قراءة في رائية "عيون عبلة" للشاعر مصطفى الجزار
** التغيير سمة من أهم سمات الحياة .. ، ويتألق الإبداع بمواكبته لهذه التغيرات ،
واستشرافه المستقبل من واقعٍ يمسك المبدع بتلابيبه ..، فيلجأ للرمز والإسقاط و الأقنعة ، وحتى التضمين و المكاشفة باستلهام التراث والأساطير ، واستدعاء الثوابت العقائدية و التاريخية ..، وتختلف تقنيات التعبير من حيثُ الشكل و آلية سبك المضمون ، وفي ظل هذه التغيرات المتقابلة منها والمتوازية والخارجة عن القانون يكون الفضاء الواسع لدى المتلقي الواعي ، فيدرك ماهية الأمور ومجرياتها ،وبالتالي يتسنى للمبدع إرسال دغقاته الوجدانية والعقلانية من خلال تصوير مبتكرة ، و تراكيب دقيقة على أن تتشكل موسيقاهُ مع المعني ، وتتجاور الحروف أو تتنافر تبعاً لفونيمات الأصوات ، والصور العميقة والداعية لإعادة التصور الذهني واللشعوري لمستجدات العصر الفيروسية منها و اللقاحية ..،
و مع مستجدات العصر ظهرتْ معايير جديدة ، ومصطلحات غير مسبوقة .. ، وقد تكون باتت غير مألوفة لاستحداث معانٍ مغايرة للمعاني السابقة ..،وقد تكون مغلوطة وسْط تلالٍ من تلك الصحيحة والتي أهملها عنترة الحديث ،
وفي جميع الأحوال لابد للأدب أن يُعلن موقفه ، و يثير الانتباه ، ويشد الألباب والأفئدة لما هو أبعد ..، و ماهي النواتج الفاصلة للفوران أو الذبول
** وفي رائية "عيون عبلة" يستهل الشاعر الصديق "مصطفى الجزار" قصيدته بفعل أمرٍ لعنترة العصر الحديث ، ويطالبه أن يُكفكف دموعه ، ومبيّناً سبب هذا الأمر/النصح بأن "عبلة العصرية" -قسْراً- تم استعمارها ..، والدمع لا يفي لتحريرها و إجهاض الخطر الداهم حولها .. ، والشاعر في هذا الأمر يُحرّض عنترة الجديد لحمل السيف الجديد والعصْريّ بطبيعة الحال ، والذي يتوافق ومتغيرات العصور واختلاف المسافات والأزمنة ،تلك التي نعيشها وتعيشنا أمراً واقعاً لامفرّ منه .. ، ولا يلبثُ شاعرنا حتى ينهي هذا العنترة الجديد في البيت الثاني عن الرجاء والشّجْب والتسييس .. ، إذْ لامعنى للبسمة السياسية أو العنترية الكلامية في حين سقطت الجوهرة من العقد الثمين ..، ويستمر "الجزار" في خطابه الشعري الناريّ ما بين أفعال الأمر للمفرد/عنترة مثل قبّل/اخفض/لتبتلع/اجمع/اجعل/ابعث ..، وأفعال الأمر للجمع/الشعوب مثل دعوا/ادعوا ..، و مابين أسلوبٍ تقريري شعري لتوكيد أحداثٍ استمدها الشاعر لتكون برهاناً لهذا الغليان الشاعري .. (ضاعت عبيلةُ والنياق ../ضمير العرب يرقد ../ عجز الكلام عن الكلام ../ لم تبق دمعاً أو دما ) ليختتم تقريره الشعري بتوكيد أنه لا بأس إذا تنبهت "عبلة الجديدة" ، وصارت تترقبُ وجموع العنتر حولها بحب وتضحية واستبسال يعملون و يأملون في وعد الله بالنصر .. "ألا إن نصر الله قريب" ، ويستفيد "مصطفى الجزار" بالأثر القرآني عندما سقول شعراً "من يقترف في حقها شراً يرهْ" مستدعياً قول الله عز وجل "فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يرهْ * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يرهْ" ..،
و يعلم "الجزار" أن عنترة العبسي مات قبل الإسلام بمائتي سنة ، وبالتالي فلا ينبغي أن يُلصق باتهام الإرهاب الذي حاول الغرب إلصاقه بالإسلام في كل مكان ، ولذلك وجّه "مصطفى الجزار" نداءاته إلى عنترة الحديث ، وعبلة العصرية ، .. واستدعى شخصية عنترة فقط للاستدلال على القوة والقدرة على التحرر إذا أحبّ و أخلص لمحبوبته عبلة ، و"عبلةالجديدة" هذه هي الأرض ، والحب هو أمنها القومي ، والسبيل لذلك هو أن يكفكف الدمع ويكف عن التوسل والتسول من ساسة المعايير المزدوجة ، وقد تنوعت الأزمنة بين ماضٍ مثل "سقطت" و "فقد" ، ومابين مضارع مثل"يرقد" ، ومضارع مستقبلي يمثله الفعل الناسخ "لاتزال" .. ،
كما تباينت الألوان مابين البشرة السمراء والنوق الحمر /هو نفسه لون الدماء والشفاف لون الدمع الذي تجاور مع الدم ،
ونجح الجزار" في هذه الأسئلة التجبية التي تنكر الواقع الأليم ، و في سؤاله يحاول لملمة الجراح إذْ يقول :-
"هل أصبحَتْ جنّاتُ بابلَ مُقفِرَه؟!
هل نَهْرُ عبلةَ تُستباحُ مِياهُهُ
وكلابُ أمريكا تُدنِّس كوثرَه؟!"
يُقرّ بأن في حضارة بابل جنات ، وفي نهر عبلة/العراق الكوثر ..، كما يُقرّ بأن الاحتلال لم يكن إلا رجساً ، وسيزول بقوة عنترة الذي لم يمتْ ، لكنه فقط افتقد جنوده و أحباءه ،وينكر مَن خانوا و نافقوا حتى وجد الرمز/عنترة نفسه وحيداً ، فينادي بالشعر الحماسيّ على بحر الكامل حتى تلتئم الجراح ، ويلتف الجيشُ المغوار حول رمزه لتحرير بلد الحضارة و موطن الكوثر
و نجح كذلك "الجزار" في التناص الذي ضمن به قصيدته من أشعار عنترة العبسيّ ، وجاء التناص في نفس السياق و متسقاً مع الروح العامة للقصيدة ، بحيثُ لايصطدم المتلقي الجديد سواء كان عنترة الحديث أو جنوده ، أو عبلة النووية وأحباءها .. بالقصيد الناري والموجه نحو "عيون عبلة" .. ، بل كأنه مألوف في سياقه و موروثه ، وفي هذا نوع من الاستمالة والإقناع ، فضلاً عن الشاعرية والحرفية عند "مصطفى الجزار"
و قد يقول قائل أن القصيدة مباشرة ، وليس فيها رمز أو تصوير .. ، أو يعتقد هذا القائل أن الشاعر يسيءُ للعراق أو أي قُطْر ، وهذا إذا تلقاها هذا القائل بكون هذا القصيد سرد شعري أو شعر قصصي يحكي عن "عنترة العبسيّ" ، و المتلقي بذلك التصور لن يكون واعياً ، وقد سقط منه أنه يشير على عنتره الحالي ، والذي اتهموه بالإرهاب ، والتخلف ، والمخالفة ، وتناسى هذا المتلقي أن "مصطفى الجزار" قال:-
"في الجاهليةِ.. كنتَ وحدكَ قادراً
أن تهزِمَ الجيشَ العظيمَ وتأسِرَه
لن تستطيعَ الآنَ وحدكَ قهرَهُ
فالزحفُ موجٌ.. والقنابلُ ممطرَه"
لقد أكد الجزار أن عنترة في الجاهلية حيثُ السيف والرمح والصهيل والنوق غير عنترة في العصر الحديث حيثُ القنابل
و من ناحية الموسيقى ، فلقد اعتمد "الجزار" على تفعيلة البحر الكامل ، والروي هنا هو "الراء المفتوح" مع زيادة الهاء الساكنة ، و هذه الهاء أجازها العروضيون ، وكان لها أمثلة في الشعر الجاهلي وصدر الإسلام ، بينما لم يقرها اللغويون في التاء المربوطة ، حيثُ أكدوا أنه لا ينبغي حذف نقطتي التاء المربوطة ، وإنما وضع علامة السكون فوقها يكفي لأن تنطق "هاء" ، وتسمى هاء السكت .. ، والعروضيون أجازوها منطلقاً من توحيد شكل الكتابة في القصيدة مثلما زيادة حرف مد لإشباع الحركة كما في كلمة "أضلّ" يمكن كتابتها "أضلاّ" إذا كان رويّ القصيدة لاماً ممدودة .. ، وهكذا
واعتمد كذلك "الجزار" في أيقاعه على الجناس الناقص وتجاور الحروف مثل مختلفاً ومخالفاً ، وكذلك دعوا و ادعوا .. ، كما اعتمد على التضاد والمقابلات في الصورة الشعرية
** "وقد وُفق الشاعر في اختيار حرف الراء المفتوحة رويا بما للراء من خصوصية التطريب في اللغة العربية ،
وكذلك اعتماد الشاعر على هاء السكت /الهاء الساكنة لما في ذلك من جرس موسيقي ، ولفت النتباه لدى المتلقي ، فيتوقف عند المعنى والمبنى"
......
كانت هذه قراءة سريعة في رائية "عيون عبلة" للشاعر الصديق "مصطفى الجزار" ..
أهلاً به مبدعاً يتسم بالتواضع والأريحية والأدب ، ويأخذ من الحب سبيلاً للانطلاق الشاعري
.............. باقات ورد و مودة .............