المرأة العربية والصالونات الأدبية.
=مي زيادة وصالونها الأدبي الشهير=
========================
هذه الصالونات التي كان يجتمع فيها كبار الأدباء والشعراء والسياسيين من رجال ونساء.
لم تكن الصالونات الأدبية في الماضي حكراً ووقفاً على الرجال، بل عرفت الصالونات الأدبية النسائية قديماً في مكة والمدينة والقاهرة وبغداد والأندلس..
وسعى إليها الشعراء والأدباء ورجال الفكر والسياسة، بل كانت المرأة العربية سبّاقة إلى تأسيس الصالونات الأدبية.
فقد عُرف في مكة صالون عُمْرَةَ الذي كان يتردد إليه كبار الشعراء لإنشاد ما ينظمونه من أشعار.
وفي العهد الأموي كثرت الصالونات الأدبية النسائية، فقد عُرف صالون سكينة بنت الحسين في المدينة، وكانت مشهورة بذوقها الأدبي وخبرتها النقدية، فكانت إذا حكمت بين شاعرين وقالت فلان أشعر من فلان لا يستطيع أحد أن يرد قولها، لأن شهادتها كانت عن علم ومعرفة.
وكانت المرأة في هذه الصالونات تجالس الرجال وتناقشهم في القضايا الفكرية والأدبية، دون أن تتخلى عن عفتها ورصانتها ووقارها..
وفي العصر العباسي اشتهر صالون فضل العبيدية، فقد كان بيتها في بغداد ملتقى الأدباء والشعراء، مثل علي بن الجهم وأبي دلف العجْلي.
وكانت المرأة في مصر والشام والعراق والأندلس في العصور الوسطى تغشى مجالس الأدب وتناظر الأدباء ويناظرونها.
فعائشة الباعونية كانت شاعرة وتلتقي الأدباء وتساجلهم في مجالسها الأدبية، وكانت شاعرة أديبة فقيهة، وقد تركت عدة مؤلفات معظمها في الشعر.
في الأندلس شاركت المرأة الرجال في تأسيس الصالونات الأدبية، فعرف صالون حفصة الركونية في غرناطة في القرن السادس الهجري، وكانت شاعرة أديبة تمنى الرجال خطب وُدِّعها.
وعرفت الأندلس أيضاً صالون الشاعرة ولادة بنت المستكفي في قرطبة، وكذلك صالون عائشة القرطبية ونزهون الغرناطية ألمع أديبات الأندلس، كان الشعراء والأدباء يتهافتون للاجتماع في صالونها.
وسارة الحلبية التي ذهبت من حلب إلى الأندلس، وعرفت بشعرها الجيد، وجالست الأدباء، وحظيت بلقاء ابن سلون الشاعر الكبير، فأنشدها قصيدة، وأنشدته قصيدة من شعرها, وكذلك عرفت حَمْدة التي اشتهرت باسم خنساء الأندلس لشعرها القوي.
بعد ذلك مرت مرحلة من الظلمة والجهل سادت العالم العربي والإسلامي عرفت هذه المرحلة الجمود الفكري والتقوقع والتعصب المذهبي والعرقي.. فظلمت المرأة ومُنعت عن العلم وطلبه، وحُرمت الأدبَ ومجالسه، فغاب اسمها عدة قرون، تلك القرون التي عرفت بالانحطاط والتخلف العلمي، فمن أيام ولادة بنت المستكفي، لم تعرف شاعرة أو أديبة، إلى أن ظهرت عائشة التيمورية التي أعادت للشعر أصالته وللمرأة دورها، وكان إلى جانبها أحمد فارس الشدياق ورفاعة الطهطاوي في القرن التاسع عشر فدعا إلى تعليم النساء وناضلا في سبيل ذلك كثيراً، فأسست المدارس الخاصة بالنساء، وبدأت النساء المثقفات بنشر مقالاتهنّ وقصائدهنّ، وبدأت بعضهنّ بنشر مقالاتهن وقصائدهن في الصحف والمجلات، لكن بأسماء مستعارة، فقد كان عيب أن يظهر اسم المرأة في صحيفة أو مجلة..!
ثم جاء قاسم أمين والإمام محمد عبده فتابعا المسيرة في دعوة النساء للتعليم للتخلص من الظلم والجهل.. ثم جاءت باحثة البادية ملك بنت حفني ناصيف.. وكثيرات غيرها..
كلّ ذلك جعل الصالونات النسائية الأدبية تعود للحياة من جديد، فعرفت لبنان ومصر ودمشق الكثير من هذه الصالونات والتي سنتحدث عن بعضها بإيجاز.
كذلك عرفت كثيرات أنشأن مجلات وصحف نسائية، ونساء أنشأن جمعيات تعتني بأمور البنات واليتيمات وكذلك أنشأن مدارس خاصة لهن.
سنذكر بعض الصالونات التي كانت تعقد ومازال بعضها قائماً إلى اليوم في لبنان وفلسطين والعراق ومصر والأردن وتونس والسعودية، ودمشق.
هذه الصالونات لعبت ومازالت تلعب دوراً كبيراً ومهماً، في تنوير النساء وتبصيرها للخير، وتشجيعها على ممارسة حقوقها وهواياتها، فإذا كان للمرأة نشاط أدبي أو إنساني اجتماعي خيري، أو سياسي، وعرفت كيف تنسق بين نشاطها وبيتها وأسرتها، تكون قد أفلحت وأنتجت ثماراً طيبة، تفيد مجتمعها وبلدها..
صالون مي زيادة:----------------------
===============================
ولدت مي زيادة 1860 في الناصرة بفلسطين، أبوها لبناني وأمها من فلسطين، دخلت لبنان عام 1899، وأتمت دراستها في مدرسة عين طورة، وفي عام 1911 انتقلت إلى مصر مع أهلها، وبدأت تنشر ما كانت تكتبه، لقد تركت عدة مؤلفات، وأشعار بالعربية والفرنسية، وكُتب عنها الكثير بعد أن توفيت 1941 وحيدة.
منحت مي زيادة ما بين 1910 وعام 1935 الناس أطيب ثمراتها الفكرية والأدبية، في كتبها ومحاضراتها، لذلك بلغت قمة المجد وملأت الدنيا بذكرها.
ويعد صالونها الأدبي في طليعة الصالونات النسائية الأدبية في القرن العشرين، فقد كانت تمتاز بصباحة الوجه، وحلاوة الحديث، وتحيط بالثقافتين العربية والأجنبية إحاطة تامة، وبقي صالونها مجمع الأدباء، ورجال الفكر والسياسة مدة ربع قرن، كان يُناقشُ في صالونها كتاب ظهر حديثاً، أو نقاش حول الحالة الاجتماعية في بلد ما، وكانت تشترك في الحديث وتديره بذهن يقظ، وذكاء مدرب، ولباقة نادرة، فهي فتاة تحب الحياة الاجتماعية، وتتذوق معطيات الحضارة.
اعتادت مي أن تستقبل كل يوم ثلاثاء نخبة من الأدباء والفنانين والمفكرين في صالونها في القاهرة، فيتباحثون في شؤونهم، ويتبادلون الرأي في نتاجهم، كما كانت تجمع في صالونها زعماء الأحزاب المختلفة، فينسون عندها منازعاتهم السياسية.
لقد اتسع صالونها الفريد من نوعه في الشرق العربي لمذاهب القول، وأشتات الفكر، وفنون الأدب، فكان مكاناً للحديث بكل لسان وكل علم، وملتقى لجميع الطوائف والأديان دون استثناء.
ومن أشهر حضورها أحمد زكي باشا شيخ العروبة، طه حسين، أحمد شوقي، أحمد لطفي السيد، مصطفى عبد الرزاق، خليل مطران، عباس محمود العقاد، شبلي شميل، حافظ إبراهيم، رشيد رضا، مصطفى صادق الرافعي، إبراهيم عبد القادر المازني، اتفقوا جميعاً على فهم مي، وإعجابهم بها وبمكانتها الأدبية، كان بينهم المؤمنون والملحدون، والأذكياء وأنصاف الأذكياء، التراثيون والعلمانيون، المقلدون والمجددون.
قال طه حسين عن صالونها: "كان صالوناً ديموقراطياً، أو قل إنه كان مفتوحاً".
وفي الحقيقة أنه كان لصالون مي من الأثر ما كان لصالون سكينة بنت الحسين من أثر في توجيه الذوق الأدبي، وكما لفتت سكينة أنظار الناس وإعجابهم، وجعلت النساء يقلدنها في تسريحة شعرها، لفتت مي أنظار أبناء جيلها، وكان كثير من الفتيات يحاولن تقليدها في إرسال شعورهم وراء ظهورهم بعناية.