ظِلُّ رَجُلٍ
... لم يكن بالنسبة إليها في يوم من الأيام غير خاتم في أصبع قريب، تعبث بمشاعره وأحاسيسه في كل وقت دون أن تأبه بأي رقيب، وذات الشمال وذات اليمين تدير أفكاره بشكل غريب، ولما يبديه من رأي أو اقتراح في كل حين لا تستجيب، فهي المصدر والمرجع إذا سمحت له بالتحدث في حشد من الناس أو في جمع من ذوي قرباه وهو القارئ النجيب، وكل لفظ يجري على لسانه هو لها وفي ظنها عجيب، إذ لم تدع له سلطاناً على اختيار أي تعبير من معجمه المهمل الجذيب، ولم تترك له سوى النطق بما لقنته من كلمات وعبارات تبعثه على النحيب...
لا يملك في الغالب من أمر حركاته وشأن سكناته شيئاً وهي عليه حسيب، سواء في حضورها السائد أم في حال غيابها النادر الذي لا تستطيب، فهي منذ أن اقترنت به تأمره ليسمع ويطيع بصدر رحيب، ولم تسمح له قط إلا بما يوافق أهواءها ويرضي عبثها، ولها الحظ كله في السخرية منه وفي ازدرائه لها تمام النصيب، حتى إنها تدعوه إلى حبِّ ما يكره فلا يمتنع ويجيب، وتبعثه على كره ما يحب فيلبي ويستجيب...
ثم إنها تجتهد في إظهاره أمام ذويه وذويها وأمام كل من تصادفهم بالخادم المطيع المجيب، ولا تفلت أي موقف لتسخر منه أمام الناس بكل لفظ أو إشارة تصيب، وتغتنم أي فرصة تجدها سانحة لتحط من قدره على مرأى ومسمع منهم وهو في الظاهر جذلان وفي الباطن كئيب، وفي ذات المواقف والفرص التي تتاح لها لا تتردد في لفت الأنظار سريعاً إلى حركاتها بسهام لا تخيب، ولا تحجم عن استدراج الأسماع حثيثاً إلى حديثها الذي تصفه بالخصيب، ولسان حالها يفصح عن رياءٍ جلي وتدليسٍ ظاهر على النبيه لا يغيب، ولا يبين إلا عن نصْب واضح المَشيب، واحتيالٍ مكشوف سرعان ما يغيب، على الرغم من أنها تعلم في قرارة نفسها علم اليقين عدم انطلاء تمويهاتها على الصغير قبل الكبير وبالأحرى على الفطن الأريب، وأن لا أحد سينخدع بما يرتديه وجهها من قناع مريب، وهيهات أن يغتر أحد بما تذرفه عيناها من دمع سكيب، أو يأسره سائر الذي يرشح به لباسها من زخرف قشيب، أو يصدق ما يسفر عنه منطقها من أكاذيب...
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com