ذاكِـرةُ الأرض

لا شك في أن الأحداث التي جرت، قبل وأثناء وبعد يوم 30 آذار 1976، عبّرت بوضوح أمام العالم عن تصميم الفلسطيني على التمسّك بأرضه مهما بلغ الثمن، واعتبار «يوم الأرض»، تكريساً لواقع مستديم يضع موضوعة الأرض، وهي أصل الصراع، في مقدّمة الثوابت الوطنية الفلسطينية.

صدرت قرارات «إسرائيلية» جائرة، بمصادرة أراضي بلدات في الجليل، ما يعني طرد أصحابها الأصليين من المكان الذي ينتمون إليه، منذ وضع جدّنا كنعان أثره على أرض فلسطين.
وقد عبّر الفلسطينيون بكل وسائل النضال المتاحة، عن عدم التفريط بالأرض، والاستعداد للتضحية، بالتصدي والمواجهة، لكنهم، كانوا وحدهم، وهذه مشكلتنا دائما مع الأنظمة العربية، وبخاصة تلك المشبوهة التي ساعدت على زرع الكيان الغاصب في أرض فلسطين، سرطاناً متوحّشاً يسعى لاستلاب الأرض، وطرد أصحابها، وطمس هوية الأمّة.
وعلى الرغم من الخلَل البيّن في ميزان القوّة، بين شعب أعزل، وجيش يملك أعتى الأسلحة، والفكر التدميري الممهنج، وفي حركة استباقية قامت بها القوات «الإسرائيلية» في 29/3 استعداداً لمواجهة الفلسطينيين في موعد إعلان الإضراب العام، والذي تحدد في الثلاثين من شهر آذار، دخلت فرقة من المجنزرات «الإسرائيلية» إلى بلدة عرّابة تصدت لها مجموعة من الشباب، وتمكنوا من محاصرتها في حيّ نصّار، ما استدعى قدوم الجنرال «رفائيل إيتان»، وزير الحرب على متن طائرة مروحية حطّت في مدخل قرية عرّابة الشمالي، حيث أقيم «فيما بعد» النصب التذكاري لشهداء يوم الأرض، وطلب الاجتماع برئيس المجلس المحلي السيد «محمود نعامنة»، وهو يرغي ويزبد ويهدد بتدمير البلدة إذا لم تخرج الفرقة المحاصرة سالمة.
وقد جرى الاتفاق مع الجنرال بفك الطوق «الإسرائيلي» والانسحاب من البلدة، ومن التلال المحيطة بها، وإلغاء أمر منع التجول، وإطلاق سراح كل المعتقلين، مقابل فك الحصار عن فرقة المجنزرات، وتم تنفيذ الاتفاق بخروج الفرقة ووصولها إلى قاعدتها في «الملّ» الساعة الثانية بعد الظهر، وتنفيذ جميع مطالب رئيس المجلس المحلي، ليعود الهدوء الحذر إلى البلدة، تضمّد جراحها بفقدان شهيدها خير ياسين ابن بلدة عرّابة.
يقول د. عدنان بكرية، وقد كان في وسط الأحداث، وعايشها لحظة بلحظة: (بعد مواجهات الليل في طرف البلدة، وسقوط الشهيد خير ياسين، تقهقرنا إلى أزقة البلدة ولحق بنا الجنود يطلقون النار، كنا حوالي عشرة شباب في هذا المحور، دخلنا زقاقاً في منطقة المراح، بينما استمر إطلاق الرصاص علينا إلى أن نفدت ذخيرتهم، حيث بدأنا نرميهم بالحجارة، رفع أحد الجنود يده وقال، توقفوا سنخرج من هنا.. ومع تدخل أحد الرجال من البلدة، وافقنا، وخرجوا، لكنهم عادوا بعد نصف ساعة برصاصهم الطائش.. لقد خدعونا.! كانت هذه الجولة هي الأولى من المواجهات في عرّابة ليل 29/30 آذار من عام 1976).
في صباح اليوم التالي، 30 آذار، اشتعلت المواجهات، بين «الجيش الإسرائيلي» المدجّج، وصدور الفلسطينيين العزّل.
سقط شاب من قرى البطوف جريحاً، فحملته أمه في سيارة منطلقة إلى المستشفى في الناصرة، مروراً بقرى كفر كنّا والرينة وغيرها، الأم الفلسطينية المفجوعة بإصابة ولدها، تحمل قميص ابنها الغارق بالدماء، تلوّح به من نافذة السيارة وتستصرخ شهامة الناس، تُشعل حماستهم، فتنطلق تجمعات الجماهير الغاضبة، سرعان ما تتحول إلى مواجهات ضارية.
في يوم الأرض، سقط من الشهداء:
خير ياسين من عرابّة استشهد في 29 آذار 1976
الشهيد خضر خلايلة، والشهيدة خديجة شواهنة، والشهيد رجا أبو ريا، وهم من قرية سخنين، والشهيد محسن طه، من كفر كنّا، والشهيد رأفت الزهيري، من عين شمس، استشهد في قرية الطيبة، وعشرات الجرحى.
أعيدت الأرض لأصحابها الحقيقيين في العام 1985.

الأرض والعرض لا يمكن التخلي عن أي منهما , وستعود الأرض إلى أهلها مهما طال الزمن , أشكر أستاذ كنفاني على هذا الموضوع القيم .