"يوسف السباعي" و"بائع الجهل"..

"يوسف السباعي" و"بائع الجهل"..

في مجموعته القصصية "يا أمة ضحكت.."، يروي لنا "يوسف السباعي"، قصة "بائع الجهل" في سوق شعبي من أسواق القاهرة..

لاحظ بطل قصته – وكان كاتبا – أنه كلما فتح نافذة غرفته المطلة على السوق الشعبي في الحي الذي يسكن فيه في الصباح، كلما وجد ذلك الرجل الغريب يسوق عربة يجرها حمار، ليقف في مكان محدد من السوق لا يغادره إلا عند غروب الشمس، فيما كانت عربته دائما فارغة، لا بضاعة فيها، ومع ذلك كان يمر به الكثير من الأشخاص ويحدثونه ثم يغادرون ويتركونه على حاله..

لفتت انتباهه هذه الظاهرة مع مرور الأيام، إلى أن تساءل بينه وبين نفسه عما يفعل هذا الرجل، وما الذي يبيعه إذا كانت عربته دائما فارغة، فقرر النزول في أحد الصباحات ليذهب إليه ويفهم قصته عن قرب..

اقترب منه متظاهرا بأنه يريد أن يشتري شيئا، فقال مبتسما معلنا استغرابه من أنه استطاع الانتهاء من تصريف بضاعته بسرعة قبل أيِّ بائع آخر في السوق..

لم يعلق الرجل..

فشعر بشيء يستفزه أكثر، فسأله عن بضاعته ولماذا لا توجد لديه أيُّ بضاعة يبيعها..

رد الرجل: "بضاعتي رائجة، وتنفد بسرعة، أنهيها في الطريق وقبل أن أصل إلى السوق"..

سأل محاولا إبداء الاهتمام: "ألهذه الدرجة، وما هي هذه البضاعة التي تنفد بهذه السرعة" (؟!)

فصعقه الرجل قائلا: "بضاعتي هي الجهل، وهي بضاعة مطلوبة كما تعلم، كل الناس زبائني"..

توقف مشدوها وقرر أن يفهم حكايته، فهو كاتب ومن مهماته استجلاء غوامض الأمور، وخفايا العقول والنفوس، وما يسمعه فيه قدر كبير من الإثارة..

اقترب من الرجل مبديا إعجابه سائلا إياه عما يقصده بأنه "يبيع الجهل" (؟!)

فقال الرجل مبتسما ابتسامة عجيبة: "يبدو أنك جاهل بأصول الجهل" (!!)

شعر صاحبنا بأن المسألة تبدو مسلية فتساءل مظهرا نوعا من الاهتمام: "أهه، ماذا تقصد؟! الجهل جهل، فأن تكون جاهلا يعني ألا تعلم" (!!)

ضحك الرجل وهز رأسه بحسرة من اكتشف جهل محدثِّه، واستعد ليشرح له الموضوع بعد أن أعطاه قدرا من الاهتمام، وقال: "الجهل يا جاهل ثلاثة أنواع هي، "الجهل البسيط"، و"الجهل المركب"، و"منتهى الجهل"..

شعر صاحبنا بأنه أمام مفكر وليس أمام بائع "عبيط"، وهز رأسه إشارة على رغبته في أن يواصل، فواصل الرجل قائلا:

"ما رأيك فيما يفعله الدرويش الذي يترنح يمينا ويسارا في زاوية وهو يقول مغمض العينين مدد الها حي، مدد اله حي، مدد الها حي.." (؟!)

رد على الفور: "هذا جهل"..

سأله: "هل يضر بجهله أحدا" (؟!)

أجاب: "لا"..

قال: "هذا هو الجهل البسيط"..

هز رأسه معجبا وسأل: "والجهل المركب" (؟!)

رد عليه وهو يهز رأسه: "هو الجهل الذي يمارسه صاحب المصلحة الذي يغش غيره فيضره"..

وعندما سأله محاولا استدراجه: "طيب ومنتهى الجهل ما هو" (؟!)

فوجئ بما ذهله عندما سمعه يقول وهو يهز رأسه ويبتسم دلالة إحساسه بالظفر والتفوق: "منتهى الجهل هو منتهى العلم يا جاهل"..

فاندهش وأبدى استهجانه إلا أنه تماسك لأنه كان يتوقع بالفعل تفسيرا مثيرا..

لكن الرجل سارع إلى التفسير قائلا:

"ماذا تقول عمن يجهِّزُ قصعةً من الثريد، ويتركها عدة أيام في الحر حتى تصبح مسممة، فيضعها طعاما أمام عشرات الجياع ليأكلوا، فيموتون جميعا تسمُّما" (؟!)

فرد بسرعة وبكل ثقة: "منتهى الجهل"..

فبادره مستغلا تركيزه ومتابعته:

"وما رأيك في من صنع القنبلة الذرية" (؟!)

رد قائلا: "منتهى العلم"..

فقال له ضاحكا بسخرية:

"وهل اختلفت نتيجة "منتهى العلم" عن نتيجة "منتهى الجهل" (؟!)

قفل صاحبنا راجعا إلى بيته ليستكمل كتابة رواية كان قد بدأها، بعد أن ألهمه هذا "الجاهل" فكرة لم تخطر له على بال عنونبها بـ "في جهنم"، حيث تخيل يوم القيامة لحظة الحساب والعقاب، وأنه تم سحبه إلى جهنم ليلتقي هناك بـ "أنريكو فيرمي" مصمم القنبلة الذرية، وبـ"الأسطى مدبولي" بائع الحليب الذي تسبب غشه للحليب الذي يبيعه للبسطاء في موت طفلين تسمما في حي "منشية ناصر"، ووجد معظم من كان يعرفهم من أهل العلم والسياسة والفن والثقافة..

وعندما سأل عن "ميمي" الرقاصة التي سهرت ليلة كاملة قرب رأسه تضع له كمادات مثلجة يوم أن أصابته الحمى بعد أن تنازلت عن رقص تلك الليلة لأجله بسبب أنه وحداني، مع أنها لا تستفيد منه بشيء، وعن "هريدي" السكير الذي باع ربعية الويسكي التي لا تفارق يده كي يشتري قطعة شوكالاتة لطفل كان يبكي بسبب فقدانه للقرش الذي حصل عليه من أمه لأجل ذلك، وعن "أبو دومة" الهجام الذي سطى على بيت ذلك الثري لينفق على "زنوبة" المومس كي تكف عن الدعارة، وعن "..."، وعن "..."، وعن "..."، فوجئ عندما أمره زبانية جهنم بألا يُدَنِسَ أسماء هؤلاء الأبرار بإيرادها على لسانه النجس، لأنهم من أهل الجنة..