مساطيل
Uri Avnery - 10/08/2006م - 10:42 ص | مرات القراءة: 341
--------------------------------------------------------------------------------
استمعت إلى أحد الخطابات اليومية التي يلقيها رئيس حكومتنا حيث قال: "نحن شعب رائع"، وأضاف: لقد انتصرنا في هذه الحرب، هذا هو أعظم انتصار في تاريخ الدولة. قال: لقد غيرنا وجه الشرق الأوسط. وغيرها وغيرها.
حسنا، قلت لنفسي، هذا هو أولمرط.
إني أعرفه منذ أن كان في العشرين ونيّف من عمره. كنت في حينه عضو كنيست وكان أولمرط خادم (بكل ما في هذه الكلمة من معنى) لعضو كنيست. أنا أقتفي آثاره منذ ذلك الحين، فهو لم يكن شيئا آخر سوى وصولي حزبي، سياسي مبتدئ تكمن قوته في المناورة، ديماغوغ من الدرجة الوسطى. لقد تنقل بين العديد من الأحزاب طيلة مسيرته، وكان رئيس للبلدية بدرجة يكاد يكفي، حتى صعد إلى عربة أريئيل شارون، وحاز، بالصدفة، على لقب "القائم بأعمال رئيس الحكومة"، وعند إصابة شارون بالنوبة الدماغية، تحول إلى رئيس للحكومة. في كافة مراحل مسيرته هذه كان متهكما تاما، من أتباع حيروت من ناحية معتقداته ولكنه يلبس قناع اللبرالي أمام اليساريين.
قلت لنفسي، إذن ها هو خطاب تهكمي آخر، ولكن على حين غرّة انتابني شعور مخيف: لا، فهذا الرجل يؤمن بما يقول!
من الصعب التصديق، ولكن يبدو أن أولمرط على قناعة تامة بأن هذه الحرب هي حرب ناجحة وبأنه سينتصر، وأنه قد غير وضع إسرائيل بشكل لم يسبق له مثيل، وأنه يبني شرق أوسط جديد، وأنه زعيم فذ، وأنه يفوق أريئيل شارون بعدة درجات (الذي ضُرب في لبنان وترك حزب الله يبني ترسانة صواريخه)، وأنه طالما تُرك يواصل هذه الحرب فهكذا سيعلو شأنه في صفحات التاريخ.
لقد انعزل إيهود أولمرط قطعا عن الواقع، إنه يتقوقع في فقاعة خاصة به. خطاباته تشهد بأنه يعاني من مشكلة حادة.
بين كافة المخاطر التي تتهدد إسرائيل الآن، هذا هو الخطر الأكبر، لأن هذا الرجل يقرر الآن، بكل ما في هذه الكلمة من معنى، مصير الملايين: من يموت، من يتحول إلى لاجئ من الذي ستُدمر حياته.
لكنّ جنون العظمة الذي ينتاب أولمرط لا يكاد يُذكر أمام ما يحدث لعمير بيرتس.
قبل تسعة أشهر بالضبط، بعد انتخابه رئيسا لحزب العمل، ألقى بيرتس خطابا في ساحة رابين وكشف النقاب عن حلمه: سيتم بناء ملعب لكرة القدم في المنطقة المجردة من السلاح بين إسرائيل وقطاع غزة، حيث ستُجرى فيه مباراة بين أولاد سدروت وأولاد بيت حانون المجاورة. مارتين لوثر كينغ الإسرائيلي.
بعد تسعة أشهر من الحمل وُلد لنا وحش.
في الانتخابات للكنيست ظهر عمير بيرتس كثوري اجتماعي. لقد أعلن أنه سيغير وجه المجتمع الإسرائيلي، وسيضع جدول أفضليات وطني جديد، سيقلص مليارات الشواقل من ميزانية الأمن وسيحولها إلى التربية والتعليم، إلى صناديق التقاعد، بهدف تقليص الفجوة المزمنة بين الأغنياء والفقراء. كرجل سلام له أقدميته، سيعمل، بطبيعة الحال، على تحقيق السلام مع الفلسطينيين ومع العالم العربي بأسره.
استنادا إلى هذا البرنامج الانتخابي، حصل على ما حصل عليه من أصوات، من مصوتين لم يحلموا ذات مرة في أن يصوتوا إلى جانب حزب العمل.
البقية معروفة: لقد أغراه عرض أولمرط له منصب وزير الدفاع. كان أولمرط ما زال حينذاك أولمرط التهكمي. إنه يعلم، بالطبع، أن بيرتس سيقع في الشباك، حيث بكونه مدنيا لا تجربة عسكرية لديه، سيسقط فريسة سهلة بين أنياب الجنرالات. لكن بيرتس لم يتردد، وكان هدفه الأسمى في الحياة هو أن يكون رئيسا للحكومة، ولكي يكون مرشحا جديا لهذا المنصب، يتوجب عليه أن يبدو كرجل أمن.
منذ ذلك الوقت، تحول بيرتس إلى أكبر الداعين إلى الحرب في الدولة، فهو لا يصادق على كافة طلبات الجنرالات ولا يستخدمونه كناطق بلسان الحال فحسب، بل يساعد على زج الدولة في الحرب، ومنذ ذلك الوقت يطالب بالاستمرار، بالتوسع، بالدخول عميقا، بقتل أكبر عدد ممكن، بالمزيد من الهدم، بالمزيد من الاحتلال. الهدف هو: "نصر الله لن ينسى اسم عمير بيرتس!"، كولد يدوّن اسمه في موقع سياحي.
إنه يحاول الآن أن يكون أكثر تطرفا حتى من أولمرط. فبينما يتخوف رئيس الحكومة من المزيد من التقدم، خوفا من أن يؤثر عدد القتلى في المعارك البرية على إنجازاته الساطعة، فإن وزير الدفاع يرغب في الوصول إلى الليطاني على الأقل، بغض النظر عن كمية الخسائر. لا يوجد مناص، فمن يريد أن يكون رئيسا للحكومة عليه أن يدوس على الجثث.
هكذا ولد لدينا الوحش، ابن روز ماري المدلل.
اليوم، اليوم الخامس والعشرين من الحرب، يمكن أن نجري حسابا مرحليا. ماذا كانت الأهداف وما هي النتائج.
· "القضاء على حزب الله".
من يصدق ذلك، في اليوم الخامس والعشرين من الحرب ما زال حزب الله صامدا يقاتل. بضع آلاف من المقاتلين أمام الجيش الخامس من ناحية قوته في العالم. لقد كفّ الجميع عن الحديث عن القضاء على حزب الله. لا أولمرط ولا بيرتس، حتى ولا دان حالوتس - الأقنوم الثالث في المثلث غير المقدس.
· "إضعاف حزب الله".
هذا شكل أكثر اعتدالا للهدف الأول. إنه أكثر سهولة، لأنه من غير الممكن قياسه، فكل حرب تضعف الطرفين. يُقتل الناس ويُدمر السلاح وتتضرر المنشئات. ولكن في الوقت الذي يمكن للجيش الإسرائيلي فيه تجنيد كتيبة أخرى وأخرى وأخرى، ويهرع الأمريكيون لتزويده بالمزيد من القنابل، هل يمكن لحزب الله أن يستوعب مثل هذه الخسائر؟
لا أحد يعلم كم عدد القتلى من بين مقاتلي حزب الله. يعلن الجيش الإسرائيلي أرقاما، دون أية قدرة على إثباتها، بينما يتحدث اللبنانيون عن عدد أقل بكثير، وهذا أيضا دون إثبات.
ولكن ليس هذا هو المهم. لا توجد لدى منظمة كحزب الله، التي تضرب جذورا عميقة بين السكان، أية مشكلة في تجنيد متطوعين "للحرب المقدسة". ولتكن الخسائر ما تكون، فبعد انتهاء الحرب، ستقوم المنظمة بتدريب مقاتلين جدد وفقا لحاجتها. كذلك المستودعات ستمتلئ مجددا بالأسلحة المتدفقة من سوريا وإيران. الحدود طويلة ولا يمكن سدها بإحكام.
· "إبعاد حزب الله عن الحدود."
هذا هو الهدف المضمحل، بعد أن تبددت الأهداف التي سبقته، ولكن هذا الهدف لن يتم تحقيقه أيضا، لأنه غير قابل للتحقيق. مقاتلو حزب الله هم من أبناء مدن الجنوب وقراه، وسيبقون هناك، سواء في الخفاء أو في العلن. لن تقدر أية قوة دولية على منع ذلك، فما بالك بالجيش اللبناني.
من الممكن إبعاد الصواريخ. بضع كيلومترات؟ عشرة، عشرون؟ فهذا لن يزيل الخطر عن نهاريا، حيفا وتل أبيب، ناهيك عن أن مدى الصواريخ آخذ بالتزايد.
· "قتل حسن نصر الله."
اتضح، في هذه الأثناء، أن الإشاعات عن موته كانت مبالغ بها جدا، كمقولة مارك طوين الشهيرة. صحيح أنه بنوع من المحاكاة الساخرة قد سُحب حسن نصر الله من مستشفى في بعلبك، ولكنه كان حسن نصر الله آخر. أف، يا له من خطأ.
في هذه الأثناء يسطع نجم نصر الله الأصلي. مقابل الخطابات الاستفزازية التي يلقيها أولمرط والأكليشيهات والترّهات والضربات التي تم التدرّب عليها على الطاولة، يبدو زعيم حزب الله بالذات كمتحدث متزن، موضوعي وفي معظم الأحيان موثوق به للغاية.
· "إعادة قوة الردع للجيش الإسرائيلي."
لم يشكك أحد بكون الجيش الإسرائيلي هو جيش مهني جيد، يمكنه الانتصار على الجيوش النظامية. ولكن هذه الحرب تثبت بأنه غير قادر على التوصل إلى حسم المعركة أمام منظمة عصابات لها قدراتها، ومقاتلوها أقوياء الشكيمة. إذا كان حزب الله ما زال حيا يرفس، بعد خمسة وعشرون يوما من القتال، فإن قوة ردع الجيش الإسرائيلي قد ضعفت، بغض النظر عما سيحدث لاحقا.
من هذه الناحية، ألحقت الحرب ضررا جسيما بأمن الدولة. لقد أثبتت أن الجبهة الداخلية في إسرائيل عرضة للتأثر، وأن مقاتلي حزب الله لا يقلون شأنا عن جنود الجيش الإسرائيلي، وأنه لا توجد حرب ده-لوكس، وأن سلاح الجو لا يمكنه أن يحرز النصر بدون القوات البرية، حتى ولا في أمثل الظروف، في وقت لا يتوفر فيه لدى الطرف الآخر دفاع جوي.
هناك من يجدون العزاء في أن "العرب قد رأوا أننا مجانين". حيال استفزاز محلي صغير، نحن نرد بزوبعة من القتل والدمار، بتدمير بلاد كاملة، نوع من العدو الوطني المسعور. ولكن العدو المسعور ليس نوعا من السياسة، فهو لا يحل أية مشكلة، وما هو إلا رد فعل غير إرادي، لا يسمح بالاتزان، ويتيح للطرف الآخر بأن يلعب بنا عن طريق استفزازات محسوبة.
· "مرابطة قوة دولية على امتداد الحدود."
هذا نوع من المخرج في حالات الطوارئ، بعد أن ارتفع الدخان من كافة الأهداف الأخرى. أولمرط ذاته قد عارض هذا الأمر بشدة في بداية الحرب، وذلك ليحافظ على فسحة من حرية التصرف للجيش الإسرائيلي. من الواضح تماما أنه ليست هناك أي قوة دولية تجرؤ على الدخول في النار المستعرة. لذلك ستضطر هذه القوات إلى خدمة أهداف حزب الله، خوفا من أن يبدأ حرب العصابات ضدها. ألهذا الهدف تم تقديم كل هذه التضحيات؟
· "سنخلق وضعا جديدا في الشرق الأوسط."
لقد تم تحقيق هذا الهدف فعلا - ولكن ليس كما رسمه أولمرط لنفسه (ولنا).
نتائج الحرب على الأمد الطويل غير ظاهرة للعيان. إنها تنتمي إلى ما كنّاه بسمارك باسم "معدومة المقاييس" - أمور لا يمكن قياسها
عشرات ملايين العرب ومئات ملايين المسلمين يشاهدون كل يوم من على شاشات التلفاز صور مرعبة لأطفال ممزقين، ويشاهدون مشاهد الدمار المرعب. هذه الأمور تنخرط عميقا في وعي الجماهير وتخلف وراءها احتقان من الكراهية والغضب، وهما أخطر من مستودعات الصواريخ. لقد وُلد في هذه الأيام الخمسة والعشرين آلاف المنتحرين الجدد. وكلما ارتفع شأن نصر الله كبطل العالم العربي، كلما انحط إلى الحضيض شأن أنظمة الحكم "المعتدلة"، التي تعلّق عليها الولايات المتحدة وإسرائيل آمالهما في "شرق أوسط جديد".
بعد اليوم الخامس والعشرين سيأتي اليوم السادس والعشرون، وهكذا دواليك. الرئيس بوش، الذي دفع بنا إلى هذه الحرب منذ البداية، سيواصل دفعه بنا إليها ("حتى آخر جندي إسرائيلي"، على حد تعبير القول المأثور). مثله مثل أولمرط، يعيش بوش هو أيضا في عالم خيالي.
يمكن لبوش، لأولمرط ولأشباههما أن يحرّضوا وأن يجرّوا وراءهم الجماهير، حتى تلقى النداءات القائلة "الملك عريان" آذانا صاغية.
أحد أكثر المشاعر التي تقطع الأحشاء في هذه الحرب هي صورة الدبلوماسية العالمية، الأمريكية والأوروبية، التي تفعل كل ما في وسعها ليتمكن أولمرط وشركاه من مواصلة الحرب. لقد تحولت هيئة الأمم المتحدة، منذ زمن بعيد، إلى عميلة للبيت الأبيض. المداهنة والرياء يضربان جذورهما، في وقت تُدمر فيه الحياة ويُدفن الموتى من كلتا جهتي الحدود.
يتوق أولمرط إلى "كسب" عدة أيام أخرى من القتال. ما الذي سنحرزه فيها؟ نحن نحتل جنوب لبنان كما يحتل الذباب مصيدة الذباب. الجنرالات يطرحون الخرائط تعلوها الأسهم الملونة، ويبينون كيف ندفع بحزب الله إلى الشمال. يبدو ذلك رائعا، لو كان الحديث عن جبهة وجيش نظاميين، كما تعلموا في مدرسة القيادة والأركان، غير أن هذه الحرب هي حرب مختلفة تماما. سيبقى في المنطقة التي سيتم احتلالها أفراد من حزب الله، وسيتعرض جنودنا إلى عمليات قد امتاز بتنفيذها حزب الله منذ يومه الأول.
إذن سنصل إلى نهر الليطاني. وهناك نهر آخر خلفه، وآخر خلفه. لقد منّ الله على لبنان بأنهر كثيرة يمكن الوصول إليها.
لربما من الأجدى لأولمرط ولبيرتس، القائدان الجديدان، ألا يكونا مسطولين، ويتعلما كيف يفهما الخارطة .
--------------------------------------------------------------------------------
- Uri Avnery صحفي إسرائيلي وناشط سلام يسار. كان عضو كنيستَ مِنْ 1965 إلى 1973 وثانيةً مِن 1979 إلى 1981،أسس حركة كتلة السلام