الدمى الروسية...
منذ أن كنت صغيراً جذبتني الدمى الروسية المتداخلة في بعضها، وكم كنت أقضي من الوقت وأنا ألعب بها أفككها وأعيد تركيبها منفردة أو متداخلة في بعضها ، ولم أكن عندئذ أدرك أن هذه اللعبة ستعلمني شيئاً هاماً في حياتي .
وكما تعلمون فإن هذه الدمى عبارة عن ست دمى متدرجة في الحجم بحيث يمكن إدخال الصغيرة في التي تكبرها قليلاً وهكذا حتى تصبح الدمى كلها دمية واحدة كبيرة تحوي في داخلها الدمى الخمس الأولى.
وبالطبع فإن كل دمية يمكن فتحها من الوسط حتى ندخل الدمية الأصغر، والاستثناء الوحيد هو الدمية الأصغر التي لا يمكن فتحها، وكم حاولت فتحها حين كنت صغيراً دون جدوى، لا شك أن هذه الدمية الصغيرة تملك سراً خطيراً ولم أتمكن من إدراك هذا السر حتى دخلت عالم التدريب والاستشارات وبدأت أتعلم الكثير عن هذه القارَّة التي بقيت مجهولة لفترة طويلة من الزمن : قارة النفس البشرية وكنت كلما أوغلت أكثر استهواني موضوع التغيير ومهارات التغيير وأدوات التغيير ، وسأشارككم اليوم واحدة من هذه الأدوات القوية والفعالة والتي تعتمد على مبدأ أساسي وهو أن :
التغيير يبدأ من الداخل
كثير من الناس يريدون أن يغيروا العالم، يريدون أن يغيروا الواقع المحيط بهم:
..................البيئة.................
وبعد أن يبذلوا جهوداً هائلة في محاولة التغيير يصابون بالإحباط لأن النتائج التي يصلون إليها هي جدُّ متواضعة.
بعض الناس يدركون أنهم إذا أرادوا أن يغيروا البيئة فإن عليهم أن يبدؤوا التغيير في مكان آخر إنه:
..............السلوك ...............
لأننا إذا لم نغير سلوكنا فإننا لن نكون قادرين على تغيير العالم المحيط بنا ، وبعد محاولات شاقة يدرك هؤلاء أن تغيير السلوك أمر في غاية الصعوبة لأن السلوك الظاهر هو انعكاس لعادات مستحكمة داخل الإنسان فيكتشفون أنهم ما لم يغيروا:
...............العادات ...............
فإنهم لن يغيروا سلوكهم وبالتالي فلن يتغير العالم لذلك اتجه البعض إلى تغيير العادات ولكن العادات كما تعلمون وكما جرب الكثير منا تكون عادة عصَّية على التغيير لأنها تستمد جذوتها من شيء أعمق هو:
...............القيم و المعتقدات ...................
التي تكون قد ترسخت في اللاوعي و التي لا يعيها الإنسان عادة ولا يدري أنها المراسي التي تثبت العادة وتمنعها من التزحزح وما لم نتمكن من تغييرها وفكها فلن نتمكن من تغيير عاداتنا وبالتالي لن يتغير سلوكنا وبالتالي لن يتغير الواقع المحيط بنا.
و القيم تمثل الأمور الأكثر أهمية بالنسبة إلينا وما يعطيها معنى هو معتقداتنا وقناعاتنا حولها وإن بنية القيم و المعتقدات هي الكلمات و الحوار الداخلي اللاواعي الذي يجري في أذهاننا وقد كثرت في هذا الزمن الكتب والدورات التي تركز على أهمية أن يبدأ التغيير من أفكارنا وقناعاتنا ومعتقداتنا ولكن الذين جربوا هذه النصائح وجدوا أنهم لم يصلوا بعد إلى مبتغاهم و أن عليهم أن يواصلوا البحث، وبعد التفكير و التأمل الطويل اكتشفوا أن هذه القيم و المعتقدات ملتصقة بأمر أكثر عمقاً وهو:
...................الهوية ...................
الهوية هي ما يعتقده الإنسان عن نفسه و عن إمكانياته وقدراته ويعبر عنها عادة بمبتدأ وخبر ، المبتدأ أنا و الخبر هو هوية الأنا فيقول مثلاً:
أنا واثق من نفسي، أنا ضعيف في التواصل، أنا قادر على كذا ، أنا فاشل في كذا... وإن معتقدات الهوية هي التي تمد القيم و المعتقدات الأخرى بالطاقة اللازمة التي تساعد في ترسيخ العادات التي تنتج السلوك الذي يصنع العالم .
وقد حاول البعض أن يغير الهوية من خلال الإيحاءات الإيجابية وهذا أمر حسن إلا أنه كذلك غير كاف لأن التغيير ينبغي أن يبدأ من مستوى أعمق ، من المستوى الذي يمد الهوية بالوقود اللازم لإبقاء القيم و المعتقدات حية وفعالة، هذا المستوى الأعمق الذي ينبغي أن يبدأ منه التغيير هو:
........................... الجوهر........................
هذا الجوهر هو الدمية الصغيرة التي لا يمكن أن تفتح، هذا الجوهر هو منطلق التغيير، هذا الجوهر يمثل كل ما نسعى إليه ولغرابة الأمر يمثل كل ما نمتلكه.
إن غاية ما نسعى إليه هو السعادة و الرضا و الراحة و التوازن و السلام الداخلي و الطمأنينة وهدوء البال وصفاء الذهن وتحقيق الذات ، ومجموع ما سبق يمثل الحالة الجوهرية التي نكون فيها بأحسن أحوالنا ، عندما نصل ونتصل بالجوهر فإن هويتنا تتجدد وتصبح أكثر إيجابية وروعة ،هذه الهوية تمتلك قيماً ومعتقدات أكثر تمكيناً تولد عادات أكثر فعالية تنتج سلوكيات أقوم سبيلاً تساهم في صنع عالم وغد أفضل.
تعرف هذه الطريقة في التغيير في البرمجة اللغوية العصبيةNLP باسم:
"المستويات الذهنية المنطقية"
Neuro-Logical Levels
1 البيئة
2 السلوك
3 العادات
4 المعتقدات والقيم
5 الهوية
6 الجوهر
يقول العالم الأنتروبولوجي غريغوري بيتيسون الذي وضع هذه المستويات:
إن التغيير الذي يحدث في مستوى ما قد يؤدي إلى تغيير المستويات الأعمق ولكن ليس بالضرورة ، أما التغيير في المستويات العميقة فسوف يؤدي حتماً إلى تغيير المستويات الأقل عمقاً، لذلك عندما ينطلق التغيير من الجوهر فإنه يضطرد إلى جميع المستويات.
وقد استفاد روبرت دلتز أحد المدربين المشهورين في عالم البرمجة اللغوية العصبية من هذه المستويات وطورها إلى أداة عملية من أدوات التغيير الفعال.
كيف نستفيد عملياً مما سبق شرحه؟
عندما ندرك أن أي سلوك نفعله وأية عادة نمارسها وأي معتقد نحمله تهدف جميعها لتحقيق مقاصد إيجابية وتحاول إيصالنا إلى الحالة الجوهرية ،وسبب إصرارنا عادة على السلوك أو العادة هو الرغبة في الوصول إلى الحالة الجوهرية ،فإذا وصلنا إلى الحالة الجوهرية بأية وسيلة أخرى فإن الرغبة في ممارسة السلوك سوف تزول،ولتقريب المسألة يمكن أن نتخيل أن شخصاً ما يصر على ركوب الباص لأنه يريد أن يسافر إلى بلده،إن هذا الرجل يصر على السلوك (ركوب الباص) من أجل الوصول إلى الغاية الجوهرية (بلده) وعند التدقيق نجد أن الشخص يصر على الغاية( بلوغ بلده) وليس على السلوك(ركوب الباص) ،وبالتالي نستنتج:
يصر الإنسان على تحقيق الغاية الجوهرية
وليس على السلوك أو العادة
فإذا استطعنا أن نوسع خياراته
ونعطيه بدائل أفضل
توصله إلى الحالة الجوهرية
فإنه يتخلى عن سلوكه القديم
بعد ذلك كله حين أعود إلى الدمى الروسية وأفككها وأخرج الدمية الجوهرية فإني أدرك تماماً أن التغيير يبدأ من الداخل ، من تواصل الإنسان مع جوهره الثمين ، وهذا يذكرني بأبيات جميلة من الشعر لإيليا أبوماضي من قصيدة "العنقاء" يتحدث فيها عن رحلته في البحث عن السعادة بين الناس وفي الحياة والكون:
فتشت جيب الفجر عنها والد ومددت حتى للكواكب أصبعي
فإذا هما متحيران كلاهما في عاشق متحير متضعضع
وإذا النجوم لعلمها أوجهلها مترجرجات في الفضاء الأوسع
عصر الأسى روحي فسالت أدمعاً فلمستها ولمحتها في أدمعي
وعلمت حين العلم لا يجدي الفتى أن التي ضيعتها كانت معي
وفي الختام أنصحك أخي القارئ بألا تدهن الدرج كما فعل ذلك الأحمق الذي ذهب إلى الصيدلية واشترى صندوقاً من المراهم المسكنة وراح يدهن بها درج بيته لأن الطبيب طلب منه أن يدهن مكان الإصابة.
إذا أردت أن تحقق تغييراً حقيقياً
فابدأ من الداخل
ابدأ من المكان الحقيقي
ابدأ من الدمية الصغيرة
ابدأ من الجوهر
%%%%%%%%%%%%%5%%
تم حذف المكرر في المقال ( غالب الغول )
