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُـدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ القصص
    ـ ﴿وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُـدَى آمَنَّا بِهِ﴾ الجن
    ـ ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى﴾ النجم
    ـ ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولًا﴾ الإسراء
    وشبهه ويعني أن الكتاب المنزل على الرسول النبي الأمي صلى الله عليه وسلم هو الهدى الذي أرسل به فمن قال به فقد صدق ومن تمسك به فقد نجا ومن اتبعه فقد اهتدى ولو خالفه الناس أجمعون وخالفه التراث أي جميع الاجتهادات والآراء.
    وكذلك وقع في القرآن الوصف بالهُدَى على الآيات الخارقة للتخويف والقضاء مع الرسل بها من رب العالمين كما في قوله :
    ـ ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ فصلت
    ـ ﴿قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ طـه
    ـ ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ﴾ القصص
    ـ ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ﴾ غافر
    ويعني أن الناقة والعصا واليد البيضاء وسائر الآيات الخارقة للتخويف والقضاء مع الرسل بها كانت هدى يهتدي بها من رآها وحضرها إلى أن أحدا من العالمين لا يقدر على مثلها فإن آمن واتبع من جاء بها فقد اهتدى وأبصر الهدى وإن أعرض عنها فهو في ضلال مبين لا يختلف فيه كما استحبت ثمود العمى فلم يبصروا الناقة الآية المبصرة وهي مبصرة لأنها تجعل من آمن بها على بصيرة من ربه كما في قوله ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَـــؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ﴾ الإسراء، يعني الآيات التسع مع موسى للتخويف والقضاء.
    إن تأخر نزول التوراة إلى ما بعد هلاك فرعون ليعني أن الهدى قبلها مع موسى وهارون كما في قوله ﴿قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ من قول موسى وهارون هو الآيات الخارقة معهما للتخويف والقضاء إذ جعلا الهدى بدلا من الآيات الخارقة المعجزة من ربه، وقولهما ﴿ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ هو من ليّن القول الذي كلِّفا به ليفهم فرعون أنه باتباعهما إنما يتبع الهدى من ربه، حرصا منهما على أن لا يمنعه الكبر والاستعلاء على من يعتبرهما من رعيته.
    ووقع التكليف من الله باتباع كل من الكتاب المنزل والرسل.
    فمن التكليف باتباع الكتاب المنزل قوله تعالى:
    ـ ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ الأعراف
    ـ ﴿وَهَـــذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ الأنعام
    ـ ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ﴾ البقرة ولقمان
    ومن التكليف باتباع الرسل والنبيين قوله:
    ـ ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهءدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾ مريم
    ـ ﴿ اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ يس
    ـ ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ آل عمران
    ولقد وقع في تفصيل الكتاب تعدية الهدى باللام مسندا إلى الله وإلى القرآن فقط أي لم يوصف مخلوق كائنا من كان ولو كان من الملائكة أو النبيين أو الرسل بأنه يهدي للحق أو يهدي للصراط بتعدية الهداية باللام وحده، ويعني أن القرآن يهدي للتي هي أقوم وأن الله هو الذي يهدي للحق كما في قوله:
    ـ ﴿إِنَّ هَــــذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ الإسراء
    ـ ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُم مَّنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ يونس
    ويعني الإسراء ويعني أن القرآن يهدي من تدبره وعقله فاتبعه للحق مهما تأخر المهتدي بالقرآن عن حياة الرسول به إلى الناس.
    ويعني حرف يونس أن الله هو الذي يهدي الرسل والنبيين للحق وأن الرسل والنبيين هم الذين يهدون إلى الحق بتعدية الهداية ب"إلى " وأنهم أحق أن يتبعوا من شركاء المشركين الذين لا يهدون ولم يتضمن حرف يونس تكليف الناس باتباع الذي يهدي للحق إذ هو الله سبحانه وتعالى وإنما تضمن تكليف الناس باتباع الرسول إذ هو الذي يهدي إلى الحق فالمقارنة بين اتباع الرسل الذين يهدون إلى الحق وبين شركاء المشركين فافهم.
    وكذلك يهدي القرآن إلى الحق وإلى طريق مستقيم وإلى الرشد فلا يخطئ من اهتدى به شيئا من ذلك أبدا كما هو مفصل في القرآن.
    وكذلك يهتدي من اتبع الرسل والنبيين واهتدى بهم إذ يدلونه إلى صراط مستقيم أي إلى الكتاب المنزل من عند الله وكذلك دلالة قوله ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ خاتمة الشورى
    وأخطر وأكبر مما تقدم ما تضمنه تفصيل الكتاب وبيان القرآن من إيقاع الهداية مباشرة على من تقع عليه مجردة من التعدية بالحرف كما في قوله:
    ـ ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ الصافات
    ـ ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾ الفتح
    ويعني حرف الصافات أن رب العالمين قد أنعم على موسى وهارون نعما كثيرة فُصّلت حسب التسلسل الزمني إذ كان أولها المنّ عليهما بأن اصطفاهما للرسالة وثانيها أن نجّاهما وقومهما بني إسرائيل من الكرب العظيم أي من الاستضعاف وقتل ذكورهم واستحياء إناثهم وثالثها نصرُهم بأن نجّاهم وأغرق عدوهم ورابعها أن آتاهما الكتاب المستبين وهو التوراة وخامسها أن هداهما الصراط المستقيم بغير تعدية ب"اللام" ولا ب"إلى" ويعني أنها منزلة أكبر مما سبقها.
    ولقد هدى رب العالمين موسى وهارون الصراط المستقيم بعد أن آتاهما الكتاب كما هو صريح حرف الصافات ووعد رب العالمين محمدا صلى الله عليه وسلم أن يهديه الصراط المستقيم في حرف الفتح في آخر حياته بعد أن آتاه الكتاب ويعني أن موسى وهارون بعد أن آتاهما ربهما التوراة قد منّ عليهما مرة أخرى فجعلهما مسيران بالوحي تسييرا إذ يوحى إليهما في كل شأن بما يجب عليهما فعله وقوله وكذلك النبي الأمي بعد سورة الفتح لم يفتر عنه الوحي ليجتهد في مسألة أو نازلة بل كان يوحى إليه في كل شأن بالجواب كما في قوله ﴿وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾ المائدة.
    ولم تتبين الأمة بعد بما انشغلت وافتتنت بالمتون دلالة قوله تعالى ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ وشبهه.
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  5. #5
    ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾
    إن الصراط هو السبيل أي الطريق الموصلة إلى غاية، وحرص الخصمان اللذان تسورا المحراب على أن يدلهما داوود إلى سواء الصراط بالقضاء بينهما بحكم يرضيهما معا فلا يختلفان بعده، وكان قوم شعيب يقعدون بكل طريق موصلة إلى شعيب يتوعّدون من يدخل عليه حصارا منهم وصدًّا عن سبيل الله.
    ويسوق الملائكة في يوم الدين الذين ظلموا وأزواجهم إلى صراط الجحيم.
    وتضمن تفصيل الكتاب المنزل أن سعي الناس شتى مختلفا لكل منهم صراطه الموصلة إلى غايته، فللذين أنعم ربهم عليهم صراط مستقيم، وللمغضوب عليهم صراط، وللضالين صراط، ويعني أن صراط الله واحد وسبل الشيطان متعددة كما في قوله ﴿وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ الأنعام
    ووقع في تفصيل الكتاب المنزل وصف كل من الهدى والصراط والطريق بالاستقامة كما في قوله:
    ـ ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُـدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾ الحج
    ـ ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ يس
    ـ ﴿يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ الأحقاف
    ويعني ترادف الكلمات الثلاث حال اتفاق وصفها بالاستقامة ودلالة كل منها على الأخرى، ويأتي مزيد من التفصيل والبيان.
    ووقع في تفصيل الكتاب المنزل وصف الصراط الموصلة إلى رضوان الله ونعيمه بصراط الله والصراط المستقيم والصراط السوي.
    وإن قوله:
    ـ ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَـذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ الحجر
    ـ ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ الأعراف
    ـ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِي الذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ الحج
    ليعني أن الصراط المستقيم كان معلوما يوم أبى إبليس أن يسجد لآدم وأن أصحابه هم عباد الله الذين لا سلطان لإبليس عليهم وأن إبليس سيجتهد ليجعل الناس لا يتبيّنون الصراط المستقيم ولا يتبعونه وكذلك أخبر الله في حرف الحج أن كل رسول ونبي قبل نزول القرآن قد تمنّى أن يهتدي قومه إلى الصراط المستقيم، وأن الشيطان كان يلقي في أمنية كل رسول ونبي من قبل، أي يشغلهم ويُزيّن لهم في الأرض غير اتباع الهدى مع الرسل به، ويقعُد لهم الصراط المستقيم كالموصوف في حرف الأعراف والحجر.
    ولزم طلاب الصراط المستقيم تبيّنه من الكتاب المنزل بقسميه المعلومين وعد في الآخرين سيأتي بيانه، وذكر من الأولين كما في قوله:
    ـ ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ آل عمران
    ـ ﴿وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ مريم
    ـ ﴿إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ الزخرف
    ـ ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَالَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾ مريم
    ويعني حرف عمران ومريم والزخرف أن عيسى قد خاطب قومه بأن الصراط المستقيم الحاضر الذي أصبح شهادة مشارا إليه بهـذا هو كتاب الله المنزل من عنده الإنجيل فليعبدوا الله كما كلّفهم في كتابه المنزل وليتبعوا الرسول عيسى كما في أول الزخرف.
    ويعني حرف مريم أن الرسل والنبيين يهدون من اتبعهم صراطا سويا.
    ﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾
    وقبل بيان الصراط المستقيم وبيان كل من نوْعيِ الهداية المتعلقة به، لزم تبيّنُ دلالة الاستقامة في تفصيل الكتاب المنزل ومنها التي وصف بها الصراط.
    الاستقامة ضد الاعوجاج كما في قوله ﴿وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا قَيِّمًا﴾ الكهف، يعني وصف الكتاب المنزل على النبيّ الأمّيّ بأنه لا اعوجاج فيه وتأكَّدَ المعنى بإثبات وصف الاستقامة أي أن الكتاب المنزل قيّم لا اعوجاج فيه أي لم يجعل له عوجا وجعله قيما مستقيما غير ذي التواء ولا عوج.
    وكذلك الفواتح لا اعوجاج فيها لدلالتها على غيب سيصبح شهادة قبل انقضاء الدنيا يوم يقع الوعد ببيانها كما في قوله ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ القيامة، وإنها لمن القرآن، كما إن بيانها في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة لمن الكتاب المنزل الذي كلِّفنا بالإيمان به كله في قوله ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ آل عمران، وبينته في كلية الكتاب.
    وكانت امرأة إبراهيم قائمةً حذو زوجها وضيفه تنتظر القيام بما يحتاجونه من خدمة، وينتصب ابن آدم قائما على قدميه معتدلا غير متوكئ كالذي ينتظر التكليف مستعدا للقيام به.
    وأخذت الصيحة ثمود مصبحين أي بعد مطلع الفجر وكانوا نوّما فأفزعتهم فاستيقظوا يصارعون الموت البغتة ولم يستطيعوا القيام للاختباء ولا للانتصار.
    وتضمنت سورة يونس حال المضطر يدعو ربَّه ليكشف عنه الضرّ وأشده حين يلزم الفراش على جنبه وأخف منه ما يستطاع معه الجلوس ثم تمكنه من الانتصاب قائما على قدميه.
    ويدعو الذاكرون ربهم في جميع أحوالهم قياما وقعودا وعلى جنوبهم.
    وتلك اللِّينة قائمة جاهزة لإعطاء الرطب والموز في كل حين، وتلك القرى قائمة بمتاع الإنسان ستصبح قبل انقضاء الدنيا حصيدا عذابا شديدا وعَد الله به في التوراة وفي القرآن.
    وتعني كلمة القيام المسند إلى المخلوق الانتصاب والتمكن من التكليف والعطاء.
    وقد جعل الله الأموال وسيلة يتمكن بها الإنسان من القيام بشؤونه، وجعل الكعبة قياما للناس يأمنون حولها أن يتخطفهم الناس ولا تسل عن انفلات الأمن وانفراط الأنظمة يوم يقع هدم الكعبة.
    ويتركُ ما كان عليه من يقوم إلى صلاته الفريضة أو النافلة إلا المنافقين يتثاقلون إلى الراحة يقومون كسالى.
    وتنزل تكليف المزمل أن يقوم لصلاة الليل، ولينشئ النائم من الليل ناشئة يستيقظ فيها يقوم فيصلي، وتنزل تكليف المدّثّر أن يقوم لينذر الناس ما ينتظرهم من الخزي والعذاب إلا يؤمنوا ويسلموا ويتقوا، ويعني أن القائم يستقبل عملا يبتدئه، ويقوم زوار القبور عليها يستغفرون لأصحابها ويتعظون ليمهدوا لأنفسهم بالعمل الصالح قبل الموت.
    ويعني قوله ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ النساء، أن الذي يؤم المصلين يتقدمهم يُقِيم لهم الصلاة يأتي بها على وجهها يتم قيامها وركوعها وسجودها وجلوسها يتلو القرآن ويحسن الدعاء والخشوع والقنوت، وكلّف الله موسى أن يقيم الصلاة ليذكر الله فيها أي يدعوه، وحرص إبراهيم على أن يجعله ربه مُقيم الصلاة وأن يُقيمها ذريتُه من بعده، وسخرت مدين من حسن صلاة شعيب، ووقع تكليف النبيّ الأمّيّ أن يقيم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ولدلوك الشمس إلى غسق الليل، وأن يتلو الكتاب المنزل ويقيم الصلاة فمن رغب عن سنته فليس من أمته.
    ووقع الخطاب بإقامة الشهادة لله أي بالإتيان بها على وجهها كما في قوله ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا﴾ المائدة، وكذلك دلالة إقامة الوزن بالقسط، وإقام الصلاة بالإتيان بها على وجهها، وأن يقيم المسلمون وجوههم عند كل مسجد، وكذلك المعلّق قلبه بالمساجد اطمئنانا منه إلى ذكر الله، وافتقارا وحاجة إلى هداية الله وتوفيقه.
    ووقع الخطاب بإقام الصلاة على كل المسلمين جماعات وفرادى وتنزل التكليف بإقامتها في العهد المكي قبل التميز بالهجرة يوم كان المسلمون مستضعفين مشردين كما في قوله ﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ﴾ الأنعام، وكذلك في العديد من السور المكية، ولا يتأتى للجماعة المتخفّية ولا للتنظيمات السرية إقامة الصلاة جماعة بل الإسلام دين العامة آذن به النبيّ الرسول به الناس جميعا على سواء.
    ووقع في القرآن خطاب اليهود بإقامة التوراة، وخطاب النصارى بإقامة الإنجيل أي بالإسلام والإيمان بكل منهما لا الإيمانُ ببعض الكتاب المتفِق مع أهوائهم والكفرُ ببعضه الذي لا تهواه أنفسهم، ولا يزال الغيب يغَيِّب أمّةً من أهل الكتاب قائمة بالكتاب المنزل يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون.
    ووقع تكليف النبي الأمي أن يقيم وجهه للدين غير منصرف عنه ولا منشغل ولا مائل إلى غيره، وتكليف المكلفين بإقامة الدين غير مائل إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
    ووقع تكليف الزوجين أن يقيما حدود الله، بإبقائها قائمة مستقيمة كما في قوله ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ النساء.
    وبينت دلالة الدين القيم ودين القيمة في مادة الدين من المعجم، ودلالة كتب قيمة في مادة كتاب من المعجم.
    وتعني تعدية القيام بلام التعليل القصرَ والحصرَ ولينحصر قيام الوليِّ على مال اليتيم بالقسط، وإنما وقع إنزال الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط.
    ووقع التكليف بالقيام بالشهادة، وشهد الله قائما بالقسط يوم بعث الرسل مبشرين ومنذرين أنه لا إلـــه إلا هو ، وشهد بشهادته الملائكة وأولوا العلم وهم الرسل والنبيون خاصة.
    وبينت في تأصيلي التفسير والفقه وقوع الوصف بالذين آمنوا على الصحابة خاصة دون غير من تابعيهم من المؤمنين الذين لم يعاصروا الرسول، ووقع تكليف الذين آمنوا أن يكونوا قوّامين لله شهداء بالقسط وقوّامين بالقسط شهداء لله وهو من خطاب الأعلى ويشمل من دونهم رتبة، أما الرسل والنبيون فلا يتأتّى منهم غير القيام لله والقيام بالشهادة على وجهها كما في قوله ﴿أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ﴾ النور.
    إن الإتيان بالشهادة على وجهها غير محرفة لهو القيام بها من القائم بالقسط والقوّام بها يجعلها مستقيمة غير معوجة بالتدليس والتحريف والكذب والظلم والشطط.
    ووقع في الكتاب المنزل تكليف النبيّ الأمّيّ أن يدعو إلى الله ويستقيم كما في التكليف المنزل وتكليف سائر الأمة بالاستقامة كما في الذكر للعالمين.
    ووقع وصف الوفاء بالعهد بالاستقامة وكلّف الله بها جماعة المسلمين في قوله ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ براءة.
    وإن من الذكر من الأولين إذ استستقى لقومه كما في الأعراف والبقرة ومن المثاني معه وعدا في الآخرين قوله:
    ـ ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ﴾
    ـ ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ الفلاح
    ـ ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ الحجر
    ـ ﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ الجن
    ـ ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾ البقرة
    ويعني أن الناس يوم يصبح الماء غورا ومنه الذي خزّنوه سيستسقون بصالح المؤمنين فيُسقون به ماء معينا أي ماء غدقا كرامة للذين استقاموا على الطريقة قبيل فتنة الدجال التي سيفتتن بها من يعرضون عن ذكر ربهم أي آياته الخارقة.
    ولا يزال الغيب يغيّب طائفةً من هذه الأمة سيقولون ربنا الله ثم يستقيمون أي لا يفتتنون بالسامري الدجال وستتنزل عليهم الملائكة في ليلة القدر تبشّرهم أن لا خوف عليهم من العذاب بعد مطلع فجر ليلة القدر وأن لا يحزنون إذ هم أصحاب الجنة والملائكة أولياؤهم يومئذ تنجّيهم من العذاب الذي سيمحق المجرمين والكافرين والمنافقين وأولياؤهم كذلك في الآخرة.
    وإن من تفصيل الكتاب المنزل أن التكليف بالاستقامة يعني أن فتنا ستأتي على المكلف المخاطب وهكذا كانت فتنة قوم موسى وهارون بالسامري وعجله بعد تكليفهما بالاستقامة، ولا تزال الفتن المظلمة تترى على هذه الأمة.
    ولا تزال الفتن المظلمة تترى على العوام المغفلين المبتلين بالمنافقين والعلمانيين والجبابرة المتسلطين، ظلمات بعضها فوق بعض على من عشِيَ أو عمِيَ عن الصراط المستقيم فلم يبصره أو أبصره فرغب عنه إلى غيره مما افتتن به عن الكتاب المنزل والهدْيِ النبويّ ولو كان متونا فقهية أو متون قراءات أو تفاسير عريضة شغلته عن استنباط التي هي أقوم وعن تبيّن الرشد من الكتاب المنزل.
    إن الصراط المستقيم ليوصل من سلكه إلى رضوان الله ولو مات السالك بعد خطوته الأولى التي هي النية والقصد.
    وليس الصراط المستقيم هو اجتهادات المكلفين في متون التفاسير والفقه والقراءات بل هو طريق سلكه الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فلم ينقطع بهم بل أوصلهم إلى حيث رضي الله عنهم ورضوا عنه.
    ولا تتأتى دراية الصراط المستقيم قبل تصحيح المفاهيم حول دلالة الدعاء في القرآن وحول دلالة كلمة الإنعام وحول الذين أضيف إليهم في الكتاب المنزل وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون الذين أنعم الله عليهم فجعلهم يهتدون الصراط المستقيم مباشرة دون واسطة تعدية الهداية بحرف اللام أو بالحرف إلى.
    ولعل من الغفلة دعاء أحدنا ربه أن يهديه إلى الصراط المستقيم إذ قد هدى الله إليه من قبل بإرسال الرسل والنبيين وهدَى هذه الأمة إلى الصراط المستقيم يوم نزّل الكتابَ إلى النبيّ الأمّيّ صلى الله عليه وسلم.
    أولا: دلالة الدعاء في الكتاب المنزل
    ويقع الدعاء في الكتاب المنزل على عدة معان منها:
    ـ الضراعة في الطلب واقتصرت ضراعة النبيين والرسل في الحاليْن خوفا وطمعا إلى الله ربهم كما في دعاء زكريا حالة الطمع ﴿رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ الأنبياء، وكما في ضراعة موسى حالة الخوف ﴿فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ القصص
    ـ الزعم كما في قوله ﴿أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَدًا﴾ مريم
    ـ النداء بصوت عال كما في قوله:
    ـ ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ﴾ طـــه
    ـ ﴿سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ﴾ الأعراف
    ـ ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ﴾ الكهف
    ـ ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾ الفرقان
    ـ ﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ لقمان
    ـ الدعاء بمعنى النسبة كما في قوله ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ﴾ الأحزاب
    ـ الدعاء بمعنى السؤال كما في قوله ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ﴾ البقرة
    ـ الدعاء بمعنى الإتيان بالمدعو وإحضاره كما في قوله ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾ عمران.
    وكان من علْم النبيين أنهم لا يدعون الله إلا بما علموا من الكتاب المنزل عليهم أو علموا من الوحي إليهم أو علموا مما عرض عليهم أنه من وعد الله.
    ولما دعا نوح ربه بما ليس له به علم بالوحي إليه به أوحي إليه كما في قوله ﴿فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ هود، ويعني قوله ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ صحة الحديث النبوي أن لا يرث الكافر المسلم.
    وحيث تلوتَ في الكتاب المنزل دعاء بمعنى الطلب والضراعة فهو إذْن من الله للمؤمنين أن يدعوه به وليس هو من الاعتداء في الدعاء وإنما هو دعاء الله بما علّمنا من الكتاب المنزل من عنده أنه من وعده.
    فإن كان في الكتاب المنزل فهو من الوعد غير المكذوب سيتم نفاذه في الدنيا أو الآخرة أو فيهما.
    وإن كان في القرآن فهو من الغيب المنتظر في الدنيا الذي كلفنا الإيمان به ولا يخلف الله وعده سبحانه وتعالى عما يتوهم المفتونون.
    فمن الدعاء في الكتاب المنزل قوله ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ البقرة
    ومن الدعاء في القرآن قوله:
    ـ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ الفاتحة
    ـ ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾
    ـ ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾ آل عمران
    ـ ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ آل عمران
    يتواصل
    ومن الدعاء في القرآن قوله:
    ـ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ الفاتحة
    ـ ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾
    ـ ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾ آل عمران
    ـ ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ آل عمران
    ويعني أنه محقق الوقوع والنفاذ في الدنيا إذ هو من وعد الله ضمن الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن ولعلها:
    1. الذكر
    2. ضرب الأمثال
    3. القول
    4. النبوة
    5. الغيب في القرآن ومنه التكليف بالإيمان وبالعلم وإسناد العلم إلى الله
    6. الوعد في الدنيا ومنه الأسماء الحسنى والدعاء بها ومنه الدعاء في القرآن دون الكتاب
    7. إعلان الجزاء في الآخرة
    ولا دلالة للترتيب من عندي ولا قطع على موافقة الحق والصواب وإنما اجتهدت ونحوت والله أعلم.
    وصرف النبيّ الأمّيّ صلى الله عليه وسلم الصحابةَ عن الاشتغال بتعدد الأداء المنزل إلى الغاية القصوى التي لأجلها أنزل القرآن وهي تدبّره الذي يهديهم إلى الرشد والتي هي أقوم صراطا مستقيما لا سبيل إلى تبيّنه قبل استنباط الأحرف أي المعاني السبعة التي أنزل عليها القرآن، وليقرأنّ بحرف منها على الأقل من قرأ ما تيسّر من القرآن.
    وأجدني مفتقرا إلى التمثيل لكل حرف من الأحرف السبعة.
    أما الذكر فكما في قوله ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ الأنفال.
    وأما ضرب الأمثال فكما في قوله ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرْت بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾ النحل
    وأما القول فكما في قوله ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ﴾ الملك
    وأما النبوة فكما في قوله:
    ـ ﴿تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا﴾ الأعراف
    ـ ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ الأنعام
    ـ ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ سورة ص
    وأما الغيب في القرآن فكما في قوله ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ يونس.
    وأما التكليف بالإيمان فكما في قوله ﴿وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ﴾ الأحقاف، للدلالة على الوعد بالبعث.
    وأما التكليف بالعلم فكما في قوله ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾ براءة، للدلالة على نفاذ الوعد بالعذاب على الكافرين في الدنيا وفي الآخرة.
    وأما إسناد العلم إلى الله فكما في قوله:
    ـ ﴿وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ﴾ سبأ
    ـ ﴿فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ يس
    ويعني حرف سبإ يوم أبى إبليس أن يسجد لآدم الوعد من الله أن يجعل الغيب شهادة وليتميز من يؤمن بالآخرة أتباع عباد الله المخلصين ممن هو في شك من الآخرة أتباع إبليس.
    ويعني حرف يــــــس الوعد من الله أن يفضح في الدنيا ما يسره ويعلنه أعداء الرسول من المكر والكيد وأن سيعذبهم به في الدنيا والآخرة.
    وأما الوعد في الدنيا فكما في قوله ﴿فَإِنَّ لِلذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ﴾ والطور، ومن المثاني معه قوله ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ القتال.
    وأما الأسماء الحسنى فكما في قوله ﴿قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ﴾ يونس، يعني وعدا منه أن يفني جميع مخلوقاته فلا يبقى إلا الله الواحد القهار، إذ هو الغني أي لا يحتاج إلى أحد من خلقه، وكما في قوله ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ آل عمران، ولا تتعلق قدرة الله بماض منقض بل بموعود منتظر ولعل أكبر حدث منقض في الكون هو خلق السماوات والأرضين ولم يتضمن تفصيل الكتاب المنزل اقتران ذكره بقدرة الله إذ هو مما مضى وانقضى يوم نزلت التوراة والإنجيل والقرآن.
    وأما الدعاء بالأسماء الحسنى فكما في قوله ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ الشعراء، ويعني استجابة دعاء الساجد وصحة الحديث النبوي" أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" يعني أن السجود متقبل من الله السميع العليم ولم يقترن بالاسمين السميع العليم من الأعمال والأدعية إلا المتقبل منها.
    وأما الدعاء في القرآن فكما في قوله ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ آل عمران.
    وأما الدعاء في الكتاب فكما في قوله ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ آل عمران.
    وأما إعلان الجزاء في الآخرة فكما في قوله:
    ـ ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ آل عمران
    ـ ﴿وَالذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ النساء
    ولقد وقع إسناد الدعاء إلى الله ربنا وإلى الرسل وإلى الناس وإلى الشيطان.
    فأما الدعاء المسند إلى الله كما في قوله ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾ يونس، فيعني أن الكتاب المنزل من عنده تضمن خطاب المكلفين بالإسلام ليفوزوا بالوقاية من النار ودخول الجنة.
    وأما الرسل والنبيون فهم الذين أذن الله لهم في دعوة الناس إلى الله يّبينون لهم على بصيرة الطريق إلى ربهم ورضوانه.
    إن الله أرسل خاتم النبيين محمدا صلى الله عليه وسلم بالقرآن ولا يزال القرآن غضا طريا كما أنزل ومنه قوله ﴿فَاصْدَعْ بما تُؤْمَرُ﴾ الحجر ، ومن المثاني معه قوله ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ الأنبياء، ويعني أنه صلى الله عليه وسلم لم يُخْفِ عن بعض الناس رسالة الله إليهم وإنما صدع بها وجهر ليستوي الجميع في العلم بها وهو مدلول الإيذان على سواء، ومن زعم أن رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم كانت له تنظيمات سرية يسرّ إليها بعض رسالته ويخفيه عن العامة فليأت ببرهان من القرآن أكثر وضوحا من حرفي الحجر والأنبياء وأقرب إلى هَدْي النبيين من قبل وإلا فقد أعظم الفرية.
    إن حرف الحجر يعني الأمر بوجوب إعلان أن الأوثان لا تضر ولا تنفع وأن الناس في ضلال مبين إن لم يهتدوا إلى أن محمدا صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه بالقرآن، وهي الحقائق الكبرى التي أخفى إعلانها عن جمهور أهل مكة وحدّث بها خواصّه قبل نزول حرف الحجر.
    ويعني حرف الأنبياء أن النبيَّ الأمِّيّ صلى الله عليه وسلم قد أبلغ رسالته وهي القرآن علنا لكل الناس سواء منهم المؤمنون الذين اتبعوه والكفار الذين تولوا عنه.
    إن قوله :
    ـ ﴿قُلْ هَــذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَني﴾ يوسف
    ـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ﴾ الأحزاب
    ـ ﴿الـر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ إبراهيم
    ـ ﴿وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ﴾ المائدة
    ـ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ﴾ النساء
    ـ ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾ الأنبياء
    ـ ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ السجدة
    لتعني أن الدعوة إلى الله ليست عملا يختاره المسلم لنفسه يدعو كيف شاء.
    وإنما كان الرسول النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله على بصيرة أي بوحي من الله إليه يرشده ويأمره بتكليف الله، وأرسله الله داعيا إليه بإذنه أي أن الله أذن له بالدعوة إليه وأذن له كذلك في أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور وأذن للناس في طاعته كما في حرف النساء.
    وهل يستطيع الدعاة أو قادة التنظيمات السرية والجهادية ادّعاء أن الله قد أذن لهم في دعوة الناس وقيادتهم وأذن للناس في طاعتهم؟
    إن قوله ﴿ وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ﴾ ليعني أن سيكون دعاة بغير إذن الله يدعون على غير بصيرة وبغير إذن منه.
    إن الخطأ المنهجي الذي وقع فيه قادة التنظيمات السرية أن كلا منهم قد جعل من نفسه وصيا على الملة والأمة أي شرع لنفسه وللأمة أنه هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمّته، واضطرب الأمر بتعدد الخلفاء قادة التنظيمات السرية، يتنازعون الأمّةَ لتصبح بين قادة متشاكسين مختلفين، كل منهم يرى نفسه ـ تزكية منه لنفسه ـ هو الآمر الذي يجب على جماعة المسلمين مبايعته وطاعته.
    ولن يسلم له الزعم أن الله أذن للناس في طاعته بل الأمر كما في قوله ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ﴾ النساء، أي أن الله أذن للناس أن يطيعوا رسوله إليهم ولا يتخلفوا عنه ولا يعصونه، وأنّى لهم الرشد حين يتخلفون عن السمع والطاعة لمن يدعو إلى الله على بصيرة أي بالوحي المنزل عليه، ومنه أن الله أذن له في دعوة الناس وأن يعلّمهم الكتاب والحكمة وأن يزكيهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه.
    وكان حريا بالأمة وبالأمناء على الملة وهم خواصها الذين درسوا الكتاب المنزل وتعلموا من الحديث النبوي أن ينشغلوا في تعليم الناس الكتاب المنزل والهَدْيَ النبويّ وتدارسهما فلعلّ مبلَّغا ـ بصيغة اسم المفعول ـ من المتأخرين أوعى من مبلِّغ ـ بصيغة اسم الفاعل ـ وأفقه ممن حمل إليه نصوص الوحي.
    ومعلوم إعلان هذه الكلية الكبرى في حجة الوداع في يوم النحر كما أخرج البخاري في الحديث رقم 67 في كتاب العلم باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "رب مبلغ أوعى من سامع"، بسنده إلى أبي بكرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه قال : "أي يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه قال أليس يوم النحر؟ قلنا بلى، قال فأي شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال أليس بذي الحجة قلنا بلى قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه" ورواه مسلم 1679 وهو من مكررات البخاري.
    إن قوله ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ آل عمران، وقوله ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ النساء، وقوله ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ الحج، لظاهر الدلالة على الأمر بأعمال البر وإشاعتها بين الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لن تستطيع التنظيمات السرية تمثله.
    ويدعو الناس بعضهم بعضا باسمه فلان يناديه به.
    وكان تزيين المعصية والكفر والطغيان من دعوة الشيطان حزبه إلى عذاب السعير، واستجاب المعرضون عن الإسلام إلى الشيطان الذي دعاهم إلى الشهوات والراحة والخلود فأخلفهم وعده وما كان له عليهم من سلطان ولا تسلط ولا قهر، ولكن أعرضوا عن الله فتفرقت بهم السبل عن الصراط المستقيم.
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  6. #6
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

المواضيع المتشابهه

  1. تفسير سورة الفاتحة للإمام البغوي
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان التفاسير
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-15-2016, 04:36 PM
  2. لقاء الفرسان مع الأستاذ والداعية/الحسن بن محمد ماديك
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى لقاءات الفرسان
    مشاركات: 50
    آخر مشاركة: 04-16-2013, 09:19 PM
  3. تفسير /أتى وجاء/الحسن محمد ماديك
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان التفاسير
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-05-2012, 09:30 AM
  4. لقاء الفرسان مع أستاذنا /الحسن محمد ماديك
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى لقاءات الفرسان
    مشاركات: 44
    آخر مشاركة: 03-11-2012, 09:50 PM
  5. نرحب بالأستاذ/الحسن محمد ماديك
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الترحيب
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 01-23-2012, 01:40 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •