www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

البديل الاقتصادي لإنقاذ الشعوب من تغوُّل الرأسمالية/أسامة عكنان

0

أولا.. طبيعة المشكلة الاقتصادية التي تتطلب وضع الحلول لها.. بادئ ذي بدء يجب أن نعلن – خلافا لكل أدبيات الفكر الاقتصادي الحديث عامة والرأسمالي منه خاصة – أنه من غير الصحيح نسبة ظهور المشكلة الاقتصادية في واقع البشر إلى النُّدرة النِّسبية في

البديل الاقتصادي لإنقاذ الشعوب من تغوُّل الرأسمالية
“رؤية إسلامية”
الحلقة (1)
هل هناك اقتصاد إسلامي
أسامة عكنان
عمان – الأردن
أولا.. طبيعة المشكلة الاقتصادية التي تتطلب وضع الحلول لها..
بادئ ذي بدء يجب أن نعلن – خلافا لكل أدبيات الفكر الاقتصادي الحديث عامة والرأسمالي منه خاصة – أنه من غير الصحيح نسبة ظهور المشكلة الاقتصادية في واقع البشر إلى النُّدرة النِّسبية في موارد الإنتاج وعناصره، لأن هذه الموارد لم تكن في يوم من الأيام نادرة بالقدر الذي يتسبب في مشكلة اقتصادية كتلك التي يروِّج لها الفكر الرأسمالي دائما، مُبَرِّراً بها الحروب والصراعات والتفاوتات الطبقية المجحفة، وكل مظاهر التنافس البشع والجشع على تلك الموارد.
كما أن الحديث عن زيادة الإنتاج عن حاجات البشر كما تروج لذلك المادية التاريخية، وبدء انتهاج الظلم والاستغلال في توزيعه على أفراد المجتمع باعتباره سببَ بروزِ المشكلة الاقتصادية، هو حديث يفتقر إلى التَّماسك المعرفي، لأنه حديثٌ مَعْنِيٌّ بتشخيصِ مُشكلةٍ لاحقةٍ للمشكلة الاقتصادية ذاتها. فالمشكلة الاقتصادية التي اقتضت الشعور بضرورة التنظيم الاقتصادي، إنما ترجع إلى بعدٍ وإلى جانبٍ تنظيميين وإداريين وتقنيين، وليس قِيَمِيين. في حين يأتي الظلم الاجتماعي الذي هو شكل من أشكال التوزيع الجائر لناتج المجتمع على أفراده كمشكلةٍ لاحقة، ناتجة عن خلل في منظومة القيم المتعاملة مع هذا الجانب من جوانب العملية الاقتصادية.
من هنا يغدو البحث عن التاريخ الذي حصلت فيه هذه المشكلة وانبثقت إلى حيز الوجود، مسألةً غير ذات قيمة، لأن وجودَ المشكلة الاقتصادية في حدِّ ذاتِها من حيث هي تقتضي التنظيم العادل أو الظالم أصبح حقيقةً واقعةً رافقت الإنسان الاجتماعي وترافقه باستمرار منذ ظهورها، وهو معني بالتعامل معها ومع واقعه من خلالها ومن خلال موضوعيتها في حياته.
فهنالك واقع اقتصادي بحاجة إلى تنظيم بسبب مجموعة عناصر من شأنها أن تُحدث إرباكاً اجتماعيا كبيرا جداًّ إذا لم يتم هذا التنظيم. ويجب أن يكون هذا التنظيم تنظيماعادلا. وهكذا تغدو المشكلة الاقتصادية الجديرة بالاهتمام وبالتركيز على حلِّها، هي المشكلة المتعلقة بشكل التنظيم الاقتصادي الذي من شأنه تحقيق العدالة الاجتماعية بصورتِها الصحيحة. أي أن المشكلة الاقتصادية التي ظهرت في حياة الإنسان لأسبابٍ فنية وإدارية وتنظيمية، فرضت عليه التفكير في إطارٍ مذهبي ليجد لها الحلول. لتظهرَ جراَّءَ ذلك كلُّ أنواع الجور الطبقي الذي رافق مسيرة الحلول التي انتُهِجَت لحلها.
ولأن الإسلام له بطبيعته رؤيتُه المذهبية التي تطرح تَصَوُّراتِه الخاصة حول العدل في سياقاته المختلفة، فقد كان من الطبيعي أن يدلي بدلوه في حل المشكلة الاقتصادية في جانبها المذهبي، بعد أن فرضت هذه المشكلةُ نفسَها على البشر في جانبها التنظيمي والفني والإداري.
وإذا كانت القراءة التاريخية القائمة على الاستقراء بوصفه أحد عناصر التجربة بوصفها مصدرا معرفيا أساسيا، هي التي بإمكانها أن توصلنا إلى معرفة أسباب ظهور المشكلة الاقتصادية في جانبها التنظيمي والفني ذاك، وإلى معرفة أنها في جانبها المذهبي بدأت عقب ظهورها بصفتها التنظيمية والفنية تلك. فإن الحلول المذهبية تفرضُ بطبيعتها وحسبما للعقل من دورٍ في العملية التشريعية، أن تُبْنَى بالكامل على هذا العقل، الذي نَعْتَبِرُ ما انبنى عليه موقفاً إسلامياً مذهبياًّ خالصا، مادمنا مُحالين إليه من الله بالضرورة، بوصفه وعاءَ المعرفة الإنسانية الأول الحاضنِ للوحي ومُكْسِبِه مشروعيتَه المعرفية أصلا. وهو الأمر الذي يُحتِّم علينا أن نبدأ بعرض مفهوم الاقتصاد الإسلامي الذي عاني من خلط بين متاهات العلم والمذهب حيناُ، وبين متاهات المذهب والقوانين المدنية والتجارية حيناً آخر.
ثانيا.. مفهوم الاقتصاد الإسلامي بين المذهب والعلم والقانون..
عندما نريد أن نتعرف على معالم الاقتصاد الإسلامي – إن كان هناك اقتصاد إسلامي شبيه من حيث بنيته الفكرية والفلسفية، ومن حيث شكل معالجته للمسائل التي تصنف على أنها مسائل اقتصادية، كذلك الذي نقول أنه اقتصاد رأسمالي أو اشتراكي – يجب أن نتعرف أَوَّلاً على الفرق القائم بين علم الاقتصاد وبين المذهب الاقتصادي، لنتعرف من ثم على العلاقة القائمة بين كلٍّ من التفكير العلمي والتفكير المذهبي، والتي على أساسها نتمكن من استجلاء معالم ذلك الاقتصاد.
فعلم الاقتصاد هو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأحداثها وظواهرها الواقعية، وربطها بالأسباب والعوامل الموضوعية التي تتحكم فيها، في واقع اجتماعي ما. أما المذهب الاقتصادي لمجتمع معين، فهو عبارة عن الطريقة أو مجموعة الطرائق التي ينتهجها ويتبعها ذلك المجتمع في حياته الاقتصادية، مرتكزا فيها على مجموعة القيم والأخلاق التي ترتبط لديه بمفهومٍ معين عن العدالة الاجتماعية.
وقد أخطأ من اعتبر مجال المذهب الاقتصادي مقتصرأ على توزيع الثروة فحسب، فيما أخضع عملية الإنتاج لمجموعة القوانين العلمية، ومكمنُ الخطأ هو أن العلمَ والمذهبَ مختلفان لا في موضوع البحث ومجالاته، بل في طريقته وأهدافه، فالبحث المذهبي يظل مذهبيا ومحافظا على طابعه ما دام يلتزم طريقته وأهدافه الخاصة ولو تناول الإنتاج نفسه، كما أن البحث العلمي لا يفقد طبيعته العلمية إذا تكلم عن التوزيع ودرسه بالطريقة والأهداف التي تتناسب مع طبيعته كعلم. فالمذهب والعلم يدخلان في كل المجالات الاقتصادية ويدرسان الإنتاج والتوزيع معا.
لا يمكننا أن نتصور مجتمعا بدون مذهب اقتصادي. فكل مجتمعٍ يُمارس إنتاج السلع والخدمات، وتوزيع هذه السلع والخدمات، لابد له من طريقة ينتهجها وتكون مَحَلَّ اتفاقِ مختلف قطاعاته الإنتاجية، لتنظيم العمليات الاقتصادية المتمثلة في الإنتاج وفي توزيع الإنتاج بما في ذلك نظام الملكية والتملك. وهذه الطريقة المنتَهَجَة من قِبَلِه هي تعبير آخر عن المذهب الاقتصادي الذي يتبناه وينظم على أساس رؤاه القيمية والمبدئية مختلف العمليات الاقتصادية السائدة فيه.
وما لاشك فيه أن اختيار طريقة معينة دون باقي الطرق الممكنة والمتصورة لتنظيم الحياة الاقتصادية في المجتمع، ليس أمراً ارتجالياً أو اعتباطياً، بل هو عملية هامة وحساسة، تقوم على أساسِ تَبَنِّي أفكارٍ ومفاهيم معينة ذات طابع أخلاقي، يُفَسَّر الواقع الاجتماعي، وتُفَسَّر مفاهيم العدالة الاجتماعية على ضوئها، لتشكل هذه الأفكار والمفاهيم الرصيد الفكري للمذهب الاقتصادي القائم على أساسها وفي ضوء معطياتها الأيديولوجية.
إن الحقائق التي نُثبتها هنا بخصوص الفارق بين مفهوم علم الاقتصاد ومفهوم المذهب الاقتصادي، تؤدي بالضرورة إلى استحالة تصور علم الاقتصاد سابقاً على وجود مذهب اقتصادي، يَخلق واقعا اقتصاديا يتحرك بصورة وبآلية معينتين، يتكفل العلم فيما بعد بصياغتهما في قوانين تعكس إسقاطات المذهب على الواقع عبر حقبة من الزمن. وإن كلَّ من يتصور إمكانية أسبقية علم الاقتصاد على المذهب الاقتصادي في واقعٍ اجتماعي ماَّ، يكون مُخطئا، وجاهلا بحقيقة الفرق الجوهري بين المذهب والعلم.
فالتجاريون مثلا حين فَسَّروا من ناحيتهم المذهبية كَمِّيَّةَ الثروة لدى كل أُمَّة، بمقدار ما تملكه هذه الأمة من النقد الوكيل عن السلع والخدمات، استخدموا هذا الموقف المذهبي في وضعِ سياسةٍ اقتصادية تَهدف وتدعو إلى تنشيط التجارة الخارجية بوصفها الأداةَ الرئيسةَ لجلب النقد من الخارج. كما وضعوا معالم سياسة اقتصادية تهدف وتؤدي إلى زيادة قيمة البضائع المصدرة على قيمة البضائع المستوردة لإدخال نقد جديد إلى البلاد، بقدر الزيادة في الصادرات. والتجاريون حينما وضعوا تلك المعالم السياسية الاقتصادية قيدَ الممارسة، إنما خلقوا واقعا اجتماعيا تسوده عبر حقبة من الزمن، قوانين اقتصادية تعكس القواعد الناظمة لآلية الحراك الاقتصادي المستند إلى الأسس الفكرية للمذهب الاقتصادي التجاري.
والطبيعيون حينما جاءوا بتفسيرٍ جديد للثروة، مستندٍ إلى الإيمان بأن الإنتاجَ الزراعي وحدَه هو الكفيلُ بتنمية الثروة القومية، وبخلق السلع والقيم الجديدة، وليس التجارة والصناعة، فقد قدَّموا تفسيرا مذهبيا للواقع الاقتصادي، وضعوا على أساسه معالمَ سياسةٍ اقتصادية تهدف إلى العمل على ازدهار الزراعة وتقدمها وتطورها، ما وَلَّدَ مع الزمن وبالملاحظة والنظر في المجتمع الذي تحكمه مذهبيات الطبيعيين الاقتصادية، مجموعةَ قوانين اقتصادية تحكم واقع هكذا مجتمع، تُمَثِّل في مجموعها علم الاقتصاد السياسي المرتكز إلى الأسس الفكرية للمذهب الاقتصادي الطبيعي.
ومالتوس حين تَبَيَّنَ له أن نُمُوَّ البشر أسرعُ من نُمو الإنتاج الزراعي، ما سيؤدي حتما إلى مجاعة هائلة في مستقبل الإنسانية، فقد تبنى نتيجة لذلك، الدعوةَ إلى تحديد النسل، ووَضَعَ لهذه الدعوة أسسَها المذهبية على المستويات السياسية والاقتصادية والأخلاقية. وفي مجتمع تسوده هذه القيم المذهبية سوف تبرز مع الزمن مجموعة علاقات تحكم حركة الواقع الاقتصادي له، تعكس علم الاقتصاد المرتكز إلى الفكر المذهبي لمالتوس وأتباعه.
وعندما فسر الاشتراكيون من وجهة نظرهم المذهبية قيمة السلعة بالعمل المُنْفَقِ على إنتاجها، وضعوا معالم سياسة اقتصادية تشجب الربح الرأسمالي، وتتبنى اشتراكية توزيع الإنتاج، القائمة على أساس جعل هذا الإنتاج من حق العامل وحده، لأنه الخالق الوحيد للقيمة التي يتمتع بها الإنتاج. وفي مجتمع تَحكمه المذهبية الاشتراكية بصورتها هذه، تتولد مع الزمن علاقات تسود الواقع الاقتصادي له وتحكمه، تُعَبِّر عن مجموعة قوانين علم الاقتصاد المرتكز إلى الأسس الفكرية للمذهب الاشتراكي سالف الذكر.
وانطلاقا مما سبق فنحن عندما نتكلم عن الاقتصاد الإسلامي، لا نعني بذلك علم الاقتصاد، لأن علم الاقتصاد بصُوَرِه المنهجية المختلفة هو علمٌ حديث الولادة، ساعد على تطوره وأسهم في بلورته، تطور الإنسان بوجه عام ابتداءً. ولأنه بشكله المعروف عند الجميع حالياً، عبارة عن مجموعة قوانين تحكم واقع الحياة الاقتصادية في المجتمعات الرأسمالية أو الاشتراكية. فضلاً عن أن علم الاقتصاد الإسلامي، أو الاقتصاد السياسي الإسلامي، لا يمكنه أن يظهر إلى حيز الوجود إلاَّ بعد فترة من الزمن يمارس خلالها مجتمع ماَّ تطبيق حيثيات المذهب الاقتصادي في الإسلام.
إذن فنحن نتحدث عند ذكر الاقتصاد الإسلامي، عن المذهب الاقتصادي الذي تَتَجَسَّد من خلاله الطريقة الإسلامية في تنظيم الحياة الاقتصادية في المجتمع، وذلك عبر ما يدل عليه هذا المذهب أو ما يملكه من رصيد فكري شامل يتألف من أفكارِ ومفاهيمِ الإسلام المختلفة، والمرتبطة بشكل أو بآخر بمسائل الحياة الاقتصادية في جانبها المُؤَسَّس على مفهوم معين عن العدالة. وهذا الرصيد الفكري يتحدد لدينا إماَّ وفقا لبيانات مباشرة في الإسلام، وإماَّ وفقا للأضواء التي يلقيها على مسائل الاقتصاد، وذلك من خلال ما يرد من توضيحات وإشارات ودلالات على ذلك، عبر الأوعية المعرفية والتشريعية التي يعتمدها لتقرير مواقفه وأحكامه وقواعده المذهبية.
فحينما نريد أن نعرف مثلا وجهة نظر الإسلام في الربح الرأسمالي، ومدى اعترافه أو عدم اعترافه بعدالة هذا الربح، يجب أن نتعرف على ذلك من خلال سَبْرِ رأيه المذهبي في تفسير قيمة السلعة وتحديد مصدرها، وكيف تتكون لها هذه القيمة، وهل تكتسبها من العمل وحده أم من عنصر آخر. وحين نريد أن نعرف الحقوق التي أعطاها لكل واحد من عناصر الإنتاج (رأس مال، وسائل إنتاج، عمل، أرض..) في مجال توزيع الإنتاج، يجب أوَّلا أن نعرف رأيه في حقيقة الدور الذي يلعبه كل واحد من تلك العناصر في عملية الإنتاج.
وعندما نريد معرفة موقفه من سياسة تحديد النسل مثلا، يجب أن نعرف ذلك من خلال رأيه في نظرية مالتوس أساسا. كما أننا إذا أردنا أن نتعرف على طبيعة المذهب الاقتصادي الإسلامي، من حبث كيفية معالجته للواقع، هل هي طبيعة ثابتة أم متطورة، وما هي حدود الثبات والتطور فيها، يجب أن نعالج ذلك من خلال مواقفه المبدئية من قوانين التطور الاجتماعي أساسا، وعلى رأسها القوانين التي تحكم تطور الحياة الاقتصادية. وإننا عندما نعالج كل القضايا السابقة وموقف الإسلام منها، فإننا نعالج مذهبا اقتصاديا هو المذهب الاقتصادي الإسلامي، ولن نكون بصدد معالجة علمِ الاقتصاد الإسلامي. فمثل هذا العلم لا يمكن كشف قوانينه إلاَّ من خلال الممارسة العملية للمذهب، لمشاهدة آلية التحرك الاقتصادي الاجتماعي في ظل أسس هذا المذهب.
وقع الكثيرون في أَسْرِ تأكيدِهم على عدم وجود  اقتصاد إسلامي، وذلك لأنهم ظنوا – بحكم خلطهم بين العلم والمذهب – أن القول بوجود مثل هذا الاقتصاد، يعني أننا سوف نجد في النَّصوص المرجعية الإسلامية أو لدى المسلمين على الأقل، فكرا اقتصاديا وبحثا علميا في قوانين الحياة الاقتصادية من إنتاج وتوزيع وغيرهما، نظير ما نجده في بحوث (آدم سميث) و(ريكاردو)، وغيرهما من أقطاب الاقتصاد السياسي.
ولماَّ كنا لا نجد في الإسلام بحوثا من هذا القبيل، فليس الاقتصاد الإسلامي إلاَّ ادعاءً لا أساس له من الصحة. ويمكن لهؤلاء أن يتنازلوا عن تأكيدهم على عدم وجود اقتصاد إسلامي، إذا عرفوا بوضوحٍ الفرقَ بين المذهب الاقتصادي وعلم الاقتصاد، أو ما يسمى بالاقتصاد السياسي، وعرفوا أن الاقتصاد الإسلامي الذي نتحدث عنه مذهبٌ وليس علما.. فالمذهب الاقتصادي يشمل كل قاعدة أساسية في الحياة الاقتصادية تتصل بفكرة العدالة الاجتماعية. بينما العلم يشمل كل نظرية تُفَسِّرُ واقعاً من الحياة الاقتصادية بصورة منفصلة عن فكرة مسبقة أو مثل أعلى للعدالة.
فكرة العدالة الاجتماعية إذن هي الحد الفاصل بين المذهب والعلم، والعلامة الفارقة التي تتميز بها الأفكار المذهبية عن النظريات العلمية، وهي – أي العدالة – ليست فكرة علمية بذاتها، ومن هنا فهي حين تندمج بفكرة ما، فإنها تدمغها بالطابع المذهبي وتُمَيِّزُها من ثم عن التفكير العلمي المجرد. فمبدأ الملكية الخاصة، أو الحرية الاقتصادية، أو إلغاء الفائدة أو تأميم وسائل الإنتاج، أو تداول الثروة أو كنزها، كل ذلك من الأمور التي تندرج في إطار المذهب، لأنها ترتبط بفكرة العدالة سلبا أو إيجابا. أماَّ قانون تناقص الغَلَّة، أو قانون العرض والطلب، أو القانون الحديدي للأجور، فهي قوانين في إطار علم الاقتصاد الرأسمالي، لأنها ليست بصدد تقييم تلك الظواهر الاقتصادية أخلاقيا، من حيث أنها عادلة أم لا، بقدر ما هي بصدد وصف الواقع الاقتصادي الرأسمالي كما هو.
فقانون تناقصِ الغَلَّة لا يحكم بأن هذا التناقص عادل أو ظالم. وإنما يكشف عنه بوصفه حقيقية موضوعية ثابتة. كما أن قانون العرض والطلب لا يبرر ارتفاع الثمن بسبب قلة العرض أو زيادة الطلب على أساسِ مفهوم معين عن العدالة، وإنما يبرز الترابط الموضوعي بين الثمن وحجم العرض والطلب، باعتباره ظاهرة من الظواهر الحتمية للسوق الرأسمالية. وكذلك الأمر في قانون الأجور الحديدي، فهو يشرح الواقع المحتوم للعمال، والذي جعلهم قبل دخول الكينزية على خط تجديد الرأسمالية لنفسها، لا يحصلون في المجتمع الرأسمالي إلاَّ على معيشة الكفاف، بصرف النظر عما إذا كانت ضآلة حصص العمال في التوزيع تتفق مع العدالة أو لا تتفق. فكل القوانين العلمية إذن – خلافا للقواعد المذهبية – لا ترتكز إلى فكرة العدالة، وإنما ترتكز إلى استقراء الواقع وملاحظة مختلف ظواهره وتَتَبُّع آليات حدوثها وصيرورتها. 
وبمجرد أن وضعنا أيدينا على الفروق الحاسمة والجوهرية بين المذهب الاقتصادي وعلم الاقتصاد، نستطيع أن نعرف أن القول بوجود مذهب اقتصادي في الإسلام، لا يعني أن الإسلام يبحث في قوانين العرض والطلب، ويحدد مدى تأثير زيادتهما أو انكماشهما على الثمن في السوق الحرة. كما لا يبحث في العلاقة وردود الفعل بين الفائدة والربح، أو بين حركة رأس المال الربوي والتجارة، ولا في العوامل التي تؤدي إلى زيادة الفائدة أو انخفاضها. كما أنه لا يبحث في ظاهرة تناقص إنتاج الغَلَّة وأسبابها، بل يبحث في تلك الأمور – بحكم إطاره المذهبي – بالقدر الذي يستلزمه مفهوم العدالة الاجتماعية من وجهة نظره.
يثبت لدينا من كل ما سبق أن وظيفة المذهب الاقتصادي هي وضع الحلول لمشاكل الحياة الاقتصادية على أن ترتبط هذه الحلول بفكرةٍ ماَّ عن العدالة. وما يقال بهذا الشأن عن كل المذاهب الاقتصادية يقال عن المذهب الاقتصادي الإسلامي، خاصة عندما نضيف إلى ما سبق أمراً هاما، ألا وهو أن تعبيري (الحلال والحرام) في الإسلام هما تجسيدان عمليان للقِيَم والمثل التي يؤمن بها. فمن الطبيعي جدا عندئذ أن نَخلص من كل ذلك إلى اليقين بوجود مذهب اقتصادي إسلامي، لأن مسألة الحلال والحرام في الإسلام تَمتد لتطال كافة فروع النشاط الإنساني، بما في ذلك فروعَه التي يمكن أن تندرج بشكل أو بآخر تحت اسم الاقتصاد.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو متى وكيف يمكن وضع علم الاقتصاد الإسلامي، كما وضع الرأسماليون الغربيون علم الاقتصاد السياسي الذي فسروا به مُجريات الأحداث الاقتصادية في المجتمع الرأسمالي؟ والإجابة على هذا السؤال تكمن بادئ ذي بدء في الإقرار بأن التفسير العلمي المجرد لأحداث الحياة الاقتصادية يرتكز إلى جمع الأحداث الاقتصادية من التجربة الواقعية للحياة وتنظيمها تنظيما علميا يكشف عن القوانين التي تتحكم فيها ضمن شروطها الخاصة. والتفسير على أساس ذلك يتوقف على تجسيد المذهب في كيان واقعي قائم، ليتاحَ للباحث أن يسجلَ أحداثَ هذا الواقع، ويستخلصَ منها ظواهرَها وقوانينَها العامة. وهذا ما ظفر به الاقتصاديون الرأسماليون الغربيون، حين عاشوا في مجتمعٍ يؤمن بالرأسمالية ويُطَبِّقُها عشرات بل مئات السنين، فأُتيِحَ لهم أن يضعوا نظرياتِهم على أساس تجارب الواقع الاجتماعي التي عاشوها.
بينما شيء كهذا لم يُتَحْ للاقتصاديين الإسلاميين، ما دام الاقتصاد الإسلامي بعيدا عن مسرح الحياة، بل مادام – مع الأسف – ما يزال بعيدا حتى عن مسرح التشَكُّل الفلسفي بسبب الضحالة الفكرية والفلسفية التي مني بها مسلمو هذه العصور وهم يعرضون إسلامهم للعالم. فالمسلمون لا يملكون من حياتهم اليوم تجارب عن الاقتصاد الإسلامي في حيز التطبيق، ليدركوا في ضوئها طبيعة القوانين التي تتحكم في حياةٍ تقوم على أساس الإسلام، اللهم إلاَّ التجارب الإسلامية الأولى والقصيرة نسبيا، والتي قد تتيح لهم بعض المداخل لإرساءِ بعض معالم هذا الاقتصاد. وعلى أيَّ حال فإن الاقتصاد الإسلامي لا يمكنه أن يولدَ ولادةً حقيقية بِشِقِّه العلمي، إلاَّ إذا جُسِّدَ هذا الاقتصاد بِشِقِّه المذهبي في مُجتمعٍ معاصر، ودُرِسَت بعد ذلك حُزَمُ الأحداث والتجارب الاقتصادية التي يمر بها عبر استناده إلى أسسه المذهبية، دراسة واعية ومنتظمة.
من جانبٍ آخر، وكما يختلف المذهب الاقتصادي عن علم الاقتصاد، كذلك يختلف المذهب عن القوانين المدنية، أو عن القوانين التجارية أو ما شابَهَها. فإذا كان المذهب مجموعةً من النظريات الأساسية التي تعالجُ مشاكلَ الحياة الاقتصادية في ضوء فكرة مُحَدَّدَة عن العدالة الاجتماعية. فإن مجموعات القوانين، مدنية كانت أو تجارية أو غيرها، هي عبارة عن تشريعات تنظم تفصيلات العلاقات المالية بين الأفراد، وحقوقهم الشخصية والعينية على أساس المذهب. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يُعتبر المذهب الاقتصادي لمجتمع ماَّ هو نفس قانونه المدني أو قانونه التجاري، أو حتى وضع أسس ذلك المذهب باعتبارها هي نفسها تلك القوانين.
الأمر الذي يَجعل من الخطأ أن يقدم الباحث الإسلامي مجموعة من أحكام الإسلام التي هي في مستوى القانون، ويعرضها طبقا للنصوص التشريعية والفقهية، بوصفها مذهبا اقتصاديا إسلاميا، كما يفعل بعض الكتاب الإسلاميون حين يتصدون لدراسة الاقتصاد الإسلامي. فنراهم يتحدثون عن مجموعة من التشريعات التي نَظَّمَ بها الإسلام الحقوقَ المالية والمعاملات التجارية المختلفة بين الأفراد والجماعات، أو بينهم وبين الدولة، بوصفها مبادئ المذهب الاقتصادي الإسلامي، كالأحكام الشرعية المتعلقة بالبيع والإيجار والشركة والمضاربة والمرابحة وما شابَهَها من تشريعات. ومثل هؤلاء كمثل من يريد أن يدرس ويحدد المذهب الاقتصادي للمجتمع الأميركي، مُقتصراً في دراسته على القانون المدني أو على القانون التجاري للولايات المتحدة الأمريكية وما يحويه من مختلف التشريعات، غاضاًّ الطَّرْفَ عن استعراض الرأسمالية ومبادئها الأساسية في حرية التملك والتصرف والاستثمار.
إنَّ البناءَ النظري الكامل للمجتمع يقوم على أساسِ نظرةٍ عامة ويضُم طوابقَ متعددة يرتكز بعضها إلى بعض، ويُعَتَبر كل طابق متقدم أساساً وقاعدةً للطابق العلوي المشاد عليه. فالمذهب والقانون طابقان من البناء النظري، والقانون هو الطابق العلوي منهما، الذي يتكيف وفقا للمذهب ويتحدد في ضوء النظريات والمفاهيم الأساسية التي يُعَّبر عنها ذلك المذهب.
وحيث قد اتضحت لنا الفروق الأساسية بين علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي، وبعد أن تبين لنا بذلك أننا حين نتحدث عن الاقتصاد الإسلامي إنما نتحدث عن المذهب الاقتصادي في الإسلام، والذي يحدد مواقفَه من معالجة الواقع الاقتصادي للمجتمع على ضوء رؤاه الفكرية الخاصة عن مفهوم العدالة وتطبيقاتها المختلفة في هذا الواقع، فيجب أن نؤكد على أننا بصدد موضوعٍ مذهبي بحت يتركز حول ما يقتضيه مفهوم العدالة من وجهة نظر إسلامية من تطبيقات ومُمارساتٍ اقتصادية أساسية تحكم العملية الاقتصادية ككل، على أن يكون واضحا أن القوانين المدنية لهذا المجتمع والتي ستنظم العلاقة بين مختلف المؤسسات الاقتصادية والأفراد فيه ستكون مرتكزة إلى أسس ذلك المذهب في مختلف أشكالها وحيثياتها ومعطياتها. (لمزيد من التفاصيل، أنظر كتاب اقتصادنا، لمحمد باقر الصدر، الطبعة الثانية، الفصل المتعلق بمفهوم الاقتصاد الإسلامي). وفي سياق تأصلينا للموقف المذهبي الإسلامي من العدالة في بعدها الاقتصادي، سنتعرض لهذا الموقف عبر مقالاتنا القادمة في كلٍّ من نظرية الملكية ونظرية التوزيع على التوالي…
… يتبع
 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.