التكنولوجيا ومتعة التواصل
عدوٌّ لدودٌ ودودْ… ليِّنُ العريكةِ، سهلُ المأخذْ، يُقبل عليكَ باسماً ضاحكاً، ينقلُ إليك أفراحَ الآخرين، ويُسجي إليك بأخبار الجميع، يقدم لك سعادةً ومتعة حين يطير بك بجناحين من إحساسٍ دامغٍ وخيال نشِطٍ ليصل بك إلى أبعد نقطة عنك في العالم، تُمضي معه الأيام الطوال، وتسهر معه الليالي البهيجة، تسرحُ وتمرح معه دون وعي أو إدراك، حتى إذا ما بادلك ابتسامةً عريضة ظهرت أنيابه فما تميز أأنياب شر هذه يُراد لك منها أن تصاب بأذى، أم ضحكات سعادة وسرور… وما يزال هكذا لكَ يبتسمْ وما تزالُ أنتَ معهُ تنسجمْ حتى تكتشف يوماً فجأة أنه كان يعطيكَ حلاوة باليمين وينهش لحمك باليسار ويشرب من دمك ملءَ فيه.
يسرق من وقتك، ويسلب من حيويتك، ويأخذ من مالك، ويطغى على عقلك ؛ ويكاد أن يقضي على أعصابك… لتعرف فيما بعد أي سعادةٍ موهومةٍ تلك التي كنتَ تعيشُها، ولتدركَ متأخراً أي عذاب مبطَّن كان يخبِّئُهُ لك بين جناحيه، ولتُفجعَ لاحقاً بما سبَّبه لك ولأولادك وأهلك من أمراض روحية وأعراض جسدية تدفعها ضريبة قاسية لمتعة زائلة.
إنه الموبايل والواتس آب والكمبيوتر والفيس بوك.
لا تفتأ العولمة الحديثة بوسائلها المتطورة تقدم لنا اختراعات مفيدة نافعة تقرِّب البعيد، وتسد حاجاتنا النفسية من متعة التواصل. ولا ننفكُّ نحن ولا نملُّ من إساءة استخدام كل ما يفد إلينا وتحويله من أدوات نافعة لنا ولمجتمعاتنا إلى أسلحة فتاكة ضارة بنا وبأولادنا.
وفيما يلي بعض المضار الناجمة عن استخدام وسائل الاتصال الحديثة (الواتس آب والفيس بوك وسواها):
1- على الصعيد الفكري:
إن هذه الساعات الطويلة التي يقضيها الأولاد مع الموبايل تجعلهم ينعزلون عن العالم ؛ فيقل اكتسابهم للمعارف والخبرات من الأهل والأصدقاء، كما يصرفهم أيضاً عن اللعب ومتعته مع أقرانهم، فضلاً عما يسببه هذا السهر على الموبايل من تأخر في نوم الأولاد ما يؤدي إلى اعتلال صحة الجسم، فضلاً عن الخمول الذهني وتعطيل ذكاء الطفل.
2- على الصعيد الأسروي الاجتماعي:
لقد غيَّر الواتس آب عاداتنا وقضى على مباهجنا، إذ الحدائق غدت شبه فارغة… الصمت قاتل… حافلات الركاب ملأى بشبان وفتيات هم أشبه بالدمى المتحركة ؛ كل منهم يحمل جهاز الموبايل ويخفض رأسه عليه… لا أحد يخاطب أحداً… الأسر تفككت، والأسرة تباعدت، لا أحد يقرأ.
أنا لا ألوم الواتس آب ولا ألوم التكنولوجيا… إنني ألقي باللائمة كلها على الأهل وعلى الأسرة.
3- على الصعيد الجسدي الصحي:
– إن عدم مراعاة وضعية الجلوس الصحيحة أمام الحاسوب تؤدي إلى انحناء في العمود الفقري ولا يخفى ما لذلك من أضرارٍ جسيمةٍ على الجسم… وقد يوصل مبكراً إلى حدبة الظهر.
– وإن عدم استخدام واق بصري في أثناء الجلوس الطويل على الحاسوب من شأنه أن يضعف البصر وربما أدى إلى اعتلال في شبكية العين.
– إن الإمساك المتواصل ضمن وضعية واحدة للماوس أو للموبايل قد يؤدي إلى انقراص في فقرات الظهر أو تمزق في أربطة الكتف.
بدأت التقنيات الحديثة (تسرقنا) من أهلنا، وتسرق أطفالنا منا.. بل بدأت تسرق مشاعرنا وعواطفنا لتسخرها لخدمة أهداف أخرى بعيدة كل البعد عن التربية الأصيلة السامية التي كانت تزرع في نفوس الأطفال مشاعر الاحترام والتبجيل وأخلاق الإيثار والتسامح.
لكن ليست وسائل الاتصال هي التي تحتاج إلى ضبط، وإنما نحن بأمسِّ الحاجة إلى ضبط من يتعامل مع تلك الوسائل، وإلا فإن الأجيال القادمة لن تتمكن من أن ترقى إلى المستوى الملائم أو المناسب من الحياة الاجتماعية اللائقة ضمن مجتمع منضبط تسوده أواصر المحبة والاحترام.
ولا أبالغ هنا إذ أقول: لقد فكك هذا العدو الذي يسمونه مواقع التواصل الاجتماعي، فكك عُرا التواصل الاجتماعي، وأزال لحمة التواصل الأسروي التي كانت سائدة.
يقولون إنها مواقع للتواصل لكنها في حقيقتها أفقدت التواصل.
قالوا إنها تقرب البعيد، إنها في الواقع تقرب البعيد، لكنها تبعد القريب.
وهل يعقل أن نتواصل مع صديقنا الحميم في قارة أخرى، ونتقاطع مع صديق آخر يقطن في حيِّنا… نقاطع آباءنا وأمهاتنا، وأخوتنا وأخواتنا… ننسى أولادنا ونهمل زوجاتنا وأزواجنا.
هذه ليست وسائل تواصل اجتماعي إنها مواقع لمصاصي الدماء وناهشي الأفكار وسارقي الأعصاب ومدمري العقول… وقاتلي النفوس.
إن عقداً قادماً من الزمن كفيل -إن استمر الحال هكذا- بأن يحيل بعضنا أو أكثرنا إلى ما يشبه الدمى المتحركة، ولسوف يسير أحدنا في الشوارع على غير هدى، متبَّلاً مخبَّلاً غائباً ضائعا… هذا ما سيحصل لنا، فما بالك بما ستؤول إليه حال أطفالنا.
إن وسائل الاتصال الحديثة نعمة كبرى، لكن سوء استخدامها منا هو النقمة.
