كتاب مخطط الانحدار وإعادة البناء
تأليف الدكتور خالص جلبي
**الفصل الثاني : بين الجراحة الحديثة و( الكي!!)
** في السنوات القليلة الفائتة تم تدشين ثلاثة فتوحات علمية في عالم الجراحة في منتهى الخطورة والأهمية، هي تدشين الجراحة العجائبية الجديدة : جراحة بدون جراحين ( TELE - SURGERY )( 1 ) أو الجراحة بالفاكس! والاستنساخ الإنسانيCLONING ) ) الذي أوقفوه عن المضي في مسيرته لاعتبارات أخلاقية وقانونية (2)، وجراحة الجينات (GEN - SURGERY ) من خلال حقن ثلاث مليارات خلية كبدية معدَّلة بإضافة الجين الناقص ( 3 ) لمريضة فرنسية من مقاطعة كيبك في كندا والمصابة بـ (فرط الكولسترول العائلي المميت) والمعروف بـ(FH ... ) هذه أخبار من قمة الوعاء العلمي ورأس حربة اختراق الفضاءات المعرفية الجديدة، في الحين الذي يفاجئنا بعض مرضانا بعدم قناعته إلا بـ (الكي) وسيلة للخلاص من الألم والمرض
قبل 14 عاماً من الآن كان الطبيب الألماني كورت سيم ( KURT SEMM ) يعمل في عيادته كطبيب أخصائي في أمراض النساء والولادة ، في مدينة (كيل) الميناء الشمالي القصي من ألمانيا الغربية، وبينما كان يقوم بعمله المعتاد في نفخ بطن المريضة تحت التخدير كي يدخل المنظار المستخدم لـ (التشخيص) عثر على زائدة دودية ملتهبة عند مريضته ، فانقدحت في ذهنه فكرة جديدة مفادها: لماذا لا نستخدم نفس المنظار أداةً للعلاج الجراحي من خلال إدخال آلات مساعدة للقطع والشفط والحرق الكهربي؟ ولكن هذا يعني أنه سيقوم بعمل الجراح وليس النسائي! تساءل الطبيب (كورت سيم) لماذا لا نستأصل وبنفس المنظار الزائدة الدودية الملتهبة أو الحويصل المراري الفاسد أو حتى أي عضو تعطل عن العمل ويمكن التخلص منه ومن خلال فتحات هي فوهات الدخول فقط، طالما هي تحت أعيننا وفي متناول يدنا بل وتحت التكبير بحيث تراه العين بشكلٍ أفضل؟! كل ما في الأمر هو تطويل أصابع اليدين من خلال منظار إضافي يدخل إلى البطن!! كانت الفكرة رائدة وثورية وترتب عليها عملياً انعطاف نوعي في تاريخ الجراحة. وجاءت كالعادة ليست من حقل الجراحين بالذات ، بل من اختصاص آخر خارج الجراحة العامة، كما حصل مع باستور والأطباء، فباستور كان حتى من خارج الطب تماماً لأنه لم يكن طبيباً ولكنه خدم الطب بأعظم من دفعة أطباء، وجرت السنة أن المبدعين والعباقرة يأتون عادة من خارج حقل المهنة (4) . ونظراً لأن الدكتور يمتلك تحت عيادته ورشة عمل، وله صلة بأخيه الذي يسكن في الجنوب والذي يعمل مهندساً في صناعة الآلات الطبية فكان يقوم بتصميم المناظير وتطويرها باستمرار، ويعمل بصمت وفي الظل حتى استطاع أن يقوم بإنجاز كمية كبيرة من العمليات الجراحية بهذه الطريقة، ثم تقدم إلى مؤتمر الجراحين في ألمانيا لعرض نتائج عمله؛ فقامت قيامة الجراحين من هذا المتطفل على ميدانهم والذي لا يعتبرونه جراحاً بالأصل ؟! بل مضى بعضهم إلى المطالبة بمحاكمته على ما اقترفت يداه بحق الجراحة التقليدية التي أُسست منذ مائة وخمسين عاماً!! فهرب إلى بريطانيا حيث سخِر منه الجراحون بل وزملاؤه أطباء النسائية حيث قال له أحدهم: لعلك تريد إجراء عملية قيصرية بهذه الطريقة ؟! (5) وهكذا قرر الطبيب المحاصَر أن يهرب من القارة الأوربية العجوز إلى العالم الجديد؛ الولايات المتحدة الأمريكية حيث تم احتضانه وتبني أفكاره وتطوير أدواته ثم المباشرة بتطبيق طريقته (لننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين)، ورجع المهاجر إلى وطنه (راغماً) قومه مما جعلهم يتبنون طريقته ويحترمونه، وهكذا وجد نصر المهاجر (يجد مراغماً كثيراً وسعة). (6) تعتبر طريقة الدكتور (سيم) انقلاباً ثورياً في تاريخ الجراحة الحديثة، لأنها شقت الطريق إلى تطوير الجراحة بشكل نوعي، فهي فتحت باب الجراحة على إمكانياتٍ بدون حدود، لا شقوق ولا ندبات على البطن، الوصول إلى أي مكان لمعالجته، مع خروج سريع من المستشفى، وتوقع اختصار في تكاليف العلاج للمستقبل، وهكذا فالمنظار سيستأصل الحويصل المراري الفاسد والورم المدمر، سيفتح الشريان المغلق، ويغلق الفتق المنسدل، يقطع العصب المريض، ويرتق الأكياس المهترئة. بل وشق الطريق إلى معالم جراحة جديدة لم يكشف اللثام عنها بعد وهي الجراحة من بعد(TELE - SURGERY ) بما يشبه الريموت كونترول، وهكذا بدأت في العام الماضي تجارب في مدينة (كالرسروهه) في ألمانيا على جراحة تجرى بين جراح يبعد عن حقل العملية (3) كم من خلال عمل وثيق محكم مع (إنسان صناعي = روبوت) يجري العملية!! الروبوت يُسير من قبل الجراح المزود بنظارات خاصة تتمتع بميزة الأبعاد الثلاثية، وهكذا يستطيع رؤية كل ما في جسم الإنسان، من خلال تطوير أجهزة جديدة تلقم بكل المعلومات التفصيلية ( الداتا عن البناء الهندسي والوظيفي للجسم الإنساني؛ إنه أشبه بالسحر وعالم الجان!! ولكن إذا استطعنا أن نقوم بإجراء العملية عن بعد ثلاثة كيلومترات، فيمكن عن طريق التقنية الإلكترونية المتقدمة أن نجري عمليتنا لمريض ممدد على طاولة العمليات على بعد 3000 كم! وهكذا ستحمل جراحة الغد أن الجراح سيجلس وبدون أن يلوث يديه بالدم والقيح ومخاطر التهاب الكبد الإنتاني والإيدز، يجري عمليته كما يلعب الطفل بلعبة (الأتاري)، الجراح يجلس في نيويورك والمريض في تايلاند، بل إن العالم السويسري (كريستوف بوركهاردت) الذي صمم الروبوت لوكالة ناسا لارتياد الفضاء (7) قام الآن بتطوير الروبوت الجديد للعمليات الجراحية، وتم تدشين العمليات الأولى صيف العام الفائت حيث وقف الروبوت ليفتح فتحات صغيرة في جماجم مرضى مصابين بأمراض دماغية في حالات ميؤوس منها وليقوم بمعالجتها من خلال عمل خاص يقوم به منفرداً، ويطمح العلماء إلى الوصول إلى هذا المستوى من إعطاء الروبوت بكل الداتا المطلوبة ليقوم بعمليته منفرداً، فهو على سبيل المثال يخطئ بمقدار ثلاثة من عشرة من الميليمتر، في حين ان أحسن جراحي الأمراض العصبية على فرض أن يده لن تهتز، يحمل إمكانية أن يخطئ بمقدار ميليمتر واحد، فالجهاز الحالي أدق من أفضل جراح بثلاث مرات! كما أن العملية التي يجريها أكمل وأسرع لأن (حفَّار) الجمجمة يدور أكثر من 500 دورة في الدقيقة (مثل مثقب الأسنان !) ، وينهي العملية التي يحتاجها الجراح النطاسي في ساعات مضنية تكسر الظهر مع التركيز العصبي المهلك، ينجزها الروبوت في أقل من نصف ساعة! لم تعد المسافات مهمة وتقارب الزمان، كل ما في الأمر هو التعاون الوثيق بين أصابع الجراح الرشيقة والآلة المتقنة التي أنتجتها بدورها أيضاً أنامل الإنسان المبدعة.
حقاً إنه معنى كبير في العلاقة بين الصانع والمصنوع، بين الإنسان والجهاز؛ إننا نتلمس عبقرية الإنسان حقاً كلما استطاع أن ينجز جهازاً يحقق استقلالية أكثر فأكثر عنه وبشكل عكسي، فالفرق كبير بين (مضخة الماء) التي تحتاج لليد الدائمة المرتبطة بها والتي لا تضخ الماء ما لم تدفعها يد الإنسان، أو الدراجة التي لا تمشي بدون ضغط الساق عليها، وبين الكمبيوتر الذي يبدأ عمله بكبسة زر، أو الروبوت الذي صنعه العالم السويسري لشركة (ناسا) فكلما صنع الإنسان جهازاً يستطيع أن يستقل عن الإنسان فيؤدي وظائف أكثر، كلما كان معناه زيادة في الإبداع وعظمة في عبقرية المنتج، وهذا يقودنا إلى فهم حقيقة وجودنا وتركيب أجسادنا العجيبة التي هي تنتج نفسها بنفسها ومعها جهاز الصيانة الخاص بها كما لو أن سيارة ( فرقع فيها الإطار ) فيقوم نفس الإطار بسد الثقب ولحمه ووضع الصمغ المناسب حتى يتابع سيره وكأن شيئاً لم يكن، أن هذا يحدث في اللحظة الواحدة في الجسم وبملايين المرات! نحن منحنا الوعي والإرادة والاستقلال والحرية بحيث يكون الإنسان مهندس مصيره، فهذه الاستقلالية هي من روعة الجهاز وعظمة الخالق، إن هذه القوة التي أخرجته للوجود بهذا الكيفية أعظم من ان يحوطها علم أو يصل إلى فهمها عقل هي مطلقة أزلية أبدية لا حدود لعظمتها وقدسيتها ربنا ما خلقت هذا باطلاً.
أما الانفجار العلمي الثاني والذي يحمل مخاطر مرعبة إن لم يتم تطويقه بالغلالة الأخلاقية لأن الأخلاق بذاتها هي علم، بل هي دينامية النفس السوية، وهي المشكلة التي كرس الفيلسوف الهولندي اسبينوزا كتابه الموسوم (الأخلاق مدعمة بالبرهان الهندسي) لها . فما هو يا ترى هذا الانفجار الجديد الذي حدث في خريف عام 1993م ؟ وما هي عملية الاستنساخ التي نسمع بها بين الحين والآخر؟ هذه المرة الاستنساخ الإنساني!
الاستنساخ ( CLONING ) عملية نجح فيها الطبيب الأمريكي أخصائي الأمراض النسائية (جيري هول) لأول مرة في تاريخ الطب الإنساني في أكتوبر من عام 1993 م، حيث تم الكشف أن الخلية الملقحة الأولى التي تتشكل من التحام رأس الحيوان المنوي مع البويضة في الثلث الوحشي (البعيد) من البوق، تبدأ في الانقسام الهائل بعد التشكل وهي في رحلتها في البوق التي تستمر حوالي عشرة أيام حتى الرحم كي تعشش هناك. لقد عرف أن الاختصاص في الخلايا يبدأ بعد الانقسام الرابع لأن الخلايا قبل الانقسام الرابع متشابهة، لننظر إلى عدد الخلايا وهي تنقسم (1 - 2-4-8-16-32-64-128-256-وهكذا) وعند الانقسام
(1 - 2 - 4 - 8 -) وقبل أن تصل إلى 16 خلية تتشابه الخلايا تماماً، ثم تبدأ كل مجموعة _ وحسب خطة عليا سرية _ في التشكل باتجاه معين فهذه الخلية تتكاثر لتوجد أذناً تسمع، ولكن الأذن بدورها مكونة من مجموعة معقدة من الأعضاء، فهي أذن خارجية تشكل صيوان الأذن وعظام سمعية في الداخل وأذن باطنية في تعقيد مذهل يصل إلى درجة التيه، مما جعل الأطباء يسمون القسم الداخلي من الأذن بالتيهLABYRINTH ) ) ومجموعة ثانية تذهب لتشكل الجهاز البصري الذي هو بدوره مكون من مجموعات ضخمة من الخلايا ذات الوظائف المتباينة، فالقزحية ليست مثل الصلبة والثانية ليست مثل قعر العين الذي يحوي الشبكية، التي هي مجموعة من الخلايا المنضدة فوق بعضها بعضاً في عشر طبقات تشكل الطبقة العميقة فيها مركز الإدراك البصري وهي الطبقة المعروفة بالعصي والمخاريط، والعصي بدورها مسؤولة عن النور الأبيض والضوء الخفيف وهي موزعة في المحيط أكثر، والمخاريط التي تشبه عواميد الجزر مختصة بتمييز الألوان، وتذهب مجموعة ثالثة لتكوين خلايا الجهاز المخاطي في الأمعاء ورابعة للنسيج العظمي الشديد وهكذا، أي أن تصبح هذه الخلايا المتخصصة في النهاية الإنسان الذي يسمع ويبصر ويتغذى ويتكاثر، والوظيفة الأخيرة تقوم بها أيضاً مجموعة متخصصة من الخلايا التي تحافظ على النوع وهي الخلايا الجنسية، هذه الخلايا الثماني قبل أن تنقسم مرة أخرى لتصبح 16 خلية وعندها بالضبط عرف العلماء أن واحدة منها إذا تركت شكلت إنساناً كاملاً، وإذا أخذت الخلايا السبع الباقية أمكن من كل خلية منها أن تنتج إنساناً كاملاً قائماً بذاته! بل ويمكن تجميد الخلية إلى حين واستخراجها بعد فترة لنفس عملية التصنيع المذكورة! وهكذا ففي الواقع يوجد لكل فرد منا ليس نسخة أصلية واحدة بل ثماني نسخ أصلية، بل نسخ لا تنتهي إذا نظر إلى الاستنساخ من خلال التكاثر غير الجنسي، لقد تم إنتاج حيوانات (عجول) بهذه الطريقة حيث تم توليد ثمانية نماذج متطابقة، ونجحت التجربة في المستوى الإنساني إلا أن التجربة أُوقفت لاعتبارات أخلاقية وقانونية، ونحن لا نعرف بالضبط وعلى وجه الدقة هل أُوقفت التجربة فعلاً أما أننا سنفاجأ بعد فترة بالنماذج الثمانية وهي تطل برأسها على العالم؟ وهذه الطريقة هي طريقة الاستنساخ الجنسي وهناك طريقة الاستنساخ اللاجنسي حيث يمكن توليد نماذج جديدة من أي خلية في الجسم، ولقد نجحت هذه الطريقة على الضفادع كما أوردها الدكتور عبد المحسن صالح في كتابه التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان (8) وهذا يعني أن الفرد منا قد يمكن المحافظة عليه بطريق غير مباشر بنسخة خلف نسخة؛ فمن المرأة العجوز يمكن استخراج نماذج مشابهة ولكن شابة وهكذا! يعتبر هذا الآن ضرب من الخيال العلمي ولكن المستقبل سيحمل لنا من المفاجآت ما هو أكبر من التصور وأعظم من الخيال!
والآن إلى قصة تدشين أول معالجة لمرض وراثي عند الإنسان، عن طريق إضافة الجين الناقص اجتمع حشد من الأطباء والممرضات وكأَّن على رؤوسهم الطير، في صمت مطبق وتوتر بالغ، وهم يرقبون الدكتور (ويلسون) وهو يحمل بحذر بالغ حقنة كبيرة مملوءة بـ (سائل بني) يشبه عصير الفواكه الكوكتيل. اقترب من المريضة المممدة على السرير، وهو يقول: يا سيدة (فرانسين) لا داعي للتوتر الآن فالمرحلة الصعبة قد مرت، ونحن الآن أمام إعطائك هذه الحقنة البسيطة! برز من بطن المريضة، من القسم العلوي الأيمن قثطرة متصلة بأنبوب مطاطي، فعمد الدكتور (ويلسون) بحذر إلى وصل الحقنة التي بيده ذات اللون البني، والمحتوية على الخلاصة (السحرية) بالأنبوب المطاطي، ليبدأ حقن المريضة (فرانسين) الكندية بالجرعة الأولى من (خلاياها الكبدية بالذات) والمعدلة بإدخال الجينات إليها،
بعد عدة أيام من الحقنة الثالثة كانت المريضة تشعر وكأن حياة جديدة قد دبت فيها، فهي تشعر للمرة الأولى أنها معافاة حقاً، وعندما سألها الطبيب كيف تجدين نفسك الآن؟ قالت كان مصيري الموت كأختي، إلا أنني أشعر الآن وكأنني بعثت من الأموات! (9) والآن ما هو الهام علمياً خلف هذه القصة؟ وما هو المرض الذي كانت تعاني منه؟ وما هي طبيعة هذه الحقنة الغامضة السحرية التي تم حقن المريضة فيها ولثلاث مرات؟ في أي مكان تم هذا؟ ما هي العتبة الجديدة والفضاءات المعرفية التي يرتادها العقل الإنساني الذي طَّوع الطب وآلته، لفك شفرة الوجود وسر الخلق ولغز الحياة الدفين؟
كانت السيدة ( فرانسين ) الكندية، والتي تسكن في مقاطعة ( كيبك ) ذات الأكثرية الفرنسية، مصابة بمرض فرط كولسترول الدم العائلي القاتل، FAMILIAR HYPERCHOLESTERNAEMIA - FH حيث يصل مستوى الكولسترول إلى 600 - 800 ملغ في 100 سم مكعب من الدم وهي ما تعادل ثلاث إلى أربعة أضعاف سقف ارتفاع الكولسترول عند الإنسان العادي. والمعروف عن هذا المرض أنه يؤدي إلى انسداد الأوعية الدموية المبكر، بسبب كثافة الدهن في الدم وبالتالي الموت المبكر باحتشاء القلب عند الشباب صغار السن، واعتبر الأطباء أن عمرها مسألة سنوات قليلة.
في قاعة العمليات في المستشفى الجامعي في فيلادلفيا مع الصباح الباكر كان رئيس الجراحين ( ستيفن رابر) STEVEN-RAPER ومساعده الدكتور (هانزل ستيدمان)HANSEL STEDMAN يقومون بمهمة صعبة هذه المرة في جراحة الكبد على المريضة فرنسين، حيث عليهم أن يغيروا الطريقة التقليدية في جراحة الكبد، من أجل إعطاء الدكتور ( ويلسون ) المتوتر في القاعة حصته النفيسة، من خلايا كبدية حية تذهب مبردةً مباشرةً إلى مختبره الثمين. كان على الدكتور رابر مهمة أخرى هي وضع قثطرة من نوع (HECKMAN CATHETER ) في الوريد البابي ( PORTAL VEIN ) الذي يضخ ثلاثة أرباع الدم الصاعد والمغذي للكبد.
كان الدكتور ( ويلسون ) من النوع الذي لا يطيق قاعة العمليات، أو رائحة اللحم المحترق بالكاوي الكهربائي ولغط ماكينات التخدير؛ وينتظر بفارغ الصبر كنزه الكبير ، الذي سرعان ما هرع به إلى مختبره في وعاء بلاستيكي مبرد من خلال أروقة لا تنتهي وممرات لا تحصى بين البناء الضخم للمستشفى والمختبر.
قبل خمس سنوات انطلقت الولايات المتحدة الأمريكية في مشروعٍ يعتبر أهم من مشروع (ناسا) لارتياد الفضاء، وأهم من مشروع (مانهاتن) للسلاح النووي في
(لوس آلاموس) الذي قاد الولايات المتحدة ، لتصنيع قنبلتها الذرية الأولى، هو مشروعHUMAN GENOM-PROJECT )) أي مشروع المورثات الإنسانية، لفك شيفرة الخلق الأولية، المضغوطة في قلب نواة الخلية، لمعرفة اللغة التي كتبت فيها، وفك سرها المخزون.
لقد وصل العلم إلى معرفة أن كل قطعة من تركيب بدننا، سواء شعرة أو عظماً ، جلداً أو نسيجا من العضلات، الهرمونات أو الأنزيمات، الأنسولين أو الثيروكسين أو خضاب الدم، يتكون من سلاسل طويلة أعدت بعناية فائقة وبدون أي خلل، من مجموعة هائلة من (الكلمات الأولية) التي هي (أحماض أمينية) كلها مكتوبة بلغة خاصة، تماماً مثل المقالة التي بين يديك! لقد عرف أن المبدع هنا هو كائن هش غريب الشكل، يجلس بكل رفعة على عرش نواة الخلية، إلا أنه مصغر إلى عشرات الآلاف من المرات، مضغوط في أصغر حيز ممكن، مخبأ في حرز أمين داخل نواة الخلية، وفي شكل زوجي بلغت (23) زوجاً سميت لشدة أخذها الألوان بالـ(الصبغيات)، وضمن هذه الكروموسومات أو الصبغيات، تم ضغط قرابة ثلاثة مليارات من فقرات من كلمات الخلق، بلغة سرية عجائبية لا تزيد عن أربعة حروف.
هذه الفقرات هي ما تسمى (الجينات)، والتي هي في حقيقتها أحماض أمينية مصفوفة، تشكل بعدد محدود يزيد وينقص فقرة هامة ذات معنى محدد للجسم، سواء كان بدن إنسان أو هيكل فراشة، أو قطعة من التفاح. هذه الفقرات تعطي أوامرها بواسطة مطبعة خاصة لنقل هذه الرسالة إلى البدن كي يقوم بتصنيع دائم لكل مكوناته أو التعويض عما يفقد أو ترميم ما ينهار، في عملية على مدار الساعة لا تعرف الفتور والسآمة، تسبح بحمد الله العلي الكبير. فهنا انسولين يحرق سكرا، وهنا أدرينالين ينظم الضغط، وهناك جرح يحتاج للالتئام.
وفي مريضتنا (فرانسين) عُرف أن الخلل هو في الكروموسوم ذو الرقم ( 19 ) بنقص جيني محدد على وجه الدقة، وعلى المتسلل الذكي أن يُسرب القطعة الناقصة لتلتحم بالأصل، فتبدأ في العمل للتخلص من طوفان تراكم شحم الدم.
في الليلة السابقة لنقل العصارة الرائعة، تم إغراق الخلايا الكبدية بالفيروسات المقلوبة، وفي الصباح الباكر تم غسل الخلايا من جديد من بقايا أغلفة الفيروسات المكسرة والتي انتقلت مادتها الجينية الآن إلى نواة الخلايا الكبدية، أصبحت الخلايا قد تم التلاعب بالمكونات الوراثية فيها، ويبقى أمامهم وضعها في نابذ مركزي يدور بسرعة تزيد عن ألف دورة في الدقيقة، حتى يتم طرد الخلايا الثقيلة إلى المحيط، وأخذهم بالتالي خلاصة بنية اللون للحقن. تَمَّ حقن المريضة فرانسين ثلاث مرات كل مرة بحوالي مليار خلية مُعَدَّلة الجينات، على أمل استقرار الخلايا الجديدة في النسيج الكبدي وقيامها بدورها الحيوي في تكسير بلورات الكولسترول الخطيرة في الدوران.
وإذا تمتعنا بهذه القصص السابقة في الإنجازات العلمية فإن هناك قصصاً أشد متعة في المعاناة اليومية للجراحين والتي توجب عليهم أن يتحلوا بالحكمة البالغة وهم يرون بعض الظواهر التي تدل على خلفية عقلية خاصة تحتاج إلى العلاج، ربما أكثر من الظاهرة البيولوجية المرضية لنسمع هذه القصة : اتصل بي مساعدي الدكتور مصطفى وهو مرتاع من منظر المريض الذي دخل العيادة على الكرسي المتحرك، قد بدت في محياه سمات الإنهاك، وارتسمت على قسمات وجهه قصة ألم ممض طويل، وعندما حُمل المريض إلى طاولة الفحص الطبية، بدت ركبته بمنظر مرعب من انتفاخ لا يكاد يصدق يصل إلى حجم البطيخة، قد عقل ركبة المريض عن الحركة، وبدأت القدم تدخل مرحلة الشلل. وبدأ العم (خلف) يتحدث عن قصة الأشهر الطويلة من الألم الذي لا يطاق، ثم استدار ليبرز أمكنة (الكوي) المتعددة فوق مكان الورم، حيث حفرت أخاديد بشعة من احتراق الجلد. كانت الحالة (أم دم) المعروفة (بالانورزم)ANEURYSM وهذا الحجم الذي رأيناه يصعب رؤيته في الممارسة العادية لأنه يكون في الغالب قد قضى على صاحبه. كان حظ المريض جيداً وحظ الطبيب العربي أجود، لأن مكان الكوي كان تماماً فوق مكان الورم الدموي، حيث ينبض الورم الدموي ويرقص ويعربد. وعملية (الكوي) المتكرر وفوق (القنبلة الدموية) هذه كانت حظاً نادراً، فلو انفجرت أثناء الحرق لقضى المريض نحبه بدقائق معدودة غارقاً بدمه، قبل إمكانية إيصاله إلى أقرب مستشفى.
هذه قصة ليست بالنادرة بل هي حالات تتكرر يومياً بحيث تمثل (ظاهرة) في بعض المناطق ويمكن أن اختصر تعليقي عليها بالأفكار التالية:
تقول الفكرة الأولى: إن ما نراه يشي في الواقع بأن من يعالج نفسه بهذه الصورة المريعة فيعرض نفسه للحرق الذي هو أشد الآلام طراً، إنه لولا قناعته القصوى بهذه أكثر من كل طبنا الحديث وكل هذه الفلسفات التي نطرحها في المؤتمرات العلمية! وما تحاول أن تبثه الثقافة اليومية، أقول لما لجأ للشعوذة والدجل الذي يحاول أن يأخذ صوراً مقنعة لانهاية لها، وبالتالي فإن هذا مؤشر خطير إلى مدى تفشي الخرافة وأن الواقع أقوى من كل كلماتنا التي نعتد بها ونعيدها.
وتقول الفكرة الثانية: إن العقلية الخرافية وعدم الاقتناع بكل موضة الطب الحديث هذا، وأن الثقة بالكوي (عند أول شكوى ولكل شكوى وليس آخر الدواء) هي في الأرضية الثقافية، وطالما كانت العقلية المختبئة خلف هذا النوع من القناعات في العلاج، فيجب أن نتوقع سقوطاً في مطبات لانهاية لها في سلوكياتنا اليومية، من مثل جدوى الدقة في العمل والمهارة اليدوية والانضباط والنظام والذوق الجمالي ومسؤولية الكلمة والفعالية ومعرفة قيمة الوقت واحترام القانون وروح النظافة والتعاون واحترام العمل مهما كان وتفشي روح السلامة.
وتقول الفكرة الثالثة: وهذا لا يعني أن شكل الخرافة واحد فصورها لانهائية، بل إن الدجالين موجودون في أكثر البلاد رقياً، بل وينشرون الدعاية لأسمائهم في المجلات اليومية، ولكن الشيء الأكيد بنفس الوقت أن التيار العام بما فيه التيار الشعبي العميق، والذي يمثل العمود الفقري للأمة واحتياطها التاريخي قد تخلص إلى قدر كبير من سيطرة الخرافة عندهم بفضل تفشي الروح العلمية، فضلاً عن وجود المؤسسات العلمية العريقة ذات التاريخ الطويل والتي تنظر لها القاعدة العريضة من الأمة بالاحترام.
وتقول الفكرة الرابعة: إن سيطرة العقلية الخرافية يصعد في مجتمعنا إلى مستويات عليا غير متوقعة، ولا ينحصر فقط ي دائرة الأميين فقد تجد أستاذاً في الرياضيات قد بنى نفسه على ما هو معروف بعلم (الوثاقة واليقين) ولكنه عندما يواجه موقفاً يومياً، فإنه يتصرف كأكبر خرافي، ومن خلال مناقشاتي الطويلة مع المثقفين يتأكد عندي هذا المعنى يوماً بعد يوم، وخطورة هذا الموضوع أنه يُلبَّس بتفسيرات معينة، بل قد تستخدم نصوص وفقرات من هنا وهناك لدعمه، والمشكلة الفلسفية القديمة الحديثة هي أن أي نص لا ينطق، والذي يستنطقه هو الفهم الإنساني وبقدر عمق الفهم الإنساني، بقدر عمق إدراك أي نص، بل إدراك الوجود كله. فالنص والفقرات لا تشع بالمعنى بل هي تعكس المعنى، وقد انتبه إلى ذلك الإمام الغزالي قديماً حينما ذكر في كتابه المستصفى من أصول الفقه ((أن من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك، وكان كمن يستدبر المغرب وهو يطلبه، ومن قرر المعاني أولاً ثم أتبع الألفاظ المعاني فقد نجا)) (10)
وتقول الفكرة الخامسة: إن عملية أي إصلاح اجتماعية يجب أن تتبع شروط نقل الدم وزرع الأعضاء، لأن بعض الاستعصاءات العقلية هي أشد من انسدادات الشرايين المزمنة، بل إن الدم إذا لم ينقل وفق زمرته تماماً فإن الجسم يرفضه ويفضل الموت على الترحيب به، وإن الجسم الذي هو بأمس الحاجة للكلية وهو مصاب بالقصور الكلوي يرفض العضو إن لم يقدم وفق الشروط التي يريدها ويرحب بها الجسم، لذا يجب أن نتعلم احترام الإنسان حتى لو كان خرافياً غاطساً في الخرافة ويظن أن الكرة الأرضية جالسة على ظهر سلحفاة، فاحترام الإنسان هي أهم قاعدة في تغييره، لأننا يجب أن نحبه من خلال الاحترام من أجل فتح الحوار معه تمهيداً للتغيير العقلي الذي هو الولادة الجديدة للإنسان.
لقد أدخل طفل صغير إلى المستشفى بسبب لدغ ثعبان له، إلا أنه كان عندما يرانا يصرخ بأشد من خوفه من الثعبان، لأن أمه قد كونت فيه الخوف من الطبيب، فإذا أرادت تخويفه قالت له: هل تسكت أم أحضر لك الطبيب ليضربك إبرة ؟ فيسكت الطفل تحت خوف إبرة الطبيب المرعبة! هل نعلم يا ترى أن ثقافة الرعب تأخذ مداها عندنا في كل مستوى ونتشرب هذه الثقافة المريضة منذ أن نكون أطفالا. إن الطفل الذي لدغه الثعبان يجب أن يعالج بنفس الأهمية من الصدمة النفسية المزدوجة من الخوف من الثعابين والأطباء على حد سواء.
هوامش ومراجع 1 ) قدمت مجلة الشبيجل الألمانية تقريراً موسعاً في عددها رقم 34 من عام 1994م عن هذا الموضوع ( 2 ) دشنها الدكتور جيري هول أكتوبر 1993م في أمريكا ( 3 ) دشنها الدكتور ويلسون في المشفى الجامعي في فيلادلفيا من ولاية بنسلفانيا فبراير شباط من هذا العام 1994م ( 4 ) في كتاب العبقرية والإبداع من كتب عالم المعرفة يشير المؤلف إلى أن معظم المبدعين جاءوا من خارج التخصص لأناس عشقوا المادة واهتموا بهذا الفرع من المعرفة وفي سن مبكرة .( 5 ) روى لي زميلي الدكتور ( نشأت عساف ) استشاري أمراض النساء والولادة، الذي زاره في مركز عمله في ألمانيا واستمع إلى محاضرته في جدة عندما زار المملكة وذكر أثناء محاضرته: أرجو أن لا تتعجبوا وتسخروا مني كما فعل الأطباء البريطانيون هل ستجري عملية قيصرية بهذه الطريقة ؟! ( 6 ) تأمل الآية الموجودة في سورة النساء رقم 100 (( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة )) ( 7 ) الدكتور كريستوف بوركهاردت وقصته رويت بالتفصيل في مجلة الشبيجل الألمانية عدد 34 عام 1994 . ( 8 ) ( ) كتاب التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان تأليف د . عبد المحسن صالح نشر كتب عالم المعرفة - الكويت عدد 48 ص \ 246 . ( 9 ) مجلة الشبيجل الألمانية عدد 19 عام 1994م ص 231 ( 10 ) يراجع كتاب المستصفى من أصول الفقه - الغزالي - الجزء الثاني ص 21.