مع عبق الفكر الفلسفي في ديوان العشق والادراك
لشاعر الكرمل الأستاذ معين حاطوم
بقلم الدكتور بطرس دلّة - كفر ياسيف
كلما قلبت صفحات هذا الديوان بمجالسه الستة أكتشف أنني إزاء شاعر وفيلسوف يسُخِّر الكلمة الحلوة الممزوجة بعبق الفكر الفلسفي باحثا عن حقيقة الوجود الإنساني الذي يتوق دائما وأبدا للوصول إلى الكمال. وبما أن كل كاتب أو مبدع يسعى في إبداعه نثرا أو شعرا, رسما أو نحتاً, موسيقى أو رقصا للوصول إلى هدف واحد مشترك إلا وهو الخلود في عالم الثقافة والحضارة. ولما كان الخلود ميزة من ميزات الألهه لأن الإنسان لا يملك هذه الصفة, لذلك فأنه يبحث عن الخلود بإبداع يبقى لمن يجيئون بعده فيخلد بإبداعه . ولذلك يبقى هذا الهدف طموحا صعب المنال, اللهم إلا على المبدعين المميزين يخوضون تجارب الكتابة على صفحات الفكر الفلسفية علهم يصلون طريق التوازن مع الكمال والطبيعة إلى الخلود الحقيقي.
أسوق هذه المقدمة لأنني لمست من قراءة هذا الديوان, المجلد الضخم الذي يضم بين دفتيه أربعمائة وخمسين صفحة, لمست فيه أفكارا فلسفية عميقة الغور تشبه إلى حدٍ كبير ما عرفناه عن رهين المحبسين أبو العلاء المعري وفكره الفلسفي وما نعرفه عن أنبياء الشرق الأقصى لدى بوذا وفي البراهميه عن الكارما أي النفس التي تتطهر عندما تولد أكثر من مرة كي تصل إلى الكمال عندئذ تضمن الخلود .
لغة الديوان: لشاعرنا لغة جميلة ولكنها مُطعَّمة بمصطلحات غريبة يخلفها الشاعر منثورة هنا وهناك تضفي على الديوان روعة الخروج عن المألوف. فهو لا يلجأ إلى اللغة المحكية بتاتا, إلا أنه يأتي بمصطلحات ينميها بنفسه فيها الكثير من التجديد من جهة ومن الخروج عما نعرفه من شوارد اللغة . فمثلا في صفحة 5 يكتب :
" لأن الشمس ما كانت
ولأنني أغنية
تأزر الكرمل خاصرتها الراقصة ؛
رفرفتُ : فراش ربيع
يرتحق من أثداء الزهور
فكلمة تأزر مستعارة من صفات الإنسان إلى الجماد وكلمة يرتحق أي يحصل على الرحيق من أثداء الزهور فيها تجديد أيضا. أما الأغنية خاصرة راقصة !
وفي نفس الصفحة يضيف :
أتأبط حكمتي
مرسنا رقاب الأحلام بحبل الرجاء
أجرها خلفي عنوة
كبعير يتمنع سيرا
في زمن انقرضت به الأحلام !
إذن هو يتأبط الحكمة
في الصفحة التالية يكتب :
" يضيء داومس اليقين
ببهجة ميسورة الحنين!
أو بمعنى ... يبهر مراتع النفور
من سحر الصحوة
فأين هي مراتع النفور وكيف يكون اليقين دامسا
كذلك يلجأ شاعرنا إلى المفارقة في الكلمات جيث يجمع بين متناقضين في قول واحد وذلك في محاولة منه لنقض الواقع المعاش من أجل تغييره !
في صفحة 7 يقول :
"تمُنح حريةً
كي تُستعبدَ"
فالمفارقة هنا بين الحرية والإستعباد كيف أذن تكون الحرية سببا في الإستعباد ؟!
هذا المضمون فيه تجديد بالفكر بسبب المعاناة التي يصفها الشاعر في المجلس الأول من بين مجالسه الست على طول الديوان.
جمال أية لغة يكمن في مدى ما يطعمها الكاتب من أساليب بلاغية والإنسجام بين المعاني وألفاظها !
في صفحة 8 يقول:
" طارحته الضوء " ونحن نعرف أن المطارحة تكون في الحب والوصال بين العاشق ومعشوقته! فهل الضوء توأم الحب الحقيقي ؟! نحن نمارس الحب في الظلام, لأن الظلام " آبوساتر" أي ستّار العيوب وإذا وجدنا أن شاعرنا يعارض هذه الممارسة إلا في النور فمعنى ذلك أنه ليس لديه أي عيوب جسدية يريد إخفاءها عن عيني معشوقته وليس في جسدها كذلك أي عيوب !
هنا تكمن قوة الشاعر الذي لخص الفكرة بكلمتين فقط وهذا هو المعنى الفلسفي الذي يلجأ إليه الشاعر على طول هذا الديوان .
في صفحة 12 يأتي الشاعر بنموذج آخر على بلاغة الإيجاز بقوله : "فقد مللت أن أكون طفلا نقيا ... مللت مللت !
أن حكمة الملل هذه تشير بطرف خفي إلى نضج تجربة الشاعر الحياتية ولذلك فهو ينتقل من حياة الطفولة الطاهرة إلى حياة الرجولة لأن لهفته باتت متربعة على الصبابة الفتية وكلما شاب القلب وشاب العقل كلما اقترب من النضوج اكثر وابتعد عن بساطة وعفوية الطفولة.
يعود صاحبنا في صفحة 14 إلى لغة المفارقة التي يتلاعب فيها بألفاظ متناقضة كقوله : "أسمعتم عن بهجة الأحزان ؟ " فأين تكون هذه البهجة ؟! أنها كامنة في أكمة وحدته الجرداء , فهل هو ناسك يعيش في صومعته بعيدا عن الناس أم أنه يعمل كما الأنبياء والفلاسفة الكبار الذين يخرجون في نزهة فكرية تأملية قبل وضع فلسفاتهم ونبوءاتهم ! وأنا أرجح الإمكانية الثانية لأن هذا الديوان يعج بالأفكار الفلسفية وهي ما يميز ديوانه !
معين حاطوم شاعر اللهفة والعشق :
في قصيدته " غفوة على أهداب النفس الراعد " يقول :
"عانقتك أيتها اللهفة
كمسبية تتشبث بأوتاد الخيام
خوفا من الغزاة
ولهوت بثورتك الملتهبة
كصائغ يذيب الذهب "
هذا العناق لللهفة هو محاولة من بطلنا لإطفاء نار الشوق واللهفة المتأججة, حنينا وشبقا لمن يحب. فالعناق الذي هو التواصل مع الحبيب يذوّب الشوق والشبق تماما كما يذوّب الصائغ الذهب !! فهل صناعة الحياة في العلاقة الجنسية شبيهة بصياغة الذهب ؟َ!
وهل يتوهم صاحبنا الذي يشكو من عبء قلب كهل أن العناق يوفر له البديل عن كهولة قلبه؟! وهل هو يشكو من ضياع اللهفة وكبر السن ؟! قد يكون ذلك صحيحا خاصة وأنه في نفس القصيدة يشكو من يأس من الحياة حيث تحولالى هشيم من الحزن يشتعل على قمة الأنين الجارح المتمرغ على حرير الشغف . وفي صفحة 25 يشكو من أن حدائقه قد ذوت بينما لديه أنثى مستعرة الشوق وشبق أما هو فليله ثلجي يعيش وحدته بطرب يذهب العقل ! فأي طرب هذا ؟ أنه الحزن ولكنه يلجأ إلى الضد لإبراز الواقع الذي يعيشه . فلنستمع إليه يغني لمعشوقته بقوله :
" أيتها المتصدرة عرش الحلم الوردي
في حدائق العمر الذاوية
أيتها الأنثى المستعرة
في ليلي الثلجي
أينك من وحدتي وشوقي
يا طرب يذهب بالعقل
وجمالا يرتوي منه الجمال !"
تزايد لهفته يوما بعد يوم فيكتب ذوب إحساسه شعرا رهيفا يورط الورد إذا ما مر عطر معشوقته في بساتين الورد ! ويتلعثم البلبل الفريد لان همس فاتنته يجعل مقل اليراع تدمع شعرا ( صفحة 41) :
" وكانت عيناك تشعل ببصيصها
موقد الكون في ظلمته السابحة
***
لتنير لجحافل النشوء سبل التكوين الأول
منذها
يتورط الورد كلما مر عطرك في بساتينه
ويتلبك البلبل كلما لمس همسك
أغاريد الحساسين
منذها تدمع مقل اليراع شعرا
ويغتسل به طيفك المغناج
فتغار من رقت جسدك
نعومة العاج
فهل بعد هذه الأوصاف رهافة أكبر من هذه الرهافة
عن شعر الحداثة
ما لاحظناه في ديوان العشق والإدراك هو أن شاعرنا الذي يُحسن كتابة الشعر العمودي المقفى وحسب بحور الخليل بن أحمد , فإنه عدا قصيدة واحدة من بين أربعمائة وخمسين صفحة شعر جاءت على الطريقة التقليدية الكلاسيكية وما تبقى كله على طريقة الشعر المحدث.
نحن لا نفضل هذا النوع من الشعر على غيره لانه طالما تثير بنا الكلمات والجرس الموسيقي رعشة لدى قراءتة او سماعه فمعنى ذلك انه شعر والا كان كلاما عاديا منثورا لا يمت الى الشعر بصلة.
صحيح ان المعاني تلعب دوراً هاماً في تقييم القصيدة الا ان اصالة الكلمة ومدى دخولها الى شغاف القلب ومدى ما فيها من جمالية وانسياب ومقدرة على استيعاب كل حساسيات الابداع والتجديد تلك لها قيمة كبرى. فالشعر المحدث يميل الى التغريب والابهام او التعمية بحيث يضطرنا الى البحث عن المعاني والرموز الخافية خلف السطور ثم ان الشاعر الحقيقي يجب ان يكون لديه حدس الكشف عن المجهول ولكن بدون الغاز ! فكما ان تفسير الشعر يفقده جماله كذلك كشف اسرار الكلمات يفقدها جمالها الخافي خلف السيطور.
وشاعرنا الاستاذ معين حاطوم تحرر من قيود القافية ومن موزونات الخليل ابن احمد ولم يبتعد عن المحسنات البلاغية التي باتت قديمة وبالية احياناً, لذلك تراه يبحث في ذاكرة الماضي عازفاً على اوتار اللغة مبدعاً الحاناً جديدة ليس فيها ناشز ولا مجافاة للذوق الادبي الرفيع . فقد كان موفقاً في نفض غبار الزمن عن لآلىء البلاغة فجاءت عصرية جميلة لا صناعة فيها بل بذوق كبير يبرز معانيها . ونحن نذكر البروفيسور لايبوفيتش الذي سئل كيف تعرِّف الفستان ؟
قال : الفستان يجب ان يكون طويلا ليستر شيئا ما, وضيقاً ليبرز شيئا ما . إذ هذه هي المقاييس السليمة للشعر الذي يحلق في عالم النور والمتعة . لذلك لا يمكن القول ان استاذنا معين قد هبط بلغة شعره الى النثر الحقيقي وذلك لان الجرس الموسيقي القائم في رنين الكلمات يشفع له في ان هذا الشعر هو حقا شعر.
وقد لاحظنا مدى ما في احلام الشاعر من شفافية وهواجس فكرية ورؤيا فاتنة تسبر غور الزمن في ايقاع نابض بدفء الوجود وبمشاعر مضطرمة وعاصفة جياشة نحو من يعشق في طريقه الى الادراك !
معين حاطوم وإدراك الله :
يحاول شاعرنا أن يمتزج بضوء الشمس كمؤمن فيختفي لأن هذا الضوء من نور الله فلا يبلغه نور مهما كان قويا ! وهو بهذا إنما يصل إلى إدراكه كنه الله بانه نور وعليه ان يتواضع في حضرة هذا النور , لأن الله هو خالق النار والنور والجمال وهو الذي خلق حواء بأنوثة مشحونة بنعيم العشق وجحيم الشبق !
لنقرأ ما يقول في صفحة 66 في قصيدة "أبناء العوز والحرمان ":
دم المساء ... روعة الشفق
وروعة الشعر
قتار قلب قد احترق
فتدثر يا وحيد الكرمل
بحزنك الغيبي
ما العمر إلا حبر وورق
أنا روح تمنعت لغيرك
فأبح صدرك لصدري
وبح بإكمال الهوى
فقد مللت الخرق
أيها المنساب كأنشيد سليمان
تدفق... تدفق... تدفق
كشلال ضوء وانعتق
أتيتك بأنوثة مشحونة
بنعيم العشق
وجحيم الشبق !"
وطالما أدرك شاعرنا كنه الله الذي هو سبب وجود الكون إذن لا بأس من أن يعرف صاحبنا أناهُ . فمن هي معشوقة معين حاطوم الذي أدرك كنه الله ؟!
يقول في صفحة 68 في تعريفها ما يلي :
" فما أنا سوى ملاكه
هبط عليك من علياء الحدس
أنا طعم الذوق
قبل أن يطيب للذوق, مذاق
ورسم الجمال قبل أن يولد الجميل
أنا لهفه الحب وسحر الهوى
قبل أن ينبض القلب وبالحبيب يهيم
أنا الشوق المستعر وصالا
قبل كل خافق يتوق
أنا أيها المخترق حواجز النور
مبدأ الأشياء قبل سعيها للتحقيق
أنا الخير العظيم
أنا أصل لفضل كل فضيل
أنا النشوة أنا الشهوة
قبل أن تتململ غريزة فيكم
وميولكم تميل
أنا ملاك فردوس من عل !"
هكذا ينتهي المجلس الأول فيدور الزمان بشاعرنا وهو يجلس على نوافذ المساء الكرملي بعد أن صال وجال في فيافي العمر بحثا.. وما زال . وعندما يصيبه اليائس والإحباط يعود لمناجاة محبوبته التي هي الشمس التي ما كانت ولم تعد تشرق من جديد عليه ! فيلفه الحزن واليأس لينتقل إلى المجلس الثاني والثالث حتى السادس الذي هو آخر المجالس
المجلس الثاني :
في هذا المجلس يفقد شاعرنا تسليته ويعيش وحدته !
في وحدته هذه يتخيل معشوقته عندما هاجت وباتت كمقلاة البركان الأرعن من يمتص غليون الكون العامر نافثاً دخاناً لا تحد اندفاعاته بارجات الامل او قاذفات الرجاء ! فاذا ما مرّ الهياج تتكور المعشوقة وتنبسط ثم تنثني وتتلولب وتسترخي وتنساب فيطلب منها ان تدعه في هجعته معتليا حدبه الإعصار ليسرق لليل الأبدي لون النهار من عينيها ونسمة يسكن بها ألم الدوار من روعة شفتيها (صفحة 108)
لا شك أن شاعرنا الذي غازل الكرمل والسماء في قصيدته : " قال الكرمل (صفحة 109) إنسان عاشق للأرض حتى ولو كان يعيش على بيادر الألم يدرس المقت ويرتوي بعرق الشقاء فيبكي عندما تقتله الوحدة ويعود إلى فلسفة التوازن المار ذكره , التوازن الذي لولاه لفنيت البشرية لذلك فنحن نسعى دائما للبقاء والخلود, ونأكل لنعيش ونشرب ونرقص من أجل زينة الحياة ونتزوج وننسل من أجل البقاء وخلود الجنس البشري ! فإذا كان آدم قد أكل من شجرة المعرفة فهو بذلك ضمن الخلود في صراعه للبقاء ! وهذا هو سر شاعرنا الذي عرف الله وعرف الخلود بالحب واللهفة وبقاء الجنس !
المجلس الثالث:
في هذا المجلس ينفجر الكمال في الطبيعة وفي حياة الإنسان . لأنه عندما إختلطت الأمور في نفس الشاعر أصبح الشوك خلايا ورد وكان الصمت نبض الصوت وإنقلبت الأمور كذلك بحيث لم تكن النار حامية ولا الثلج بارد وبات الضد يساند الضد !
هذه المتناقضات هي تهيؤات من خيال شاعرنا ومن نبات أفكاره يأخذنا معه في جولة إلى عالم الإبهام والتعمية لنبحر وراءه بعيدا في محيطات الحياة وقد نضل الطريق إذا ما سبقنا ! من هنا نستطيع أن نفهم لماذا يدعي أن الكمال قد إنفجر أي مات ونحن نعرف أن الكمال لله وحده ! ولما كان في المجلس الثاني قد عرف الله لذلك يدعونا إلى خلاصة فكرته هنا إلا وهي : أن أصل الخير يكمن في عملية دحض الشر ! أدحض الشر يصل إلى الخير !
المجلس الرابع :
يناقش الشاعر في هذا المجلس بعض الأفكار فيأتينا بالإثباتات من خلال جدليه المبنية على مبدأ الديلكتيك أي أن نجد نقاط الضعف في حجج الغير فقد خصها كما في قوله ( صفحة 198):
" أجمل ما في المرأة الجميلة
عدم إنتمائها لجنس الرجل !"
ويؤكد فلسفته في كتابه لأن شعره يكتب بمداد الوريد أي بدم كما قال شاعرنا الكبير محمود درويش:
إجرح القلب وارو شعرك منه فدم القلب حمرة الأقلام !
وينتقل من حديث الجمال إلى الهذيان حيث ينتقد حياة الإنسان أي إنسان عندما ينكمش حلمه فيولي هاربا إلى حلم آخر بسبب حياته المأساوية وبسبب الكبت والحرمان الذي يعاني منه إنساننا فأن أعصابنا تصيح بحاجة إلى مرآب لإصلاحها وليس لدينا مثل هذا المرآب, إذا فمرض مجتمعنا هو مرض عضال ولا شفاء منه. أرجو أن أذكر صديقنا الأستاذ معين حاطوم بالمقولة التي هذا نقلها : " لا يأس من الحياة!"
المجلس الخامس :
يتفنن شاعرنا بفتونة قصائده بشكل مغاير من ما نعرفه من دواوين لشعراء آخرين قرأنا لهم فهو مجدد أبدا شكلا ومضمونا
في هذا المجلس يبدو شاعرنا أكثر ثقة بمعرفة الله وبمعرفة كنه ذاته كما قال سقراط الحكيم في فلسفته التي تتلخص بأربع كلمات لا غير ,هي:
" أيها الإنسان إعرف نفسك"
ويعرف معين حاطوم مرة آخرى نفسه بقوله صفحة 242:
فأنا عقل يحن إلى الله وجسد يتوق إلى الخطيئة
وهو بذلك يعلن أن الإنسان يعيش في صراع دائم وتأرجح بين العقل والعاطفة !فمن سينتصر بالتالي : العقل أم العاطفة ؟!
من أجل الإجابة على هذا السؤال يتحفنا بقوله ( صفحة 243) :
" هكذا أنا
يذيبني الجمال
فأتسرب إلى مسامات النغم
أتموسق ...
فأعزف على أهداب حسناء رامشة
وأدندن بشفتي هيفاء
تناجي فارس القلب الغائر عليها
من شفق المساء المرصع
بقراط اللهفة المراهقة
فمن يجمع أشلائي ؟
أنه يرى أن جمال حبيبته معشوقته خرافي أي غير موجود ( لأن الخرافة غير حقيقية ) وهو لن تهدأ له حال إلا إذا ما إمتثلت معشوقته لرغبة قلبها التي هي قدرهُ فتعاند, لأن قلبه أخضر دائما وأبدا, أي لا يعرف الشيخوخة ! وهذه هي عودت الروح وبعد أن كان يأس في المجلسين السابقين عادت له الحيوية من جديد في هذا المجلس .
وما لا يقوى عليه القلب ستقوى عليه الروح وما لم يعد يقوى عليه العقل لم يعد ما تحتمله الروح ولذلك لم يعد ما يقوى عليه العقل وما تحتمله الروح وطالما غادر الحب قلبه فأنه لم يعود قادر على محبة الآخرين .
المجلس السادس والأخير :
في هذا المجلس يبحث شاعرنا عن الحقيقة \ اليقين يود لو يرتاح من أحمال السنين يطلب من حمامة نوح أن تأتيه بغصن الإدراك لأنه دخل الحياة جاهلا فهل سيخرج منها على جهله ؟!
أنه في هذا المجلس مختلف عن المجالس الخمسة السابقة, فقصائده تصبح مطولات كمن يريد أن يكتب ملحمة الحياة والوجود والموت وبهذا يثبت بما لا يقبل الشك أن لديه طاقات شعرية هائلة لا حدود لها لأنه لا تعيقه اللغة ولا الكلمات ولديه الكثير من المحسنات البليغة كالإستعارات والتشبيهات والجناسات وغيرها .
ويعود إلى معشوقته ليعلن إستعداده بالسماح لها بأن تعشق غيره ولكنه يعدها بأن الحياة مع غيره ليست سوى جحيم وأنه سيرضى بعذابه لأن العذاب يصقل الروح ويجملها تمشيا مع الحكمة القائلة : المصيبة أو الأزمة التي تصيبنا ولا تميتنا تجعلنا أجمل وأقوى .
وفي نهاية الديوان يصل الشاعر إلى أوج فلسفته في الحياة فيتحول إلى أنسان واعظ . بإسلوب شيق جميل فيصور الإنسان فراشة تحوم حول قناديل البدعة التي لا تطفأ فينساب في مسارب ضيقة يندفع فيها الى الضياع العصري وينسى ما هو فيه من ذل وإحباط وشلل, خاصة " وإن من يعقل الدنيا يعجز عن الفرح !
لذلك مهما استجدى ذلك الإنسان كثرةً من الحب ورشفة من الحنان فسوف يجد نفسه عالقاً بين شفافية غيم الصيف الشرقي وقتامة الصواعق , القادمة من كل مكان , فيتحول إلى لا أحد ويذهب من يأسه يبني هرماً في الغيم !
أخيراً :
ما يلفت النظر في هذا الديوان شكل اللوحات الرائعة على الطريقة السريالية بريشة الشاعر معين , فهو فنان الكلمة وفنان اللون ! وقد كنت اترك القراءة دائماً لأتأمل تلك اللوحات التي رسمها باللون الاسود فقط, وكل لوحة إنما هي تعبير عن فكرة موحية مرسومة بطريقة غريبة تتطلب وعياً وفهماً لفن الرسم وهي على بساطتها تبدو فيها روعة الخبرة الحياتية ولمحة الإحاء بما وراء اللوحة بشكل غير مباشر.
أخي معين ,
أهنئك على هذا الإبداع الرائع وعلى عمق أفكارك الفلسفية في الحياة , في الحب , في ادراك الله في لهفة العشق والشبق في تسخير الكلمة الحلوة لصياغة الفكر . وإذا كان الكلام الجدميل نوعاً من الرقص فإن قلوبنا نحن جمهور القراء ترقص طرباً مع قراءة أو سماع أي من قصائد هذا الديوان
بقلم
الدكتور بطرس دلة لشاعر الكرمل الأستاذ معين حاطوم
بقلم الدكتور بطرس دلّة - كفر ياسيف
كلما قلبت صفحات هذا الديوان بمجالسه الستة أكتشف أنني إزاء شاعر وفيلسوف يسُخِّر الكلمة الحلوة الممزوجة بعبق الفكر الفلسفي باحثا عن حقيقة الوجود الإنساني الذي يتوق دائما وأبدا للوصول إلى الكمال. وبما أن كل كاتب أو مبدع يسعى في إبداعه نثرا أو شعرا, رسما أو نحتاً, موسيقى أو رقصا للوصول إلى هدف واحد مشترك إلا وهو الخلود في عالم الثقافة والحضارة. ولما كان الخلود ميزة من ميزات الألهه لأن الإنسان لا يملك هذه الصفة, لذلك فأنه يبحث عن الخلود بإبداع يبقى لمن يجيئون بعده فيخلد بإبداعه . ولذلك يبقى هذا الهدف طموحا صعب المنال, اللهم إلا على المبدعين المميزين يخوضون تجارب الكتابة على صفحات الفكر الفلسفية علهم يصلون طريق التوازن مع الكمال والطبيعة إلى الخلود الحقيقي.
أسوق هذه المقدمة لأنني لمست من قراءة هذا الديوان, المجلد الضخم الذي يضم بين دفتيه أربعمائة وخمسين صفحة, لمست فيه أفكارا فلسفية عميقة الغور تشبه إلى حدٍ كبير ما عرفناه عن رهين المحبسين أبو العلاء المعري وفكره الفلسفي وما نعرفه عن أنبياء الشرق الأقصى لدى بوذا وفي البراهميه عن الكارما أي النفس التي تتطهر عندما تولد أكثر من مرة كي تصل إلى الكمال عندئذ تضمن الخلود .
لغة الديوان: لشاعرنا لغة جميلة ولكنها مُطعَّمة بمصطلحات غريبة يخلفها الشاعر منثورة هنا وهناك تضفي على الديوان روعة الخروج عن المألوف. فهو لا يلجأ إلى اللغة المحكية بتاتا, إلا أنه يأتي بمصطلحات ينميها بنفسه فيها الكثير من التجديد من جهة ومن الخروج عما نعرفه من شوارد اللغة . فمثلا في صفحة 5 يكتب :
" لأن الشمس ما كانت
ولأنني أغنية
تأزر الكرمل خاصرتها الراقصة ؛
رفرفتُ : فراش ربيع
يرتحق من أثداء الزهور
فكلمة تأزر مستعارة من صفات الإنسان إلى الجماد وكلمة يرتحق أي يحصل على الرحيق من أثداء الزهور فيها تجديد أيضا. أما الأغنية خاصرة راقصة !
وفي نفس الصفحة يضيف :
أتأبط حكمتي
مرسنا رقاب الأحلام بحبل الرجاء
أجرها خلفي عنوة
كبعير يتمنع سيرا
في زمن انقرضت به الأحلام !
إذن هو يتأبط الحكمة
في الصفحة التالية يكتب :
" يضيء داومس اليقين
ببهجة ميسورة الحنين!
أو بمعنى ... يبهر مراتع النفور
من سحر الصحوة
فأين هي مراتع النفور وكيف يكون اليقين دامسا
كذلك يلجأ شاعرنا إلى المفارقة في الكلمات جيث يجمع بين متناقضين في قول واحد وذلك في محاولة منه لنقض الواقع المعاش من أجل تغييره !
في صفحة 7 يقول :
"تمُنح حريةً
كي تُستعبدَ"
فالمفارقة هنا بين الحرية والإستعباد كيف أذن تكون الحرية سببا في الإستعباد ؟!
هذا المضمون فيه تجديد بالفكر بسبب المعاناة التي يصفها الشاعر في المجلس الأول من بين مجالسه الست على طول الديوان.
جمال أية لغة يكمن في مدى ما يطعمها الكاتب من أساليب بلاغية والإنسجام بين المعاني وألفاظها !
في صفحة 8 يقول:
" طارحته الضوء " ونحن نعرف أن المطارحة تكون في الحب والوصال بين العاشق ومعشوقته! فهل الضوء توأم الحب الحقيقي ؟! نحن نمارس الحب في الظلام, لأن الظلام " آبوساتر" أي ستّار العيوب وإذا وجدنا أن شاعرنا يعارض هذه الممارسة إلا في النور فمعنى ذلك أنه ليس لديه أي عيوب جسدية يريد إخفاءها عن عيني معشوقته وليس في جسدها كذلك أي عيوب !
هنا تكمن قوة الشاعر الذي لخص الفكرة بكلمتين فقط وهذا هو المعنى الفلسفي الذي يلجأ إليه الشاعر على طول هذا الديوان .
في صفحة 12 يأتي الشاعر بنموذج آخر على بلاغة الإيجاز بقوله : "فقد مللت أن أكون طفلا نقيا ... مللت مللت !
أن حكمة الملل هذه تشير بطرف خفي إلى نضج تجربة الشاعر الحياتية ولذلك فهو ينتقل من حياة الطفولة الطاهرة إلى حياة الرجولة لأن لهفته باتت متربعة على الصبابة الفتية وكلما شاب القلب وشاب العقل كلما اقترب من النضوج اكثر وابتعد عن بساطة وعفوية الطفولة.
يعود صاحبنا في صفحة 14 إلى لغة المفارقة التي يتلاعب فيها بألفاظ متناقضة كقوله : "أسمعتم عن بهجة الأحزان ؟ " فأين تكون هذه البهجة ؟! أنها كامنة في أكمة وحدته الجرداء , فهل هو ناسك يعيش في صومعته بعيدا عن الناس أم أنه يعمل كما الأنبياء والفلاسفة الكبار الذين يخرجون في نزهة فكرية تأملية قبل وضع فلسفاتهم ونبوءاتهم ! وأنا أرجح الإمكانية الثانية لأن هذا الديوان يعج بالأفكار الفلسفية وهي ما يميز ديوانه !
معين حاطوم شاعر اللهفة والعشق :
في قصيدته " غفوة على أهداب النفس الراعد " يقول :
"عانقتك أيتها اللهفة
كمسبية تتشبث بأوتاد الخيام
خوفا من الغزاة
ولهوت بثورتك الملتهبة
كصائغ يذيب الذهب "
هذا العناق لللهفة هو محاولة من بطلنا لإطفاء نار الشوق واللهفة المتأججة, حنينا وشبقا لمن يحب. فالعناق الذي هو التواصل مع الحبيب يذوّب الشوق والشبق تماما كما يذوّب الصائغ الذهب !! فهل صناعة الحياة في العلاقة الجنسية شبيهة بصياغة الذهب ؟َ!
وهل يتوهم صاحبنا الذي يشكو من عبء قلب كهل أن العناق يوفر له البديل عن كهولة قلبه؟! وهل هو يشكو من ضياع اللهفة وكبر السن ؟! قد يكون ذلك صحيحا خاصة وأنه في نفس القصيدة يشكو من يأس من الحياة حيث تحولالى هشيم من الحزن يشتعل على قمة الأنين الجارح المتمرغ على حرير الشغف . وفي صفحة 25 يشكو من أن حدائقه قد ذوت بينما لديه أنثى مستعرة الشوق وشبق أما هو فليله ثلجي يعيش وحدته بطرب يذهب العقل ! فأي طرب هذا ؟ أنه الحزن ولكنه يلجأ إلى الضد لإبراز الواقع الذي يعيشه . فلنستمع إليه يغني لمعشوقته بقوله :
" أيتها المتصدرة عرش الحلم الوردي
في حدائق العمر الذاوية
أيتها الأنثى المستعرة
في ليلي الثلجي
أينك من وحدتي وشوقي
يا طرب يذهب بالعقل
وجمالا يرتوي منه الجمال !"
تزايد لهفته يوما بعد يوم فيكتب ذوب إحساسه شعرا رهيفا يورط الورد إذا ما مر عطر معشوقته في بساتين الورد ! ويتلعثم البلبل الفريد لان همس فاتنته يجعل مقل اليراع تدمع شعرا ( صفحة 41) :
" وكانت عيناك تشعل ببصيصها
موقد الكون في ظلمته السابحة
***
لتنير لجحافل النشوء سبل التكوين الأول
منذها
يتورط الورد كلما مر عطرك في بساتينه
ويتلبك البلبل كلما لمس همسك
أغاريد الحساسين
منذها تدمع مقل اليراع شعرا
ويغتسل به طيفك المغناج
فتغار من رقت جسدك
نعومة العاج
فهل بعد هذه الأوصاف رهافة أكبر من هذه الرهافة
عن شعر الحداثة
ما لاحظناه في ديوان العشق والإدراك هو أن شاعرنا الذي يُحسن كتابة الشعر العمودي المقفى وحسب بحور الخليل بن أحمد , فإنه عدا قصيدة واحدة من بين أربعمائة وخمسين صفحة شعر جاءت على الطريقة التقليدية الكلاسيكية وما تبقى كله على طريقة الشعر المحدث.
نحن لا نفضل هذا النوع من الشعر على غيره لانه طالما تثير بنا الكلمات والجرس الموسيقي رعشة لدى قراءتة او سماعه فمعنى ذلك انه شعر والا كان كلاما عاديا منثورا لا يمت الى الشعر بصلة.
صحيح ان المعاني تلعب دوراً هاماً في تقييم القصيدة الا ان اصالة الكلمة ومدى دخولها الى شغاف القلب ومدى ما فيها من جمالية وانسياب ومقدرة على استيعاب كل حساسيات الابداع والتجديد تلك لها قيمة كبرى. فالشعر المحدث يميل الى التغريب والابهام او التعمية بحيث يضطرنا الى البحث عن المعاني والرموز الخافية خلف السطور ثم ان الشاعر الحقيقي يجب ان يكون لديه حدس الكشف عن المجهول ولكن بدون الغاز ! فكما ان تفسير الشعر يفقده جماله كذلك كشف اسرار الكلمات يفقدها جمالها الخافي خلف السيطور.
وشاعرنا الاستاذ معين حاطوم تحرر من قيود القافية ومن موزونات الخليل ابن احمد ولم يبتعد عن المحسنات البلاغية التي باتت قديمة وبالية احياناً, لذلك تراه يبحث في ذاكرة الماضي عازفاً على اوتار اللغة مبدعاً الحاناً جديدة ليس فيها ناشز ولا مجافاة للذوق الادبي الرفيع . فقد كان موفقاً في نفض غبار الزمن عن لآلىء البلاغة فجاءت عصرية جميلة لا صناعة فيها بل بذوق كبير يبرز معانيها . ونحن نذكر البروفيسور لايبوفيتش الذي سئل كيف تعرِّف الفستان ؟
قال : الفستان يجب ان يكون طويلا ليستر شيئا ما, وضيقاً ليبرز شيئا ما . إذ هذه هي المقاييس السليمة للشعر الذي يحلق في عالم النور والمتعة . لذلك لا يمكن القول ان استاذنا معين قد هبط بلغة شعره الى النثر الحقيقي وذلك لان الجرس الموسيقي القائم في رنين الكلمات يشفع له في ان هذا الشعر هو حقا شعر.
وقد لاحظنا مدى ما في احلام الشاعر من شفافية وهواجس فكرية ورؤيا فاتنة تسبر غور الزمن في ايقاع نابض بدفء الوجود وبمشاعر مضطرمة وعاصفة جياشة نحو من يعشق في طريقه الى الادراك !
معين حاطوم وإدراك الله :
يحاول شاعرنا أن يمتزج بضوء الشمس كمؤمن فيختفي لأن هذا الضوء من نور الله فلا يبلغه نور مهما كان قويا ! وهو بهذا إنما يصل إلى إدراكه كنه الله بانه نور وعليه ان يتواضع في حضرة هذا النور , لأن الله هو خالق النار والنور والجمال وهو الذي خلق حواء بأنوثة مشحونة بنعيم العشق وجحيم الشبق !
لنقرأ ما يقول في صفحة 66 في قصيدة "أبناء العوز والحرمان ":
دم المساء ... روعة الشفق
وروعة الشعر
قتار قلب قد احترق
فتدثر يا وحيد الكرمل
بحزنك الغيبي
ما العمر إلا حبر وورق
أنا روح تمنعت لغيرك
فأبح صدرك لصدري
وبح بإكمال الهوى
فقد مللت الخرق
أيها المنساب كأنشيد سليمان
تدفق... تدفق... تدفق
كشلال ضوء وانعتق
أتيتك بأنوثة مشحونة
بنعيم العشق
وجحيم الشبق !"
وطالما أدرك شاعرنا كنه الله الذي هو سبب وجود الكون إذن لا بأس من أن يعرف صاحبنا أناهُ . فمن هي معشوقة معين حاطوم الذي أدرك كنه الله ؟!
يقول في صفحة 68 في تعريفها ما يلي :
" فما أنا سوى ملاكه
هبط عليك من علياء الحدس
أنا طعم الذوق
قبل أن يطيب للذوق, مذاق
ورسم الجمال قبل أن يولد الجميل
أنا لهفه الحب وسحر الهوى
قبل أن ينبض القلب وبالحبيب يهيم
أنا الشوق المستعر وصالا
قبل كل خافق يتوق
أنا أيها المخترق حواجز النور
مبدأ الأشياء قبل سعيها للتحقيق
أنا الخير العظيم
أنا أصل لفضل كل فضيل
أنا النشوة أنا الشهوة
قبل أن تتململ غريزة فيكم
وميولكم تميل
أنا ملاك فردوس من عل !"
هكذا ينتهي المجلس الأول فيدور الزمان بشاعرنا وهو يجلس على نوافذ المساء الكرملي بعد أن صال وجال في فيافي العمر بحثا.. وما زال . وعندما يصيبه اليائس والإحباط يعود لمناجاة محبوبته التي هي الشمس التي ما كانت ولم تعد تشرق من جديد عليه ! فيلفه الحزن واليأس لينتقل إلى المجلس الثاني والثالث حتى السادس الذي هو آخر المجالس
المجلس الثاني :
في هذا المجلس يفقد شاعرنا تسليته ويعيش وحدته !
في وحدته هذه يتخيل معشوقته عندما هاجت وباتت كمقلاة البركان الأرعن من يمتص غليون الكون العامر نافثاً دخاناً لا تحد اندفاعاته بارجات الامل او قاذفات الرجاء ! فاذا ما مرّ الهياج تتكور المعشوقة وتنبسط ثم تنثني وتتلولب وتسترخي وتنساب فيطلب منها ان تدعه في هجعته معتليا حدبه الإعصار ليسرق لليل الأبدي لون النهار من عينيها ونسمة يسكن بها ألم الدوار من روعة شفتيها (صفحة 108)
لا شك أن شاعرنا الذي غازل الكرمل والسماء في قصيدته : " قال الكرمل (صفحة 109) إنسان عاشق للأرض حتى ولو كان يعيش على بيادر الألم يدرس المقت ويرتوي بعرق الشقاء فيبكي عندما تقتله الوحدة ويعود إلى فلسفة التوازن المار ذكره , التوازن الذي لولاه لفنيت البشرية لذلك فنحن نسعى دائما للبقاء والخلود, ونأكل لنعيش ونشرب ونرقص من أجل زينة الحياة ونتزوج وننسل من أجل البقاء وخلود الجنس البشري ! فإذا كان آدم قد أكل من شجرة المعرفة فهو بذلك ضمن الخلود في صراعه للبقاء ! وهذا هو سر شاعرنا الذي عرف الله وعرف الخلود بالحب واللهفة وبقاء الجنس !
المجلس الثالث:
في هذا المجلس ينفجر الكمال في الطبيعة وفي حياة الإنسان . لأنه عندما إختلطت الأمور في نفس الشاعر أصبح الشوك خلايا ورد وكان الصمت نبض الصوت وإنقلبت الأمور كذلك بحيث لم تكن النار حامية ولا الثلج بارد وبات الضد يساند الضد !
هذه المتناقضات هي تهيؤات من خيال شاعرنا ومن نبات أفكاره يأخذنا معه في جولة إلى عالم الإبهام والتعمية لنبحر وراءه بعيدا في محيطات الحياة وقد نضل الطريق إذا ما سبقنا ! من هنا نستطيع أن نفهم لماذا يدعي أن الكمال قد إنفجر أي مات ونحن نعرف أن الكمال لله وحده ! ولما كان في المجلس الثاني قد عرف الله لذلك يدعونا إلى خلاصة فكرته هنا إلا وهي : أن أصل الخير يكمن في عملية دحض الشر ! أدحض الشر يصل إلى الخير !
المجلس الرابع :
يناقش الشاعر في هذا المجلس بعض الأفكار فيأتينا بالإثباتات من خلال جدليه المبنية على مبدأ الديلكتيك أي أن نجد نقاط الضعف في حجج الغير فقد خصها كما في قوله ( صفحة 198):
" أجمل ما في المرأة الجميلة
عدم إنتمائها لجنس الرجل !"
ويؤكد فلسفته في كتابه لأن شعره يكتب بمداد الوريد أي بدم كما قال شاعرنا الكبير محمود درويش:
إجرح القلب وارو شعرك منه فدم القلب حمرة الأقلام !
وينتقل من حديث الجمال إلى الهذيان حيث ينتقد حياة الإنسان أي إنسان عندما ينكمش حلمه فيولي هاربا إلى حلم آخر بسبب حياته المأساوية وبسبب الكبت والحرمان الذي يعاني منه إنساننا فأن أعصابنا تصيح بحاجة إلى مرآب لإصلاحها وليس لدينا مثل هذا المرآب, إذا فمرض مجتمعنا هو مرض عضال ولا شفاء منه. أرجو أن أذكر صديقنا الأستاذ معين حاطوم بالمقولة التي هذا نقلها : " لا يأس من الحياة!"
المجلس الخامس :
يتفنن شاعرنا بفتونة قصائده بشكل مغاير من ما نعرفه من دواوين لشعراء آخرين قرأنا لهم فهو مجدد أبدا شكلا ومضمونا
في هذا المجلس يبدو شاعرنا أكثر ثقة بمعرفة الله وبمعرفة كنه ذاته كما قال سقراط الحكيم في فلسفته التي تتلخص بأربع كلمات لا غير ,هي:
" أيها الإنسان إعرف نفسك"
ويعرف معين حاطوم مرة آخرى نفسه بقوله صفحة 242:
فأنا عقل يحن إلى الله وجسد يتوق إلى الخطيئة
وهو بذلك يعلن أن الإنسان يعيش في صراع دائم وتأرجح بين العقل والعاطفة !فمن سينتصر بالتالي : العقل أم العاطفة ؟!
من أجل الإجابة على هذا السؤال يتحفنا بقوله ( صفحة 243) :
" هكذا أنا
يذيبني الجمال
فأتسرب إلى مسامات النغم
أتموسق ...
فأعزف على أهداب حسناء رامشة
وأدندن بشفتي هيفاء
تناجي فارس القلب الغائر عليها
من شفق المساء المرصع
بقراط اللهفة المراهقة
فمن يجمع أشلائي ؟
أنه يرى أن جمال حبيبته معشوقته خرافي أي غير موجود ( لأن الخرافة غير حقيقية ) وهو لن تهدأ له حال إلا إذا ما إمتثلت معشوقته لرغبة قلبها التي هي قدرهُ فتعاند, لأن قلبه أخضر دائما وأبدا, أي لا يعرف الشيخوخة ! وهذه هي عودت الروح وبعد أن كان يأس في المجلسين السابقين عادت له الحيوية من جديد في هذا المجلس .
وما لا يقوى عليه القلب ستقوى عليه الروح وما لم يعد يقوى عليه العقل لم يعد ما تحتمله الروح ولذلك لم يعد ما يقوى عليه العقل وما تحتمله الروح وطالما غادر الحب قلبه فأنه لم يعود قادر على محبة الآخرين .
المجلس السادس والأخير :
في هذا المجلس يبحث شاعرنا عن الحقيقة \ اليقين يود لو يرتاح من أحمال السنين يطلب من حمامة نوح أن تأتيه بغصن الإدراك لأنه دخل الحياة جاهلا فهل سيخرج منها على جهله ؟!
أنه في هذا المجلس مختلف عن المجالس الخمسة السابقة, فقصائده تصبح مطولات كمن يريد أن يكتب ملحمة الحياة والوجود والموت وبهذا يثبت بما لا يقبل الشك أن لديه طاقات شعرية هائلة لا حدود لها لأنه لا تعيقه اللغة ولا الكلمات ولديه الكثير من المحسنات البليغة كالإستعارات والتشبيهات والجناسات وغيرها .
ويعود إلى معشوقته ليعلن إستعداده بالسماح لها بأن تعشق غيره ولكنه يعدها بأن الحياة مع غيره ليست سوى جحيم وأنه سيرضى بعذابه لأن العذاب يصقل الروح ويجملها تمشيا مع الحكمة القائلة : المصيبة أو الأزمة التي تصيبنا ولا تميتنا تجعلنا أجمل وأقوى .
وفي نهاية الديوان يصل الشاعر إلى أوج فلسفته في الحياة فيتحول إلى أنسان واعظ . بإسلوب شيق جميل فيصور الإنسان فراشة تحوم حول قناديل البدعة التي لا تطفأ فينساب في مسارب ضيقة يندفع فيها الى الضياع العصري وينسى ما هو فيه من ذل وإحباط وشلل, خاصة " وإن من يعقل الدنيا يعجز عن الفرح !
لذلك مهما استجدى ذلك الإنسان كثرةً من الحب ورشفة من الحنان فسوف يجد نفسه عالقاً بين شفافية غيم الصيف الشرقي وقتامة الصواعق , القادمة من كل مكان , فيتحول إلى لا أحد ويذهب من يأسه يبني هرماً في الغيم !
أخيراً :
ما يلفت النظر في هذا الديوان شكل اللوحات الرائعة على الطريقة السريالية بريشة الشاعر معين , فهو فنان الكلمة وفنان اللون ! وقد كنت اترك القراءة دائماً لأتأمل تلك اللوحات التي رسمها باللون الاسود فقط, وكل لوحة إنما هي تعبير عن فكرة موحية مرسومة بطريقة غريبة تتطلب وعياً وفهماً لفن الرسم وهي على بساطتها تبدو فيها روعة الخبرة الحياتية ولمحة الإحاء بما وراء اللوحة بشكل غير مباشر.
أخي معين ,
أهنئك على هذا الإبداع الرائع وعلى عمق أفكارك الفلسفية في الحياة , في الحب , في ادراك الله في لهفة العشق والشبق في تسخير الكلمة الحلوة لصياغة الفكر . وإذا كان الكلام الجدميل نوعاً من الرقص فإن قلوبنا نحن جمهور القراء ترقص طرباً مع قراءة أو سماع أي من قصائد هذا الديوان
بقلم
الدكتور بطرس دلة لشاعر الكرمل الأستاذ معين حاطوم
بقلم الدكتور بطرس دلّة - كفر ياسيف
كلما قلبت صفحات هذا الديوان بمجالسه الستة أكتشف أنني إزاء شاعر وفيلسوف يسُخِّر الكلمة الحلوة الممزوجة بعبق الفكر الفلسفي باحثا عن حقيقة الوجود الإنساني الذي يتوق دائما وأبدا للوصول إلى الكمال. وبما أن كل كاتب أو مبدع يسعى في إبداعه نثرا أو شعرا, رسما أو نحتاً, موسيقى أو رقصا للوصول إلى هدف واحد مشترك إلا وهو الخلود في عالم الثقافة والحضارة. ولما كان الخلود ميزة من ميزات الألهه لأن الإنسان لا يملك هذه الصفة, لذلك فأنه يبحث عن الخلود بإبداع يبقى لمن يجيئون بعده فيخلد بإبداعه . ولذلك يبقى هذا الهدف طموحا صعب المنال, اللهم إلا على المبدعين المميزين يخوضون تجارب الكتابة على صفحات الفكر الفلسفية علهم يصلون طريق التوازن مع الكمال والطبيعة إلى الخلود الحقيقي.
أسوق هذه المقدمة لأنني لمست من قراءة هذا الديوان, المجلد الضخم الذي يضم بين دفتيه أربعمائة وخمسين صفحة, لمست فيه أفكارا فلسفية عميقة الغور تشبه إلى حدٍ كبير ما عرفناه عن رهين المحبسين أبو العلاء المعري وفكره الفلسفي وما نعرفه عن أنبياء الشرق الأقصى لدى بوذا وفي البراهميه عن الكارما أي النفس التي تتطهر عندما تولد أكثر من مرة كي تصل إلى الكمال عندئذ تضمن الخلود .
لغة الديوان: لشاعرنا لغة جميلة ولكنها مُطعَّمة بمصطلحات غريبة يخلفها الشاعر منثورة هنا وهناك تضفي على الديوان روعة الخروج عن المألوف. فهو لا يلجأ إلى اللغة المحكية بتاتا, إلا أنه يأتي بمصطلحات ينميها بنفسه فيها الكثير من التجديد من جهة ومن الخروج عما نعرفه من شوارد اللغة . فمثلا في صفحة 5 يكتب :
" لأن الشمس ما كانت
ولأنني أغنية
تأزر الكرمل خاصرتها الراقصة ؛
رفرفتُ : فراش ربيع
يرتحق من أثداء الزهور
فكلمة تأزر مستعارة من صفات الإنسان إلى الجماد وكلمة يرتحق أي يحصل على الرحيق من أثداء الزهور فيها تجديد أيضا. أما الأغنية خاصرة راقصة !
وفي نفس الصفحة يضيف :
أتأبط حكمتي
مرسنا رقاب الأحلام بحبل الرجاء
أجرها خلفي عنوة
كبعير يتمنع سيرا
في زمن انقرضت به الأحلام !
إذن هو يتأبط الحكمة
في الصفحة التالية يكتب :
" يضيء داومس اليقين
ببهجة ميسورة الحنين!
أو بمعنى ... يبهر مراتع النفور
من سحر الصحوة
فأين هي مراتع النفور وكيف يكون اليقين دامسا
كذلك يلجأ شاعرنا إلى المفارقة في الكلمات جيث يجمع بين متناقضين في قول واحد وذلك في محاولة منه لنقض الواقع المعاش من أجل تغييره !
في صفحة 7 يقول :
"تمُنح حريةً
كي تُستعبدَ"
فالمفارقة هنا بين الحرية والإستعباد كيف أذن تكون الحرية سببا في الإستعباد ؟!
هذا المضمون فيه تجديد بالفكر بسبب المعاناة التي يصفها الشاعر في المجلس الأول من بين مجالسه الست على طول الديوان.
جمال أية لغة يكمن في مدى ما يطعمها الكاتب من أساليب بلاغية والإنسجام بين المعاني وألفاظها !
في صفحة 8 يقول:
" طارحته الضوء " ونحن نعرف أن المطارحة تكون في الحب والوصال بين العاشق ومعشوقته! فهل الضوء توأم الحب الحقيقي ؟! نحن نمارس الحب في الظلام, لأن الظلام " آبوساتر" أي ستّار العيوب وإذا وجدنا أن شاعرنا يعارض هذه الممارسة إلا في النور فمعنى ذلك أنه ليس لديه أي عيوب جسدية يريد إخفاءها عن عيني معشوقته وليس في جسدها كذلك أي عيوب !
هنا تكمن قوة الشاعر الذي لخص الفكرة بكلمتين فقط وهذا هو المعنى الفلسفي الذي يلجأ إليه الشاعر على طول هذا الديوان .
في صفحة 12 يأتي الشاعر بنموذج آخر على بلاغة الإيجاز بقوله : "فقد مللت أن أكون طفلا نقيا ... مللت مللت !
أن حكمة الملل هذه تشير بطرف خفي إلى نضج تجربة الشاعر الحياتية ولذلك فهو ينتقل من حياة الطفولة الطاهرة إلى حياة الرجولة لأن لهفته باتت متربعة على الصبابة الفتية وكلما شاب القلب وشاب العقل كلما اقترب من النضوج اكثر وابتعد عن بساطة وعفوية الطفولة.
يعود صاحبنا في صفحة 14 إلى لغة المفارقة التي يتلاعب فيها بألفاظ متناقضة كقوله : "أسمعتم عن بهجة الأحزان ؟ " فأين تكون هذه البهجة ؟! أنها كامنة في أكمة وحدته الجرداء , فهل هو ناسك يعيش في صومعته بعيدا عن الناس أم أنه يعمل كما الأنبياء والفلاسفة الكبار الذين يخرجون في نزهة فكرية تأملية قبل وضع فلسفاتهم ونبوءاتهم ! وأنا أرجح الإمكانية الثانية لأن هذا الديوان يعج بالأفكار الفلسفية وهي ما يميز ديوانه !
معين حاطوم شاعر اللهفة والعشق :
في قصيدته " غفوة على أهداب النفس الراعد " يقول :
"عانقتك أيتها اللهفة
كمسبية تتشبث بأوتاد الخيام
خوفا من الغزاة
ولهوت بثورتك الملتهبة
كصائغ يذيب الذهب "
هذا العناق لللهفة هو محاولة من بطلنا لإطفاء نار الشوق واللهفة المتأججة, حنينا وشبقا لمن يحب. فالعناق الذي هو التواصل مع الحبيب يذوّب الشوق والشبق تماما كما يذوّب الصائغ الذهب !! فهل صناعة الحياة في العلاقة الجنسية شبيهة بصياغة الذهب ؟َ!
وهل يتوهم صاحبنا الذي يشكو من عبء قلب كهل أن العناق يوفر له البديل عن كهولة قلبه؟! وهل هو يشكو من ضياع اللهفة وكبر السن ؟! قد يكون ذلك صحيحا خاصة وأنه في نفس القصيدة يشكو من يأس من الحياة حيث تحولالى هشيم من الحزن يشتعل على قمة الأنين الجارح المتمرغ على حرير الشغف . وفي صفحة 25 يشكو من أن حدائقه قد ذوت بينما لديه أنثى مستعرة الشوق وشبق أما هو فليله ثلجي يعيش وحدته بطرب يذهب العقل ! فأي طرب هذا ؟ أنه الحزن ولكنه يلجأ إلى الضد لإبراز الواقع الذي يعيشه . فلنستمع إليه يغني لمعشوقته بقوله :
" أيتها المتصدرة عرش الحلم الوردي
في حدائق العمر الذاوية
أيتها الأنثى المستعرة
في ليلي الثلجي
أينك من وحدتي وشوقي
يا طرب يذهب بالعقل
وجمالا يرتوي منه الجمال !"
تزايد لهفته يوما بعد يوم فيكتب ذوب إحساسه شعرا رهيفا يورط الورد إذا ما مر عطر معشوقته في بساتين الورد ! ويتلعثم البلبل الفريد لان همس فاتنته يجعل مقل اليراع تدمع شعرا ( صفحة 41) :
" وكانت عيناك تشعل ببصيصها
موقد الكون في ظلمته السابحة
***
لتنير لجحافل النشوء سبل التكوين الأول
منذها
يتورط الورد كلما مر عطرك في بساتينه
ويتلبك البلبل كلما لمس همسك
أغاريد الحساسين
منذها تدمع مقل اليراع شعرا
ويغتسل به طيفك المغناج
فتغار من رقت جسدك
نعومة العاج
فهل بعد هذه الأوصاف رهافة أكبر من هذه الرهافة
عن شعر الحداثة
ما لاحظناه في ديوان العشق والإدراك هو أن شاعرنا الذي يُحسن كتابة الشعر العمودي المقفى وحسب بحور الخليل بن أحمد , فإنه عدا قصيدة واحدة من بين أربعمائة وخمسين صفحة شعر جاءت على الطريقة التقليدية الكلاسيكية وما تبقى كله على طريقة الشعر المحدث.
نحن لا نفضل هذا النوع من الشعر على غيره لانه طالما تثير بنا الكلمات والجرس الموسيقي رعشة لدى قراءتة او سماعه فمعنى ذلك انه شعر والا كان كلاما عاديا منثورا لا يمت الى الشعر بصلة.
صحيح ان المعاني تلعب دوراً هاماً في تقييم القصيدة الا ان اصالة الكلمة ومدى دخولها الى شغاف القلب ومدى ما فيها من جمالية وانسياب ومقدرة على استيعاب كل حساسيات الابداع والتجديد تلك لها قيمة كبرى. فالشعر المحدث يميل الى التغريب والابهام او التعمية بحيث يضطرنا الى البحث عن المعاني والرموز الخافية خلف السطور ثم ان الشاعر الحقيقي يجب ان يكون لديه حدس الكشف عن المجهول ولكن بدون الغاز ! فكما ان تفسير الشعر يفقده جماله كذلك كشف اسرار الكلمات يفقدها جمالها الخافي خلف السيطور.
وشاعرنا الاستاذ معين حاطوم تحرر من قيود القافية ومن موزونات الخليل ابن احمد ولم يبتعد عن المحسنات البلاغية التي باتت قديمة وبالية احياناً, لذلك تراه يبحث في ذاكرة الماضي عازفاً على اوتار اللغة مبدعاً الحاناً جديدة ليس فيها ناشز ولا مجافاة للذوق الادبي الرفيع . فقد كان موفقاً في نفض غبار الزمن عن لآلىء البلاغة فجاءت عصرية جميلة لا صناعة فيها بل بذوق كبير يبرز معانيها . ونحن نذكر البروفيسور لايبوفيتش الذي سئل كيف تعرِّف الفستان ؟
قال : الفستان يجب ان يكون طويلا ليستر شيئا ما, وضيقاً ليبرز شيئا ما . إذ هذه هي المقاييس السليمة للشعر الذي يحلق في عالم النور والمتعة . لذلك لا يمكن القول ان استاذنا معين قد هبط بلغة شعره الى النثر الحقيقي وذلك لان الجرس الموسيقي القائم في رنين الكلمات يشفع له في ان هذا الشعر هو حقا شعر.
وقد لاحظنا مدى ما في احلام الشاعر من شفافية وهواجس فكرية ورؤيا فاتنة تسبر غور الزمن في ايقاع نابض بدفء الوجود وبمشاعر مضطرمة وعاصفة جياشة نحو من يعشق في طريقه الى الادراك !
معين حاطوم وإدراك الله :
يحاول شاعرنا أن يمتزج بضوء الشمس كمؤمن فيختفي لأن هذا الضوء من نور الله فلا يبلغه نور مهما كان قويا ! وهو بهذا إنما يصل إلى إدراكه كنه الله بانه نور وعليه ان يتواضع في حضرة هذا النور , لأن الله هو خالق النار والنور والجمال وهو الذي خلق حواء بأنوثة مشحونة بنعيم العشق وجحيم الشبق !
لنقرأ ما يقول في صفحة 66 في قصيدة "أبناء العوز والحرمان ":
دم المساء ... روعة الشفق
وروعة الشعر
قتار قلب قد احترق
فتدثر يا وحيد الكرمل
بحزنك الغيبي
ما العمر إلا حبر وورق
أنا روح تمنعت لغيرك
فأبح صدرك لصدري
وبح بإكمال الهوى
فقد مللت الخرق
أيها المنساب كأنشيد سليمان
تدفق... تدفق... تدفق
كشلال ضوء وانعتق
أتيتك بأنوثة مشحونة
بنعيم العشق
وجحيم الشبق !"
وطالما أدرك شاعرنا كنه الله الذي هو سبب وجود الكون إذن لا بأس من أن يعرف صاحبنا أناهُ . فمن هي معشوقة معين حاطوم الذي أدرك كنه الله ؟!
يقول في صفحة 68 في تعريفها ما يلي :
" فما أنا سوى ملاكه
هبط عليك من علياء الحدس
أنا طعم الذوق
قبل أن يطيب للذوق, مذاق
ورسم الجمال قبل أن يولد الجميل
أنا لهفه الحب وسحر الهوى
قبل أن ينبض القلب وبالحبيب يهيم
أنا الشوق المستعر وصالا
قبل كل خافق يتوق
أنا أيها المخترق حواجز النور
مبدأ الأشياء قبل سعيها للتحقيق
أنا الخير العظيم
أنا أصل لفضل كل فضيل
أنا النشوة أنا الشهوة
قبل أن تتململ غريزة فيكم
وميولكم تميل
أنا ملاك فردوس من عل !"
هكذا ينتهي المجلس الأول فيدور الزمان بشاعرنا وهو يجلس على نوافذ المساء الكرملي بعد أن صال وجال في فيافي العمر بحثا.. وما زال . وعندما يصيبه اليائس والإحباط يعود لمناجاة محبوبته التي هي الشمس التي ما كانت ولم تعد تشرق من جديد عليه ! فيلفه الحزن واليأس لينتقل إلى المجلس الثاني والثالث حتى السادس الذي هو آخر المجالس
المجلس الثاني :
في هذا المجلس يفقد شاعرنا تسليته ويعيش وحدته !
في وحدته هذه يتخيل معشوقته عندما هاجت وباتت كمقلاة البركان الأرعن من يمتص غليون الكون العامر نافثاً دخاناً لا تحد اندفاعاته بارجات الامل او قاذفات الرجاء ! فاذا ما مرّ الهياج تتكور المعشوقة وتنبسط ثم تنثني وتتلولب وتسترخي وتنساب فيطلب منها ان تدعه في هجعته معتليا حدبه الإعصار ليسرق لليل الأبدي لون النهار من عينيها ونسمة يسكن بها ألم الدوار من روعة شفتيها (صفحة 108)
لا شك أن شاعرنا الذي غازل الكرمل والسماء في قصيدته : " قال الكرمل (صفحة 109) إنسان عاشق للأرض حتى ولو كان يعيش على بيادر الألم يدرس المقت ويرتوي بعرق الشقاء فيبكي عندما تقتله الوحدة ويعود إلى فلسفة التوازن المار ذكره , التوازن الذي لولاه لفنيت البشرية لذلك فنحن نسعى دائما للبقاء والخلود, ونأكل لنعيش ونشرب ونرقص من أجل زينة الحياة ونتزوج وننسل من أجل البقاء وخلود الجنس البشري ! فإذا كان آدم قد أكل من شجرة المعرفة فهو بذلك ضمن الخلود في صراعه للبقاء ! وهذا هو سر شاعرنا الذي عرف الله وعرف الخلود بالحب واللهفة وبقاء الجنس !
المجلس الثالث:
في هذا المجلس ينفجر الكمال في الطبيعة وفي حياة الإنسان . لأنه عندما إختلطت الأمور في نفس الشاعر أصبح الشوك خلايا ورد وكان الصمت نبض الصوت وإنقلبت الأمور كذلك بحيث لم تكن النار حامية ولا الثلج بارد وبات الضد يساند الضد !
هذه المتناقضات هي تهيؤات من خيال شاعرنا ومن نبات أفكاره يأخذنا معه في جولة إلى عالم الإبهام والتعمية لنبحر وراءه بعيدا في محيطات الحياة وقد نضل الطريق إذا ما سبقنا ! من هنا نستطيع أن نفهم لماذا يدعي أن الكمال قد إنفجر أي مات ونحن نعرف أن الكمال لله وحده ! ولما كان في المجلس الثاني قد عرف الله لذلك يدعونا إلى خلاصة فكرته هنا إلا وهي : أن أصل الخير يكمن في عملية دحض الشر ! أدحض الشر يصل إلى الخير !
المجلس الرابع :
يناقش الشاعر في هذا المجلس بعض الأفكار فيأتينا بالإثباتات من خلال جدليه المبنية على مبدأ الديلكتيك أي أن نجد نقاط الضعف في حجج الغير فقد خصها كما في قوله ( صفحة 198):
" أجمل ما في المرأة الجميلة
عدم إنتمائها لجنس الرجل !"
ويؤكد فلسفته في كتابه لأن شعره يكتب بمداد الوريد أي بدم كما قال شاعرنا الكبير محمود درويش:
إجرح القلب وارو شعرك منه فدم القلب حمرة الأقلام !
وينتقل من حديث الجمال إلى الهذيان حيث ينتقد حياة الإنسان أي إنسان عندما ينكمش حلمه فيولي هاربا إلى حلم آخر بسبب حياته المأساوية وبسبب الكبت والحرمان الذي يعاني منه إنساننا فأن أعصابنا تصيح بحاجة إلى مرآب لإصلاحها وليس لدينا مثل هذا المرآب, إذا فمرض مجتمعنا هو مرض عضال ولا شفاء منه. أرجو أن أذكر صديقنا الأستاذ معين حاطوم بالمقولة التي هذا نقلها : " لا يأس من الحياة!"
المجلس الخامس :
يتفنن شاعرنا بفتونة قصائده بشكل مغاير من ما نعرفه من دواوين لشعراء آخرين قرأنا لهم فهو مجدد أبدا شكلا ومضمونا
في هذا المجلس يبدو شاعرنا أكثر ثقة بمعرفة الله وبمعرفة كنه ذاته كما قال سقراط الحكيم في فلسفته التي تتلخص بأربع كلمات لا غير ,هي:
" أيها الإنسان إعرف نفسك"
ويعرف معين حاطوم مرة آخرى نفسه بقوله صفحة 242:
فأنا عقل يحن إلى الله وجسد يتوق إلى الخطيئة
وهو بذلك يعلن أن الإنسان يعيش في صراع دائم وتأرجح بين العقل والعاطفة !فمن سينتصر بالتالي : العقل أم العاطفة ؟!
من أجل الإجابة على هذا السؤال يتحفنا بقوله ( صفحة 243) :
" هكذا أنا
يذيبني الجمال
فأتسرب إلى مسامات النغم
أتموسق ...
فأعزف على أهداب حسناء رامشة
وأدندن بشفتي هيفاء
تناجي فارس القلب الغائر عليها
من شفق المساء المرصع
بقراط اللهفة المراهقة
فمن يجمع أشلائي ؟
أنه يرى أن جمال حبيبته معشوقته خرافي أي غير موجود ( لأن الخرافة غير حقيقية ) وهو لن تهدأ له حال إلا إذا ما إمتثلت معشوقته لرغبة قلبها التي هي قدرهُ فتعاند, لأن قلبه أخضر دائما وأبدا, أي لا يعرف الشيخوخة ! وهذه هي عودت الروح وبعد أن كان يأس في المجلسين السابقين عادت له الحيوية من جديد في هذا المجلس .
وما لا يقوى عليه القلب ستقوى عليه الروح وما لم يعد يقوى عليه العقل لم يعد ما تحتمله الروح ولذلك لم يعد ما يقوى عليه العقل وما تحتمله الروح وطالما غادر الحب قلبه فأنه لم يعود قادر على محبة الآخرين .
المجلس السادس والأخير :
في هذا المجلس يبحث شاعرنا عن الحقيقة \ اليقين يود لو يرتاح من أحمال السنين يطلب من حمامة نوح أن تأتيه بغصن الإدراك لأنه دخل الحياة جاهلا فهل سيخرج منها على جهله ؟!
أنه في هذا المجلس مختلف عن المجالس الخمسة السابقة, فقصائده تصبح مطولات كمن يريد أن يكتب ملحمة الحياة والوجود والموت وبهذا يثبت بما لا يقبل الشك أن لديه طاقات شعرية هائلة لا حدود لها لأنه لا تعيقه اللغة ولا الكلمات ولديه الكثير من المحسنات البليغة كالإستعارات والتشبيهات والجناسات وغيرها .
ويعود إلى معشوقته ليعلن إستعداده بالسماح لها بأن تعشق غيره ولكنه يعدها بأن الحياة مع غيره ليست سوى جحيم وأنه سيرضى بعذابه لأن العذاب يصقل الروح ويجملها تمشيا مع الحكمة القائلة : المصيبة أو الأزمة التي تصيبنا ولا تميتنا تجعلنا أجمل وأقوى .
وفي نهاية الديوان يصل الشاعر إلى أوج فلسفته في الحياة فيتحول إلى أنسان واعظ . بإسلوب شيق جميل فيصور الإنسان فراشة تحوم حول قناديل البدعة التي لا تطفأ فينساب في مسارب ضيقة يندفع فيها الى الضياع العصري وينسى ما هو فيه من ذل وإحباط وشلل, خاصة " وإن من يعقل الدنيا يعجز عن الفرح !
لذلك مهما استجدى ذلك الإنسان كثرةً من الحب ورشفة من الحنان فسوف يجد نفسه عالقاً بين شفافية غيم الصيف الشرقي وقتامة الصواعق , القادمة من كل مكان , فيتحول إلى لا أحد ويذهب من يأسه يبني هرماً في الغيم !
أخيراً :
ما يلفت النظر في هذا الديوان شكل اللوحات الرائعة على الطريقة السريالية بريشة الشاعر معين , فهو فنان الكلمة وفنان اللون ! وقد كنت اترك القراءة دائماً لأتأمل تلك اللوحات التي رسمها باللون الاسود فقط, وكل لوحة إنما هي تعبير عن فكرة موحية مرسومة بطريقة غريبة تتطلب وعياً وفهماً لفن الرسم وهي على بساطتها تبدو فيها روعة الخبرة الحياتية ولمحة الإحاء بما وراء اللوحة بشكل غير مباشر.
أخي معين ,
أهنئك على هذا الإبداع الرائع وعلى عمق أفكارك الفلسفية في الحياة , في الحب , في ادراك الله في لهفة العشق والشبق في تسخير الكلمة الحلوة لصياغة الفكر . وإذا كان الكلام الجدميل نوعاً من الرقص فإن قلوبنا نحن جمهور القراء ترقص طرباً مع قراءة أو سماع أي من قصائد هذا الديوان
بقلم
الدكتور بطرس دلة
www.moeen-hatoom.com
