نحن و إشكالية الدولة
غالبا ما يسعفنا لفظ "الدولة" بإيجاد مبررات لعجزنا وتخلفنا. فإن تمت مقارنة إنجازات شعوب الأرض بإنجازاتنا، نجد مشجب الدولة حاضرا لتعليق عجزنا عليه. هذا على صعيد الجماعات، ولا تكون الحالات الفردية استثناءا لذلك، فإن فشل أحدنا بتجارته أو عمله أو حتى حياته الأسرية، فسرعان ما يحشر الدولة باعتبارها سببا في فشل حياته الزوجية أو عدم توفيق أولاده في دراستهم أو وفاة أحدهم .. قد يكون حشر الدولة في إحداث بعض الإخفاقات سببا مشروعا، ولكن المبالغة في تحميلها كل حالات الإخفاق يضم بين ثناياه ظلما يحتاج لإنصاف ..
كثيرة هي المواضيع الأدبية والسياسية والصحفية والنقابية التي تناولت وتتناول موضوع الدولة العربية، ولكن كتابها في كثير من الأحيان ينجرون للكتابة بشكل كيدي، أو بشكل يرد كيد كاتبين آخرين، فتظهر الكتابات وكأنها ردود على ردود، فكل كاتب يهاجم من سبقه، يدحض من خلال كتابته ما تقدم به من سبقه في الكتابة ليحاكمه من زاوية عقائدية ويبين نقائص فكره ويستخف بها، دون أن يساهم في تطوير الفكرة أو الأفكار التي تصب في الفضاء الذهني الذي يجعل من الدولة العربية مساوية لمثيلاتها في الدول المتقدمة..
لقد وقع معظم الكتاب العرب في مصائد جعلتهم قاصرين عن تطوير فكرة الدولة العربية. فمنهم الأسير لفكرة الدولة القديمة التي وَضع شكلها بما يناسب رغبته الفكرية التي لم يكتمل تكوينها بشكل يؤهله للحديث في هذا المجال، فتَصَوَّر بذلك أن الدولة العربية أو الإسلامية قد اكتملت شروطها في عينة من الوقت بحيث إنه لم ينقصها شيء، ويتحصّن وراء هذه الفكرة مستفيدا من حجم الإنجازات الفكرية والعسكرية التي تحققت في أجواء إدارة تلك الدولة، متناسيا الظروف التي ترافقت مع تلك الإنجازات، وساكتا عن حجم المشاكل التي واجهت تلك الدولة أو الكيفية التي تمت معالجة تلك المشاكل بها .. ولو طُلب من هؤلاء الكتاب تحويل أفكارهم لمنهج إجرائي لتاهوا في تفاصيل يختلط بها العقائدي مع الإداري، لتتحول تلك الأفكار بالتالي إلى جهد لا يصب في حل إشكالية الدولة.
ومنهم من يفتتن بنماذج دولية معاصرة، يريد الاحتذاء بها دونما مواضعة للشروط والظروف التي رافقت قيام تلك التجارب الدولية، فهذا يريد تجربة على الطريقة الأمريكية وهذا يريدها على الطريقة اليابانية وذاك يريدها على الطريقة السوفييتية وآخر يريدها أن تكون على الطريقة الفلانية .. فإن كانت الرجعية تعني رفض فكرة التطور والتمسك بما كان (وِفْق تصور صاحب الفكرة)، -وهذه يمكن أن نطلق عليها الرجعية الزمانية (المتعلقة بالزمن والتاريخ)-، فإن الاحتذاء بتجربة عالمية لا تتوافق شروطها مع شروط وضعنا الخاص، يمكن إطلاق تسمية (الرجعية المكانية) عليها..
وحتى نتمكن من الدخول الى الموضوع لكشف ما نرمي إليه، ولنتمكن بالتالي من الزعم بأننا قد نحاول إضافة فكرة تصب في الجهد الذي يجعل من موضوعنا مساهمة في تنشيط الحديث بهذا الموضوع الشائك، علينا أن نضع بعض المقتربات الضرورية للتمهيد لهذا الحديث: وعي الناس بالدولة، ما هي الدولة وماذا تريد الدولة من مواطنيها، وماذا يريد المواطنون من الدولة، أي ما هي ضرورات الدولة، ومتى تكون الدولة شرعية ومتى تفقد الدولة شرعيتها، الخ من الأسئلة التي تساعد في تكوين صورة لما يجب أن تكون عليه الدولة وكيفية السبيل لتحقيق ذلك.
الوعي بالدولة
من المفيد أن نتذكر أن الوعي هو القدرة على تكوين صورة أو إعادة تكوين صورة، فالوعي الماضوي (المنسوب للماضي) يعني إعادة تكوين صورة حدثت في الماضي، وهذا يتطلب مجموعة من تحديد نقاط الصورة لكي تكون مطابقة لما كانت عليه ( إحداثيات الصورة بمحوريها السيني والصادي [ حسب المفاهيم الهندسية])، وهي مهمة أقل صعوبة من تكوين صورة لم ترسم بعد، في الوعي المستقبلي.
حيث إن الصورة السابقة تحتاج تثقفا بما رافق تشكيلها وقت رسمها الأصلي، مثل فهم الظروف السائدة في وقتها وعوامل القوة والضعف، وهذا يأتي من خلال الدراسات المستفيضة والاستعانة بما كتب المؤرخون حول قضية معينة. أما رسم صورة مستقبلية بالوعي المستقبلي، تحتاج جهدا مضاعفا في فهم إحداثيات الصور الماضوية والحاضرة (الراهنة) للانتقال الى استشعار واستشراف العوامل المحيطة بالصورة المنشودة مستقبلا ..
لا يتمنى الرعاة ولا البدو ولا (الغجر) وجود دولة، لأنها بكل بساطة تعيق من حركتهم وتقيد حرياتهم، وكذلك لا يتمنى المجرمون ولا المهربون وجود دولة، ولكن بعض الأصناف من هؤلاء لن يكون لوجودها أهمية إذا اختفت الدولة، فالتهريب سيصبح غير استثنائي إذا زالت مراقبة السلطات الحدودية له .. هل يعني ذلك أن الدولة هي رديف للرقي والتقدم والانضباط وخضوع الفرد لإرادة جمعية تتحكم في شكلها قوانين يتم وضعها ضمن تسلسل يتطور وفق حاجات ضبط حركة أفراد الدولة؟
يقول المفكر عبد الله العروي في هذا الصدد أن (كل منا يكتشف الدولة قبل أن يكتشف الحرية، أو بعبارة أدق، تجربة الحرية تحمل في طياتها تجربة الدولة، لأن الدولة هي الوجه الموضوعي القائم في حين أن الحرية تطلعٌ الى شيء غير محقق)*1.. ويتابع (تواجهنا الدولة أول ما تواجهنا كفكرة مسبقة، كمعطى بديهي يطلب منا أن نقبله بلا نقاش، كما نقبل خلقتنا وحاجتنا الى الأكل والنوم .. الخ) .. هكذا يبدأ وعينا بالدولة وعي مضطرب يرتبط بكل سلطة ومنشأ للأوامر والنواهي وقوائم الممنوعات، وينسحب هذا الوعي ليشمل كل من يقوم بهذا الدور من رب العائلة لشيخ العشيرة للمسئولين المحليين من تربويين وشرطة وغيرهم، فيزداد الاضطراب اضطرابا في تكوين صورة واضحة عن مفهوم الدولة ..
يتبع
هامش
ــ
*1ـ مفهوم الدولة/ عبد الله العروي/ المركز الثقافي العربي/المغرب/ الدار البيضاء/ ص 5