الرسالة الأخيرة لثور يحتضر
الرسالة الأخيرة لثور يحتضر
قصة: د. يوسف حطيني
ها أنا ذا أحاول أن أجمع شتات أفكاري المبعثرة على قارعة الحلبة حتى أبثك ما أستطيع من الشكوى والحب. إنها معركة ليست متكافئة، فهي تجري على أرضهم، وبين جمهورهم، لو كنت تعلمين ياعزيزتي كم عانيت في أيامي الأخيرة: ربما تعتقدين أنني هجرتك طائعاً، ولكنك لست على حق في هذا الاعتقاد، فقد أخذوني من بين تلك الحشائش غصباً، وأطعموني أطعمة لم أعتد عليها، كانت أطعمتهم غريبة حقاً، ولذيذة حقاً، قلت لهم لا أحب أن أحيا في هذا النعيم وحيداً، لو تحضرون لي حبيبتي الجميلة، ستجدونها قبل غروب الشمس قرب النهر،استرسلتُ أمامهم في الحديث عنك، أخبرتهم عن عهدنا الذي قطعناه على أنفسنا: أن ينتظر كل منا الآخر عند النهر كل غروب، إذا سرقتنا الأيام من بعضنا، قلت ستجدونها قرب النهر، قالوا: لا نحتاج إليها.
كانوا أنيقين جداً، ولطفاء جداً معي، فقد قدموا لي أفخر أنواع الطعام، ولكنني لم أكن أنتظر تلك النهاية: أن يأخذني مجموعة من الرجال إلى باحة كبيرة، ويستفزوني لخوض معركة لم أخطط لها، مجموعة من الرجال الجبناء يلوحون لي بقطع قماشية ملونة، ويتحدون كبريائي، ثم يختفون كالصراصير خلف حواجز سميكة حين ألحق بهم، هذا الرجل المتعجرف الذي يتحداني من فوق حصانه يغيظني، ولكن حصانه مثله مسربل بالحديد، أعرف أنها معركة خاسرة، ولكن.. هل يمكن أن أستسلم، وأنا الذي تحديت جميع ثيران العالم حتى أمتلك عينيك الجميلتين اللتين تشبهان عيون البدويات العربيات اللواتي مررن من هذه البلاد ثم انطلقن إلى غير رجعة.
هل ترضين أن أعود إليك منكسراً ذليلاً، أمام كل هؤلاء الذين سيشهدون أمام زوجاتهم أنني كنت جباناً، لا يا حبيبتي الجميلة، ربما أستطيع أن أنال من ذلك الفارس الجبان الذي يمعن في استفزازي، صرختُ: لو كنتَ رجلاً لنزلت عن الحصان المسكين، هاجمت الحصان يا حبيبتي حتى أتمكن من تمزيق ذلك الفارس حين يصل إلى الأرض. ولكنني حين كنت أعالج درعه الفولاذي بقروني، حمل الفارس رمحه الطويل وغرزه في رقبتي، وأمعن في دفعه إلى الداخل، كنت أحس سيخاً من النار يمزقني، ولكن هل تريدنني أن أعود إليك قرب النهر منكسراً ذليلاً، بينما يتحداني الآن رجل يحمل رمحين في يده فيناورني، وحين أكاد أتمكن منه أسمع صوت رجل آخر من الخلف، يدعوني إلى الصراع مع قطعته القماشية، دويخة يا حبيبتي دويخة.. عشرة رجال أو يزيد يصرخون من كل جانب، أختار أكثرهم غروراً وتيهاً وزركشة وأحاصره، ولكنه يختبئ مني خلف أحد الحواجز الموزعة على جوانب الحلبة، يهرب مثل فأر، ثم يسمح لنفسه أن يعود إلى الحلبة ويتحداني حين أبتعد عنه. إنها معركة غير عادلة.. كأنك تجابهين جيشاً لا يتقن جنوده إلا الغدر، أناور.. ألحق أحد الملوحين بمناديلهم البلهاء بينما يخرج الرجل المزركش من حصنه، ويبتعد عنه دون أن يعلم أنني أتابع خطواته بطرف عيني، وفجأة على غير توقع منه.. أغير وجهتي وأنطلق نحوه وأغرز قروني الحاقدة في أحشائه، وألقي به خارج الحلبة، بينما يطعنني رجل من خلفي.. من خلفي يا حبيبتي الغالية .. برمحين يستقران في عنقي أيضاً، وسط جلبة الجمهور الذي يصفق لرؤية الدم النازف مني بحماس.
أنت تنتظرينني قرب النهر، وأنا أنتظر حتفي، والرجال الكثيرون يزدادون شراسة، والرماح تنهال علي من كل جانب، وأنا أواجه الجميع بقروني المتعبة، أنطح يميناً وشمالاً، عشرات الرجال المدرّبين ينزلون إلى الحلبة، حتى ينتقموا لفارسهم المغرور، لم تعد هناك قطع قماشية، ليس ثمة إلا الرجال والرماح، والدم الذي يسيل، وروحي المحبة تودع هذا الجسد الذي رفض أن يكون فريسة سهلة لكل هؤلاء.
وأنا أموت، أتمنى أن يصلك صوت قلبي ودمي، ها أنا ذا أتهاوى، والفرسان والجنود على عجلة من أمرهم، لم ينتظروا دقيقة أو دقيقتين حتى ألفظ أنفاسي الأخيرة، لأن ثوراً آخر ينتظر موته في الخارج،عيناي كليلتان أحاول فتحهما للمرة الأخيرة لأرى عربة تجرها أربعة خيول، تدخل الحلبة، بينما يربطني الرجال بحبال متينة، ثم يهمون بسحبي إلى الخارج. أودعك الآن وأنا أشيع آخر لحظات عمري.. وأغمض عيني على صورتين: صورتك الحبيبة، وصورة هذه الثيران المسكينة التي لا تزال تصفق لموتي بحماس شديد.
