عبدالوهاب محمد الجبوري
السومريون واللغة السومرية – دراسة علمية
المقدمة
بعد أن تعددت أنشطته اليومية وازدادت التجمعات السكانية ، كان على العراقي القديم أن يتبنى وسيلة ثابتة للتعبير عن أفكاره ولتسجيل أحداث حياته اليومية ..وليس من شك في أن الإنسان ظل لفترة طويلة يتعامل بوسائل مؤقتة للتعبير عن الفكرة ، ولعل من أبرزها استخدام الإشارات المتبادلة لتحقيق التفاهم بين الأفراد والجماعات ..
وجاء اختراع الكتابة تعبيرا عن الاستقرار المادي والمعنوي وتعبيرا عنان هذا الإنسان كان مهيئا للنهوض بأعباء هذه الخطوة البارزة على طريق حضارته الرائدة .. ثم هي تعبير عن أن البيئة التي عاش الإنسان العراقي القديم في رحابها قد ساعدت على تحقيق الاستقرار له ، ذلك الاستقرار الذي افرز الكثير من الإبداعات ، فالمناخ المناسب المستقر إلى حد كبير والأرض المستوية – خاصة في جنوب العراق – ونهري دجلة والفرات الخالدين ، فضلا عن الأنهار الأخرى العديدة التي تمر في أراضي بلاد الر افدين ، وهي النهار التي حققت الرفاه والخير للبلاد منذ أن خلقها الله ، كل هذه العوامل وغيرها دفعت العراقي القديم إلى استثمار مقومات النهوض ببلده وتحقيق الأهداف التي ينشدها ..
تتسم اللغة السومرية بشخصية متميزة ، هي استمرار لتميز بلاد الر افدين ارضا وشعبا ، وهي – واللغات الأخرى التي تعايشت معها أو تلتها تاريخيا - تمثل هذا التميز اللغوي في احتفاظها بمبادئ نحو وصرف اختلفت بها عن غيرها من لغات العالم القديم .. ورغم هذا التميز ، ولان بلاد الرافدين كانت حضاراتها من أقدم الحضارات وأكثرها شمولية ولانها ايضا كانت عضوا في جسد الشرق القديم وذات صلات متفاوتة مع مناطق العالم القديم شرقا وغربا ، وبحكم الانفتاح الاقتصادي الناتج عن علاقات تجارية أو عسكرية للعراق القديم مع جيرانه ، كان لابد أن تدخل اللغة السومرية – ومعها – اللغة الاكدية بفرعيها البابلية والأشورية – في دائرة التأثير المتبادل ومن ثم فقد تضمنت قواعد ومفردات تشير إلى قيام علاقات قوية مع جيران العراق ودول العالم القديم الأخرى من اصحاب المجموعة السامية ( العاربة اوالجزرية ) أو اللغات الأخرى شمال البلاد وشرقها وغربها وجنوبها ..
وليس هذا مجال البحث في أصول اللغة السومرية ، وعما إذا كانت حامية أو سامية الأصل ، فاللغة السومرية – كما أسلفنا – لها شخصيتها المتميزة النابعة من شخصية العراقي القديم وتراب أرضه ، ولكنها ككل لغة كان لابد وان يحدث التقارب والتفاعل بينها وبين لغات أخرى للشعوب المجاورة ، ولا يعيب هذه اللغة أو تلك أن تأخذ من غيرها ما يمكن أن يثريها ويحقق لها التكامل ، طالما احتفظت بخصائصها الأصلية ..
لغات العراق القديم
وفي العراق تشير المكتشفات الأثرية التي تمت في عدد من الكهوف والمغاور في القسم الشمالي منه ، إلى أن الإنسان عاش فيه منذ فترة موغلة في القدم تسبق تاريخ ابتداع الكتابة بعشرات الآلاف من السنين .. ومن البدهي انه استخدم خلال تلك العصور الطويلة لغة أو لغات تفاهم بها مع أخيه الإنسان ، إلا أن معلوماتنا عن تلك اللغة أو اللغات قليلة ، ومازال البحث والاستكشاف جاريا لمعرفة المزيد عنها .. وان جل ما نعرفه عن لغة السكان القدماء هو مفردات لغوية وتسميات جغرافية عن اللغات المعروفة التي ظلت مستخدمة في لغات المنطقة كاللغة السومرية واللغة الاكدية ،مما يشير إلى أن تلك المفردات والتسميات تنتمي إلى لغة السكان في العصور السابقة لتاريخ ابتداع الكتابة وسيلة للتدوين ، ولعل من ابرز تلك
التسميات اسم مدينة آشور الذي ورد في النصوص المسمارية على هيئة بال – تيل
Bal. Til وربما كذلك اسم بابل Babil و اربيل Erbil ..
السومريون
يعد السومريون في تاريخ بلاد وادي الر افدين من أقدم الشعوب العريقة التي استطاعت وضع لبنات الحضارة الأولى في القسم الجنوبي من العراق القديم الذي عرف ببلاد سومر ... وما يزال شان السومريين ودورهم في التاريخ القديم يتعاظم باستمرار كلما استجدت مكتشفات أثرية واستظهرت نصوص سومرية جديدة لتسلط الأضواء مرة بعد أخرى على جوانب مشرقة من منجزاتهم الحضارية ودورهم في أغناء الشعوب بالمعرفة في مختلف جوانب الحياة اليومية .. وقد اختلف العلماء في أصل السومريين وهناك من قال أنهم قدموا إلى جنوب العراق من مناطق قريبة أو أخرى بعيدة إلى غيرها من الآراء ..
فهذه الآراء مما قيل بخصوص أصل السومريين بقيت في نطاق التخمين والافتراض ولم يحظ أي منها في يوم من الأيام بقبول الأغلبية من علماء الآثار ..
وفي اعتقادنا انه ليس هناك ما يبرر الافتراض القائل بهجرة السومريين من بلد آخر إلى جنوب وادي الرافدين .. صحيح أن هناك خصائص أو عناصر مميزة للحضارة السومرية لكن هذا لا يعني بالضرورة أن تلك العناصر جاء بها السومريون معهم من خارج العراق ، والشيء المنطقي هو أن نفترض بان هذه العناصر المميزة للحضارة السومرية التي نشاهدها في عصر الوركاء ( 3500 – 3000 ق . م ) عبارة عن نتيجة وامتداد طبيعيين لمدنيات عصور ما قبل التاريخ الأخرى التي سبقت هذا العصر مثل حسونة وسامراء وحَلَف في شمال العراق والعبيد في الجنوب .. بمعنى أننا نرى في السومريين امتدادا لأقوام عصور ما قبل التاريخ في وادي الر افدين وأنهم انحدروا من شمال العراق إلى الجنوب واستوطنوا في منطقة كانت على الأرجح تعرف باسم سومر والتي عرف السومريون باسمها في العصور التاريخية اللاحقة ..
اللغة السومرية
تمثل العلامات الصورية على الألواح الطينية المكتشفة في مدينة الوركاء ، الطبقة الرابعة أ ، أقدم محاولات الإنسان العراقي القديم في الكتابة وتدوين اللغة ونقلها إلى الغير .. ( وهناك من يرى بان علامات هذه الألواح لا تمثل أقدم الكتابات بل كان كاتبوها ، وهم من السومريين قد استخدموا نظاما كتابيا كان موجودا أصلا إلا انه من صنع حضارة مبكرة مفقودة حتى الآن ) .. ويرقى تاريخ هذه الألواح إلى الفترة ( 3500 – 3200 ق. م) أما أقدم الألواح التي تحمل علامات كتابية أمكن التعرف على لغة كاتبيها فتمثلها الألواح المكتشفة في كل من الوركاء ( الطبقة الثانية والثالثة ) وجمدة نصر والعقير التي يرقى تاريخها التقريبي إلى دور جمدة نصر الذي أعقب دور الوركاء .. ولقد تمكن الباحثون بعد محاولات عدة تحديد لغة علامات هذه الألواح باللغة السومرية التي ظلت بالاستخدام في الفترة التالية وطوال الألف الثالث قبل الميلاد وما بعده .. ويؤكد علماء اللغة العرب والأجانب أن اللغة السومرية هي أقدم اللغات العراقية القديمة من حيث تاريخ التدوين ، بل أنها أقدم اللغات البشرية المعروفة التي وجدت طريقها للتدوين وتليها اللغة الاكدية واللغة المصرية القديمة ، حيث عرفت الكتابة الهيروغليفية في مصر في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد ، أي بعد ابتداع الكتابة في القسم الجنوبي من العراق بمدة من الزمن قدرها بعض الباحثين بعدة قرون أو قرنين عل أرجح الآراء .. واللغة السومرية هي لغة الأقوام السومرية التي استقرت في جنوب العراق وبرزت على المسرح التاريخي والسياسي طوال الألف الثالث قبل الميلاد .. ومن العلماء الأجانب الذين اهتموا بدراسة هذه اللغة هو العالم ( هنكس ) الذي ألقى محاضرة عن هذه اللغة عام 1850 أمام الجمعية الانكليزية لتطوير العلم والعالم الانكليزي (رولنصون ) الذي وجد عام 1852 من خلال دراسته لبعض النصوص المسمارية المكتشفة في نينوى ، أن هناك جداول مسمارية ثنائية اللغة تضم مفردات بابلية والى جانبها ما يقابلها بلغة أخرى جديدة تماما لا علاقة لها باللغة البابلية أو الأشورية وقد أطلق ( رولنصون ) على هذه اللغة اسم اللغة الاكدية .. كما أشار بعد ذلك إلى أن هناك نصوصا مسمارية كشف عنها في بابل وهي مدونة باللغة الجديدة التي أطلق عليها اللغة الاكدية وخلص إلى الافتراض بان السيئيين البابليين ، أو الاكديين ، هم الذين اخترعوا الكتابة المسمارية وهم الذين أسسوا المدن والمعابد الأولى .. وهكذا تمكن ( رولنصون ) من اكتشاف حقيقة وجود السومريين ولغتهم إلا انه سماهم باسم آخر غير اسمهم الحقيقي ..
وفي عام 1869 ألقى العالم ( يوليس اوبرت ) محاضرة أعلن فيها بأنه ينبغي أن يسمى هؤلاء الناس الذين سماهم ( رولنصون ) بالسيئيين البابليين او الاكديين بالسومريين وتسمى لغتهم بالسومرية استنادا إلى ما جاء في لقب ( ملك سومر وأكد ) الذي استخدمه عدد من الحكام الأوائل ، كما أشار ( اوبرت ) إلى الشبه الموجود بين اللغة السومرية واللغة التركية والفنلندية والهنغارية ..
ومع أن التسمية التي اقترحها ( اوبرت ) كانت دقيقة وصحيحة ، كما أثبتت فيما بعد ، فانه لم يأخذ بها بعض العلماء في حينه واستمر استخدام مصطلح اللغة الاكدية للإشارة إلى اللغة السومرية لفترة ليست بالقصيرة .. بل أن احد علماء اليهود ، وهو ( جوزيف هاليفي ) أنكر وجود الشعب السومري واللغة السومرية أصلا على الرغم من وجود الأدلة العلمية والمادية المتوفرة ونشر مقالات متتابعة حول نظريته غير العلمية هذه وقال بان ما يعرف باللغة السومرية ما هو في الواقع إلا من ابتداع الكهنة البابليين .. وقد أيده في رأيه هذا بعض علماء الأشوريات ، ثم تبين خطا هذا الرأي وبعده عن الواقع التاريخي .. ولعل السبب في هذا التضليل اليهودي راجع إلى اعتبار الكثير من علماء اليهود أن اللغة العبرية هي اللغة الأقدم في العالم وان ادم تكلم بها .. ( ولنا دراسة عن هذا الموضوع وتفنيد هذا الرأي علميا وتاريخيا وماديا إن شاء الله ) ..
وكان من نتائج التنقيب في أهم المدن السومرية ، مثل مدينة لكش ونفر وأور ( بلد أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام ) أن تم الكشف عن المئات من النصوص المسمارية المدونة باللغة السومرية ، وبدأت الدراسات العلمية عن اللغة السومرية معتمدة على هذه النصوص وعلى النصوص ثنائية اللغة المكتشفة في مدينة نينوى ، ومنذ مطلع القرن العشرين ظهرت بحوث عدة عن قواعد اللغة السومرية وخواصها وسماتها ..
وهناك مسالة مهمة نشير إليها وهي أن الدراسات اللغوية التي تمت عن اللغة السومرية
تؤكد أنها لغة منفردة لا تشبه الاكدية ولا غيرها من اللغات المحلية المعاصرة أو التالية لها سواء في التراكيب أم القواعد أم المفردات أم حتى الأصوات .. وتشير هذه الدراسات أيضا إلى أن اللغة السومرية لا تنتمي إلى أي من العائلات اللغوية المعروفة كاللغة التركية والهنغارية والقوقاسية إلا أن هذا الشبه لا يرقى إلى درجة القرابة أو الانتماء إلى عائلة لغوية واحدة ..
ولعل من الممكن القول أن اللغة السومرية تنتمي إلى عائلة لغوية قديمة انقرضت جميع لغاتها من الاستخدام ، باستثناء اللغة السومرية ، وذلك قبل أن تخترع الكتابة وسيلة للتدوين ولحفظ اللغات للأجيال التالية .. لذلك فلا سبيل إلى معرفة أفراد تلك العائلة اللغوية وخصائصها لعدم توفر الأدلة العلمية والمادية عنها ..
مراحل اللغة السومرية
كان اول استخدام اللغة السومرية للتدوين منذ الألف الرابع قبل الميلاد – كما مر ذكره - إلا أن اللغة السومرية لابد أن كانت في الاستخدام قبل هذا التاريخ بفترة معينة تتزامن وتاريخ استقرار السومريين في جنوب العراق .. وخلال النصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد وحتى قيام المملكة الاكدية ( 2371 ق . م ) كانت السومرية هي اللغة الرئيسة السائدة على النطاق الشعبي والرسمي ولغة المكاتبات الرسمية والشخصية والدينية ، وقد جاءتنا آلاف من النصوص المسمارية المدونة خلال تلك الفترة تضمنت مختلف المواضيع فمنها الوثائق الإدارية والاقتصادية والنصوص الملكية والكتابات الأدبية كالترانيم والرقي والصلوات والشرائع القانونية والقرارات القضائية والأمثال والأساطير وغيرها .. ثم بدا استخدام الاكدية إلى جانب السومرية مع مجيء الأقوام الاكدية في فترة غير معروفة على وجه الدقة .. إلا أن الانتقال من اللغة السومرية إلى الاكدية بدا بعد تأسيس المملكة الاكدية وأصبحت اللغة الرسمية في البلاد هي اللغة الاكدية إلى جانب السومرية ..
ولما طرا على اللغة السومرية تغييرات عبر العصور التي مرت بها واختلاف اللغة المدونة حسب الفترات الزمنية التي تعود إليها النصوص المكتشفة ، وان كان الاختلاف بسيطا ، فقد ميز الباحثون عددا من المراحل التي مرت بها اللغة السومرية استنادا إلى النصوص المكتشفة وحسبما يأتي :
1 . المرحلة السحيقة ( 3500 – 2600 ق. م) ومعظم هذه نصوص هذه الفترة مقتضب وبسيط وذو طابع اقتصادي ..
2 . مرحلة العصر السومري القديم ( 2600 – 2350 ق. م ) عثر على نصوص هذه المرحلة في مدينة لكش ( تقرا الكاف كالجيم المصرية ) بالدرجة الأولى وبعض المدن السومرية الأخرى وجلها نصوص اقتصادية وكتابات ملكية ...
3 . المرحلة السرجونية والكوتية ( 2350 – 2150 ق. م ) ونصوص هذه الفترة قليلة ولا سيما الفترة الكوتية ..
4 . مرحلة العصر السومري الحديث ( 2150 – 2000 ق. م ) ومعظم نصوص هذه الفترة التي تميزت بسيادة الأقوام السومرية في عهد سلالة أور الثالثة جاءتنا من مدينة لكش واوما وأور وغالبيتها نصوص اقتصادية وبعض النصوص القانونية .. وفضلا عن ذلك خلفت لنا هذه الفترة نصوصا قانونية وأدبية كثيرة بعضها مستنسخ في فترة العهد البابلي القديم ..
5 . مرحلة العهد البابلي القديم ( 2000 – 1600 ق. م ) وهناك أكثر من مرحلتين من مراحل اللغة السومرية خلال هذه الفترة ..
6 . مرحلة ما بعد العهد البابلي القديم ( 1600 – 1000 ق . م ) ومعظم نصوص هذه المرحلة عبارة عن استنساخات لنصوص سومرية من الفترات السابقة وكذلك بعض النصوص الملكية الكشية وبعض النتاجات الأدبية الكشية ولغة هذه النصوص متأثرة باللغة الاكدية ..
الخط السومري وتطوره
تعد ألواح الطين المكتوبة والتي عثر عليها في الطبقة الرابعة من مدينة الوركاء من أقدم النماذج المكتشفة لحد الآن .. وقد شاع استعمال مصطلح الكتابة المســمارية للدلالة على الخط المستعمل في بلاد وادي الرافدين ..
هنا نشير إلى حقيقة مهمة وهي أن مصطلح الخط المسماري يمكن إطلاقه على الكتابة في مراحلها المتطورة .. فظهور الكتابة في بلاد سومر إنما يرجع بالدرجة الأولى إلى الحاجة الملحة لوجود وسيلة لحفظ سجلات بواردات المعبد المتزايدة وبمدخولات دويلة المدن السومرية التي أصبح اقتصادها في نمو مستمر .. وقد سميت الحقبة التي شهدت ظهور الكتابة في مراحلها الأولى ب( الدور الشبيه بالكتابي ) وهو دور يتميز بكون الكتابة في أطوارها الأولى ومحدودة في استعمالها وانتشارها ..
وقد مرت الكتابة في هذا الدور( شبه الكتابي ) باطوار مهمة هي كالأتي :
الطور الصوري : أي التعبير عن الشيء برسم صورته ..
الطور الرمزي : أي استنباط معان جانبية من صورة الأصل كاستخدام العلامة الدالة على الشمس للتعبير عن معان مشتقة منها مثل ( لامع ، ساطع ، مشرق ...) وبالمثل للتعبير عن كلمة ( يوم ) لان شروق الشمس وغروبها يمثلان يوما ..
الطور الصوتي : وفيه استخدمت العلامة ليس من اجل معناها الصوري أو الرمزي وإنما من اجل صوتها .. وبهذه الوسيلة أمكن كتابة أسماء الأعلام والأشياء على هيئة مقاطع صوتية .. وقد صاحبت هذه التغييرات في مدلول العلامات تغيرات في الشكل أيضا ..إذ أخذت العلامات تفقد شكلها الصوري بصورة تدريجية نتيجة عوامل عديدة لعل من أبرزها أن المادة المستعملة للكتابة وهي الطين غير ملائمة لرسم صور الأشياء ، لكنها ملائمة جدا لكتابة العلامات بشكل خطوط مستقيمة وذلك بضغط رأس القلم قليلا على وجه الرقيم .. وبذلك صارت العلامات تتكون من خطوط مستقيمة أفقية وعمودية ومن زوايا مائلة ..
كما أن القلم المثلث أعطى هذه الخطوط رؤوسا تشبه المسامير .. وقد بلغ عدد العلامات في العصور الأولى من تاريخ الكتابة ما يزيد عن 3000 علامة ، لكنها لم تلبث أن اختزلت بمرور الزمن حتى أصبحت في نهاية عصر فجر السلالات الثاني ( 2600 ق . م ) في حدود 800 علامة فقط ..
كان الطين مادة الكتابة الأساسية في بلاد الرافدين ، وقد كُتبت على الحجر وعلى مواد أخرى ، وكان السومريون في جنوبي العراق أول من استنبط هذا النمط من الكتابة ، بدليل أقدم النصوص الكتابية التي وصلتنا لحد الآن مدونة باللغة السومرية .. ولم تلبث الكتابة في القرون اللاحقة أن انتشرت وتعارف النسّاخ السومريون على أشكالها وقيمها الصوتية والرمزية ..
انتشار الخط المسماري
من المعروف ان الخط المسماري انتشر خارج حدود بلاد الرافدين في عصر مبكر وكان انتشاره وشيوع استعماله في البلدان القديمة من الوطن العربي قد اوجد رباطا وثيقا كانت له نتائجه المهمة في انتقال كثير من المفاهيم والمعتقدات الدينية والنتاجات الأدبية والثقافية ...
ولا نكون مغالين إذا قلنا أن أعظم انجاز حضاري قدمته بلاد الرافدين في تاريخها القديم ، أفادت منه شعوب الشرق الأدنى القديم هو الخط المسماري الذي كان من أقدم وسائل التدوين التي توصل إليها الإنسان للحفاظ على تاريخه وتراثه ومنجزاته ، والذي بقي في الاستعمال عبر مسيرة طويلة من الزمن تزيد على ثلاثة آلاف سنة ..
وانتشر الخط المسماري في عيلام ( ايران ) حتى أن الخط العيلامي القديم إنما ظهر بتأثير الخط المسماري الذي اخترعه السومريون في جنوب وادي الرافدين .. والى الغرب من العراق كشفت البعثة الايطالية العاملة في مدينة إبلا ( تل مرديخ ) في شمالي سوريا عن بضعة آلاف من رقم الطين مدونة بالخط المسماري يعود تاريخها إلى عصر فجر السلالات الثالث أي إلى حدود ( 2450 – 2400 ق . م ) وهي تشمل نصوصا اقتصادية وإدارية بالإضافة إلى معاجم لغوية ..
كما انتشر الخط المسماري من بلاد آشور إلى آسيا الصغرى في مستهل الألف الثاني قبل الميلاد ( في حدود 1950 ) بدليل العثور على ما يزيد على ثلاثة آلاف رقيم مسماري في المستعمرة التجارية الأشورية التي كشفت عنها التنقيبات في مدينة كول تبه ( كانش ) في الأراضي التركية ..
وصار الخط المسماري وسيلة التدوين المتعارف عليها في منطقة واسعة من الشرق الأدنى القديم وخاصة في الأراضي السورية والفلسطينية كما تدل على ذلك الوثائق المسمارية المكتشفة في ماري ( تل الحريري ) التي سلطت الأضواء على العلاقات بين دول المنطقة في الحقبة الزمنية المعروفة بالعصر البابلي القديم ، أي ابتداء من 1800 ق . م ..
وفي القرون اللاحقة شاع استعمال الخط المسماري في المنطقة بشكل أوسع من أي وقت مضى حيث استعملته شعوب أخرى من غير الاموريين مثل الحثيين في الأناضول والخوريين والميتانيين في شمال سوريا .. وفي حدود 1400 ق .م أصبح الخط المسماري وسيلة التدوين للوثائق الدبلوماسية المتبادلة بين ملوك وأمراء وحكام العراق وسوريا وفلسطين ومصر كما ثبت ذلك من رسائل تل العمارنة ..
وكان الاوراتو في أرمينيا الذين استخدموا الخط المسماري في كتابة لغتهم في النصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد ، آخر الأقوام التي استعارت الخط المسماري من بلاد وادي الرافدين ..
فك الخط المسماري
وتم فك رموز الخط المسماري في القرن التاسع عشر وبذلك تسنى للعلماء قراءة النصوص الإدارية والرياضية والتاريخية والفلكية والمدرسية والطلاسم والملاحم والرسائل والقواميس المسمارية ، ويوجد حوالي 130000 لوح طيني من بلاد الرافدين في المتحف البريطاني .. وكانت الكتابة المسمارية لها قواعدها قبل سنة 3000 ق.م. إبان العصر السومري حيث انتشر استعمالها ، فدون السومريون بها السجلات الرسمية وأعمال وتاريخ الملوك والأمراء و الشؤون الحياتية العامة كالمعاملات التجارية والأحوال الشخصية والمراسلات والآداب والأساطير و النصوص المسمارية القديمة و الشؤون الدينية والعبادات ، وأيام حكم الملك حمورابي (1728 – 1686ق.م.) وضع شريعة واحدة تسري أحكامها في جميع أنحاء مملكة بابل ، وهذه الشريعة عرفت بقانون حمورابي أو مسلّة حمورابي الذي كان يضم القانون المدني والأحوال الشخصية وقانون العقوبات .. وفي عصره دونت العلوم ، فانتقلت الحضارة من بلاد الرافدين في العصر البابلي القديم إلى جميع أنحاء المشرق وإلى أطراف العالم القديم . .
وكان الملك آشوربانيبال( 668 - 626ق.م.) من أكثر ملوك العهد الآشوري ثقافة ، فجمع الكتب من أنحاء البلاد وخزنها في دار كتب خاصة شيّدها في عاصمته نينوى ، وكان البابليون والسومريون والآشوريون بالعراق يصنعون من عجينة الصلصال Kaolin مسحوق الكاولين ألواحهم الطينية الشهيرة التي كانوا يكتبون عليها بآلة مدببة من البوص بلغتهم السومرية فيخدشون بها اللوح وهو لين ، بعدها تحرق هذه الألواح لتتصلب. .
سمات اللغة السومرية
1 . تعتبر اللغة السومرية لغة ملصقة ،ويقصد بالإلصاق هنا قابلية تكوين ألفاظ ذات معان جديدة بلصق كلمتين أو أكثر مع بعضهما البعض ( تتكون كلمة لوكال : ملك أو الرجل العظيم من الكلمتين لو بمعنى رجل وكال بمعنى عظيم ) ..
2 . السومرية لغة غير قابلة للتصريف ، أي أنها ليست من اللغات المعربة ،كما هي اللغات السامية ( أو العاربة أو الجزرية ) واللغات الهندية – الأوربية ،وجذورها بصورة عامة لا تتغير .. إنما وحدتها القواعدية الأساسية فهمي المركب اللفظي وليس الكلمة المفردة ..
3 . أصوات اللغة السومرية ، أي حروفها ، تتألف من حروف علة وأخرى صحيحة .. ومن قواعدها الصوتية إسقاط الحرف الصحيح إن هو جاء في نهاية الكلمة ولم تتبعه أداة نحوية تبدأ بحرف علة .. أما إذا أعقبته أداة نحوية تبدأ بحرف علة فيتكون من الحرف الصحيح وحرف العلة مقطع صوتي جديد ..
4 . تتألف الجذور السومرية بصورة عامة من مقطع واحد وان كان هناك بعض الجذور المؤلفة من اكثر من مقطع واحد ، وتتألف كثير من المفردات السومرية من أكثر من كلمة واحدة حيث تتصف اللغة السومرية بصفة التركيب أو الإلصاق ..
5 . لا تفرق اللغة السومرية بين الاسم المذكر والمؤنث قواعديا إلا إذا كانت طبيعة الاسم مذكرة أو مؤنثة ، وقد تضاف أداة خاصة لتحديد جنس الاسم في حين أن هناك تفريقا واضحا بين العاقل وغير العاقل من الأسماء يتبع غالبا واقع الأمر وحقيقة الاسم ... أما العدد فليس هناك سوى المفرد والجمع وقد يُضعّف الجذر للإشارة إلى الجمع أو تضاف أداة نحوية خاصة بالجمع ..
6 . والفعل في السومرية نوعان أصلي ومركب ،والفعل بصورة عامة على ثلاثة أنواع هي : المتعدي واللازم والمبني للمجهول ،وللفعل زمنان ماض ومضارع فضلا عن صيغة الأمر ..
7 . والصفات في السومرية قليلة وغالبا ما يستعاض عنها بتعابير في حالة الإضافة وقلما تستعمل الصلات وأدوات العطف بل توضع الكلمات بعضها إلى جانب بعض دون رابط ..
8 . أما الجملة السومرية فتتألف من جزأين رئيسيين يضم الأول جملة الاسم والثاني الفعل وسوابقه وحشواته وملحقاته ،وتأتي وحدة الفعل عادة في نهاية الجملة ، وقد أثرت هذه الحقيقة بالذات على الفعل في اللغة الاكدية فجاء غالبا في نهاية الجملة خلافا للأسلوب المتبع في بقية اللغات السامية ( العاربة ) ..
9 . وتزخر اللغة السومرية بالمفردات الدخيلة الاكدية منها التي دخلت السومرية منذ فترة مبكرة ومنها ما يعود إلى تراث الفراتيين الأوائل اللغوي ..
ملاحظة مهمة
( لغة الفراتيين الأوائل .. يقول الباحث لاند بركر أن السومريين لم يكونوا أول من عاش في ارض جنوب العراق بل سبقهم أقوام أخرى لا تزال هويتهم العرقية مجهولة لدينا غير انه يمكن التأكد من وجودهم من خلال آثارهم المادية التي عرفت بآثار دور العُبيد .. ولذا فان اللغة السومرية لم تكن أول اللغات المستخدمة في هذا الجزء من العراق القديم بل سبقتها لغة سكان دور العبيد وانه بالإمكان تتبع بقايا تلك اللغة وتشخيصها من خلال دراسة النصوص السومرية والاكدية .. وقد اصطلح لاندبركر على تسمية سكان دور العبيد باسم الفراتيين الأوائل لان مســـــتوطناتهم الأولى كانت على أطراف نهر الفرات ونسب تراثهم اللغوي إلى ذلك أيضا ) ..
***********
مراجع مستفاد منها في إعداد الدراسة
1 . الأستاذ الدكتور عامر سليمان ، أستاذ اللغة الاكدية في جامعة الموصل ، كتاب اللغة الاكدية ( البابلية – الأشورية ) دار ابن الأثير للطباعة والنشر – جامعة الموصل / 2005
2 . الدكتور فاضل عبدالواحد علي ، أستاذ السومريات في جامعة بغداد ، دراسة عن السومريين والاكديين ، كتاب العراق في التاريخ ، دار الحرية للطباعة ، بغداد 1983 .
3 . الدكتور فاضل عبدالواحد علي ، حضارة بلاد الرافدين ، أصالتها وتأثيرها في بلدان الشرق الادنى القديم ، العراق في التاريخ ، دار الحرية للطباعة ، بغداد 1983 ..
4 . جورج رو ، العراق القديم ، ترجمة حسين علوان حسين ، منشورات وزارة الثقافة والإعلام العراقية – سلسلة الكتب المترجمة ، دار الحرية للطباعة – بغداد 1984
5 . معلومات شخصية