رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
وتهيأ القاضي لتلقي اعتراف صقر كما تهيأ مساعده للتدوين ولكن عناد صقر عاوده , فابتسم بسمة صفراوية
ثم قال:
-هل صدقت أن لي نشاطا إجراميا؟أنا لم أفعل شيئا
وبهت القاضي ,فإن هذه النفس القاسية لن تلين بهذا الأسلوب وقال القاضي:
-اسمع قصة ما فعلته أنت بلسان فؤاد , أنطق يا فؤاد.
وقال فؤاد:
-رسم لنا صقر خطة ما يتوجب علينا تنفيذه , فسرنا على خط مستقيم متفرقين متهيئين ,عند إشارة مخصوصة,ومتى أعطى صقر هذه الإشارة التأم شملنا وأصبحنا كتلة واحدة.وكان الشهر شهر رمضان وكان الوقت قبل المغيب .كان الطريق كلما مرت الدقائق يقذف بمشاته إلى دورهم سواء بالسيارات أو على الدراجات أو على الدواب.
وكنا نحن ننتظر حظنا واتفق أن الطريق في تلك الساعة قد خلا من أي شرطي , فلما وصلنا إلى مكان منعزل بصرنا برجل على دراجته مسرعة وبإشارة من صقر وقفت ووقف معي اثنان آخرين من العصابة أمام الدراجة فترنحت يمينا ويسارا بسبب استعمال راكبها للكابح استعمالا مفاجئا وعنيفا , ثم انقلب على جنبه وهو يشتم:
-كلب بن كلب. لعنة الله عليكم كدتم أن تبلوني فيكم.
وأجابه صقر:
-اخرس وإلا أخرسناك.
كان الرجل أطول منا جميعا وأكثر امتلاء,فما أن سمع ما وجهه إليه صقر من هجر القول حتى ارقد دراجته على الأرض ونهض كسبع. ورمى نفسه على صقر,وبإشارة من صقر تلقفناه بالضرب بينما كانت يدا صقر تلعب في جيوبه.وقد صدق حدسنا, فالرجل كان عائدا من عمله في تعهد بناء وهو معلم في ذلك التعهد تبين لنا ذلك من الأوراق التي كانت في جيوبه , وقد قبض"خمسيته"أي تعويضاته الأسبوعية ويبدو أن صقر يعلم أن العمال إنما يتقاضون أجورهم كل يوم خميس.
وبان اليأس على الرجل فمد يده إلى جيبه . وخشي صقر وخشينا أن تخرج بسلاح فكان أسرع منه فطعنه بخاصرته فتكوم على الأرض وتناولنا غنيمتنا وأسلم كل واحد منا ساقيه للريح. لم تمض أقل من ربع ساعة, حتى اجتمعنا في المكان المتفق عليه, وتقاسمنا الغنيمة.
وسأل القاضي صقرا:
-ماذا تقول بإفادة رفيقك؟
-كلها ملفقة ولا صحة لها.
-حسنا, ستجدها عما قليل أصح من الصحيح.ص 59
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
وأوجز القاضي إلى آذنه فإذا بباب المكتب ينفتح ويدخله منه رجل ملفوف الرأس بالشاش.وسأل فؤاد:
-هل تعرف هذا الرجل؟
وأفاد فؤاد:
-نعم ,إنه الرجل صاحب الدراجة الذي قصصت عليكم قصته.
وسأل القاضي صقرا:
-ماذا تقول في كل هذا؟
-...........
وسأل القاضي الرجل:
- هل تعرف هؤلاء؟
- -نعم , إنهم الأشخاص الذين سلبوني على الطريق..
- وبينما كان صقر ينظر بنظرة ملتهبة إلى فؤاد كانت يد القاضي تقلب ملفات كثيرة أمامه, فاستخرج منها ملفا وجعل يقرأ فيه. وقال القاضي:
- -أتدري يا صقر من أمر هذه الملفات شيئا؟
- كان صقر مقطبا جهم الوجه فلم يجب:
- -إنها ملفات يتيمة ,هل تدري ما هي الملفات اليتيمة؟
وظل صقر متجهم الوجه صامتا..
-هي الملفات التي لم يعثر في الماضي على فاعل الجريمة فيها ولكن من حسن حظك أن الرجل لم يمت.
وتوقف القاضي قليلا ثم وجه كلامه لفؤاد:
-أتمم حد يشك يا فؤاد..
-في أحد الأيام رأينا سيارة تقف في جوار دار وكان زجاجها مفتوحا لم تكن نفقه شيئا في قيادة السيارة.. ولكن أخذنا حقد لم نعرف مأتاه على صاحبها الغائب, فدخلت أنا فيها وخربت بعض أجهزتها , وكسر واحد آخر منا الأنتين, الكائن على رفرافها, إلا أنني اهتديت إلى تحريرها من كابحها وتمكنا جميعا من دفعها حتى أصبحت في رأس طرق منحدر حتى تركناها تهوي رويدا رويدا, واختبأنا في ناصية الشارع.
فشاهدنا الناس يتسابقون في الفرار من وجهها وهم يتصايحون ويشتمون ويلعنون.وظلت السيارة في انحداهرها حتى وصلت إلى مستقر لها في شارع آخر.
وسأله القاضي:
-هل دهست السيارة أحدا؟
-مطلقا.
-يبدو أن حسن الطالع يحالفكم في كل جرائمكم ياصقر.
وأضاف فؤاد:
-في مرة ثانية لم نعن بمثل ذلك وإنما خربنا الأجهزة ,وبقرار واحدمنا بموسى إطارات العجلات.
ص 62
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
في تلك اللحظة فتح الباب قاضي التحقيق ودخل رجل الضابطة وبيده غلام لم يتجاوز الثانية عشرة وقال:
- سيادة القاضي , هذا "حبيب" الغلام المدعي عليه في قضية سرقة الدراجات.
وأوعز القاضي للغلام بالجلوس , ولم يمض على دخوله ثانيتان حتى طرق الباب . وحين سمح القاضي للطارق بالدخول فتح الباب وظهر فيه رجل بادن ربعة غليظ العنق , بدا وكأنه قام من فوره عن وليمة دسمة وظل وهو وإن كان حيا قائلا صباح الخير سيادة القاضي , إلا انه بدا وكأنه يتفضل على الآخرين بتحيته.
رد القاضي التحية ودعا القادم إلى الجلوس , فجلس , والتفت فإذا الاهتمام باد على كل من تقاطيع وجهه صقر بهذا الرجل.
بلى .. لقد عرف صقر هذا الرجل
بلى ..لقد عرف صقر هذا صقر هذا الرجل كما عرف أنه ممن يدخلون مثل هذا الدخول .لقد كان شاهده في مكان ما وسمعه يتحدث كأنه جدول منحدر من جبل ,كان في ذلك المكان يتحدث إلى صاحب محل تصريف الحشيش المخدر , ألم يتخل هذا له عن مقعده فيجلس عليه بدون كلمة شكرا؟ألم يطلب منه وكأنه يأمره بأن يضاعف جهده لإنجاحه في الانتخابات النيابية؟
الآن وضحت الصورة في ذهن صقر بعد أن خفت ذاكرته إلى نجدته . واستخفه شعور جديد كل الجدة , فإنه ليبدو له من المحقق أن القاضي سيتحدث مع الرجل على مسمع منه,وإذن فلا بد أن يعلم جلية الأمر واشرأب الفضول في عينيه ظمآن.
لم يخيب الرجل ظن صقر , فإنه خرق جدار الصمت وقال للقاضي:
-جئت بشأن مخدومك "حبيب"
-إنه يخصك ولاشك.
-إنه ابني
-أتعلم ما الذي اجترحه غلامك هذا؟
-أعلم .. وأعلم أيضا أن الأمر لا يعدو كونه نشاطا صبيانيا.
-لقد تعدى الأمر هذا الحد , فأصبح جريمة.. محاولة قتل.
-ماكنت أعلم هذا , وإذن فالأمر يستحق عطفك ياقضينا.
شعر صقر أن هذه اللهجة لم ترق للقاضي , لقد وجد فيها شيئا من الخفض وبدا أنه يحاول كبح جماح غضبه فقال للرجل:
-كنت أتوقع أن تطلب مني وضع الغلام في الإصلاحية كيما يصار إلى تأديبه , فذلك أدعى إلى أن تجتث جذور الشر من نفسه.
-وماذا أفعل ؟قلت أن الأمر لايعدو أن يكون نشاطا صبيانيا
-هذا النشاط الذي من هذا النوع هو الذي عينوني لمكافحته . إنه غدا من نوع الجناية.
-أنت متعصب أكثر من اللازم للقواعد.ص 63
رد: رواية/الخندق بعد الأخير/عبد الإله الخاني
-من الخير أن ينتهي حديثنا عند هذا الحد.
خرجت هذه الكلمات الأخيرة من فم القاضي وهو أكثر ما يكون هدوء إلا أن الرجل تغير لونه لدى سماعة أيها وقد بدت بوادر النذر من خلالها . فنهض الرجل دفعة واحدة وخرج . وتابع القاضي عمله.
أما صقر فقد فتنه أن يرى ولد المرشح للنيابة معه في نطاق واحد وقامت بينه وبين نفسه محاورة . كانت على "حبيب" سراويل من الجلد مخرقة وقميص مهلهل . وقال صقر لنفسه:
-الآن أتساوى أنا وهذا الغلام ,فإنني وإن لم أكن أعرفه قبل هذه الساعة , إلا أنني أشعر بأنني أعرفه منذ وفد إلى هذه الدنيا .إنه صنو لي لا فرق بيني وبينه , وقد جاء أبوه ليستنقذه من يد القاضي.
وود صقر لو بقي بين يدي القاضي حتى ينجز استجواب الغلام حبيب.. فمن المحقق أن وراءه أسرارا يروق له استجلاؤها..إنه زميل له
- وإن لم يعرفه قبل ذلك –في العمل. وكل صاحب مهنة يلذ له أن ينكشف أمامه زميله في المهنة.
وجاء قرار القاضي باستجواب حبيب محققا لأمل صقر وإن لم يدرك هذا الأخير السر الذي جعل استجواب حبيب يتقدم استجوابه هو عن الوقائع التي كشف عنها فؤاد أخيرا.
ولبث صقر وكله آذان يستمع إلى حبيب وهو يسرد أمام القاضي بدون أن يتحرج كل ما اجترحه وإذا به هو يستشعر كرها لهذا الغلام.
وأرسل بقرار التوقيف إلى رئيس النيابه لمشاهدته, وجاء فورا نبأ سعى به أحد الكتاب يفيد أن النائب العام قد استأنف قراره بالتوقيف , ولبث القاضي ينتظر ما سيقرر عند قاضي الإحالة الذي سينتظر في هذا الاستئناف.
وإذا بدهشة تتعاظم عندما عادت الأوراق وقد اقترنت بقرار من قاضي الإحالة بفسخ قراره بتوقيف "حبيب" ثم بإطلاق سراحه لصغره لصغره , وهو مانم عليه بتقرير طبي ينزل بسنة إلى ماتحت السابقة.
وبان الغضب على وجه القاضي فاتخذ قرارا بتوقيف صقر, وهو يقول:
-الآن سنرى أين طالعك من حظ زميلك حبيب.
وعادت الأوراق بعد إرسالها إلى النائب العام مقترنة بالموافقة على التوقيف .
وأوعز القاضي إلى رجل الضابطة بنقل صقر إلى دار.
الأحداث , إلا أن ما حدث بعد ذلك أن صقر تملص من يد رجل الضابطة الذي ما إن بغته الأمر حتى سد الطريق على صقر , فما كان من هذا الأخير إلا أن انزلق على الأرض ودخل بين ساقي الشرطي ليخرج من الجهة الثانية ويختفي.
....ص 67