منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 2 من 2

العرض المتطور

  1. #1

    في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (11)

    في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (11)
    حسن البطران: نزف متواصل في رمال السرد
    د. يوسف حطيني


    على الرغم من أنّ القاص حسن البطران لم يكن من أوائل من التفتوا إلى القصة القصيرة جداُ إبداعاً ونقداً في السعودية، فإنه يبقى تجربة مهمة يشار إليها بالبنان، بسبب حضوره المستمر، وإنتاجه الكمي والنوعي في هذا المجال، إذ أنجز حتى كتابة هذه السطور ما لم ينجزه قاص سعودي آخر، فقدّم ثلاث مجموعات قصصية قصيرة جداً ستعتمد عليها هذه الدراسة، بينما ما تزال الرابعة التي تحمل عنوان "ناهدات ديسمبر" قيد الطباعة، وهذا ما يضعه في مرتبة الصدارة على صعيد المملكة، وإن تأخّر قليلاً عن مجال الريادة.
    * * *
    يطرح القاص في مجموعاته الثلاث التي أصدرها قضايا معاصرة تتصل بجوهر وجوده في محيطه العربي، فالقصص لديه تحيل على السياسي والاجتماعي والوطني والقومي والإنساني، ليبدو من خلالها جميعاً، ملتزماً بقضايا ذلك المحيط الذي ينتسب إليه.
    في قصة بعنوان "رحيل" يقف رجل ما، بلا اسم (وتنكير الاسم لدى البطران استراتيجية من استراتيجيات التشخيص)، رجل بملامح محدودة (مكشوف الرأس، وثمة شعيرات متطايرة فوق صحراء رأسه)، رجل ينتظر أمام المعتقل: من المعتقل؟؟ ما سبب الاعتقال؟؟ النص لا يجيب، فهو قصة قصيرة جداً، وثمة زاوية واحدة يركّز عليها القاص، لصناعة مفارقته: رجل مفعم بالأمل، تجعله ورقة صفراء بلا أمل، فيعود مهيض القلب:
    "وصل مكشوف الرأس، الهواء يتلاعب بشعيراته المتناثرة فوق صحراء رأسه!

    ظلّ واقفاً أمام أسوار المعتقل..!

    ورقة صفراء تصل إليه:

    ارحل..!

    الوردة ذبلت

    وتطاير أريجها..

    أمسكها بيده ورحل إلى حيث لا يدري..![1]"

    إن تنكير الاسم ها هنا يرافقه تنكير للمكان، والتنكير كما هو معلوم يفيد التعميم، فالقاص يتحدث عن وطن كبير، يفقد فيه الإنسان اسمه وملامحه، فيأتي من اللامكان، ويغادر إلى حيث لا يدري.

    السياسة إذاً واحد من ملاعب البطران، يقترب منها اقتراباً حذراً، يدين الجميع دون تسمية، مثلما يحمّل الجميع المسؤولية، وفي قصة "مهرجان" يستخدم القاص استراتيجيتا التنكير والتعميم، للغاية ذاتها، فيقدّم ورقة إدانة للجميع الذي يمارس النفاق والقمع في آن معاً:
    "شارك في مهرجان الشعر العربي المقام ي إحدى الدول الأوروبية.. صفَّق له العرب ومنحوه أوسمة سفاراتهم..
    حينما رجع إلى وطنه اعتقلوه بتهمة التحريض والخيانة[2]".
    وثمة حضور لافت للمجتمع في قصص البطران، من خلال علاقة الرجل بالمرأة، ومن خلال علاقة المرأة بنفسها؛ حيث تتعدد المواقف التي ترصد حضور العينات الاجتماعية في سرده، ففي قصة "رائحة البصل" على سبيل المثال ثمة امرأة، يخفق قلبها عندما ترى زوجها، فتقطع البصل، مثل أولئك اللائي قطّعن أيديهن إعجاباً بيوسف عليه السلام، غير أن الرجل الذي لم ير سوى الأثر المادي السكين، قرر أن يشتري لها سكيناً بلاستيكية، دون أن يلتقط الإشارة الفذة الصادرة من قلب المرأة، لتقوم المفارقة على التعارض القائم بين الفهم المادي للحياة والفهم الروحي لها:
    "دخلَ عليها وهي تُقطِّعُ البصلَ.. رأتهُ وقطَعتْ يدَها، تَلوَّنَ البصلُ بدَمِهَا..! أهدتهُ دَمَها وأهداها قشورَ البصلِ!!
    وعدَها بشراءِ سِكِّينٍ بلاستيكية[3]".
    وثمة مقاربة طريفة لمرحلة مهمة من مراحل حياة المرأة في قصة "زجاجة"، إذ تجتمع الأختان نورة وريم، بعد أن تغسل نورة شرشفها الملطخ ببقع حمراء، متسائلة عن تلك الظاهرة، فيكون الجواب مثيراً وموحياً:
    "على عجل انتهت نورة من غسيل شرشف سريرها الملطخ ببقع حمراء..
    ريم الأخت الصغرى:
    هل انكسرت زجاجة عطرك وانجرحت ساقك؟!
    ابتسمت نورة وقالت:
    سوف تنكسر زجاجتك بعد خمس سنوات[4]".
    إن مرحلة البلوغ التي يتلقاها الشاب بكثير من الفرح والاعتزاز بالذات، تقابلها الفتاة بالحذر والخوف، مما يجعل الطفولة بالنسبة إليها زجاجة عطر: هكذا جاء التشبيه البريء غير المقصود من ريم (المقصود طبعاً من الكاتب) ليعبّر عن حالة الحلم الطفولي التي غادرتها نورة مرغمة، وسوف تغادرها ريم بعد سنوات، إذ سيكسر البلوغ زجاجة عطر الطفولة التي كانت تعطي الفتاة حرية تعيش في ظلالها، ولكنها ستُحرم منها فيما بعد، حين تصبح ناضجة، في ظل التسلط الذكوري الذي يصبغ المجتمع بصبغته.
    قصة "النص الوردي" ترسم وجهاً آخر للعلاقة بين الرجل والمرأة، فالرجل الذي يمارس سطوته التي ضمنها له المجتمع، سرعان ما يتخلّى عنها خارج أسرته، لصالح المرأة التي تثير إعجابه، قبل أن يدرك صفاتها، مجسّداً عقدة المجتمع الذكوري الذي لا يختلط بالمرأة، فيرى حتى في أوراقها الوردية إيحاءات جنسية، تجعله يستسلم لغوايتها:
    "دعا إلى كتابة نص أدبي، توافدت النصوص إليه سعياً وزحافاً.. جمعها وأشعل النار فيها، وتوَّجَ النص الوردي كأفضلها[5]"
    وإذا كانت اللغة ها هنا تعاني عثرات صغيرة (زحافاً ـ كأفضلها) فإنّ الدلالة قوية بما يكفي لإنتاج حالة من التناقض بين رجل عاش في كنف سلطة ذكورية ضيقة، سرعان ما تكسّرت هشاشتها في مجتمع أوسع.
    ويبدي القاص تعاطفاً ملحوظاً، في عدد من القصص، مع التجليات الإنسانية للقضية الفلسطينية، التي انعكست على الشعب الفلسطيني جوعاً وقهراً، ومن ذلك ما نلمسه في قصة "كسرات خبز" التي تنبئ عن مجتمع مقهور، يفقد أحباءه ووضعه الاجتماعي، ولكنه لا يفقد تماسكه وتعاضد أفراده فيما بينهم:
    "يطرق الباب، لا أحد يجيبه، يواصل طرقه الباب، صوت خفيف مثقل من خلف الباب: من الطارق؟.
    لا يجيب.. تفتح الباب، يغطي وجهه ويعطيها كسرات خبز يابسة ويغادر..
    وتتلون السماء والأرض بقنابل الدبابات والطائرات الإسرائيلية[6]".
    والحقّ أن مثل هذه التجليات الإنسانية لا تظهر في قصص البطران إثر ارتباطها بالقضية الفلسطينية، بل تمتد إلى آفاق أخرى، تلتقط الإنسان ـ أياً كان مكانه وجنسه ـ في لحظة فاصلة من حياته الرتيبة، وتقدّم لنا انتماء القاص الذي لا يعرف حدوداً، على نحو ما نلمس في قصة "سؤال[7]" حيث تتناول الأسرة ألواناً متنوعة من الخبز اليابس (!!)، و"نزف" حيث يبحث الجميع، قططاً وبشراً، عن الطعام في برميل القمامة (في الخارج)، هذا البرميل الذي يتجدّد كل ساعة، مما يدلّ على غني أصحاب المنزل (في الداخل)، وبين الخارج والداخل يسكن الألم، وتسكن المفارقة:
    "قطط داخل برميل قمامة..

    تتصارع بتفنن من أجل فك تنوّع هذه القمامة،

    التي تتجدد كل ساعة بجانب هذا المنزل..!!

    بالجانب الآخر..

    يكل امراة بخمسة تمدّ يدها[8]..!!"

    * * *

    وعلى الرغم من أننا اختبرنا مقياس التكثيف في مجموعاته الثلاث من خلال ما يزيد على مئتين وسبعين نصاً قصصياً قصيراً جداً، فقد لفت نظرنا أنه يعتمد هذا التكثيف سمة لا تفلت من قبضة سرده إلا نادراً، إذ يتجه الحدث بشكل عام في قصصه، معتمداً على جملة فعلية، أو ذات طاقة فعلية، بشكل سهمي نحو خاتمة تختزن دلالة إنسانية أو وطنية أو اجتماعية... إلخ. ويمكن هنا أن نشير إلى نصين صغيرين جداً هما "حرث" و"فلسفة" على التوالي:
    · "حرث الأرض وهيّأها للزراعة.. مُنع عنه الماء، وصلّى صلاة الاستسقاء لهطول المطر..[9]"
    · "يهوى رمال الصحراء ويعشق البحر كثيراً، ترك زوجته تحت الرمال وتغطّى بمياه البحر[10]".
    غير أننا إذا أنعمنا النظر، فإننا يمكن أن نجد عدداً محدوداً من القصص، تهتم بتفاصيل لا تحتملها القصة القصيرة جداً، فتقدّم أكثر من محور حدثي، أو تقدّم تفاصيل شخصية غير موظفة، على نحو ما نجد في قصتي "رجولة[11]" و"ندى وقت الظهيرة[12]"، وهما قصتان تحتلّان مساحة طباعية، أكبر قليلاً من الحجم الذي ارتضاه البطران لقصصه. غير أن ذلك لا يعني أن التكثيف مسالة شكلية، وحسب، فثمة قصص للبطران نفسه (محدودة بالطبع) لم تتجاوز مساحتها الطباعية المالوفة، ولكنها عانت من زيادات لا تضيف إلى جوهر القص شيئاً، ونشير بشكل خاص هنا إلى قصة "قلم فضي" إذ إن العنوان والقلم لا يقدّمان شيئاً ذا دلالة جوهرية:
    "أعجبه ذلك القلم،
    اشتراه،
    تعمّد أن تكون أول حروفه لحبيبته..
    كتب لها: أنتِ أول من غرس حبه في قلبي.
    ردّت عليه: وأنت آخر حبيب ملأ حبه قلبي، كما كان الذي قبلك والذي قبله[13]".
    ويمكن للقارئ أن يجرب الاكتفاء بالسطرين الأخيرين في النص، ليجد أن دلالة القص لم تتغيّر إلا قليلاً، وربما أراد القاص من خلال ذلك التمهيد خلق حافز إضافي يبدو لنا أنه يسير إلى جانب الحكاية لا في أتونها.
    وربما كان الأجدر بالقاص أن يفعل ما يفعله في معظم نصوصه، عبر الاعتماد على تمهيد سردي يخلق أرضية مهيِّئة تماماً للعقدة، على نحو ما نجد في قصة عنوانها "لون أحمر"، يقوم فيها التمهيد بدوره السردي على أكمل وجه، متضافراً مع التكثيف ودلالة اللون الأحمر (الجنس ـ القتل) ليسير باطمئنان نحو لحظة التنوير التي لا تفقد ألق دلالتها في إبراز حالة النفاق الاجتماعي الذي يعيشه بطل القصة:
    "كعادته يخلع قناعه بعد مغادرة ضيوفه.
    يتسامر مع خادمه..
    يطلي كلماته باللون الأحمر.
    خادمه: لماذا أنت معي بلون ومعهم بلون آخر..؟؟
    يصمت..
    ثم يأمر بتشييع جنازة خادمه[14]".
    ويعدّ اللون واحداً من أسس إنجاز المفارقة لدى القاص، وإذا كنا قد رأينا حضوراً للون الأحمر في القصة السابقة، وللون الأصفر في قصة "رحيل" التي افتتحنا بها نماذج الدراسة، فإنّ القاص أفاد أيضاً من دلالات ألوان أخرى، كاللون الأخضر، وإن كانت إفادته من الألوان لم تخرج بها عن دلالتها التقليدية الراسخة في الأذهان. ونشير ها هنا إلى قصة "سنابل" التي تحيل على الخيبة، إذ لا مكان للأخضر في مجتمع يحفر القبور:
    أتيت إليكم.. وقلبي فيه مساحة خضراء.
    هكذا خاطبهم..
    نظروا إليه.. وأمروا صبيانهم بحفر القبور..[15]".
    كما أفاد القاص من استثمار المرآة في صناعة بعض مفارقاته الطريفة، على نحو ما نجد في قصة "تأمل[16]" التي تنتهي بهزيمة البطل، وفي قصة "قناعة" التي تنتهي بهزيمة المرآة. في قصة "قناعة" مثلاً، تحطّم العاشقة المرآة، حتى لا تقارن شكلها بشكل من تحبّ، لتخبرنا أنّ الحبّ لا يقيم وزناً جوهرياً للشكل، أو لتخبرنا، بمساعدة العنوان، أنّ عليها الرضا والابتسام في وجه قدرها المحتوم:
    "تقف أمام المرآة تتأمل جمالها..
    تلتفت خلفها، ترى شكله المناقض تماماً لشكلها
    تكسر المرآة،
    وتبتسم له[17]".
    وإذا كان القاص ينوّع في قصصه السابقة في مؤثثات المكان شكلاً ولوناً وعناصر، فإنّه يسعى في قصص متعددة إلى الإفادة من إمكانات اللعب بالمفتوح والمغلق في الفضاء المكاني، ولعلّ جنوح القاص بشكل عام نحو الانطلاق من المفتوح إلى المغلق يجسّد حالة الخيبة التي تعيشها شخصياته على أكثر من صعيد، ويمكن أن نشير ها هنا إلى مثالين محددين، هما قصة "شلل" و"وفاء".
    في قصة "شلل" ينطلق البطل نحو البحر، بوصفه مكاناً مفتوحاً، لكن وساوس الحرية تهاجمه، فيعود ثانية إلى سجنه، إلى بيته، حيث لا أفكار تحلّق في فضائه:
    "أدار محرك سيارته.. شاطئ البحر هدفه..

    افترش رمال الشاطئ

    دخان أفكار يهاجمه.. يغلّف جبل رأسه.. خريف أوهام يحاصره..!

    تمنّى لو أنه لم يطوِ أرضه للشاطئ..

    سحبَ أعضاءه

    مشلولاً عائداً إلى حيطانه الأربعة[18]..!"

    وفي قصة "وفاء" يضع البطل الذي يعيش في مكان مغلق أسراره داخل مغلق آخر، داخل صندوق، وإذا كنا قد تعودنا في كثير من الأدبيات أن ينطوي فتح المغلق/ الصندوق على سرّ ما يغيّر مجرى الحدث، فقد آثر القاص أن يبقي الصندوق مغلقاً على سرّ الألم، ليعبّر عن انتمائه إلى أولئك الذين يعيشون داخل الصندوق، ولا يستطيعون، أو لا يريدون العيش خارجه، لأنهم لم يعتادوا أن يطووا الألم في أكبادهم القرحى:

    "يطنطن داخل كوخه، كعادته.. يرفض كلّ ما يقدّم له من طعام، يكتفي بفتات يسدّ فضاء معدته، ويسكت صرخات أمعائه.. يرسم بريشته حروفاً يضعها في صندوق قديم.. يحرص على إغلاقه..

    يموت، يظل الصندوق مغلقاً، تلبية لرغبته[19]..!!"

    كما يجتهد القاص في استثمار إمكانات التشخيص، ليقدّم علاقات بشرية، في بيئة غير بشرية، أو ليقدّم حكايات كاملة، أو حوادث جزئية، تنسب لكائنات غير بشرية، تصلح حوامل رمزية، لمن هو بشري. ويمكن أن نمثل هنا بقصة "اعتصام" إذ يقدّم القاص درساً في مواجهة الظلم، يقوم به النمل الأبيض، وهو درس صالح للاقتداء، كما يطرح القاص، حين يهدّد الإنسان بلقمة عيشه:

    "أسراب من النمل الأبيض تحمل فتات الخبز اليابسة..

    يعترض أحد الجيران طريقها، ويأخذ الفتات منها..

    يعتصم النمل أمام المنزل[20]..!"

    وفي قصة "غيرة" يقدّم القاص الوردة بطلة لقصته، فهي قادرة على الفعل، على التفتّح والذبول، وها هي ذي تذبل، حين تتفتح العاشقة بعودة حبيبها من السفر، وتصبح وردة أجمل منها:

    "الوردة الحمراء التي تقطفها له كل صباح ذبلت.. وتلاشى أريجها..

    بعد عودته من سفره[21]".

    وثمة مثال ثالث نودُّ عرضه في مجال الإفادة من التشخيص، وهو قصة "من خلف الغطاء" الذي يبدو أقل نجاحاً من سابقيه، بسبب لغته المباشرة، وبساطة فكرته، وبسبب تصريح الثعبان الغريب غير المتوقع عن هويته وملامحه:

    "شاهد أمامه ثعباناً يزحف، أغرته ألوانه..
    أحبّ ان يمازحه،
    عانقه الثعبان، وهمس في أذنه: احذر مني مهما كنت أنيقاً، فأنا ثعبان..![22]"
    غير أن الأساس الذي تقوم عليه المفارقة ينتج في كثير من القصص، وهذا هو السائد المالوف في الققص القصيرة جداً، عن التضاد بين موقفين قصصين ينتجان عن تطور غير متوقع للأحداث، وهذا كثير جداً في قصص البطران، ويمكن هنا أن نمثل بقصة "حاجة"، إذ يقدّم الزوج لزوجته النقود لشراء ما تحتاجه للعيد، دون أن يدرك أنه في قرارة نفسه يحتاج أن يستقبل العيد كما ينبغي:

    "أعطى زوجته مبلغاً لشراء حاجيات للعيد..

    رجع للمنزل فوجد كومة من

    أمواس الحلاقة[23]!"

    وقد لفتت نظري قصة جميلة جداً بعنوان "قراءة" تبرز قدرة العاشق على قراءة الجوهر، بأفضل مما يقرأ المظهر. تقول القصة:

    "رسائله تصل إليها عبر نظراته

    بالغ في تكحيل عيونه، فانقطعت عنها رسائله[24]".

    غير أنني تخيّلت للحظة أنه بادل بين الضمائر، فجعل المذكر مؤنثاً، والمؤنث مذكراً، فوجدت أن القصة تصبح أكثر جمالاً، لأنّ عيون المراة أكثر قدرة على حمل الرسائل، ولأن الرجل لا يلجأ عادة إلى رسائل العيون، بل إلى الكلام، ونضيف إلى ذلك أن الكحل ليس للرجال، إلا في بيئات عربية محدودة.

    وثمة مفارقة أخرى جميلة تجسدها قصة "منظار" إذ إن منظور الشخصية يختلف باختلاف موقعها، فالبطل يرى الناس صغيراً، على غير حقيقتهم، دون أن يدرك أنه صغير من منظورهم أيضاً:

    "ينظرون إليه..

    وهو من فوق النخلة يجني الرطب.

    هو:

    أراكم صغاراً[25]".

    * * *
    وعلى الرغم من أن القاص يعنى بالدلالات المزدوجة أو المتعددة للسياقات السردية، ويهتم بالقضايا الكبرى الاجتماعية والوطنية والإنسانية، فإن بعض قصصه بدت لنا أنها تقوم على نكتة، مجرد نكتة، قد تضحك القارئ، وقد تترك في نفسه أثراً سرعان ما يمحى، ومن ذلك قصة "أرض خاوية[26]" التي يحتفل فيها المدعوون بإقلاع صديقهم عن التدخين تاركين الفناء مليئاً بأعقاب السجائر، وقصة "الإناء" التي تبرز اهتمام الزوجة بالإناء بعيداً عن سلامة زوجها، وعن نجاته من مشكلة خطيرة:
    "دلف إلى مكتبه، أراد أن يشرب فوجد ثعباناً متوج الألوان في الإناء، كسر الإناء، وقطع رأس الثعبان، وبكت زوجته وطلبت التعويض[27]".
    وفي جميع الأحوال فإن ملاحظة سلبية تثار هنا أو هناك حول قصة ما من قصص حسن البطران، لا تغيّر من حقيقة الأمر شيئاً، فالبطران واحد من أهم كتاب القصة القصيرة جداً في السعودية، وقد أخلص لها، واجتهد في سبيل رفع سويتها، وما يزال.

    [1] حسن البطران: نزف تحت الرمال، نادي القصيم الأدبي، ط1، 2009، ص11.

    [2] حسن البطران: ماء البحر لا يخلو من ملح، نادي الطائف الأدبي، ط1، 2011، ص65.
    [3] حسن البطران: بعد منتصف الليل، دار الكفاح، الدمام، 2011، ص74.
    [4] المصدر نفسه، ص80.
    [5] المصدر نفسه، ص35.
    [6] المصدر نفسه، ص116.
    [7] حسن البطران: نزف تحت الرمال، ص43.

    [8] المصدر نفسه، ص23.

    [9] حسن البطران: بعد منتصف الليل، ص61.
    [10] المصدر نفسه، ص106.
    [11] حسن البطران: نزف تحت الرمال، ص39.
    [12] المصدر نفسه، ص103.
    [13] حسن البطران: ماء البحر لا يخلو من ملح، ص46.
    [14] حسن البطران: بعد منتصف الليل، ص122.
    [15] حسن البطران: ماء البحر لا يخلو من ملح، ص69.
    [16] حسن البطران: بعد منتصف الليل، ص45.
    [17] حسن البطران: ماء البحر لا يخلو من ملح، ص36.
    [18] حسن البطران: نزف تحت الرمال، ص19.

    [19] المصدر نفسه، ص31.

    [20] المصدر نفسه، ص175.

    [21] المصدر نفسه، ص67.

    [22] حسن البطران: ماء البحر لا يخلو من ملح، ص84.
    [23] حسن البطران: نزف تحت الرمال، ص151.

    [24] المصدر نفسه، ص83.

    [25] المصدر نفسه، ص139.

    [26] حسن البطران: ماء البحر لا يخلو من ملح، ص16.
    [27] حسن البطران: بعد منتصف الليل، ص23.

  2. #2
    طبيب وشاعر من سوريا دير الزور
    تاريخ التسجيل
    Mar 2008
    المشاركات
    3,402
    دراسات واسعة ونقد محكم تعلمنا منه كثيراً

    شكراً جزيلاً
    واتقوا اللَّه ويعلمكم اللَّه واللَّه بكل شيء عليم

المواضيع المتشابهه

  1. في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (3)
    بواسطة د.يوسف حطيني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 10-28-2013, 05:12 AM
  2. في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (2)
    بواسطة د.يوسف حطيني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-21-2013, 03:53 AM
  3. في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (6)
    بواسطة د.يوسف حطيني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-21-2013, 03:47 AM
  4. في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً(8)
    بواسطة د.يوسف حطيني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-21-2013, 03:41 AM
  5. في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (1)
    بواسطة د.يوسف حطيني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-21-2013, 03:35 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •