الدولة الإسلامية: الحاكم خادم للشعب (15)
مصطفى إنشاصي
في الحلقات الماضية حاولنا توضيح الخلل الذي وقع فيه المتغربون من أبناء وطننا عند اتصالهم بالغرب وانبهارهم بمظاهر الحضارة الغربية، ومحاولاتهم نقل تجربة الغرب مع الدين النصراني (حكم الكنيسة ورجال الدين) طوال فترة العصور الوسطى الأوروبية واستنساخها وإسقاطها على الدين الإسلامي دون تمييز لأي فارق بين الدينين، سواء مصدر كل منهما لأنه هناك فرق بين دين كتابه وحي من الله تعالى – الإسلام - وبين دين كتبه ورسائله كتبها البشر – اليهودية والنصرانية - أو بين تاريخهما وممارستهما التي سبق أن ذكرنا بعضها!
وأوضحنا أنه يستحيل أن تتطابق تجربة الغرب مع ديننا مهما قدمنا من تنازلات أو حاولنا تجميل عمليات الاستنساخ المشوهة التي شوهت واقع الأمة وعقدت أزماتها وعمقت نكباتها، لأنهم خلطوا بين الدين والقانون وليس بين الدين والسياسة لأن الدين الإسلامي أشمل من فهمهم المحدود له على أنه مجموعة من الشعائر والعبادات التي يجب أن تكون علاقة بين الإنسان وربه فقط على الطريقة الغربية، وأوضحنا أن المشكلة ليست بين الدين والسياسة لكنها بين الدين والقانون!
كما أوضحنا أن التعامل مع المصطلحات التي تتباين تبايناً جوهرياً في معانيها وأبعادها من منطلق السياسة أو غيرها من المبررات أسلوب خاطئ، لذلك أكدنا على أن الدولة المدنية مرجعيتها البشر أنفسهم وما يتعارفون عليه ويقبلون به وإن كان في ذلك ضرر بالإنسان الفرد والمجتمع أو دمار البشرية لأن الكلمة الفصل فيها للديمقراطية، رأي الأغلبية، في حين أن المرجعية في الدولة الإسلامية مرجعية إلهية ولله وحده حق وضع الشرائع (القوانين أو النظام العام) وفي ضوئها يحق لأهل الاختصاص من المسلمين الاجتهاد في استنباط الأحكام والقواعد التشريعية التي لا تخرج عن مقاصد التشريع الإلهي ما يُصلح حالهم في كل زمان ومكان، وذلك هو الجانب المدني – إن صح التعبير - في الدولة الإسلامية!
أضواء على المحاضرة
الدولة المدنية الديمقراطية هي التي يحكم فيها الناس أنفسهم بأنفسهم وينشغلون فيها بالبحث عن حقوقهم وتحقيق الحرية والعدالة والمساواة بين أفراد المجتمع، ولا يكون فيها الحاكم فوق المحكومين ولكن موظف لدى الشعب وفرد من أفراده خادم لهم وليس فوق القانون، والدولة المدنية تحافظ على حقوق المواطنين ولا تسمح بالتجسس عليهم وكشف أسرارهم أو الاعتداء أو الإضرار بهم وبمصالحهم وغير ذلك، بمعنى أنها دولة القانون التي تساوي بين جميع مواطنيها بغض النظر عن دينهم أو عرقهم أو طائفتهم على أساس المواطنة وأنهم جميعهم متساوون في الحقوق والواجبات أمام القانون! تعالوا معي في رحلة لنرى أن ذلك وغيره سبق فيه المسلمين الغرب وضربوا فيه أروع وأسمى الأمثلة في تاريخ الإنسانية ولنبدأ من القمة:
توفى رسول الله صلَ الله عليه وعلى آله وسلم ولم يسمي خليفة له ولم يحدد آلية لاختياره ولا يوجد في القرآن أسلوب ولا آلية اختيار أيضاً، فماذا فعل المسلمون؟! أوجدوا آلية للاختيار واختاروا أبو بكر رضي الله عنه خليفة في سقيفة بني ساعدة. ترى هل بمجرد تمت البيعة له في السقيفة أصبحت بيعته نافذة على الأمة؟ طبعاً لا! ولكن تلاها بيعة وموافقة عامة من جميع أو غالبية المسلمين في صلاة الجمعة حيث عُرض الأمر عليهم ليبايعوه وبايع الجميع إلا نفر من المسلمين، لم يمنعهم اعتراضهم على بيعته من الصلاة خلفه وطاعته والالتزام بأمره والنصح له.
وذلك دليل على أنه لا يتم تولي ولي الأمر بدون مشورة أو رضا المسلمين به. وكذلك المعارضة لا تكون لأجل المعارضة وتأخذ مواقف مخالفة لموقف الحاكم لمجرد أنها معارضة لكن تحكم مواقفها مصلحة الأمة. وذلك كان أول نموذج عملي لتطبيق مبدأ الشورى في الإسلام في اختيار الحاكم والعلاقة بين الحاكم ومعارضيه، يفوق في مزاياه النظام الديمقراطي الذي يطالب به أنصار الديمقراطية والدولة المدنية!
وبعد أن تمت له البيعة لنرى صفته ووضعه إن كان ذي طبيعة إلهية أو نصف إلهية أو معصوم أو فوق الناس أو أنه فرد من أفراد المجتمع، فلقد حدد للمسلمين صفته في خطبته فقال: وليت عليكم ولست بخيركم ..! أي أنه مثله مثل أي مواطن ولم يرى نفسه فوق أحد أو خير من أحد. كما وضع مرجعيته في الحكم وشروط طاعته: أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن توليت لا طاعة لي عليكم!
كما أنه كان يعمل مثله مثل أي مواطن كي يعول نفسه وأسرته ولم يكن له لا مرتب ولا بيت أو قصر أو حرس ومرافقين وغيره مما عليه الحال اليوم، وعندما رأى المسلمين أن ذلك لا يليق بسمعة وهيبة خليفة الأمة أن تأتِ الوفود فلا يجدونه في مقره (المسجد) ولا في بيته، ولكن في السوق يبيع ويشتري ويجلسوا ينتظرون أن يذهب أحد للبحث عنه ليحضر لمقابلتهم، وعندما انتقد عمر بن الخطاب ذلك رد عليه: أجلس في بيتي أو المسجد ومن أين أُعيل أسرتي؟! وقد كان محقاً فرأى المسلمون أن يخصصوا له راتب سنوي يكفي حاجته ولم يزيد يومها عن حد الكفاف وليس كما هم حكامنا اليوم! هل كان في ذلك نص من قرآن أو سنة أم أن مصلحة الأمة اقتضت ذلك؟!
وعندما كان على فراش المرض قبل وفاته وسأله بعض المسلمون مَنْ سيولي بعده؟ فاختار عمر بن الخطاب. هل كان ذلك مخالفاً للعمل بمبدأ الشورى؟ أم أن المصلحة اقتضت ذلك حتى لا يختلف المسلمون ويتفرقوا وحروب الردة ليست بعيدة؟! وذلك نموذج آخر لم يكن فيه نص لا من قرآن ولا سنة ولكن اقتضته مصلحة الأمة!