مما حدث لي : الشيخ علي الطنطاوي
لما كنتُ أعمل في العراق سنة 1936 نقلت مرة من بغداد إلى البصرة إثر خصومة بيني وبين مفتش دخل علي الفصل فسمع الدرس. فلما خرجنا (نافق) لي وقال أنه معجب بكتاباتي وفضلي. (ونافقت) له فقلت إني مكبر فضله وأدبه. وأنا لم أسمع اسمه من قبل. ثم شرع ينتقد درسي قفلت: ومن أنت يا هذا؟ وقال لي وقلت له..
وكان مشهدا طريفا أمام التلاميذ.. رأوا فيه مثلاً أعلى من (تفاهم) أخوين، وصورة من التهذيب والأخلاق. ثم كتبت عنه مقالة كسرت بها ظهره، فاستقال و (طار) إلى بلده، ونُقلت أنا عقوبة إلى البصرة.
وصلت البصرة فدخلت المدرسة، فسألت عن صف (البكالوريا) بعد أن نظرت في لوحة البرنامج ورأيت أن الساعة لدرس الأدب. توجهتُ إلى الصف من غير أن أكلم أحدا أو أعرفه بنفسي.
فلما دنوت من باب الصف وجدتُ المدرس، وهو كهل بغدادي على أبواب التقاعد، يخطب التلاميذ يودعهم وسمعته يوصيهم (كرماً منه) بخلفه الأستاذ الطنطاوي، ويقول هذا وهذا ويمدحني... فقلت: إنها مناسبة طيبة لأمدحه أنا أيضا وأثني عليه ونسيت أني حاسر الرأس وأني من الحر أحمل معطفي على ساعدي وأمشي بالقميص بالأكمام القاصر، فقرعت الباب قرعاً خفيفاً، وجئت أدخل. فالتفت إليّ وصاح بي :
- ايه زمال وين فايت؟ (والزمال الحمار في لغة البغداديين) فنظرت لنفسي هل أذني طويلتان؟ هل لي ذيل؟… فقال: شنو؟ ما تفتهم (تفهم) أما زمال صحيح. وانطلق بـ (منولوج) طويل فيه من ألوان الشتائم ما لا أعرفه وأنا أسمع مبتسماً.
ثم قال تعال لما نشوف تلاميذ آخر زمان. وقف احك شو تعرف عن البحتري. حتى تعرف إنك زمال ولاّ لأ؟
فوقفتُ وتكلمتُ كلاماً هادئاً متسلسلاً، بلهجة حلوة، ولغة فصيحة. وبحثتُ وحللت وسردتُ الشواهد وشرحتها، وقابلت بينه وبين أبي تمام وبالاختصار، ألقيتُ درساً يلقيه مثلي.. والطلاب ينظرون مشدوهين، ممتدة أعناقهم، محبوسة أنفاسهم، والمدرس المسكين قد نزل عن كرسيه وانصب أمامي، وعيناه تكادان تخرجان من محجريهما من الدهشة، ولا يملك أن ينطق ولا أنظر أنا إليه كأني لا أراه حتى قرع الجرس..
قال: مَنْ أنت؟ ما اسمك؟
قلت: علي الطنطاوي؟
وأدع لحضراتكم أن تتصوروا موقفه!
منقول