كيف تساند المرأة زوجها.. وقت الشدة؟
حوار أجراه ا / عصام غازي مع الأستاذ عمرو خالد لمجلة كل الناس بتاريخ 24-30 مايو 2006
بعد أصعب موقف عاشه النبي الكريم في غار حراء في أول ليلة لنزول القرآن.. عاد إلى بيته يرتجف..
وهنا ينكشف المعدن النفيس للسيدة خديجة التي ضربت المثل لكل امرأة في الوقوف إلى جانب زوجها في وقت الشدة.. وعندما استمعت له وهدأت من روعه ونجحت في تثبيته وطمأنة قلبه.. واهتدت بحكمها إلى الشخص الوحيد في العالم الذي عاش إلى التسعين ليفسر للرسول ما حدث له في هذه الليلة.
الداعية عمرو خالد.. يواصل البحث عن دروس السيرة المحمدية.. ومحاولة الإجابة على كل التساؤلات التي تثيرها.
يقول عمرو خالد:
نزل النبي صلى الله عليه وسلم من غار حراء يرتعد، يحس ببرودة وقشعريرة شديدة، يهرول حينا ويعدو حينا، ثلاثة أميال مشاها على هذا الحال ما بين الجبل وبيته عند الكعبة، وحين اقترب من البيت عند الصفا قال: "مستغيثا زملوني زملوني.. دثروني دثروني".
وهو حتى هذه اللحظة لا يعرف أنه نبي الله ولا يعرف أن من رآه هو جبريل.
كان النبي يسترجع مشهد الاحتضان العنيف من جبريل له، كاد النبي يختنق من شدة العناق "غطني"، والكائن الغريب يسد الأفق.
والنبي أيضا لا يعرف إن كان ما حدث شراً حاق به أو خيراً أراده الله له. حيرة شديدة تزلزل كيان النبي – صلى الله عليه وسلم.
الإحساس الغالب على النبي، أن ما جرى شيء مخيف.
حقيقة أن جبريل ملك رائع يمتاز بالجمال والرهبة، لكن النبي يراه لأول مرة وقد جاء بصورته الملائكية البشرية.
خوف النبي كان مبرراً لأن الآية الكريمة تقول: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله".
سر خوف الرسول
دخل النبي بيته وهو يردد الكلمة نفسها فتتلقاه السيدة خديجة على هذا الحال، فتسأله: مالك يا ابن العم؟
فيرد عليها: لقد خشيت على نفسي.. ثم يروي لها وقائع ما جرى، منذ أن رأى جبريل يسد الأفق، إلى أن اختفى.
ما الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم – يخشاه على نفسه؟
بعض العلماء فسروها بخشيته أن يكون ما رآه أحد الجان.
والبعض الآخر فسره بأن النبي خشي إيذاء هذا الكائن المجهول له.
"لقد خشيت على نفسي".. هذا ما قاله النبي للسيدة خديجة.. فتقول له: "كلا والله لا يخزيك الله أبدا".. ثم تقول: "إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل "الضعيف"، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق"، فهدأ النبي واطمأن.
قدوة لكل النساء
قامت السيدة خديجة بدور بارع في طمأنته وتهدئة نفسه.
والرجل – أي رجل – حين يجد امرأته تقف وراء ظهره لتثبيته وقف وقت الشدائد تتولد في داخله طاقة هائلة للصمود والاحتمال.
والرجل حين تحاصره الهموم، لا يجد حضناً أحن من حضن زوجته، إنه التكامل.. "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها".
ويجب أن ننتبه إلى أن السيدة خديجة استمعت إلى النبي وأصغت له قبل أن تبدأ في تثبيته، على عكس بعض النساء اللاتي يبكين فقط في مثل هذه المواقف الصعبة.
ولو أن السيدة خديجة كانت امرأة من هؤلاء لقالت له: "هذا ما أخذناه من الجبل والاختلاء بالغار، إنك لن تذهب إلى هناك مرة أخرى وإلا سأترك لك البيت".
لكن السيدة خديجة لم تؤنبه، وعملت على رفع روحه المعنوية، لأنها شاركته بعض أيام خلوته، وكانت تحمل الطعام إليه في الغار بنفسها وهي متقدمة في السن، بدلاً من إرساله مع الخدم أو العبيد.
لهذا قال النبي عنها: "أكمل نساء العالمين عقلاً خديجة بنت خويلد" و "خير نسائها خديجة بنت خويلد".. وظل حبه دائماً للسيدة خديجة.
الأخلاق أولاً
ونلاحظ أن السيدة خديجة حين عددت صفاته الحسنة وهي تطمئنه بأن الله لن يخزيه أبداً، عددت صفاته الأخلاقية، ولم تقل له إنك تتعبد كثيراً لله في غار حراء.
حين قالت له إن الله لن يضيعك، لم تذكر العبادة، وإنما ذكرت الأخلاق، لم تقل له أنت تختلي في غار حراء، وقالت له إنك تصل الرحم وتكسب المعدوم.
إحدى مشاكل العالم العربي الآن، أن المجتمع به صنفان من الناس:
صنف حسن التدين، سيئ الخلق، وصنف حسن الخلق، سيئ التدين والله لا يرضى بهذا ولا ذاك.
الأول.. يتصور أنه بالطاعة والقيام والدعاء والبكاء وحفظ القرآن يغري الناس بعبادته ثم يفسد الناس بسوء خلقه.
تلبس الحجاب، ثم تؤذي جيرانها، فيقول الناس: هذا هو التدين!
الثاني.. سيئ العبادة لا يصلي، لكن أخلاقه ممتازة، فيقول الناس: موش مهم العبادة ما دامت الأخلاق جيدة.
فيفتن الناس أيضا، ويبعدهم عن العبادة، أليس بالإمكان أن يجمع المسلم بين حسن التدين والعبادة. وحسن الخلق؟
أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم:
"أثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة حسن الخلق"، وليس الصلاة أو القيام أو حفظ القرآن.
"أحسن المسلمين إسلاما أحسنهم خلقا"
"أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق".
"أقربكم منى مجلساً يوم القيامة أحسانكم أخلاقا".
"أحبكم إلى يوم القيامة أحسنكم خلقا".
وكانت السيدة خديجة تثق في عدالة الله رغم أنها لم تكن قد أسلمت أو عرفت الإسلام، كانت تؤمن أن عمل الخير لا يضيع أبداً.
يقول النبي – صلى الله عليه وسلم: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء".
بشارة ورقة بن نوفل
سكنت رعشة النبي صلى الله عليه وسلم فأخذته السيدة خديجة من يده وقالت: تعال بنا نستشير فابن عمي "ورقة بن نوفل" عمره تسعون سنة، ودرس التوراة والإنجيل، وهو على دين المسيح، وهو المسيحي الوحيد الموجود بمكة، وقد فقد بصره من كثرة القراءة في التوراة والإنجيل، وبحكم تقدم السن، وهو رجل زاهد في الدنيا.. لا يعنى بأصنام قريش. تدخل السيدة خديجة ومعها النبي على ورقة بن نوفل وتقول له:
يا ابن العم اسمع من ابن أخيك.. فيحكي له النبي وقائع ما جرى في غار حراء، فينبهر ورقة حيناً، ويبتسم حيناً، فهو يسمع ما سبق أن قرأه عن كيفية نزول الوحي على الأنبياء.. ينتهي النبي صلى الله عليه وسلم من سرد حكايته، فيرد عليه ورقة بن نوفل قائلاً: "إنك لنبي آخر الزمان، إنك لنبي هذه الأمة.. لقد أتاك الناموس الذي أتى موسى، وإن قومك سيكذبونك ويؤذونك ويقاتلونك ويخرجونك.
ليتني أكون فيها جذعاً "شابا قويا" إذ يخرجك قومك.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟
فقال: نعم، لم يأت رجل قط، بمثل ما أوتيت به إلا عودي.. وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
الرد على المستشرقين
استغرق لقاء النبي صلى الله عليه وسلم بورقة بن نوفل وقتاً قليلاً.. وهذا يفند ادعاءات المستشرقين بأن ورقة هو الذي علّم النبي كلما جاء به في رسالته.
وإذا تأملنا ما قاله ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم: قال له "إنك لنبي هذه الأمة،ـ إنك لنبي آخر الزمان".. جبريل لم يخبره بذلك، هل لنا أن نتخيل رد فعل النبي عند سماع هذه العبارة؟
هل نتخيل الدهشة والحيرة حين يدرك المهمة الملقاة على عاتقه؟
ولذلك تنزل عليه الآية الكريمة:
"الله أعلم حيث يجعل رسالته"، ثم يقول له ورقه: الذي جاءك بالأمس هو جبريل.
جبريل جاءه فجراً، وهو الآن في الصباح، فيندهش النبي: هل الذي احتضنني ملك من عند الله؟
وهذا ما استمر لمدة 23 سنة، ثم يقول ورقة: وإن قومك سيكذبونك ويؤذونك ويقاتلونك ويخرجونك.
لقد أقدم قومه بعد ذلك على تسع محاولات لقتله واغتياله.
هذا هو طريق الحق، لأن الحق والخير يتعارضان مع مصالح الظالمين والمفسدين ثم يقول له ورقة أخيراً:
"وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً"
من أين أتى ورقة بهذه المعلومات؟
ورقة بن نوفل يفهم قريشاً.. ويعرف أن هناك 360 صنماً حول الكعبة تضمن مصالحها الاقتصادية مع القبائل المنتشرة على طرق التجارة إلى الشام واليمن.
ولو أنزلت هذه الأصنام من حول الكعبة، تفقد قريش زعامتها الدينية في الجزيرة العربية وتنهار الأحلاف والتعاقدات، وتصبح طرق التجارة غير آمنة.
ما أشبه الليلة.. بالبارحة
خرج النبي صلى الله عليه وسلم من عند ورقة بن نوفل بعد أن وضحت أمامه صورة ما سيحدث له وقد استهل ورقة السيدة خديجة لدى خروجها وراء النبي وقال لها: قولي له فليثبت.
قال ورقة بن نوفل ما قال للنبي، والعالم في ظلمة شديدة، وأدرك ورقة أن النبي جاء لإصلاح الأرض.
نحن الآن نعيش في وضع مشابه لوضع العالم حين أتى الرسول صلى الله عليه وسلم فالذين عاصروا الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية لم يكونوا وقتها يدركون أن ما يحدث هو حرب عالمية ثم جاء المؤرخون بعد ذلك وأطلقوا على ما جرى اسم: الحرب العالمية.
فهل نحن الآن نعيش الحرب العالمية الثالثة ولن ندرك ذلك إلا بعد سنوات؟
نحن نعيش حدثاً رهيباً، لا يقل عن الحرب العالمية.. والإسلام يحتاج منا تضحيات كبيرة وجهوداً مضنية، كالتي حدثت بعد نزول الرسالة على النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ورقة لخديجة: قولي له أن يثبت.
ونحن جميعاً الآن نحتاج إلى من يكرر لنا هذه العبارة في ظروفنا الصعبة الراهنة.
بعد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم والسيدة خديجة لورقة بن نوفل بعدة أيام، يموت ورقة بن نوفل، كأن الله سبحانه أمد في عمره إلى التسعين ليؤدي هذه الرسالة التي أداها للنبي، وبعد أن أدى رسالته، قبض الله روحه.
ولو أن ورقه قد عاش سنة أو أكثر بعد لقائه بالنبي، لقالوا إن ورقة هو الذي لقن النبي ما يقول وما جاء به.
فسبحان الذي ألهم ورقة بن نوفل أن يدرس لمعرفة الحق طوال عمره، ليقوله لرسول الله في كلمات بسيطة ثم يموت بعد ذلك.
عن موقع الداعية المحترم عمرو خالد