عجبت كثيراً من غزارة النقد الذي يوجه للمقاومة الفلسطينية هذه الأيام ، ممن يُسمون بالنخبة وحتى دونهم في الرتبة في دول عربية بعينها إن لم يكن جميعها ، بدعوى ابتعادها عن الهدف الرئيس الذي استمدت منه شرعية وجودها وهو منازلة العدو وليس الاقتتال فيما بينها .
وعجبت أكثر من تناول هذه النخبة للقضية الفلسطينية من زوايا حزبية أو رؤى شخصية أو تبني تيارات سياسية تحظى بسطوة آنية ، متناسين نضال الشعب الفلسطيني الذي امتد طيلة قرن من الزمان ضد أعتى عدو عرفته البشرية ، وهو الصهيونية العالمية المدعومة بأقوى قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية في العالم .
ففي مقال نشرته جريدة الشرق الأوسط التي تصدر في لندن مؤخراً حول الموقف الفلسطيني الراهن تحت عنوان "حل عربي للمسألة الفلسطينية" ، حاول الكاتب تشريح وضع النضال الفلسطيني ليصل إلى نتيجة مؤداها : إن الشعب الفلسطيني لم يعد قادراً على إيجاد حل لقضيته بسبب التضارب في أهداف فصائل المقاومة وتعدد اتجاهاتها ، وأن الإجراء الوحيد القادر على إيجاد حل للمشكلة يكمن في إحالة المسالة برمتها إلى بعض الدول العربية المعنية ، وإعطائها تفويضاً كاملاً من الجامعة العربية للبحث عن حل للقضية الفلسطينية مع الدولة العبرية .
ويذهب الكاتب إلى القول بأن ما يدعوه لطرح هذا المشروع ليس تفكك النضال الفلسطيني ضد إسرائيل وانهياره فقط ، وإنما عدم وجود "قيادة فلسطينية شجاعة" تستطيع أن تتحمل مسئولية عقد اتفاق مع إسرائيل ينهي القضايا الخلافية معها ، لأن مثل هذا الاتفاق سوف يتضمن - حسب رأيه - تقديم "تنازلات مرّة".
وهنا نتساءل : هل ثمة تنازلات أخرى على الفلسطينيين أن يقدموها ، غير الاستسلام للمشروع الصهيوني الذي ينادي بإقامة إسرائيل الكبرى على أرض فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر أو من النيل إلى الفرات ؟ (سيان) .
لكن ما يحزن كل فلسطيني أن الكاتب يحاول الانتقاص من أهمية انتفاضة الأقصى حيث يقول - عندما رفض عرفات في يوليو وديسمبر عام 2000 (حسب معلومات الكاتب) مشروع اتفاقات مع إسرائيل - بالحرف الواحد : "وعاد إلى الانتفاضة مرة أخرى ، وهي التي لم تحرر في نهايتها من أرض ما حررته اتفاقيات أوسلو .." .
وهنا نسأل الكاتب : من قال بأن الانتفاضة حين قامت كانت على يقين من أنها ستهزم جيش إسرائيل وتدحره إلى ما وراء الحدود ؟!!، ومن قال أن اتفاق أوسلو قد حرر أرضاً فلسطينية ؟!! وقبل أن يجيب كاتبنا على هذا السؤال ، الأجدى له أن يبحث في الأسباب الحقيقية التي دعت الشعب الفلسطيني للقيام بتلك الانتفاضة .
وبرغم أننا لسنا في مقام البحث عن هذه الأسباب وسردها هنا ، لكن أريد أن أسأل : ماذا حقق اتفاق أوسلو وتوابعه للفلسطينيين منذ التوقيع عليه وحتى لحظة قيام الانتفاضة عام 2000 سوى الخراب والدمار والعار ؟!!! . ثم ما الذي دفع الفلسطينيين لكي يلجئوا إلى السلاح (البدائي) بدلاً من الحجارة للتعبير عن رفضهم للاحتلال ؟ .. ثم هل لو كان ثمة أمل لدى الشعب الفلسطيني في أن تثمر المباحثات مع العبرانيين عن شيء .. هل كانوا سيقومون بالانتفاضة ؟!!.
ويقول الكاتب في إحدى مقاطع مقاله أن : "إحدى المشكلات التي يواجهها الشعب الفلسطيني حاليا أنه لا توجد لديه صورة كاملة، وتقييما شاملا، لاتفاق متكامل يجري مع إسرائيل يكون واضحا فيه المكاسب التي سوف يحصل عليها، والتنازلات التي عليه تقديمها، وبدلا من ذلك فإن المعرفة قاصرة على مبادئ عامة مثل حق العودة التي لا يستطيع أحد الاختلاف عليها، ولكنها في ذات الوقت تجعل التسوية مستحيلة".
وهنا نقول : المسألة يا سيدي هي أن الفلسطيني مقتنع بأن اليهودي لا يريد سلاماً حقيقياً مستقراً وعادلاً ، حتى لو تم اعتراف الفلسطينيين بشرعية امتلاك اليهود للأرض التي سرقوها عام 48 ، وأقاموا عليها دولتهم العبرية .
فالتجربة التي مر بها شعب فلسطين على مدار قرن من الزمان ، أثبتت أن هذا اليهودي لا يريد أرض فلسطين فقط ، وإنما يريد التمدد في الجهات الأربع حتى يقيم دولة إسرائيل الكبرى على الأرض العربية من الفرات إلى النيل .
ولو سألته عن حدود هذه الدولة لوجدت أن إجابته تقوم على مبادئ تفوق في عموميتها و "هلاميتها" أضعاف أضعاف المبادئ العامة التي تقول بأن الفلسطينيين ينادون بها الآن ، برغم أن الأسس التي تقوم عليها هذه المبادئ معروفه ومفهومة ومشروعة ومبررة في قاموس السياسة والدبلوماسية ...
و في النهاية أستغرب من قول الكاتب في نهاية مقاله : "إن تسوية الصراع مع الدولة العبرية ينبغي له أن يكون ضمن نظرة استراتيجية تخص الشرق الأوسط كله، وببساطة فإن المطلوب هو أن ينفق العرب من العملة ما يكفي لتغطية ما لا يستطيع الفلسطينيون دفعه" .
وهنا تمنيت لو عرفت أي المشارق يعني : "الشرق الأوسط الكبير" أم "الشرق الأوسط الجديد" أم العودة إلى الشرق الأوسط التقليدي أو الشرق الأدنى ؟!!. ثم ماذا يعني بأن ينفق العرب .. إلى آخر الفقرة ؟!!ّ.
ثمة نقطة أخيرة أعتب فيها على الكاتب حين يقول : "بات عدد القتلى من الفلسطينيين باليد الفلسطينية أكثر ممن سقطوا بيد السلاح الإسرائيلي" .
وكان الأجدر به أن يقول بأن عدد الفلسطينيين الذين قتلوا بأيد عربية ، هم أكثر بكثير مما قتل منهم بيد اليهود .
أما ما قتل من الفلسطينيين بأيد فلسطينية في أحداث غزه الأخيرة فعددهم لم يتجاوز عشرين فرداًً ، وكانوا جميعهم ضحية أعمال فردية جاءت بمثابة ردود فعل انفعالية وليست نابعة عن عقيدة قتالية طائفية أو مذهبية أو عرقية ، كما الحال الآن في العراق ومن قبل في رواندا وبوروندي .
فالشعب الفلسطيني يا سيدي نسيج متجانس من حيث الدين والعرق والقرابة والنسب ، كما أن من الأمور العادية أن تجد في نطاق الأسرة أو العائلة الواحدة انتماءات سياسية متباينة ، لكن عامل القرابة ووحدة النسيج الفلسطيني دائما ما تقف حائلاً دون قيام اقتتال فلسطيني - فلسطيني .
والدليل على ذلك أن عرفات والرجوب ودحلان حاولوا - وبقدر محسوب من القوة والعنف - تفكيك فصائل المقاومة ، لكنهم لم يسمحوا باستخدام الاقتتال والمواجهة العسكرية لتحقيق هذا الهدف ليس تكرماًً منهم ، وإنما ليقينهم بأن مصير أي تصرف من هذا القبيل هو بالنسبة لهم الفشل والانتحار بعينه .
أما رئيس السلطة محمود عباس الذي التزم أمام الكيان العبري وأمريكا نصراً من الحرس الخاص بعباس والتي يطلق عليها القوة (17) ، وكذلك السماح لها من قبل الكيان العبري بالتزود بالعتاد والسلاح والذخيرة ، كما تتردد أنباء أخرى عن أن هذا العدد سوف يرتفع ليصبح 10.000 عنصراً .
ومع ذلك فلن يكتب لهذا الحراك السياسي والعسكري الأهوج سواء من قبل عباس ومؤيدوه من الفلسطينيين (وهم قلة) أو من الإسرائيليين والأمريكيين وغيرهم .. نقول لن يكتب لهؤلاء النجاح لسبب بسيط ، وهو أنه لم يعد لدى الفلسطينيين شيئاً يخافون عليه أو يخشون منه . فمن يعاشر اليهودي ويتعامل مع الأمريكي والبريطاني يصل لنتيجة مؤداها : أن كل شيء يهون في سبيل الأرض والعرض .
والشيء بالشيء يذكر ، وهو أن من يقبل بتفجير نفسه في أعداء الوطن والعقيدة هم استشهاديون وليسوا انتحاريين .
موسى راغب
أخوكم تمــــــــــــــــــــــام