مقدمة الطبعة العربية
كتب هذه المقدمة المفكر العربي الراحل: هشام شرابي أستاذ التاريخ في جامعة جورج تاون الأمريكية
في منتصف القرن التاسع عشر حدثت في اليابان (ثورة المايجي) التي كان لها أكبر الأثر ليس في تاريخ اليابان فحسب بل أيضاً، كما بينت أحداث القرن العشرين في تاريخ العالم بأكمله. من جراء هذه (الثورة) تحولت اليابان بظرف فترة لا تتجاوز حياة جيل. من مجتمع زراعي إقطاعي محافظ الى دولة عصرية صناعية حديثة. وأصبحت في النصف الأول من القرن العشرين قوة عسكرية كبرى، ثم بعد الحرب العالمية الثانية، قوة اقتصادية عظمى لا تجاريها سوى الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية.
حتى سنة 1866 عاشت اليابان في أحضان نظام إقطاعي كامل وحضارة يابانية خالصة في انقطاع تام عن العالم الخارجي. وفجأة، حدث التغير الداخلي، حدث بشكل عز نظيره في تاريخ الأمم، إذ قامت قيادة جديدة استلمت السلطة دون إراقة دماء وأعادت مركز الإمبراطور وقررت إنهاء العزلة اليابانية وبناء الدولة الموحدة والاقتصاد الصناعي القائم على النموذج الأوروبي. وهكذا خلال عقد أو عقدين من الزمن تمكنت اليابان من إحداث تغيير في المجتمع والدولة فاق بشموليته وجذريته ما حققته الثورة الفرنسية في آخر القرن الثامن عشر.
من الصعب تفسير التجربة اليابانية بشكل قاطع ونهائي، إلا أن هناك عوامل وراء هذه التجربة يمكن تحديدها، وأهمها (كما لخصها كووابارا تاكيدو أستاذ التاريخ في جامعة كيوتو، في دراسته) هي التالية:
ـ الموقع الجغرافي النائي الذي وفر لليابان الحماية ضد الغزو الخارجي وضد الاستعمار الغربي وسهل لها بعد الثورة مواصلة سياسة الانعزال النسبي.
ـ قيام عملية التحديث بمبادرة ذاتية وباستقلال تام عن أية سلطة خارجية استعمارية.
ـ التجانس الإثني والثقافي للمجتمع الياباني.
ـ امتداد سلام شامل في اليابان على مدى 250 سنة قبل قيام (المايجي) مما أدى الى تكوين نظام بيروقراطي في عهد (توكو غاوا) السابق للثورة يندر أن يكون له مثيل في العالم.
ـ التربية الشعبية والنسبة العالية للمتعلمين (43% للرجال و15% للنساء) عند قيام الثورة.
ـ انتشار اللغة الواحدة بين جميع اليابانيين.
ـ الوحدة الوطنية والاستقرار الاجتماعي اللذان غذيا الاعتماد الذاتي والأساليب العملية في التعامل السياسي والاقتصادي وأضعفا النزاعات العقائدية والفلسفية والدينية بين اليابانيين.
ـ القدرة على التكيف مما ساعد على نمو (روح صناعة تقدمية وديناميكية) تختلف كل الاختلاف عن الروح الزراعية والقبلية المحافظة.
ـ غياب العامل الديني عن السياسة وضعف النظام الطبقي بالمقارنة مع البلدان الصناعية المتقدمة.
قدمت الأبحاث التي يتألف منها هذا الكتاب في مؤتمر دولي عقد تحت رعاية جامعة الأمم المتحدة في اليابان وشارك فيها عددٌ من الكتاب والأخصائيين اليابانيين والصينيين والروس والأمريكيين. وتشكل هذه الأبحاث بمجموعها عرضاً متكاملاً لتجربة التحديث اليابانية من منطلقات مختلفة.
فيعالج القسم الأول ثورة (المايجي) على الصعيدين السياسي والاجتماعي، ويتناولها القسم الثاني من منظور العلاقات الدولية والعلاقات الخارجية. ويتألف القسم الثالث من دراسة شاملة للوعي المفاهيمي الذي رافق إصلاحات (المايجي). ويركز القسم الرابع على الثورة الثقافية ودور الأدب في تكوين الثقافة العليا والثقافة الشعبية. ويعالج القسم الخامس الإصلاحات التربوية التي تم إنجازها بعد الثورة مباشرة، ويحلل صيغ المعرفة الغربية التي تم نقلها في الفترة الأولى الحاسمة. أما القسم السادس والأخير فيعالج العوامل الرئيسية في عملية انتقال التكنولوجيا وتحقيق المقدرة الصناعية المستقلة لليابان.
إن إصدار هذه الأبحاث باللغة العربية من قبل مركز بحوث التجربة الإنمائية اليابانية في بيروت يشكل حدثاً هاماً في ساحة الفكر العربي وخطوة عملية هامة سيكون لها أثرها الكبير في الحوار القائم حول التنمية والتغيير في العالم العربي. والمركز هو ربما الوحيد بين المعاهد ومراكز البحث في العالم العربي الذي يتوجه الى (الشرق) والتجربة اليابانية بخاصة وليس الى الغرب ليستمد منه الدروس غير الغربية لتطبيقها في عملية التحديث.
ودافع المركز من دراسة اليابان وثورة (المايجي) ليس الرغبة في جعل اليابان نموذجا يستبدل به النموذج الغربي (الذي سارت عليه البلدان العربية منذ عصر النهضة) بل السعي لتفهم الفلسفة اليابانية وأدواتها والأساليب التي مكنتها من اقتناء التكنولوجيا الغربية وبناء المقدرة الذاتية على استعمالها دون الوقوع تحت هيمنة الغرب.
ومن هنا السؤال الذي يطرحه المركز ويحاول أن يستمد الإجابة عليه من خلال هذه الأبحاث.
ما هي الدروس في التجربة اليابانية التي يمكن للعالم العربي استخلاصها في نهاية القرن العشرين للخروج من حالة التبعية والتخبط والدخول في مرحلة جديدة من النمو والتغيير والحداثة؟