الحراك الشعبي الأردني صورة ممسوخَة عن شخصيات رواية “ميرامار” لنجيب محفوظ، يُحَلِّقُ في سماواتِ الأنا والذات، بعيدا عن قضايا الأردن والأردنيين (!!) بقلم أسامة عكنان
ArabNyheter | 2014/06/22الحراك الشعبي الأردني صورة ممسوخَة عن شخصيات رواية “ميرامار” لنجيب محفوظ، يُحَلِّقُ في سماواتِ الأنا والذات، بعيدا عن قضايا الأردن والأردنيين (!!) بقلم أسامة عكنان
لا يوجد تعليقات
في هذا المقال الغريب أرجو أن يتحملني القراء والأصدقاء إلى النهاية، فإني أبدو كمن سيطر عليه مرض "المقاربات" بشكل وبائي، راجيا أن تروقَ لهم الفكرة التي يستهدفُها المقال، وأن يستهويَهم التحليل الذي قاد إليها (!!)
مقدمة لابد منها..بداية يُسْتَحْسَن أن نستهلَّ مقالنا الغريب المُفْعَم بروج المقاربات هذا، بالحديث عن صفة عجيبة اتَّسَم بها "نجبب محفوظ" – من وجهة نظري – اختلَفَ فيها عن جميع من قرأتُ لهم أعمالَهم الروائية، لا من حيث التمَيُّز الإبداعي بالضرورة، فكثيرون ممن قرأت لهم هم أكثر إبداعا وأعمق في إيصال الفلسفة عبر الأدب من نجيب محفوظ، من وجهة نظري أيضا، ولكن من حيث غرابة الأداة المستخدمة في السَّرد الروائي (!!)إن هناك روايتين اعتبرتا من ألغاز وأحاجي وطلاسم "نجيب محفوظ" التي اعتبِرَ تحويلُها إلى أعمال درامية سينمائية وتلفزيونية من الإنجازات المميَّزة الدالة على مقدرةٍ فائقة في فكِّ الطلاسم، هما روايتا "أحاديث الصباح والمساء"، و"ميرامار" (!!)ففي الرواية الأولى لا يمكن للقارئ الاستمتاع بنص روائي تنطبق عليه معايير السرد المعتادة، أو حتى المنطقية بمعايير الإبداع وإن لم تكن معتادة. فهو قد اتبع أسلوبا لا معنى له أدبيا، ولا يخرج – في تصوري المتواضع – عن إطار التعجيز، وإظهار المقدرة على السيطرة على جوانب الشخصيات والحبكات بدون أيِّ نكهة إبداعية (!!)فكلُّ الرواية الواقعة في قرابة مائتي صفحة من القطع المتوسط ليست سوى تراجم لشخصيات – هي شخصيات الرواية طبعا – وخلال ترجماتهم تظهر علاقتهم بعضهم بالبعض الآخر بشكل هلامي غامض مفرَّغ من الحرارة. وكأننا أمام كلِّ شخصيَّة بإزاء قصة قصيرة مستقلة لا تُستكمل ولا يمكن فهمها إلا بقراءة باقي القصص القصيرة التي تتحدث عن تراجم الشخصيات الواردة في سياق الحديث عن الشخصية المعينة في تلك القصة ذاتها، مع أن ذلك لن يتحقَّق في النهاية، لأن الانتهاء من قراءة الرواية يجعلنا نشعر بمتاهة أوقعنا فيها نجيب محفوظ بلا أيِّ معنى أو داع أو دلالة إبداعية (!!)لا بل إن "نجيب محفوظ"، ولسبب لا معنى له، أو على الأقل لسببٍ لم يسعْني أن أفهمه أنا شخصيا حتى الآن، إن كان له معنى، قرَّرَ أن يُرَتِّبَ شخصيات روايته خلال ترجمته لها "هجائيا"، بادئا بالشخصيات التي يبدأ اسمها بالحرف "أ"، ثم بالحرف "ب".. إلخ، ما جعل تراجم الشخصيات تتناثر على المائتي صفحة بشكل فوضوي لا معنى ولا قيمة له، تبعث قراءتُها على هذا النحو على الملل والضجر والحيرة، التي لا تُحَلُّ رموزُها حتى بعد الانتهاء من قراءة الرواية كاملة (!!)لذلك فقد اعتبر كاتب السيناريو الراحل "محسن زايد" نفسَه قد حقَّقَ معجزة عندما استطاع بعد جهد عامٍ كامل من السباحة في طلاسم مائتي صفحة هي صفحات "أحاديث الصباح والمساء" – يمكننا قراءتها وفهمها في الأحوال الطبيعية ومن ثم تحويلها إلى "معالجة درامية" في أقل من أسبوعين – من تحويل الرواية إلى سيناريو مسلسل يقع في ثلاثين حلقة، مع أنه لم ينجح في ذلك إلا بعد أن كتب وأضاف وخلَّقَ عوالم درامية تضاهي أضعاف ما فعله الروائي في روايته أصلا (!!)إلا أن رواية "ميرامار" التي تقع في حوالي ثلاث مائة صفحة من القطع المتوسط، ومع أنها لا تختلف كثيرا في طريقة سردها عن طريقة سرد "أحاديث الصباح والمساء" من حيث أسلوب السرد الروائي، إلا أن "نجيب محفوظ" تجنَّب فيها ثلاث مسائل هامة جعلتنا نتلمَّس مسحةً باهتة جدا من الإبداع في أسلوبه العجيب هذا (!!)فهو قد تجنب أولا أسلوب "الترجمة التاريخية" التي تفقدنا الحس الروائي السردي وتدخلنا في متاهات المقالة التاريخية كما فعل في "أحاديث الصباح والمساء"، واعتمد على السرد الروائي عبر ما يسمى في فن الرواية بـ "الصوت الأول"، الذي يَبْني عملية السَّرد على ضمائر المتكلم: "أنا، نحن/المثنى، ونحن/الجمع"، وهو ما يطلق عليه "السيرة الذاتية"، والذي هو واحد من أساليب السرد الروائي الثلاثة المتعارف عليها، وهي "الصوت الأول" سالف الذكر، و"الصوت الثاني"، الذي يَبْني عملية السَّرد على ضمائر المخاطب: "أنتَ، أنتما/المذكر، أنتم، أنتِ، أنتما/المؤنث، أنتن"، و"الصوت الثالث"، الذي يَبْني عملية السَّرد على ضمائر الغائب: "هو، هما/المذكر، هم، هي، هما/المؤنث، هن". وهو الأمر الذي جعلنا نحسُّ بأننا نقرأ رواية، وإن كان فيها من التَّصَنُّع أكثر مما فيها من الإبداع (!!)وهو قد تجنَّبَ ثانيا تشتيت القارئ في متابعة حياة عدد مهول من الشخصيات التي عليه أن يبحثَ عن لملمة أشلاء الرواية من خلال نثارات الأحداث والتفاصيل المترامية التي تمر بها، مكتفيا بعدد محدود منها، مع العلم بأن عدد شخصيات رواية "ميرامار" هو محدود أصلا. فقد اقتصر الكاتب على سرد السير الذاتية لأربع شخصيات من شخصيات روايته، رأى أنها تمثل الشخصيات الرئيسية والأهم، والتي بإمكانه من خلال سرد حكاياها بالصوت الأول أن يلملمَ أطراف روايته كاملة، ويلملم أشلاء شخصياتها كاملة، دونما حاجةٍ إلى تشتيت القارئ بلا أيِّ داعٍ وبلا أيِّ قيمة إبداعية (!!)وهو قد تجنب ثالثا وأخيرا اتباع هذه السقطة العجيبة عندما رتب سرد تراجم شخصياته في "أحاديث الصباح والمساء" هجائيا بلا أيِّ داعٍ، فرتبها في "ميرامار" على نحوٍ تؤشِّر عليه أهميتها السردية وقيمتها الروائية في العمل ككل من وجهة نظره التي له كامل الحق فيها، والتي يمكنها أن توجهنا إلى استشفاف الرسائل المنطواة من وراء ترتيبها على ذلك النحو (!!)فماذا فعل "نجيب محفوظ" في رواية "ميرامار" (؟!)كي نعرفَ ذلك ونفهمه، علينا أن نتعرف على ثلاث نقاط أساسية في رواية "ميرامار" التي تتحدث عن مرحلة بدايات الثورة الناصرية في مصر، من خلال قصةٍ تحدث داخل "بنسيون" في مدينة "الإسكندرية" اسمه "ميرامار"، وهذه النقاط هي:
أولا.. شخصيات الرواية الأساس:- "محمود أبو العباس/بائع الجرائد قرب بنسيون ميرامار"، وهو من الفقراء الذين يعملون على أن يثروا بعيدا عن أعين الحكومة كي يضمونوا ألا يدفعوا ضرائب للدولة (!!)- "ماريانا الخواجاية/صاحبة بنسيون ميرامار"، وهي عجوز مصرية من أصل يوناني، تحاول العيش في زمن خسرت بسببه الكثير (!!)- "زهرة/الخادمة الفلاحة الجميلة في بنسيون ميرامار"، والتي هربت من قريتها وتحاول أن تشق طريقها لحياة شريفة وسط غابة من الذئاب (!!)- "طُلْبَة مرزوق/الأزهري الثري الستيني، والمتضرر من الثورة بسبب مصادرة أرضه والحراسة على أمواله، والمستخدم للدين واجهة للكثير من مواقفه (!!)- "منصور باهي/الشاب التقدمي النزيه ذي الأحلام الثورية"، وهو ابنٌ لتنظيم يساري يعيش حالة من المثالية والنقاء الداخلي الذي يسبب له صراعا وآلاما وجدانية (!!)- "حسني علام/الشاب غير المتعلم"، وهو صاحب أطيان وأموال متبقية له من أهله بعد كلِّ المصادرات والتأميمات، وهو غارق في نزواته، ويبحث له عن فرصة استثمارية تمكنه من العيش والاستمتاع بشكل بوهيمي بالحياة المرفهة في دولة الثورة (!!)- "سرحان البحيري/الشاب المتعلم والموظف الحكومي الوصولي الفاسد المنتفع من الثورة والمتسلق على أكتافها"، والذي يتعامل مع المرحلة الجديدة باعتبارها فرصة يجب أن يستغلها بكل الطرق التي أصبحت بالنسبة له مشروعة (!!)- "عامر وجدي/العجوز الثمانيني"، وهو الصحفي القديم الذي خابت آماله فيما كان يناضل من أجله، والذي هُضِمَ حقه كمثقف تعتبر نضالاته ونضالات أمثاله هي مُحْدِثَة التغيير في مصر (!!)
ثانيا.. المحطات المشتركة في البيئة التي جمعت هؤلاء في "البنسيون"، والتي شاهدها الجميع، وكلها تتمحور حول الخادمة الفلاحة الجميلة "زهرة":- "ما حصل بين زهرة وسرحان البحيري" (!!)- "تهجُّم حسني علام على زهرة وهو سكران" (!!)- "المشاجرة بين سرحان البحيري وحسني علام حول زهرة" (!!)- "قرار زهرة بأن تتعلم وتمحو أميتها" كجزء من نضالها لتعيش بشرف في هذا الوسط (!!)- "طلب محمود أبو العباس يد زهرة من ماريانا ورفضها ذلك" (!!)- "المشاجرة بين سرحان البحيري وعشقيته صفية في البنسيون، ودفاع زهرة عنه من هجومها عليه" (!!)- "تخلي سرحان عن زهرة وقراره الزواج من مدرستها عليَّة" (!!)- "ترك سرحان البحيري للبنسيون" نهائيا بعد فشله في الحظوة بزهرة (!!)- "العثور على سرحان مقتولا، فيما رُجِّحَ أنه انتحار" (!!)
ثالثا.. المحطات الخاصة بكل واحد من أفراد المجموعة بعينه وغير المشتركة مع الآخرين:- "حياة حسني علام المنفلتة وعلاقاته الإباحية مع القوادات والمومسات" (!!)- "فساد سرحان البحيري ومؤامراته للسطو على المال العام واستغلال منصبه إلى حين مقتله منتحرا على ما رُجِّح" (!!)- "قصة حب منصور باهي لدُرِّيَّة زميلته في التنظيم، رغم أنها زوجة المسؤول عنه والمسجون بعد اعتقاله" (!!)- "تعامل كل واحد من المجموعة مع المحطات المشتركة التي رآها مع الجميع" (!!)- "تعامل كل واحد من المجموعة مع باقي أفرادها منفردين، إزاء كل حادثة من الحوادث المشتركة التي رآها الجميع" (!!)
تحليل المقاربة..بالتركيز على "ميرامار" التي هي موضوع هذا المقال، أستطيع القول وبلا تحفظ أن "ممدوح الليثي" كاتب سيناريو وحوار الفيلم السينمائي "ميرامار"، هو الكاتب الحقيقي لرواية "ميرامار"، وليس "نجيب محفوظ". فهو من تمكن بالإضافة إلى لمسات المخرج المبدع "كمال الشيخ"، من أن يجسِّد أربع قصص أو أعمال روائية كتبها نجيب محفوظ بـ "الصوت الأول" فيما اطلق عليه "ميرامار" وفق تلك الآلية المزعجة التي لا أدري ما وجه إعجابه بها (!)، في عمل روائي واحد ضخم ومتكامل كُتِب بـ "الصوت الثالث" في سيناريو فيلم سينمائي هو "ميرامار"، اعتُبِرَ بحق، من أهم كلاسيكيات السينما المصرية (!!)في روايته "ميرامار"، يجعلنا نجيب محفوظ نقرأ "المكان" و"الزمان" و"المشاعر" و"الشخصيات" و"الأحداث" نفسِها، مكرَّرَة أربع مرات، كل مرة من خلال رؤية وإحساس وتفاعل وفهم وإدراك ووعي وبُنْيَة واحدة من الشخصيات التي خصَّها بسرد سيرتها الذاتية في الرواية. وهذه الشخصيات هي "عامر وجدي"، و"حسني علام"، و"منصور باهي" و"سرحان البحيري" (!!)كل شخصية من الشخصيات الأربع لم تكن من النوع القادر على دفع وعيه ومشاعره نحو إعادة إنتاج وتشكيل طبيعة العلاقات والتفاعلات بين شخصيات الرواية لخلق سيرورة مستهدفة لمصير تلك العلاقات والمشاعر والأحداث بغية تجسيد قيمة أخلاقية محدَّدة كان تجسيدها يمثل هاجسا لدى تلك الشخصيات، وذلك لسبب بسيط هو أن أيا من تلك الشخصيات لم تكن معنية بالتغيير، ولا هي امتلكت رؤية للتغيير، ولا كان التغيير قضيتها لا أصلا ولا هدفا ولا خطة ولا شعورا ولا إحساسا، فكان من الطبيعي أن تقتصرَ تفاعلاتها ومشاعرها ومواقفها من البيئة المكانية والزمانية والإنسانية والحدثية التي تعيش فيها وتتفاعل معها، على الاستجابة والتكيُف وفق منظومة مصالحها وطموحاتها ومكتسباتها الخاصة لحماية نفسها ومشاعرها وحياتها (!!)وربما أن هذا ما أراد أن يطلعنا عليه "نجيب محفوظ" بذلك الشكل العجيب الذي هُيِئَ له أنه أكثر قدرة على إطلاعنا عليه من السرد الروائي المعتاد (!!)هنا، وفي هذه النقطة بالذات، ألا وهي نقطة عدم الخروج عن دائرة الاستجابة والتكَيُّف وفق المصلحة الخاصة بكل شخصية، ووفق تصوُّرِها للكيفية التي يجب أن تشكُّل بها حياتها ومنظومات مكتسباتها ومصالحها في تلك البيئة التي شاءت أقدار تلك الشخصيات أن تجمعها سويا، تجلَّت لي المقاربة التي كانت موضوعا لهذا المقال، عندما عنونته بـ "الحراك الشعبي الأردني" صورة ممسوخَة عن شخصيات رواية "ميرامار" لنجيب محفوظ، يُحَلِّقُ في سماواتِ الأنا والذات، بعيدا عن قضايا الأردن والأردنيين (!!)فعلى مدى الفترة الممتدة من شهر آذار 2011، تاريخ انطلاق الحراك الشعبي الأردني، وحتى شهر آذار 2013، تاريخ سفري خارج الوطن، شاركت مشاركة حقيقية في "8" اجتماعات حراكية مفصلية ذات طابع تأسيسي في "الزرقاء" و"جرش" و"إربد" و"عمان"، بهدف الانتقال بالحراك الشعبي المتعَثِّر والمتخَبِّط والمُبْتَلى بالحيرة والتشَتُّت وعدم وضوح الرؤية، إلى مرحلة متقدمة من "التوحُّد" و"الفعالية" و"التنظيم". ولكن كلَّ جهودنا وجهود غيرنا ممن لم تُتَحْ لي فرصة مشاركتهم في جهودهم، باءت جميعها بالفشل، ولم تُؤْتِ أيَّ نتيجة حتى الآن رغم كل المحاولات السابقة واللاحقة (!!)لماذا يا ترى (؟!)وما هو السبب الحقيقي لذلك الفشل، بعيدا عن الأسباب الظاهرة المتمثلة في "الأنانية"، و"النجومية"، و"البداوة السياسية، و"اختلال مستويات إدراك عناصر المعضلة"، لجهة تدني مستويات الوعي بمتطلبات التغيير في بلد مثل الأردن (؟!)
(أقصد بالبداوة السياسية، هيمنة قيم البادية العشائرية والقبلية القائمة على المكانة الأبوية للشيخ الذي يمرِّر أوامرَه وتوجيهاتِه بعيدا عن فكرة المؤسسية، على العمل السياسي الذي لا تصلح له تلك القيم البدوية إطلاقا، لأنه عمل مؤسسي بعيدٌ عن أيِّ اعتبارات أبوية أو مشيخية، رغم سمو ونجاعة وفعالية تلك الاعتبارات في علاقات الترابط المجتمعي في بلد كالأردن) (!!)لقد كنا نجتمع مثلما كانت تجتمع تلك الشخصيات الأربع في بهو بنسيون "ميرامار"، كل منا له مواقفه المسبقة ومكونات وعيه الذاتي ومصالحة الشخصية وبناه الذهنية والمشاعرية التي جاء إلى الاجتماع وهو غير مستعد للخروج عنها وعن قداستها ورسوخها وثباتها في تعامله مع من جاء ليجتمع معهم (!!)نعم، لم يكن أيٌّ من المجتمعين في أيٍّ من تلك الاجتماعات وفي غيرها على ما أستطيع أن أجزمَ أيضا – إلا باستثناءات محدودة جدا تؤكِّدُ الجزمَ ولا تلغيه – معنِيا بالعمل على إعادة إنتاج مشاعر وأذهان وعقول وتفكير ونمط تفاعل الموجودين كلٍّ منهم مع الباقين، بما في ذلك ما يتعلق به هو نفسه مع نفسه ومع غيره من الحاضرين، على نحوٍ يُحدِثُ التغيير المنشود في الاتجاه المنشود (!!)لا أحد – في الغالب الأعم – كان يأتي ويجتمع وهو يحمل في داخله همَّ التغيير – تغيير نفسه والمجتمعين معه – باتجاهِ ما هو أكبر منه ومن شخصه، بناءً وشعورا وتفكيرا، وباتجاه ما هو أعم من مصالحه ومكتسباته التي لا يريد التنازل عن كونها طواطم ومقدسات لا يجوز المساس بها، مادام يعتقد أنها هي معيار سلامة الوطن وإنقاذ الحراك وضمان التغيير أصلا، وباتجاه ما هو أوسع من دائرته أو دائرة جماعته أو تنظيمه أو حزبه أو حركته، باعتبارهم هم أنبياء عصر هذا الشعب، وشهداء زمانه.. إلخ (!!)لقد كنا نجتمع جميعا هنا أو هناك، بدعوة من هذا الحراكي أو من ذاك، بمبادرة من هذه المجموعة أو من تلك، حاملين على الدوام وريقاتٍ باهتة بكلمات بائسة خطتها هواجسُ، ظنَّ جميع من خطُّوها أنها تمثل الحقيقة التي ينتظر الشعب نزولَهم بها وحيا مُلهَما منقذا ومخلِّصا (!!)تماما كما كان يجتمع في بهو بنسيون "ميرامار" كل من:- "سرحان البحيري" الوصولي الذي يريد أن يستخدم زمن الثورة ليصعد وهو يدوس على كل القيم والأخلاق ومعاني الشرف والكرامة والإنسانية (!!)- و"عامر وجدي" العجوز الغارق في أطلال نضالاته، متباكيا متحسرا على عهدٍ باد ولن يعود بعد أن أراح ضميره بأن مناضلي اليوم غمطوا المناضلين أمثالَه حقوقهم في التكريم والتمجيد والإشادة وتسليمهم الراية ليتقدموا الصفوف، أو على الأقل في الأخذ ببلاغتهم وشعاراتهم كما هي (!!)– و"حسني علام" الشاب الغرائزي الطموح قليل الثقافة والوعي، المعتمد على ثرائه الموروث في البحث عن ثغرة في جدار الثورة ينفذ منها إلى تجسيد متعه وأطماعه غير المشروعة (!!)– و"منصور الباهي" المثالي الذي ورثته سنوات العمل السري والنضال الرومانسي وقضايا العمال والفلاحين المضطهدين في أرضهم نوعا من الإيمان بسرمدية الواقع بكل مُكوناته، دون أيِّ قدرة على الوعي بمتطلبات الواقع الموضوعي وهو يتغير وينمو ويتطور، إلى درجة أنه فشل في فهم دوره المفترض في أبسط القضايا الإنسانية التي فُرِضَت عليه في البيئة الجديدة، ففضَّل الهروب من التزاماتها بأن يتهم نفسه بجريمة قتل لم يرتكبها، ليقنع نفسه بأنه مناضل أراح البشرية من صرصار بشري (!!)– و"طُلْبَة مرزوق" المنافق حرباوي المواقف، المتاجر بالدين إذا تطلب الأمر، وبالأخلاق عند الضرورة، المتربص بالثورة الدوائر ليستعيد وضعه السابق الذي سلبته إياه (!!)وبالتالي فقد كان من الطبيعي أن نتحاور ونتناقش، كما كان يتحاور ويتناقش هؤلاء الخمسة، ومعهم آخرون يمثلون نماذج أخرى أكثر بؤسا وشقاء، للاستجابة والتكيُّف وفق ردات الفعل، داخل دوائر "الأنا" المفرطة بلا حدود، في ذلك البهو الكئيب، في ذلك البنسيون البائس القميء (!!)لم نستطع أن نعيَ، وربما أننا آثرنا ألا نغرق أنفسَنا في دوائر الوعي، بأن الاجتماعَ لأجل التغيير أو لأجل التأسيس للتغيير، يتطلب أن يكون المجتمعون مستعدين لذلك التغيير، عبر تجسيدهم في ذواتهم للعناصر الثلاثة التالية التي بدونها سيفشلُ الاجتماع في التقدم بأيِّ خطوة على طريق تحقيق الهدف الذي لأجله تمَّ عقده أصلا، حتما وبلا أدنى شك:
- وضع كافة المواقف المسبقة جانبا إلا ما تعلق منها بالمبادئ الجوهرية بطبيعة الحال، والاستعداد للتنازل تجاوبا مع ما يتطلبه التقدم خطوة إلى الأمام على صعيد تفعيل فكرة التغيير. وهنا يفقد هذا العنصر أهميته ودلالته إذا لم نوضح أن من يبدأ بتبرير عدم التقائه مع الآخرين في خندق التغيير، بالقول بأن ما طُرِحَ في الاجتماع كان متعارضا مع مبادئه، وأنه لم يجد فيما هو مطروح نسبة معقولة تكفي للالتقاء في منتصف الطريق، إنما هو يكشف عن أنه لا يحمل مشروعا سياسيا لتغيير وطن هو لجميع مواطنيه بقواسم مشتركة لا يملك أيا كان منفردا أن يحدِّدَ مواقفه منها بقواعده الصارمة تلك، وإنما هو يحمل فكرة "صالون ثقافي" يحق له تحديد مواصفات صارمة لمن يقبل بعضويته فيه، وبالتالي فلا يحق له أن يحضر اجتماعات سياسية هدفها الحوار في مصير وطن من وجهة نظر سياسية (!!)
– امتلاك الوعي الكافي فكريا، والروح المغمورة وجدانيا، بكيفية خلق عناصر الالتقاء بين المختلفين من حاضري تلك الاجتماعات، فلا يهم أن يلتقي معك الآخرون في كلِّ طروحاتك، ويكفيك أن يلتقوا معك في بعضها، ولا يكفي أن يلتقوا معك أنت، بل يجب أن يلتقوا مع غيرك من الحاضرين أيضا. فعندما يؤيدك شخص في فكرتين ويعارض هذا الشخص شخصا آخر في فكرتين، لا تستشعر الظفر والفوز، واعمل على أن تخلق تأييدا متبادلا بين ذينك الشخصين المختلفين في الفكرتين، وإن يكن في فكرة واحدة، حتى لو كان ثمن ذلك هو أن تتنازل أنت عن فكرة من تلك التي توافق معك عليها من وافقك على الفكرتين، لأجل توسيع دائرة التوافق. فالمجتمعون لم يجتمعوا للتنافس ولا للتظاهر الفارغين، وإنما لخلق صيغة عملية في الحد الأدني المقدور عليه توافقيا، وهو ما يجب أن يتمَّ دفع ثمنه كي نكون بصدد عمل سياسي وليس عمل صالوني (!!)
– التحرر من أسر الأيديولوجيات خلال الاجتماعات التي تهدف إلى خلق صيغ عمل سياسية مشتركة بين أصحاب أيديولوجيات مختلفة ومتباينة أصلا. فإذا كنت أختلف معك أيديولوجيا وأرغب مع ذلك في الاجتماع بك للاتفاق معك على صيغة عمل مشتركة سياسيا، فسأكون مجرَّد مدعٍ لم آت إلا لأضيَّع وقتك وأتمنظر عليك، إذا ما كانت روحي الأيديولوجية حاضرة ومسيطرة ومهيمنة على طروحاتي في ذلك الاجتماع، ومُحَدِّدَة لسقوف وحدود ما يمكنني أن أوافق عليه وما أرفضه، وهو ما سيدفعك أنت أيضا إلى أن تتصرف بالمثل وبالحدَّة نفسها، وربما بحدة أشد، ليغدوَ الاجتماع ساحةً قميئةً لصراع أيديولوجي أكثر قماءة، كان الأولى ألا نجتمع لخوضه في لقاءٍ يُفترض أنه توافقي، مادمنا نخوضه أصلا في أماكن أخرى وبوسائل أخرى. اترك أيديولوجيتك في بيتك، واختر من مُخرجاتها السياسية ما تقبل التوافق به مع الآخرين، واحضر الاجتماعات التوافقية به وحده، وحاور على أساسه كي تحقِّقَ نتيجة ملموسة على الأرض، وإلا فأبق أنت نفسك في بيتك ولا تضيع وقت غيرك ممن يريد أن يخرج من عباءة صالونات الثقافة، إلى ميادين العمل السياسي (!!)
إن الكاتب "ممدوح الليثي"، والمخرج "كمال الشيخ"، حوَّلا رواية "نجيب محفوظ" المُشَلاَّة متناثرة الأحشاء، إلى عمل درامي متماسك، يتحرك بروحٍ حقيقية نحو هدف واضح قابل لأن يتمَّ النجاح في تجسيده، ثم في تحريكه، ثم في تطويره، عندما مارسا دور الشخصية التي لم يتعرض لها نجيب محفوظ في روايته، وهي الشخصية التي تحرص على إعادة إنتاج المشاعر والعلاقات بين أشخاص العمل الدرامي على نحوٍ يحرِّك تلك الشخصيات نحو هدف واضح ومحدد له قيمة أخلاقية (!!)وهذا هو ما ينقص الحراك الشعبي الأردني، كي يتحول من رواية مُشَلاَّةٍ متناثرة الشخصيات، باهتة الملامح، غامضة الهدف، إلى فيلم سينمائي فكرته واضحة، وشخصياته راسخة التجسُّد، تحمل على عاتقها هدفا لا لبس فيه ولا غموض، تلتقي عليه عبر إعادة إنتاج مشاعرها وعلاقاتها وأنماط تفاعلها وتفكيرها، بما يلزم لأن يكون فيلما نخرج في نهاية مشاهدتنا له ونحن مدركين كل الإدراك لما أراد صُناَّعُه أن يقدموه لنا على وجه الحقيقة، لا على وجه الفوضى والتيه والمجاز والاستنتاج القابل لكل الأوجه والمعاني (!!)وهنا تحضرني المفارقة الخالدة لطبيعة "الحب" الذي يقتضي الحرية، في مجتمعات لا مكان فيها إلا للعبودية:هي تحبه، ولكنها ترفض التسليم له بلا قيد يقيِّده (!!)وهو يحبها، ولكنه يرفض القبول منها بأيِّ قيد يقيِّده (!!)في الواقع لا هذا ولا ذاك يمثل الحب الحقيقي الذي تهون لأجله التضحية (!!)بالمثل تماما (!!)أنت تحب الوطن، ولكنك ترفض الاعتراف لي بأني أحبه، إذا لم أمنحه مشاعري على طريقتك في الحب (!!)وأنا أحب الوطن، ولكني أرفض الاعتراف لك بأنك تحبه، إذا لم تمنحه مشاعرك على طريقتي في الحب (!!)في واقع الأمر، لا حبك ولا حبي يمثلان حبا حقيقيا للوطن (!!)لأن الوطن الذي نجعله أصغر من أفكارنا وبرامجنا ونحن نتشدَّقُ بحبنا له، فلا نضحي لأجله ببعضٍ منها (!!)هو وطن لا يعيش في قلوبنا، بل هو يترنَّح آيلا للسقوط من على أطراف ألسنتنا (!!)