منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 1 من 8 123 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 73

العرض المتطور

  1. #1

    أغنيات / نصوص سردية قصيرة / للروائي محمد جبريل

    أغنيات / نصوص سردية قصيرة / للروائي محمد جبريل
    -----------------------------------------------------
    أغنيات
    قصص قصيرة
    (الطبعة الأولى)
    محمد جبريل
    ***
    الإهداء
    إلى محمد زكريا عنانى
    ***
    " ليست الموسيقا ـ فى الواقع ـ إلاّ منصة وثب نطلق من عليها العنان لأهوائنا العاطفية الخاصة ، لتحريك ذكرياتنا العاطفية ، أو سلسلة من التداعيات ، تعمل الموسيقا باعتبارها مجرد خلفية ، وليس باعتبارها شيئاً نصغي إليه " .
    جون هوسبرز
    ***
    * أغنية للمهد *
    .....................
    كان جدى يروى لنا الحواديت . لا أذكر أن أبى روى لنا حدوتة ، أو حكاية . إنما هى ملاحظات سريعة عن مشاهداته فى العمل ، أو فى الطريق . ننصت إليه ونحن جلوس حول مائدة الطعام . لم تكن أمى تتحدث إلينا بغير الشخط والنطر ، فلا حكايات ، ولا حواديت ، ولا ترنم بأغنيات . الزاد الذى كنا نلجأ إليه ـ فضلاً عن حواديت جدى ـ هو حكايات بابا صادق ، ثم بابا شارو ، فى برامج الأطفال بالإذاعة ..
    المرة الوحيدة التى غنت فيها أمى لنا أذكرها جيداً . لامست الإسكندرية تأثيرات الحرب العالمية الثانية . وكنا نعانى الخوف من أصوات المدافع المضادة للطائرات . استعدت أمى وأختى للهبوط ـ ذات ليلة ـ إلى المخبأ القريب . أصر أبى ـ كالعادة ـ على أن نظل ـ أخى وأنا ـ فى الشقة ، فالرجال لا يلجأون إلى المخبأ . علا صوت المدافع ، فأجهشنا بالبكاء . تراجعت أمى عن النزول ، واندست فى الفراش بيننا . همس صوتها ، ثم علا ، بالأغنية :
    خد البزة واسكت .:. خد البزة ونام
    أمــك السيـدة .:. وأبوك الإمام
    وأبوك سعد باشا .:. طالع للأمام
    ونمنا .

  2. #2
    * الثأر *
    .........

    حى بحرى هو هذه المنطقة التى تمثل شبه جزيرة فى شبه جزيرة الإسكندرية . لا يزيد ـ طولاً أو عرضاً ـ عن كيلو متر واحد . مظهره الأهم غلبة الروحانية . ثمة الجوامع والمساجد والزوايا والصوفية وحلقات الذكر والموالد وغيرها مما يسم الحياة فى بحرى باختلاف مؤكد ، ليس عن بقية أحياء الإسكندرية فحسب ، وإنما عن بقية المناطق المصرية جميعاً . شهر رمضان ـ بالطبع ـ جزء من تلك الروحانية التى تدين لها طفولتى ـ ومحاولاتى الإبداعية فيما بعد ـ بالكثير . الصيام ، صلاة التراويح ، تلاوة القرآن ، المسحراتى ، الكنافة ، القطايف ، حالو ياحالو ، الياميش ، الأضواء ، الفوانيس ، الليل الصاحى ، النهار المتثائب ، السبح ، الأعصاب المنفلتة ، واللهم إنى صايم ، الطرشى ، الفول المدمس ، اللب ، الفول السودانى ، التسالى ، الإذن للأطفال بالسهر مدى شهر كامل ، تقييد الشياطين والجان ، اختفاء العفاريت ..
    كنا نسهر إلى موعد السحور . نحمل فى أيدينا ـ عقب الإفطار ـ فوانيس زجاجها ملون ، مصنوعة من الصفيح ، وتضئ بالشمع . أفضل من فوانيس هذه الأيام التى تضئ بالبطارية ! . دعك من وفرة الأمان فى الفوانيس الحالية . ارتعاشة الشمعة قد تحمل الخطر ، لكنها تحمل الحميمية فى الوقت نفسه . نقف أمام دكاكين الحى ، نلوح بالفوانيس ونغنى :
    الدكان ده كله عمار وصاحبه ربنا يغنيه
    يهبنا صاحب الدكان من الملاليم ما يدخل السعادة إلى نفوسنا ، ربما أضعاف ما نشعر به ونحن نأخذ هبات فى المناسبة نفسها ..
    قد يرفض صاحب الدكان ، ويطردنا ، فتعلو أصواتنا :
    الدكان ده كله خراب وصاحبه ربنا يعميه
    ونجرى ..
    وكنا نسلى أنفسنا بما نسميه " شكل للبيع " . ألجأ إلى رشاقة جسدى ـ باعتبار ما كان ـ فأقفز على عنق أحد المارة ممن نتوسم فى ملامحه طيبة . يسقط الرجل ـ بتأثير المفاجأة ـ من طوله ، ويخرج الأولاد من مكامنهم ، وفى أيديهم العصى ، ينهالون عليه بضربات سريعة ، مؤلمة ، ويختفون قبل أن يفيق الرجل من الصدمة ..
    تكررت اللعبة ، وطالت عصينا أجساد الكثيرين . مجرد شقاوة عيال يشغلها التسلية وغير المألوف ، وليس إحداث الأذى ..
    ثم جاء اليوم الذى كان ينبغى فيه أن ندفع الثمن : قفزت على عنق شاب صعيدى ، ولحقته عصى الأولاد فى سقوطه على الأرض ، واختفينا ـ كالعادة ـ قبل أن يحاول رد ضرباتنا ..
    نفض الشاب ثيابه ، ومضى .. وعدنا إلى شكل للبيع وغيرها من الألعاب : الاستغماية ، عنكب يا عنكب ، نطة الإنجليز ، أولها اسكندرانى إلخ ..
    قبل السحور ، كان التعب قد هدّنا . جلسنا متجاورين على رصيف الشارع الخلفى لجامع سيدى على تمراز . يغنى أحدنا ، ونردد وراءه ونحن نهز الرءوس :
    وحوى يا وحوى .. إيوحه .. وكمان وحوى .. إيوحه ..
    فاجأت أولنا ركلة قدم قاسية طوحت به فى قلب الشارع . تزامنت صرخة الولد مع صرخاتنا ، ونحن نتلقى الركلات السريعة المفاجئة من قدم الشاب الصعيدى . أوهمنا أنه مضى بعيداً ، لكنه ظل ـ فى صبر ـ حتى جاءت اللحظة التى اختارها ، فثأر لنفسه !

  3. #3
    * طقس *
    ..........

    ليلة العيد ..
    تصنعها الأضواء على مئذنة سيدى على تمراز ، وعلى واجهات الدكاكين ، والأبواب المفتوحة ، والصيحات ، والنداءات ، والزحام ، وغياب شخطة أمى : يا مقصوف الرقبة ، وسهر الأولاد إلى موعد الصلاة ، وترديدهم للأغنية التى تسبق عيد الفطر :
    يا برتقال احمر وجديد .. بكرة الوقفه وبعده العيد
    أو الأغنية التى تسبق عيد الأضحى :
    بكره العيد ونعيد .. وندبحك يا شيخ سيد
    والشيخ سيد ـ كما تعلم ، أو لا تعلم ـ كناية عن خروف العيد ..
    أميز ما فى الليلة كلها أغنية أم كلثوم التى تدعو بطول العمر للملك فاروق . فلما قامت الثورة استبدل باسمه اسم محمد نجيب . فلما مضى نجيب آثرت الدعاء للنيل ..
    نعد أنفسنا للذهاب إلى تياترو أحمد المسيرى . يقام فى أرض خلاء بشارع التتويج ، لا أذكر موقعها الآن ، وإن أذكر السرادق الضخم ، يقف على مسرحه الخشبى ـ فى بداية العرض ـ مجموعة المغنين ، يرددون فى صوت واحد :
    يا للى زرعتوا البرتقان .. ياللا اجمعوه .. آن الأوان .. ياللا .. ياللا ..
    تعيد المجموعة أداء الكلمات نفسها فى نهاية العرض ، بعد فقرات من الغناء والرقص وأفعال السحر والديالوجات القصيرة والتهريج ..
    يخلو ـ عقب صلاة العيد ـ ميدان الخمس فوانيس المواجه للجامع من المصلين والحصر . يتسع سوق العيد فيملأ الساحة والميدان والشوارع والحوارى المتفرعة ..
    نسلم أنفسنا إلى يدى أمى ، تلبسنا زى العيد . ثم ننزل ـ أخى وأنا ـ إلى سوق العيد ..
    ألمح سيارة التاكسى على تقاطع إسماعيل صبرى ورأس التين . استحث أخى لركوبها . وسيلة فسحة من العيد للعيد . تفتح أبوابها حتى تمتلئ تماماً . ينحشر فيها الأولاد . تتداخل الرءوس والأجساد والأيدى والأقدام . يجد السائق صعوبة فى إغلاق الأبواب ، ويهمل صراخ الأولاد من الزحمة الخانقة . يحاول أن يجد لنفسه موضعاً أمام عجلة القيادة . يمضى من رأس التين إلى سراى الملك ، ومنها إلى طريق الكورنيش بمحاذاة شاطئ الأنفوشى ، فالميناء الشرقية . يميل من شارع إسماعيل صبرى ، حتى الناصية التى بدأ منها . مجرد ومضات وملامح سريعة ، يتاح لى أن ألتقطها . وربما لا يتاح لى رؤية أى شئ . إنما هو ما ينتزع قوله الأولاد الذين يطلون ـ بالضرورة ـ من النوافذ ..
    يفتح السائق الأبواب . يتفكك الأولاد الذين تحولوا إلى كتلة بشرية واحدة . يركب ـ بدلاً منهم ـ أولاد آخرون ، وهكذا ، إلى ما بعد منتصف الليل ..
    فى اليوم التالى ، أنسى الزحمة ، وكتمة النفس ، وأسابق أخى والأولاد إلى السيارة الواقفة ..

  4. #4
    * لك حبى *
    .............

    أقف بين أبى وأخى فى الشرفة المطلة على شارع إسماعيل صبرى . وقفت أمى وأختى للفرجة فى نافذة غرفة النوم المجاورة . الشاحنات الإنجليزية القادمة من رأس التين ، أو من داخل الدائرة الجمركية ، فى طريقها إلى خارج الإسكندرية . الناس وقوف على الأرصفة وأبواب الدكاكين والمقاهى ، ويطلون من الشرفات والنوافذ والأسطح ..
    قال أبى :
    ـ ليست نتائج معاهدة 1936 سيئة كلها ، فهاهم الإنجليز يخرجون ..
    الأيدى مدلاة على الجانبين ، والأفواه صامتة ، فلا تعبير عن الوداع ، أو حتى إبداء الفرحة ، بخروج قوات الاحتلال . الصمت السادر ينعكس فى الملامح حيادية متوترة ، فيما عدا تعليقات أو شتائم هامسة ، ربما خوفاً من أن يبوظ الفرح ، مع أن عساكر الإنجليز لا يعرفون العربية ..
    يعلو صوت من داخل دكان الرويعى الترزى :
    بلادى بلادى بلادى .. لك حبى وفؤادى
    يكرر الصوت الكلمات بمفرده . يرددها الواقفون من حوله . يمتد انفراج الشفاه بالكلمات ، ويتسع . تتحرك الأيدى تعبيراً عن المعنى . يغيب الفهم عن الجنود ، وإن انعكس التحول فى ارتباكهم . يتبادلون النظرات المتسائلة ، القلقة . وتتقلص أيديهم على البنادق فى توقع لا يدركون بواعثه ..
    لم يحدث التصرف رد فعل بين الآلاف على الجانبين . ظلوا حيث هم فى النوافذ والشرفات والأسطح ، وفى الطريق ، وإن لم تخفت أصواتهم بالنشيد !

  5. #5
    * بيع وشراء *
    .................

    لا أذكر كيف ، ولا لماذا ، أحببت عملية البيع والشراء . ربما لأنى كنت أتابع عم عبده فى دكانه الصغير ـ قبالة البيت ـ وهو يبيع الحلوى والسجاير . أحببت الفصال ، والأخذ ، والرد ، وصل على النبى ، وزيد النبى صلا ، وبين البايع والشارى يفتح الله ، واتوصى شوية ، والله يبارك . طقوس تبدأ ، ولا تنتهى . تشكل دنيا البيع والشراء التى أتابعها من موضعى خلف النافذة المطلة على دكان عم عبده ..
    طلبت من أمى أن تثبت مؤشر الراديو على الأغنيات ، سواء ما تقدمه إذاعة القاهرة ، أو إذاعة الشرق الأدنى ، خلفية لنشاطى التجارى الذى شغل أسفل السرير النحاسى الكبير فى حجرة أبوى . مجلدات من مكتبة أبى ، وعلب أحذية فارغة من الورق المقوى ، أصفها فى هيئة طاولة الدكان . أضع فوقها البسكويت والبونبونى . أدخر ثمنها من مصروفى . حتى الإفطار ، أعتذر عن عدم تناوله فى البيت . تعطينى أمى المقابل قرشين أو ثلاثة ..
    أثابر فى جلستى المنحنية . زبائنى هم خالتى وأخواى . يشترون بالأجل حتى يخلو الدكان تماماً . أريح علب الأحذية ، وأفرد جسدى الذى طال تقوسه . أرد على السؤال بموعد البيع ثانية :
    ـ ربما غداً بعد أن آخذ مصروفى ..
    أحببت البيع والشراء ، فنسيت ـ أو تناسيت ـ ما كنت أدينهم به من قيمة البضاعة القديمة !

  6. #6
    * يا حلو يا اسمر *
    .....................

    استمعت إلى الأغنية مرة وحيدة أمام الطاولة الرخامية ، تعلوها قدرة الفول ومقلاة الفلافل . وثمة مائدتان صغيرتان لصق الجدار المواجه ، يحيط بهما ثمانية مقاعد ، وفوق الرف المثبت فى نهاية المكان جهاز راديو ، تتناهى منه أغنية عبد الحليم حافظ :
    يا تبر سايل بين شطين يا حلو يا اسمر
    لم تكن هذه هى المرة الأولى التى أستمع فيها إلى أغنية عبد الحليم . ولم تكن ـ بالطبع ـ هى المرة الأخيرة . ربما يذكرنى باللحظة تنبهى إلى كلمات الأغنية . بدت سخيفة وبلا معنى . مجرد كلمات مرصوصة تخفّت فى لحن جميل وصوت عذب ..
    أدركت المأزق الذى نحياه فى قول عم ربيع البائع وهو يعدنى بنتيجة حائط للعام الجديد :
    ـ علشان الزباين اللى بيشتروا مننا دايماً !
    كانت أسرتى ـ لظروف مفاجئة ، وقاسية ـ قد أصبحت بعض هؤلاء الزبائن الدائمين . ألفنا المكرونة ، والأرز ، وتقطيع البطاطس إلى شرائح فى صلصة الطماطم ، وقلى الباذنجان . أصبح الفول طبقاً رئيساً . ربما نزلت بالكسرولة الفارغة إلى دكان عم ربيع أكثر من مرة فى اليوم الواحد ..
    غلبنى الحرج . أزمعت أن أقصد ـ فى المرات التالية ـ دكاناً آخر فى الشوارع القريبة . الصداقة بينى وبين عم ربيع ، أو الكسل ، أو اعتبارات لا أذكرها ، أو لا أفهمها ، عادت بى إلى الدكان . تكرر حملى لكسرولة الفول ، وعودتى بها . أسلم نفسى لشرود . لا آخذ من عم ربيع ـ كما ألفت ـ وأعطى . أغتصب الإجابة إن ألح بالأسئلة .. لكننى ـ فى لحظة لا أذكرها ـ أعطيت انتباهى للأغنية التى كنت أحفظ كلماتها دون أن يشغلنى معناها ، وصلت الأحرف بالكلمات بالسطر الشعرى . غاظنى الثوب الفضفاض على جسد يعانى الهزال ..
    أستمع إلى أغنية النيل فى أى مكان ، فأنتقل إلى دكان عم ربيع بائع الفول . تلك هى اللحظة الوحيدة التى تذكرنى بها الأغنية .

  7. #7
    * مدرسة للغناء *
    ...................

    كتبت ـ مرات كثيرة ـ عن قهوة فاروق . تأثيرها المهم على الحياة السكندرية ، وعلى نظرتى ـ شخصياً ـ إلى الكثير من الأمور . ذلك ما يبين ـ على سبيل المثال ـ فى رباعية بحرى وقاضى البهار ينزل البحر وزمان الوصل وموسوعة بحرى وغيرها . قهوة فاروق ملمح أهم فى سيرتى الذاتية " حكايات عن جزيرة فاروس " . تعلمت من أغنيات الفونوغراف التى كانت تنبعث منها ـ فى أوقات الليل ـ ما أضاف إلى وجدانى . استمعت إلى أغنيات عبد الوهاب وأم كلثوم والأطرش وعبد الحى وليلى مراد وغيرهم من نجوم الغناء آنذاك . كانت أصواتهم أشبه بالمدرسة التى تعلمت فيها الغناء ، وأحببته ..
    عم أحمد الفكهانى ، مدرسة أخرى أضافت إلى وجدانى ..
    أحببت الغناء فى صوته . الكلمات نفسها ، أو ما يشبهها ، ذكرتها فى " حكايات عن جزيرة فاروس " . عربته المحملة بأقفاص الفاكهة ، فى ناصية الشارع الخلفى الفاصل بين بيتنا وجامع سيدى على تمراز . يبدأ البيع ، والغناء ، فى الصباح . لا أعرف الموعد تماماً لأنى وقتها أكون فى المدرسة . ربما ناوشتنى أغنياته وأنا ألعب فى حوش المدرسة ، فأرددها بينى وبين نفسى . أعود بعد صلاة الظهر . يتناهى غناؤه وأنا أقترب من الباب الرئيس للجامع : زغلول يا بلح .. لا تين ولا عنب زيك .. فيومى يا عنب .. خد الجميل يا قصب .. ياللى الهوا هزك يا مشمش ..
    أتأمل معنى الكلمات ، وطريقة الغناء ، وتلون نبرات الصوت . رغم التباين مع الأغنيات التى أستمع إليها فى البرنامج الإذاعى بابا شارو ، فإن الإحساس بالنشوة نفسه يتملكنى ..

  8. #8
    * كوارع *
    ............

    صحبنى أبى إلى شارع الميدان . اخترقنا الزحام وروائح السمك والشواء والقلى والفلفل الأسود والشطة والبخور ..
    تأمل أبى ، وقلّب ، وفاصل . حملت ما اشتراه : سجق اسكندرانى ، وجبنة بيضاء ، وزيتون ، وموز ، وبرتقال ، ومخللات ..
    بدا دكان الكوارع خالياً إلا من حامل خشبى ، تترامى منه أغنية كارم محمود : يا حلو ناديلى .. وشوف مناديلى ..
    تكومت الكوارع على عربة يد أمام الدكان ، وانشغل البائعان المتقابلان فى وقفتهما برش الماء على الكوارع ليضفيا عليها طزاجة تسر الناظرين ..
    سأل أبى عن ثمن زوج الكوارع ..
    اتجه أحد الرجلين إلى الآخر بنبرة متسائلة :
    ـ إيه تمن الجوز ؟
    قال البائع الثانى :
    ـ 18 صاغ ..
    وهو يومئ برأسه ناحية أبى :
    ـ وعشان الرجل الطيب ..
    ـ 16 صاغ ..
    ـ وعشانه كمان ..
    ـ 14 صاغ ..
    ـ وعشان ..
    قاطعه :
    ـ يبقى بخسارة ..
    عدنا بالكوارع إلى البيت . اقترح أبى أن نؤجل الغداء لتكون الكوارع هى طبق اليوم ..
    بعد ثلاث ساعات أو أربع ، بدأ تسللنا إلى المطبخ ، نتناول ـ من النملية ـ حبات زيتون أو قطعة جبن ، أو ثمرة فاكهة ..
    ظلت الكوارع ترفض النضج على نار وابور البريموس ، حتى علت أشعة الشمس ـ فى غروبها ـ أسطح البيوت المقابلة ..
    أطفأت أمى البريموس ، ودعتنا إلى استكمال ما كنا بدأنا فى تناوله من طعام النملية ..

  9. #9
    * خد بوسة *
    ...............

    حموده موده خليك تقيل .. خد بوسه وانزل تبقاش سقيل ..
    ظللت أردد كلمات الأغنية . أرتفع بالقرار ، وأهبط به . ألون فى المفردات ، والحروف ، وأمطها ..
    تنبه أبى فى مجلسه فى الحجرة المطلة على الميناء الشرقية ، إلى الكلمات التى كنت أدندن بها . تبين معنى مفرداتها ..
    ـ أين استمعت إلى هذه الأغنية ؟
    ـ فى السينما ..
    كنت قد صحبت عم إبراهيم زوج خادمتنا دهب إلى فيلم " صاحب بالين " بسينما استراند . لم أعد أفلت فرصة مصاحبته إلى السينما ، منذ شاهدت معه أول فيلم سينمائى " ليلى بنت الفقراء " بطولة ليلى مراد وأنور وجدى ..
    ما بقى فى ذاكرتى مشهد شكوكو وهو يصعد على سلم خشبى إلى شرفة تقف فيها سعاد مكاوى .. قال لها : حمودة فايت يا بنت الجيران .. ياوردة بيضا فى حزمة ريحان [ أتذكر الأغنية رغم مضى عشرات الأعوام على سماعى لها ] وغنى شكوكو : إدينى بوسة .. أنا زى اخوكى .. ناولينى ناولى .. يا بنت الجيران ..
    ردت عليه سعاد مكاوى بالكلمات التى خلوت إلى ألعابى وأنا أرددها ..
    رمق أبى عم إبراهيم ، اللائذ بالصمت والتأدب ، بنظرة متأملة :
    ـ الولد صغير على مثل هذه الأفلام ..
    قال عم إبراهيم فى لهجة معتذرة :
    ـ إنها مجرد أغنية .. ومحمد صغير كما قلتم ..
    علا صوت أبى بالغضب :
    ـ لا تعد إلى هذا ثانية !

  10. #10
    * كوسـة *
    ..............

    طلبت أمى أن أشترى لها أقتين كوسة . لم أكن أعرف الفرق بين أنواع الخضر . صحبت صديقى عادل الصبروتى إلى شارع الميدان ..
    كان الوقت ظهراً ، وثمة ـ أمام الدكان أول شارع وكالة الليمون ـ زحام ونداءات وصيحات وروائح متداخلة ، ويترامى من راديو المقهى المجاور صوت محمد عبد الوهاب :
    مين عذبك بتخلصه منى ..
    تناول عادل " بقوطى " وبدأ فى اختيار ثمار الكوسة .
    همس فى أذنى :
    ـ ساعدنى فى قطع رءوس الكوسة ليخف وزنها ..
    فاجأ البائع انشغالنا بما نفعل . أمسك بثمرة يتساقط منها ما يشبه الصمغ . وقال فى لهجة يشوبها الإشفاق على طفولتنا :
    ـ انظروا كيف تبكى من أذيتكم لها ..
    وأعاد الثمرة إلى موضعها :
    ـ حتى الأغنية تعيب فعلتكم !

صفحة 1 من 8 123 ... الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. انقلاب ( نصوص قصيرة جدا )
    بواسطة حسين العفنان في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 07-04-2012, 11:46 AM
  2. قصيدة أغنيات مبعثرة شعر / خالد أحمد البيطار
    بواسطة الشاعر خالد البيطار في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 10-29-2011, 07:26 PM
  3. الروائي محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 49
    آخر مشاركة: 09-21-2011, 05:57 AM
  4. خمس قصص قصيرة جدا، للقاص الكبير محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى منقولات قصصية
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 05-31-2009, 05:41 AM
  5. من أروع ما كتب محمد جبريل .. هذه القصة القصيرة
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى منقولات قصصية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 12-24-2008, 01:12 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •