www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

البعد الهجومي المُقاَوِم في كافة قضايا التَّحَرُّر العربي/أسامة عكنان

0

عندما نبادر إلى معالجة الواقع العربي المريض، فإن احتمالين اثنين ينبثقان عن هكذا مبادرة لهما طابع العمومية. فالأمراض التي تصيب الجسد في الوقت نفسه – كما هو واقع الجسد العربي الكبير المثخن بدمامل القيح هنا وهناك – إما أن تكون أمراضا متكاملة، وإما أن تكون أمراضا منفصلة. أي إما أن تكون أمراضا يكرِّسُ بعضها البعضَ الآخر، تأثُّراً وتأثيرا، وإما ألاَّ تكون كذلك. إن العلاج الذي سنعطيه للجسد الاجتماعي المريض إذا لم يأخذ في الاعتبار هذه الحقيقة في طبيعة الأمراض،

البعد الهجومي المُقاَوِم في كافة قضايا التَّحَرُّر العربي
 
أسامة عكنان
عمان – الأردن
 
عندما نبادر إلى معالجة الواقع العربي المريض، فإن احتمالين اثنين ينبثقان عن هكذا مبادرة لهما طابع العمومية. فالأمراض التي تصيب الجسد في الوقت نفسه – كما هو واقع الجسد العربي الكبير المثخن بدمامل القيح هنا وهناك – إما أن تكون أمراضا متكاملة، وإما أن تكون أمراضا منفصلة. أي إما أن تكون أمراضا يكرِّسُ بعضها البعضَ الآخر، تأثُّراً وتأثيرا، وإما ألاَّ تكون كذلك.
إن العلاج الذي سنعطيه للجسد الاجتماعي المريض إذا لم يأخذ في الاعتبار هذه الحقيقة في طبيعة الأمراض، لن يكون هو العلاج الناجع، بل سيكون علاجا متخبطا لا أساسَ سليما له في سُلَّمِ المرجعية المتعاملة مع الحراك المجتمعي والصيرورة التاريخية. فعندما تكون الأمراض أمراضا متكاملة، أي عندما لا يمكن الشفاء من أحدها بانعزال عن الشفاء من الأمراض الأخرى، فإن محاولة تخليص الجسد من أحدها بالتركيز عليه وإهمال ما سواه، هي محاولة قاصرة، لأن المرض الذي تم التركيز عليه مرتبط في وجوده واستمراره بالأمراض التي قمنا بإهمالها أو بتأجيلها إلى حين على الأقل.
وفي مثل هذه الحالة، فإن الحالة المرضية ستزداد تفاقما، لأننا في واقع الأمر نهدم من جانب ما بنيناه في الجانب الآخر. ناهيك عما يعنيه تجاوز وإهمال وتأجيل المرض المؤثر والمساعد، من دفعه إلى أن يشمل كامل الجسد، وإلى أن تتفاقم فاعليته في رفد المرض الذي انكببنا على علاجه، بعوامل وأسباب ومقومات الديمومة والبقاء.
أما إذا كانت الأمراض أمراضا منفصلة – أي أن لكل مرضٍ واقعه المستقل تأثُّراً وتأثيرا عن الأمراض الأخرى التي يعاني منها الجسد – فإن الحديث عن العلاج التدريجي لكل مرضٍ على حده، قد يجد له مكانا معقولا في خطة العلاج، نظرا لأن التركيز على مرض من تلك الأمراض، قد يؤدي إلى إنهائه حتى لو لم نُعِر إلتفاتاً للأمراض الأخرى، لأننا نقول أنها ليست ذات تأثير وجودي أو ديمومي عليه. وحتى في مثل هذه الحالة فليس بالضرورة أن لا يتم اللجوء إلى العلاج المتكامل، إذا تمكنا من ممارسته، إلاَّ إذا كان علاج مرضين منفصلين في الوقت ذاته من شأنه أن يخلق مضاعفات جانبية لها تأثير مرضي يُعتبر تَجَنُّبُه أكثر فعالية في الخطة العلاجية من علاج هذين المرضين معا وفي الوقت ذاته.
 
وعلى صعيد الوطن العربي فإن تشكيلة كبيرة من الأمراض يمكن استقراء نَخْرِها في جسد الأمة. فإذا كان الاحتلال الصهيوني يُفرز في واقعنا العربي ظاهرة مرضية فريدة من نوعها، فإن الإفرازاتِ الميدانية للنظام “الرُّغالي” العربي متجذرةٌ في هذا الوطن، مربكةً توازنه بعدد كبير من الأمراض التي تعمل فيه تمزيقا واستنزافا، كإهدار ثروات الأمة فيما لا يخدم نموَّها ومصالحَها الحيوية وتقدمَها ورفعتَها ونهضتَها عموما، وكتفشي الثقافة الاستهلاكية الوضيعة التي خلفتها لنا الرأسمالية الاستعمارية عبر تصديرها لنا من خلال مختلف أذرعها في المنطقة، خاصة منذ مطلع عقد السبعينيات من القرن الماضي، وكالإسهام في التَّشَتُّت الأيديولوجي المُفْعَم بالضبابية واللاوضوح لدى كل فصائل الحركة الوطنية العربية، وكالدفاع المستميت عن الفهم السلفي التقليدي الجامد للإسلام وعدم إتاحة الفرصة لإدراك جوهر فعاليته وقدرته على حل مشاكل البشرية وتحرير الشعوب الرازحة تحت نير الظلم والعبودية، ناهيك عن مشاكل العرب والمسلمين، وكالانفلات الفكري الغالب على العديد من القوى المثقفة العربية لهاثا وراء كل ما هو شرقي أو غربي على عِلاَّته، وكاختلاق التعارض التاريخي المفتعل بين عالمية الإسلام وبين خصوصية القومية العربية، أو بين عدالته وعدالة غيره من النظم التي ابتدعها البشر في تاريخ النضال الإنساني الطويل من أجل الحرية والعدالة والمساواة، وكحدوث الثغرة الكبيرة والمستمرة بين النظرية والتطبيق في واقع التجربة الحياتية للمسلمين، أفرادا وجماعات وشعوبا ودولاً، وكالافتقار إلى منظومات معرفية فلسفية واجتماعية قادرة على تَفَهُّم الواقع العربي وعلاقته بالواقع الدولي كما يفرض هذا الواقع نفسه، لا كما تُعَشِّش صورته الوهم في عقول من نَصَّبوا أنفسهم أوصياءَ ثقافيين أو سياسيين أو دينيين على هذه الأمة.
إن وطناً هذا واقعه المرضي إن لم يكن هذا مجرد جزء يسير من واقعه، يكون من السَّخَف الحديث عن أمراضه دون أخذ مبدأ التكامل والانفصال بين الأمراض الاجتماعية بعين الاعتبار.
فهل أن أمراض الوطن العربي هذه هي من النوع المتكامل أم من النوع المنفصل؟!
إن دراستنا المعمقة لجوهر ومظاهر التناقض في الوطن العربي، تؤدي بنا حتما إلى التأكيد على أن معظم الأمراض التي أتينا والتي لم نأتِ على ذكرها، هي إفرازات طبيعية ومفهومة لمظاهر التناقض الرئيسي فيه. إن جوهر التناقض اقتصادي يضرب بجذوره في أعماق التاريخ، منذ الحروب الصليبية وفشلها المعروف في تحقيق أغراضها. وهذا الجوهر يتجلي حاليا من خلال مظهرين هما “إسرائيل الصهيونية الاستيطانية” التي أُريدَ لها أن تقوم مقام احتلالٍ استعماريٍّ تقليديٍّ لم يكن ليقدر لو انْتُهِجَ نهجا استراتيجيا للهجمة الجديدة على الوطن العربي، على تحقيق الغرض منه على المدى الطويل. إضافة إلى “الاحتلال الاقتصادي غير المباشر” الذي تتزعمه أنظمة التجزئة السايكسبيكوية التي يحكمها “الرغاليون الجدد”، مؤسسو “الصهيونية العربية” بارتباطاتها الرأسمالية المختلفة داخليا وخارجيا. إن هذه المظاهر تنعكس على الصعيد التفصيلي في شكل أمراض عديدة ومتنوعة، تصور لنا مختلف المشاكل الجزئية المُفْرَزَة من المظاهر المُجَلِّيَة للجوهر، كتلك التي ذكرنا طائفة منها قبل قليل.
للوهلة الأولى نستطيع أن ندرك أن مظهري التناقض الرئيسي “إسرائيل”، و”أنظمة التجزئة”، ينطبق عليهما ما ينطبق على الأمراض المتكاملة وليس على الأمراض المنفصلة. وبمعنىً آخر فإن كل مظهر منهما يتأثر ويؤثر وجودا وعدما وديمومة واستمرارا في المظهر الآخر. فأنظمة التجزئة بكل دلالاتها التي أتينا والتي لمن نأتِ على ذكرها، هي بشكل أو بآخر الحصنُ الواقي لإسرائيل الاستيطانية، بحكم ما تحققه هذه الأنظمة في هذا الوطن من مختلف معاني التشرذم والتبعية والتخلف والقهر والحرمان والهدر، التي تسهم في إطالة عمر إسرائيل.
وإسرائيل الاستيطانية بكل دلالاتها الاستعمارية التي أتينا والتي لم نأتِ على ذكرها، هي أيضا الحصنُ المنيع الذي يُسْهِم بقاؤه في استمرار تلك الأنظمة بشكل من الأشكال. وبالتالي فإن هذين المظهرين هما صورتان مختلفتان شكلا ومتطابقتان مضمونا للتواجد الإمبريالي العالمي في الوطن العربي. بمعنىً آخر فإن الإمبريالية العالمية ممثَّلَةً في وريثتها الحالية “الولايات المتحدة” متواجدة في هذا الوطن ومحتلة لجزءٍ كبير منه بطريقتين أو بوسيلتين، هما إسرائيل الإستيطانية بكل دلالاتها، وأنظمة التجزئة العربية بكل دلالاتها أيضا.
وعلى هذا الأساس فإن جماهير الأمة العربية عندما تسعى إلى التَّحرُّر، فإنها ستسعى إلى التحرر من تلك الإمبريالية ممثَّلَةً في صورتي تواجدها المذكورتين. وبالتالي فإن هذه الجماهير معنية بالضرورة، وذلك عبر طليعتها “التنظيم الثوري”، بممارسة وسلوك مسلك المواجهة ضد كلٍّ من إسرائيل وأنظمة التجزئة، وضد كل ذراعٍ آخر للإمبريالية تَرى من الضروري مواجهته، لرفد المواجهة المُصَوَّبَة إلى الذراعين السابقين بكل عناصر ومقومات النصر والتحدي. إن تأكيدنا السابق على الدور الذي يقوم به كل واحد من مظاهر التناقض المنبثقة عن جوهر التناقض الرئيسي في المنطقة، ليس مجرد رغبة عابرة أو أمنية، بل هو واقع وحقيقة، الأمر الذي يَفْتَرِض فينا التصدي لإثبات هذه الفكرة بشيء من التفصيل.
إن تحديد التناقض واعتبار حلِّه مطلبا إستراتيجيا، خلق من الناحية التاريخية مُعضلة إستراتيجية المضمون للثورة الجماهيرية العربية الكبرى التي مثلتها فيما مضى أم الثورات كلها، “الثورة الفلسطينية”، أو ما غدا يعرف في الأدبيات التاريخية لهذه الثورة بـ “المقاومة الفلسطينية”. ظهرت هذه المعضلة عندما تصدت المقاومة لحل التناقض بانتهاجها نهج الانفراد بإسرائيل دون التعرض لأنظمة التجزئة ومناجزتها بوصفها النقيض الآخر في معادلةِ معاداةِ العلاقات الإمبريالية في المنطقة، وهي العلاقات التي يُفْتَرض أن المقاومة الفلسطينية انطلقت عندما انطلقت لإسقاطها مُجتمعةً من حيث المبدأ، بالنظر لاستحالة إسقاط جزء منها ثم الالتفات بعد ذلك إلى مهمة إسقاط الجزء الآخر بالتناوب، كما تقضي بذلك طبيعة الهجمة الإمبريالية المعاصرة على وطننا العربي.
ولقد تجَلَّت هذه المعضلة في عدم إمكان إحراز المقاومة لنتائج حاسمة في مواجهة إسرائيل، بسبب عدم استكمال شروط نجاح الحرب الشعبية التي أرادت التوصل إلى انتهاجها أسلوبا للتحرير، جراء عدم توفر الشروط التي تسمح لها بحرية الحركة في الأراضي العربية المجاورة لفلسطين، كنقطة انطلاق أساسية لتحقيق هذا الهدف ابتداءً.
لقد فشلت المقاومة الفلسطينية في تحقيق هذا الهدف بسبب أن تحقيقه مرهون بتغيير جذري في الأوضاع العربية، باتجاه إقامة أنظمةٍ ثورية قادرةٍ ومتحررةٍ من التبعية والخوف والخيانة، ونَفَحاتِ المصالح القطرية التي فرضتها معادلات سايكس بيكو، التي غدت مقدسة عند هكذا أنظمة أكثر من المقدسات الدينية ذاتها.
هربت المقاومة الفلسطينية من هذه المعضلة، بالتخلي عن دورها الطليعي القومي والإسلامي بل والأممي، في مناجزة الإمبريالية، عبر الدخول في نفق اختزال الصراع مع الذراع الإمبريالي الذي هو “اسرائيل”، شكلا ومضمونا، ليتحول من صراع عربي إسرائيلي، إلى صراع فلسطيني إسرائيلي على الجبهة الفلسطينية، وإلى صراع مصري إسرائيلي على الجبهة المصرية، وإلى صراع أردني إسرائيلي على الجبهة الشرقية، وإلى صراع لبناني أو سوري إسرائيلي على الجبهة الشمالية، بحيث تختص كل دولة بحسم الصراع وبمتابعة ذيوله على جبهتها التي غدا ماساًّ بأمنها القومي كل من يدعو إلى تفعيلها لمقارعة العدو الصهيوني.
فشلت المقاومة الفلسطينية إذن في أن تحقق إنجازا يُذْكر على صعيد البعد الذي اختزلته للقضية، بتحويلها إلى قضية صراع فلسطيني إسرائيلي، بعد أن خَلق هذا الاختزال فلسفةً جديدة غذَّت بشكل ملفت عناصر الفكر “السايكسبيكوي” الذي وجد في انتصاره على قومية الثورة، وتحويلها إلى مشروع قُطْري، فرصةً مناسبة لتثبيت أركانه وأركان أنظمة التجزئة، التي تحولت من حالةٍ جغرافية سياسية من السهل مناجزتها، إلى حالة ثقافية صعبة المناجزة، بعد أن تغلغلت في بنية ذهن المواطن، بل والمثقف العربي في تلك الجزر الجغرافية، التي غدت لكل منها هويتها الوطنية التي راحت تبحث لنفسها عن جذور ومبررات ومشروعيات خارج نطاق بنائها القومي أو الإسلامي.
فظهرت مرحلةٌ ساد فيها الفكر القُطري في أضيق صوره، بعد أن نضجت ظروف الترويج له من قبل حشدٍ من المثقفين المشبوهين، كانوا جميعا نتاجا خالصا، وماركة مسجلة لمرحلة الاندلاق الساداتي على الغرب. وغدا كل مواطن يتحدث عن مصلحة قُطْرِه في ضوء قراءةٍ قومية عروبية لهذه المصلحة، حتى لو كان ذلك في أضيق الحدود، خائنا للهوية الوطنية، ومرتبطا بأجهزة مخابرات خارجية، إلى آخر هذه المعزوفة الممجوجة من الأكاذيب والأباطيل، التي تجعل الرغاليين يرون في التخابر مع عربي أمرا أخطر على أمنهم من فتح قواعد عسكرية ومرافق سياحية وتجارية للأمريكيين وللإسرائيليين على أراضي شعوبهم.
وعاد السؤال المهم التالي ليطرح نفسه بعد ذلك الفشل التاريخي الذي مُنِيَ به المشروع الثوري الفلسطيني مُخَيِّبا آمال كل البشر، وليس آمال العرب والمسلمين وحدهم، متحولاً إلى نظام عربي وليس إلى مشروع ثورة عالمية ضد الإمبريالية..
هل يجب أن تُوَجَّه الجهود أولا لتغيير الأوضاع العربية ومناجزة أنظمة التجزئة التي يقودها “الرغاليون الجدد” الصهاينة العرب، أم لشن النضال ضد إسرائيل وفق سياسة الأولويات؟!
إن المعضلة التي يثيرها السؤال السابق عميقة ومتجذرة في تاريخنا العربي منذ أن انبثقت القضية الفلسطينية إلى حيز الوجود. إنها ليست جديدة ولم تظهر مع ظهور آخر الثورات الفلسطينية كما يحلو للبعض أن يتصور، وإن كانت أوضح ما تكون ظهورا وجلاءً رفقة المرحلة الثورية الفلسطينية التي عبرت عنها المقاومة منذ مطلع الستينيات من القرن الماضي.
فالمعضلة موجودة منذ البداية وإن لم تبرز على صعيد الوعي. وهي قد طرحت نفسها بأشكال مختلفة على النضالين الفلسطيني والعربي في مراحل مختلفة. فما أن وجد الفلسطينيون أنفسهم في مواجهة عدوين مترابطين ومتحالفين، هما الاستعمار الاستيطاني الصهيوني والاستعمار البريطاني، قبل قيام إسرائيل، حتى طرحت المعضلة نفسها على شكل سؤال: أي العدوين نواجه أولا، الاحتلال البريطاني أم المستوطنين اليهود؟ وبعد قيام إسرائيل عادت المعضلة لتطرح نفسها في شكل سؤال آخر: من أولا الوحدة أم التحرير؟ واليوم تعود المعضلة ذاتها لتطرح نفسها، وهي حقا معضلة.
تتبدى معالم المعضلة في أننا إذا أجبنا على التساؤل السابق بالقول بضرورة صب الجهود نحو تغيير الأوضاع العربية، مؤجلين بذلك النضالَ ضد الصهيونية، فإن هذا التوجهَ منا قد يعني ترك الخطر الصهيوني دون مقاومةٍ ليستفحل أمرُه، وليغدوَ مُهَدِّدا بالتالي لنفس قوى التغيير التي تخوض المواجهة ضد أنظمة التجزئة. كما أن هذا التأجيل سوف يحرم النضال المُوَجَّه ضد الإمبريالية في صورة ومظهر تواجدها المتمثل في “أنظمة التجزئة العربية”، من عوامل التحفيز والتفجير التي تولدها مواجهة الصهيونية في العادة، والتي تساعد على إبراز التناقضات بين الجماهير العربية وحكامها الرغاليين على السطح بصورة أكثر وضوحا.
وفي المقابل، فإن إجابتنا إذا كانت بالدعوة إلى صب الجهود على العمل النضالي المُوَجَّه ضد العدو الصهيوني، فمن الواضح أن ذلك يعني – في ظل حقيقة وجوهر أنظمة التجزئة – مواجهة إسرائيل ضمن شروط غير مواتية، تحافظ لها على منبع قوتها وحمايتها آمناً ومعافىً وقادرا على تقديم كل أنواع الدعم المتصورة. أي أن هذا يعني ترك الأنظمة العربية حرة طليقة الأيدي في التآمر على الحركة الجماهيرية المتجهة نحو النضال ضد العدو الصهيوني وضربها من الخلف وطعنها في الظهر سياسيا وأمنيا وإعلاميا بل وعسكريا إن أمكن ولزم الأمر.
كما أن هذا التوجه يعني إبقاء المنطقة خاضعة لشبكة العلاقات الاستعمارية، وإفساح المجال لتحقيق مزيدٍ من القوة لإسرائيل بعدم تحقيق النصر عليها، وبالتالي بتمكينها من المحافظة على التوازن السيكولوجي للإسرائيليين، كي يتمكنوا من مواصلة الدور المنوط بهذا الكيان استعماريا.   
إن الموقف الأول أو الثاني أو غيرهما من المواقف، سيرتكز بادئ ذي بدء إلى الاتفاق على تصورٍ مبدئي للصراع ولطبيعته، وللهدف منه ولطبيعة تناقضاته، وهو الأمر الذي يمكننا معه ملاحظة أننا أمام أربعة احتمالات نظرية لنمط خوض الصراع وحلِّ التناقض في المنطقة. فإماَّ أن نخوض الصراع ضد المظهر الرُّغالي للتناقض مؤجلين الصراع ضد المظهر الثاني وهو الصهيونية، وإما أن نخوضه ضد هذا الأخير مؤجلين إياه ضد الأول، وإما أن نمتنعَ عن خوض الصراع ضد الاثنين معا، وإما أن نخوضه ضدهما معا وفي الوقت نفسه.
الاحتمالان الأول والثاني قاصران للأسباب التي وضحناها سابقا، والاحتمال الثالث ليس احتمالا، فهو يصور حالةً من الاستسلام المطلق، ويكرس الاحتلالين الاستيطاني والرغالي معا، بلا منازعة أو اعتراض. فلم يبقَ إذن سوى الاحتمال الرابع، وهو مواجهة النقيضين سويا. ولعل هذه الحقيقة قد بدت واضحة منذ وقت طويل لذوي الرؤية الثاقبة، والقراءة الدقيقة للواقع العربي. لكن استقراءنا لتاريخ القوى الوطنية العربية في المنطقة المشرقية، سيكشف لنا أنها جميعها من الناحية العملية، قد جنحت لحل التناقض القائم في المنطقة من خلال التصدي لمظهر واحدٍ من مظهريه فقط.
فبعضٌ منها خاض الصراع باتجاه تغيير الأوضاع في الدول العربية، وبعضها الآخر خاضه باتجاه تحرير الأرض من العدو الصهيوني. الاتجاه الأول مَثَّلَتْه كافة التشكيلات الحزبية القومية والماركسية والإسلامية التقليدية، كلٌّ وفق طريقتها وفي ضوء أيديولوجيتها. والاتجاه الثاني مَثَّلَتْه المقاومة الفلسطينية ومن دار في فلكها من القوى الوطنية العربية الأخرى، وعلى رأسها القوى اللبنانية في حقبة التحالف الذي كان قائما بين الطرفين قبل عام 1982، بحكم اصطلائها المباشر بتداعيات الحالة الصهيونية، على شكل احتلال للأرض.
ومن الواضح أنها جميعها قد فشلت في تحقيق أهدافها، ولم تصل إلى مستوى طروحاتها بعد عدة عقودٍ من النضال. فلا المقاومة الفلسطينية حررت الأرض، ولا القوى الوطنية العربية التي حاولت تغيير الأنظمة الرُّغالية الجديدة حققت أي إنجاز على هذا الصعيد. بل ربما أنَّ الأمر قد ازداد سوءا خاصة على صعيد حالة التجزئة والثقافة القطرية المرتبطة بها.
يمكننا التأكيد استنادا إلى مجمل الحقائق التي توصلنا إليها حتى الآن، على أن الأساس الذي يجب أن تنبني عليه إستراتيجية التغيير العربي المقبل، هو الانطلاق من قاعدة التصدي للعلاقات الإمبريالية في المنطقة ومواجهتها في ذات الوقت دون تجزئةٍ أو تأجيل، على ضوء تصورٍ موضوعي ذكرناه مراراً وتكراراً، مفاده أن الاحتلال الصهيوني الناتج عن وجود إسرائيل الاستيطانية، والتخلف والتجزئة الناتجين عن وجود “البُنْيَة الرُّغاَلِيَّة” في قمة الهرم السياسي العربي، لا يعكسان سوى الشكل المكثًّف لهذه العلاقات الإمبريالية.
 
نستطيع تبسيط المسألة بتصورنا لشخص يقف في مواجهة شخصين آخرين، أحدهما أمامه والآخر خلفه، وكلٌّ منهما يحمل عصاً ليضربه بها، وهو أيضا يحمل عصاه للدفاع عن نفسه. فإذا واجه المُهاَجِمَ الأولَ ليتلقى ضرباته بعصاه، فإنه لن يسلمَ من ضربات عصا الشخص الآخر الرابض وراءه. وإن هو التفت إلى هذا القابع في الخلف واهتم به مؤجِّلاً الأول، فلن ينجوَ من وقع المعضلة نفسِها. إنه أمام هذا المأزق معنيٌّ بخلق إستراتيجيةِ مواجهةٍ تمكنه من أن يكون في وضعٍ يسمح له بمتابعة هجومات الشخصين المهاجمين معا، ليعرف كيف يضع خُطَّةَ الرد على هجماتهما المتواكبة تلك.
إننا إذا قدرنا على تصور المعضلة التي يعاني منها الشخص المذكور، واقتنعنا بأن حلَّه لها لا يتأتى عبر مواجهته لعدوٍّ وتأجيله للآخرَ، مادام كلٌّ منهما يرتبط وجوديا بهذا الآخر، فإننا نكون قد وضعنا أيدينا بصورة من الصور على مكمن التناقض الحاد في المنطقة العربية. فالحركة الجماهيرية الساعية للتغيير، ستواجه المعضلة نفسها التي يواجهها الشخص الذي ضربناه مثلا. فهي ستواجه إسرائبل وأنظمة التجزئة بوصفهما عدوا واحدا في مُحصِّلَة الأهداف الإستراتيجية، عندما تُقاس الأهداف بمدى اقترابها أو بعدها عن العلاقات الإمبريالية في المنطقة.
وإن كانت العلاقة بينهما لا تخلو من التناقضات الجزئية القائمة على عدم تطابق الأجندات الخاصة بكل طرف تطابقا تاما مع أجندات باقي الأطراف. فرغم كل ما ذُكِر من دور الدركي الذي تلعبه إسرائيل في حماية الأنظمة الرُّغالية، ورغم حرص تلك الأنظمة ومحاولاتها المحمومة لتَمُدَّ في حياة إسرائيل بكل السبل الممكنة والمتاحة مادام هذا المَدُّ هو مَدٌّ في عمرها هي أساسا. فإن هذا لا يعني عدم وجود تناقضات ماَّ بين تلك الأنظمة وبين إسرائيل. لا بل إن مثل هذا التناقض موجود، وقد عُبِّرَ عنه كثيرا بصدامات ومقاطعات وحروب واحتكاكات متنوعة الأشكال والأوجه. لكنه تناقض يشبه كل الشبه، ذلك الذي يحدث بين الأشقاء لأب واحد، تسود بينهم نزعة الحرص على المصالح الذاتية أكثر مما تسود بينهم نزعة الولاء والانتماء الحقيقيين بعضهم للبعض الآخر.
فرغم أن كل الأشقاء يعملون ضمن الخطة الأبوية وخضوعا لقواعد اللعبة التي تعكس الرؤية السيادية والمصلحية للأب، إلا أن ذلك لا يعني أن ليست لكل واحد منهم شخصيته ومصالحُه المستقلة التي يحرص على حمايتها من الآخرين، وعلى عدم السماح لأيٍّ منهم بالاعتداء عليها أو بتهديدها، وعلى محاولة الحصول على المواقع الحَظِيَّة والمتقدمة لدى الأب. ومع ذلك فإن الإمبريالية حرصت باستمرار على المسارعة إلى حل التناقض بين إسرائيل ومنظومة التجزئة العربية، وتطويقه كي لا يستفحل، وذلك وفق ما يقتضيه الإبقاء على المنطقة باستمرار تحت هيمنة العلاقات التي تضمن انسياب مصالحها بيُسْرٍ وسهولة.
وأخيرا، فمع أن التحليل الذي قدمناه حتى الآن يكشف لنا عن مجموعة حقائق هامة على صعيد التناقض ومُكَوِّناتِه والصراع وأطرافه وكيفية خوضه بصورة عامة ومبدئية، ورغم تأكيدنا على العلاقة العضوية والوجودية بين النضال ضد أنظمة التجزئة والنضال ضد إسرائيل، فإن السؤال الإستراتيجي يبقى قائما وملحا..
ما هي طبيعة العلاقة المحددة بين النضال المعادي للتجزئة وتداعياتها الداخلية والخارجية، والنضال المعادي لإسرائيل؟ وهل يمكن للنضالين أن يتكاملا على الأرض؟ وكيف يمكنهما أن يحققا ذلك وضمن أية ظروف؟!
إن أية خطة للتغيير الاجتماعي مهما كانت مُحكمة ودقيقة، فإنها لن تستطيع استيعاب كل تفاصيل الواقع الاجتماعي، كما أنه لا يمكنها – مهما كانت وسائلها بالغة الحساسية في رصد الحركة التاريخية – أن تتنبأ بكل الأحداث، خاصة إذا كنا نتحدث على الصعيد التفصيلي. إن هناك أمورا ضرورية تحدث دائما خارج نطاق الخطة، يمكن اعتبارها بمثابة المضاعفات الجانبية التي لا تلبث أن تنقلب على نفس الخطة، ما يدفع بالمُخَطِّطِ إلى إعادة النظر في المواقف السابقة، لإلغائها أو لتعديلها، أو للاستسلام أمام عنفوان هذا الجديد الطارئ. فإذا كان هذا الذي نقوله يشبه قاعدةً عامة في ظل الوسائل الإنسانية المعاصرة – القاصرة جدا – لضبط الحركة الاجتماعية والسيطرة عليها، فإن الخطة عندما تكون متناقضة مع مصالح الشعوب ومع معايير الحق والعدالة – التي هي أمور تتجه البشرية نحوها باستمرار – فإنه في قلب السلبيات العاجلة التي تفرضها هذه الخطة على الشعوب، تختمر أجنة إيجابيات المستقبل المُنْبِئَة منذ البدء بالتحول المرتقب.
إن أي خطة تتعارض وتتناقض مع جوهر العدل، تجد بذور فنائها في صميم ذاتها. فالتاريخ الصاعد أبدا، يشد المجتمعات الإنسانية على الدوام نحو العدل المذهبي في أرقى صورِه، وإن كان يحتاج إلى جهودهم كي يُسَرّع في ذلك. والخطة إما أن تكون منسجمة مع منطق المرحلة في المسير نحو تلك الصيغة العدلية، وإما ألاَّ تكون – أي أن تكون متعارضة معها، مُمارسةً الشد في الاتجاه المضاد لحركة التاريخ الطبيعية – فإذا كانت منسجمة مع حركة التاريخ الضرورية التي تفرض خطوطَها الأساسية المتغيراتُ الواقعة خارج سيطرة الإنسان، وخارج حدود قدرته على التخطيط والرسم والضبط، فإن الحركة ستبقى عادية حتى يحصل التناقض والتعارض. وإذا لم تكن منسجمة، فستتحطم في مرحلة معينة تصل فيها حالة الشد مستوىً منذرا بالانكسار والانقطاع والانفجار، فارضةً على المُخَطِّطِ إما الإلغاء وإما التعديل وإما التراجع التام.
إن العدو يخطط لتأجيل حركة الانبعاث الجماهيري ولتعطيل أي مبادرة تعمل في هذا الاتجاه، ويُنَسِّقُ أمورَه ويُحْكِمُ العلاقات، ويحاول ضبط التحركات التي يتصور أنه يقدر على ضبطها والسيطرة عليها، كل ذلك كي يكتم أنفاس المبادرات، وكي يؤخر الحتمية ما استطاع. ولكن مهما استطاع هذا العدو أن يُشْرِف على الحركة الجماهيرية وعلى الفعل المجتمعي، ومهما حاول أن يضبط مسار التاريخ حفاظا على منظومة العلاقات التي تحقق له مصالحه، ومهما كانت وسائله دقيقة ومتقدمة وشديدة الحساسية في التَّحَكُّم، ومهما كان الفعل المضاد المُنَظَّم بطيئا في إحداث البعث المُعَجِّل باستحضار الحتميات التاريخية، فإن أمورا تحدث في الخفاء نتيجة المتغيرات الضرورية، تضطر العدو في كل مرحلة إلى تعديل مسار خطته وفق مقتضيات المنطق الجديد. هذا إذا لم يضطر إلى الانحناء التام أمام أي منعطف حادٍّ لم يعد يحتمل لا الخطة ولا أي تعديل لها، بل أصبح يتجه نحو فرض منطق جديد لسيادة الواقع.
 
إن هناك دائما عنصرا يؤثر في الحركة الاجتماعية، وفي حركة التاريخ لا يمكن التنبؤ به بسهولة، ليس لأنه يشكل أسطورة تستعصي على الفهم، بل لأنه يشكل أثرا مستقبليا تبدو ملامحه ضبابية باهتة، لمجموعة علاقات ضرورية تتحكم في مسيرة التاريخ، لا يتسنى للمُخَطِّطِ حين وضع خطته أن يضعها على أساس آثارها تلك. والعدو عندما يضع خطةً لابتزاز شعبٍ ماَّ فهو معني بوضع خطة الابتزاز هذه بناءً على الواقع الذي يلمسه ويراه. وستتضمن الخطة علاوة على مجموعة العلاقات الابتزازية، علاقاتٍ أخرى ضرورية لتنفيذ الخطة، لكنها ذات أثر جانبي يجد حلوله في المستقبل، في تنمية الأجواء المتناقضة مع طبيعة الابتزاز المُتَضَمَّن فيها، فتنقلب الخطة على صاحبها.
الولايات المتحدة الأميركية أحكمت سيطرتها على أميركا اللاتينية في عقدي الستينيات والسبعينيات بسلسلة انقلابات عسكرية، عندما كانت تلاحظ أي بادرةِ تَحَوُّلٍ ديمقراطي يمكنها أن تُقْحِمَ أنصار المعسكر المعادي بشكلٍ أو بآخر إلى حلبة القارة الأميركية اللاتينية، لاعبين جدداً مقتدرين. كانت تلك هي الخطة الأميركية لضرب حركة الشعوب في تلك القارة في تلك الفترة. ومع أنها خطة حققت لمرحلة معينة نتيجة كبيرة على صعيد الحفاظ على المصالح والعلاقات الإمبريالية الأميركية في تلك القارة. إلا أن طبيعة التطور ونتائج وآثار المضاعفات الجانبية للخطة الأميركية نفسها، جعلتها تقف منذ مطلع عقد الثمانينيات عاجزة عن الاستمرار في خنق الانبعاث الجماهيري، وغدا الاستمرار في الخطة يهدد التواجد الأميركي في القارة اللاتينية برمته، نتيجة الحركة الجماهيرية المتفاقمة. فماذا حصل؟!
تعديل للخطة بما يتناسب مع المرحلة الجديدة المفروضة، رغم انطواء هذا التعديل على شيء نسبي من التنازل الأميركي، مادام التنازل خير من الزوال كُلِّيَّةً. فالولايات المتحدة الأميركية ذاتها هي التي حرصت في هذه الظروف الجديدة، على التخلص من الأنظمة العسكرية ومن الديكتاتوريات، حتى لو كان ذلك بالاغتيالات. خاصة بعد أن وصلت بعض الفئات المناهضة للسياسة الأميركية إلى سدة الحكم في بعض دول أميركا اللاتينية، كما هو الحال بالنسبة لحركة “الساندينيست” في نيكاراغوا.
ولقد كان هذا التوجه الجديد من الإمبريالية الأميركية، شكلا من أشكال الحرص على الذات، وضمانا لاستمرار تواجدها بشرعية ديمقراطية. فبعد أن حاربت واشنطن الديمقراطية في العقدين السابقين خشية أن تكون الجسرَ الذي تعبر من خلاله الفئات المناهضة لمصالحها إلى السيطرة على كراسي الحكم في القارة التي طالما اعتبرتها ساحةَ بيتِها الخلفي، جاءت الديمقراطيات في العقد التالي تحت المظلة الأميركية، ضمانا لإشراك وكلاء العلاقات الإمبريالية في إدارة شؤون دول تلك القارة هائلة الثروات والإمكانات الاقتصادية!!
هكذا إذن خطط الأميركيون. فبعد أن حاربوا الديمقراطية لأنها كانت تُشْرِك معهم غيرهم في وقت يمكنهم الحيلولة فيه دون مشاركة أحدٍ لهم في السيطرة والتحكم وبسط النفوذ، نراهم يحاربون من أجل الديمقراطية لأنها سوف تكفل لهم أن يشاركوا غيرَهم في واقعٍ بدا أنه سيسحب البُسُطَ من تحت أرجلهم. وليس معنى ذلك أن التحول العالمي الحالي نحو الديمقراطية – رغم نسبية وقصور هذه الديمقراطية – هو مِنَّةٌ من أحد، بل هو تنازل اضطر العدو الكبير للشعوب إلى تقديمه نتيجة الضغط الجماهيري وعمق المشاكل المنذرة بالانفجار.
في ظل هذه الحقائق كلِّها، أين هو موقع الوطن العربي؟ وكيف يمكننا أن نُسْقِطَ عليه بأمانة ما ذكرناه؟!
إن هناك هجمة شرسة تعاني منها الشعوب العربية، إسرائيل المطرقة وأنظمة التجزئة سندانها. وهذه الشعوب تئن تحت وطأة هذه المطرقة وذلك السندان. الخطة أُحْكِمَت والهجمة كانت عنيفة استغلت ظروفا مواتيةً في غفلةٍ من الوعي ومن القدرة ومن التنظيم، وفي غيابِ المؤسسات والقوى الفاعلة، فهجمت مسلحةً بالوعي وبالقدرة وبالتنظيم، وبالمؤسسات الفاعلة. فحققت هذه الهجمة المرادَ منها، ولكن إلى حين.
وما كان يختمر بعيدا عن السيطرة شَبَّ عن الطَّوْق، فانطلقت الثورة الفلسطينية في منتصف عقد الستينيات رغم كل الحصار المفروض على الفعل الجماهيري الحي، في مبادرة قاعدية جماهيرية متميزة، كان من الممكن أن تقودَ الفعلَ الثوري العربي بل والعالمي كله، لولا المؤامرات “الرغالية” والأخطاء الأيديولوجية والمنهجية التي واكبت مسيرة هذه الثورة على مر تاريخها الطويل.
حوصِرَت الهوية الفلسطينية المُعَبَّرِ عنها بالمقاومة الناشئة حصارا خانقا بحجة قومية المعركة، في استهدافٍ للفعل الفلسطيني المقاوِم، خشية أن يتحول إلى فعلٍ قومي مقاوم، فيسحب البساط الشعبي من تحت أقدام أنظمة التجزئة التي كانت تتعامل مع القضية بوصفها قميصَ عثمانٍ تعلق عليه كافة مساوئها وتناقضاتها مع الجماهير. فحققت خطة الحصار نجاحا ولكن إلى حين. فقد كان المطلوب في سياق محاولات ضرب المقاومة، أن تعلن الأنظمة العربية تحملها لعبء المعركة كي تُفْقِدَ الفعلَ المقاومَ مشروعيته الشعبية، ولما كان من المفروض على تلك الأنظمة أن تبقى عاجزةً لأهدافٍ إستراتيجية عبرت عنها الهزيمة النكراء في حزيران من العام 1967، فقد انقلبت الخطة عليها، مُكَرِّسةً الالتحام الكبير بالمبادرة الفلسطينية الصاعدة التي غدت تعكس التعبير الموضوعي عن متطلبات المرحلة.
وتنامت هذه المبادرة، فحوربَت بأشرس ما تكون الحرب، لأنها مبادرة خطيرة وضعت الخطة الإمبريالية في المنطقة على محكِّ الوجود التاريخي. وأُبْعِدَت الثورة عن قواعدها ومعاقلها بمجازر رهيبة صبت في اتجاه الجماهير التي كان من المُفْتَرَض أن تشكل القاعدة الارتكازية لها، وحُشِرَت في صراعات هامشية لتخفيف الضغط عن إسرائيل. ونجحت الخطة إلى حين.
اِسْتُغِلَّت هذه الفترة للاستمرار في ابتزاز الثورة وفي عزلها عن جماهيرها الفلسطينية قبل العربية، ليصار إلى إعادة صب القضية كلها في إطار قطري يبعد عنها قوميتها. فبعد أن كانت فكرة قومية القضية هي السلاح الذي حوربت به المقاومة الفلسطينية الناشئة كي لا يتعاطف معها أحد، أصبحت فكرة قطرية القضية ولا قوميتها – ويا للمفارقة – هي السلاح الذي استخدمته الأنظمة نفسها كي تبعد شعوبها عن الالتحام بتلك المقاومة، بعد أن استفحل أمرها وأصبحت أمرا واقعا حظي بالتعاطف العالمي سياسيا وقانونيا.
فعملت أنظمة التجزئة على إقناع الشعوب بأن هذه الثورة التي طُرِدَت من قاعدتها الآمنة الأولى والأساسية (الأردن)، هي سبب البلاء وسبب كل المشكلات والمصاعب الاقتصادية التي تعاني منها. ولكي تؤكد القوى الرغالية ذلك لشعوبها، فقد انتهجت سياسةً مشبوهة عمِلَت على إرفاق خروج المقاومة من معاقلها وقواعدها بعملية بناءٍ مزيفٍ للاقتصاد في ظل تكريسِ ثقافة الحفاظ على الذات والحرص على حماية الممتلكات من خطر أي حرب محتملة، وضرورة تأمين المستقبل المعيشي للأسرة وللعائلة، والوقوف في وجه كل ما من شأنه أن يشكل نوعا من التهديد لهذا النهج الجديد في التفكير.
كل ذلك من أجل أن ينسى الجميع ذلك العدو الرابض غرب النهر. وقد نَجحت هذه الخطة ولكن إلى حين. فما كان يَحدث بعيدا عن السيطرة اختمر وفرض تخفيف حِدَّة القمع والدكتاتورية والاستلاب، فتحقق هامشٌ وإن يكن ضئيلاً من الديمقراطية، غذت التطلعات الشعبية الجادة إليه حالة عالمية من التوجه إلى إشراك الشعوب في إدارة شؤونها وشؤون مقدراتها وثرواتها.
إن كل تَحَوُّلٍ يحدث على مستوى قمة الهرم السياسي (السلطة) سيكون استجابةً لتحولٍ أسبق حدث على مستوى قاعدة هذا الهرم (الشعوب). وعندما يحدث هذا التحوُّل على مستوى القمة، يحدث المُتَنَفَّس الاجتماعي ناقلا الشعوب خطوة إلى الأمام، فتتقدم خطوة ويتأخر أعداؤها خطوة. هذا الوضع الجديد سيساعد أكثر على خلق تَحَوُّلٍ نوعي جديدٍ متقدم على مستوى القاعدة، إلى أن يصل تراكم التَّحوُّلات النوعية إلى مرحلة تُجْبَر فيها قمة الهرم السياسي على إحداثِ التعديل من جديد، ليتجلى هذا التعديل في تَغَيُّرات تعتري القاعدة مُجَدَّداً، مُبَدِّلاً المواقع على صعيد السيادة، مُقَدِّما الشعوب خطوة ومُؤَخِّراً القوى العاملة ضد إرادتها وضد مصالحها وحقوقها خطوة أخرى، لتعود معادلة الحراك التاريخي هذه وتسود الواقع المجتمعي من جديد.
في ظل الدكتاتورية نطالب بالحرية ونناضل من أجل ذلك ونضحي، فنحصل على قدرٍ من الحرية النسبية. وفي ظل هذه الحرية النسبية وما تسمح بخلقه من وعي سياسي ومن حرية تعبير ومن حراك مجتمعي ديناميكي، نتمسك بالمكتسبات التي حققتها النضالات السابقة، ونناضل من أجل تحقيقِ خطوةٍ إلى الأمام حتى تتحقق هذه الخطوة، وهكذا دواليك.
في ظل الفُرْقَة وتفشي ثقافة القطرية وذهنية التجزئة، نناضل من أجل الوحدة بأي شكل من أشكالها وبأي مستوى مُمْكِن من مستوياتها الدافعة باتجاه مستواها الطُّموح المُسْتَهدَف، ونطالب بذلك بحسب ما تقتضيه المرحلة من وسائل وأساليب، وبحسب ما تتيحه من إمكانات. وفي ظل تَحقُّقِ شكلٍ أوَّليٍّ ونسبي من الوحدة، نطالب بشكل متقدم منها، ونناضل من أجله على قاعدة تمسُّكِنا بالمستوى الذي حققه نضالنا السابق، مستغلين في نضالنا الجديد هوامش الحركة والفعل التي أتاحتها مستويات الحرية التي انتزعناها من أعدائنا.
 
في ظل الإحتلال نقاتل عندما يكون القتال مُجديا لانتزاع التحرر والاستقلال والدفع بقضية التحرر الوطني إلى الأمام. وفي ظل فقدان البندقية أو عدم جدواها بموجب الظروف السائدة، نبحث عن وسيلة أخرى للهجوم والقتال، مستغلين في ذلك هوامش الحرية النسبية التي تم الحصول عليها وانتزاعها كحقوقٍ مشروعة للجماهير.
إن حركة الجماهير يجب أن تبقى في حالة نبضٍ لا يتوقف، وهجوم متلاحق لا يعطي للعدو فرصةً لالتقاط الأنفاس. ويجب أن نكون مدركين لحقيقة هامة في هذا السياق، ألا وهي أن العدو أقل قدرة من الشعوب على تَحَمُّل التضحيات والخسائر، بل هو أقل منها استعدادا لتقديمها من حيث المبدأ، لأنه ليس صاحب قضية عادلة من حيث المبدأ.
إن الطبيعة المركبة للتناقض في المنطقة العربية، وهو التناقض القائم بين الجماهير وبين الإمبريالية بمظهريها “الرُّغالي”، و”الإسرائيلي”، وما ينجم عنهما من شتى أنواع العِلَلِ الاجتماعية، تجعل الحركة الجماهيرية الساعية إلى حَلِّه – أي التناقض – ذات فعل هجومي دوما. فلا حقَّ حصلنا أو سنحصل عليه، يمكنه أن يتجسَّدَ في الواقع بدون أداءٍ هو بطبيعته هجومي. وفي كل مرحلة من مراحل النضال والحركة الجماهيرية يتَّخذ الهجوم شكلا مغايراً ومختلفاً عن ذلك الذي اتَّخذه في ظل مرحلة سابقة، كما قد يختلف عن ذلك الذي سيَتخذه في ظل مرحلة لاحقة.
وإذا كانت القوى الوطنية العربية قد توزعت خلال العقود الماضية بين فئتين، فئة تنادي بحل التناقض بمجابهة واحد من مظهريه، وفئة تنادي بحل التناقض بمجابهة المظهر الآخر له. فقد آن الأوان لرفض هذا الاتجاه، وبناء التنظيم الذي سينادي بحل التناقضين المظهريين معا وسيعمل على ذلك، مستغلا سلاح المرحلة الذي فرضته نتائج التفاعل والتناحر التاريخيين بين الجماهير وبين مظهري الإمبريالية. هذا التنظيم الذي سيكون قادراً (على) ومستعدا (لـ) استيعاب واستخدام السلاح الذي قد تفرضه المراحل المقبلة من الصراع.
إن المتعمق في دراسته للحروب وللحملات الصليبية وأسبابها، وفي تطورات العالم التي جاءت بعدها، سيكتشف حقيقةً مذهلة تتمثل في كون هذه الحروب والحملات مثَّلت الحد الفاصل بين تاريخين، ليس على صعيد أوربا والعالم الإسلامي وحسب، بل على صعيد العالم كلِّه. إن القارة الأميركية والأوقيانوسية ومجاهل القارة الإفريقية في معظمها كانت خارج حدود التنافس الإسلامي الأوربي آنذاك، بسبب عدم اكتشافها، وعدم معرفة طرق من وإلى آسيا غيرَ اختراق العالم العربي، ثم السير شرقا إلى جنوب القارة الآسيوية عبر شعوبٍ مسلمة كثيرة أخرى غير العرب.    
إن العالم محور الصراع العالمي آنذاك كان هو أوربا والعالم الإسلامي فقط. لقد كانت موجات الفتح الإسلامي نحو الغرب والشمال تراجعا لأوربا، وكانت الحروب الصليبية محاولةَ عودةٍ أوربية إلى أمجاد الإمبراطوريتين الرومانيتين البائدتين، سعيا نحو الاستمرار في الحصول على الامتيازات والمصالح المادية التي حرموا منها بسبب المسلمين. وباءت الحروب الصليبية بكامل حملاتها بالفشل في نهاية المطاف، مُكَرِّسَةً حقيقة تاريخية جديدة صقلت العقل الأوربي بعد ذلك، ألا وهي أن الاحتلال العسكري المباشر (والصليبيون بكل ألوانهم وأشكالهم وخلافاتهم وطرائق تعاملهم مع حالة تواجدهم في إماراتهم الصليبية، كانوا يمثلون شكلا من أشكال الاحتلال العسكري المباشر المرفود بحالة استيطانية)، ليس من شأنه أن يُكْسِبَ أوربا موقعا ثابتا ودائما في المنطقة يكفل لها الإطلال المستمر على آسيا والسيطرة على شعوب المنطقة اقتصاديا.
ولقد تجلى أثر الاقتناع بهذه الحقيقة على صعيد العقل الأوربي في التوجُّه نحو البحث عن طرقٍ أخرى للوصول إلى آسيا غير الاضطرار إلى اختراق العالم العربي، فكانت الكشوفات الجغرافية الكبرى التي غيرت وجه العالم مُمَهِّدَةً لعصر الرأسمالية والاستعمار الأوربي. وجاءت الإصلاحات الدينية التي كانت بمثابة المُزاَرِع الذي بذر البذور الأولى للصهيونية، في جانبها العَقَدي وليس السياسي، في العقل المسيحي قبل العقل اليهودي، إلى أن تُوِّجَت هذه الأفكار الجديدة بتعبئة اليهود ليتصهينوا. وكانت النهضة الأوربية التي بُذِرَت بذورها الأولى في كل نقاط الاحتكاك بين المسلمين والأوربيين، في الأندلس والشام، وفي المغرب العربي عبر إيطاليا وصقلية.
وهكذا بدأت المعالم الأولى لمرحلةٍ جديدة من تاريخ العالم، سادت أوربا فيها ذهنية النزوع إلى الاستعمار، لتقود بهذه النزعة حضارة لا نجد لها تسمية أنسب من “حضارة الغرائز”، نظرا لغياب الفعل الإسلامي القادر على قيادة الأمة الإسلامية نحو أخذ دورها الفعال في صناعة التاريخ العالمي في تلك المرحلة الطويلة التي دامت قرونا، بحضارةٍ هي “حضارة القيمة”. ولقد زاد الطين بِلَّةً أن تحولت السيادة على الأمة الإسلامية إلى فئةٍ مسلمة من أقل فئاتها اهتماما بالازدهار العلمي (العثمانيون) ونزوعا إلى اعتبار التفوق مرهونا فقط بالقدرة العسكرية، فحصل التراجع على مستوى القمة، وأسهم ذلك في توجيه التاريخ الوُجْهَةَ التي توجَّهها، فبدأت حضارة الغرائز بالظهور والنمو فيما راحت حضارة القيمة تعاني من الانحدار والتراجع، إلى أن انتهى الأمر بوقوع الوطن العربي تحت نير الاستعمار كآخر منطقة من العالم يتم إخضاعها للاستعمار الأوربي.
خلاصة القول إذن، أن أوربا وهي تفكر بالعودة إلى الوطن العربي عبر المنطقة نفسها التي طُرِدَت منها قبل قرون (الهلال الخصيب وبلاد الشام وخاصة فلسطين)، وجدت أن العودة يجب أن تكون بصورة جديدة ذات طابع استيطاني يُحَوِّل المسألة من مجرد احتلال عسكري إلى وجود شعبٍ بكامله يعيش على أرضٍ تُعتبر دولتَه بصورة واقعية، كشكلٍ راسخٍ ومتجذرٍ من أشكال الاستعمار. وهكذا فقد كان دور إسرائيل هو دور الصليبيين في الماضي نفسه. وكان نجاح إسرائيل هو بسبب الأمور نفسها التي أدت إلى نجاح الصليبيين في الماضي، وإن كانت الهجمة قد اتخذت شكلا آخر جديدا.
وما يؤكد لنا أهمية إسرائيل في دفع عجلة التجزئة العربية حسب المنظور الإمبريالي، والخطر الذي يتهددها ويتهدد بالتالي المشروع الإمبريالي الذي تنوب عنه في الدور الاستعماري، عندما تبدأ معالم التجزئة بالزوال، تماما كما هو حال الإمارات الصليبية الأولى، ما قاله ويقوله مؤرخو الحروب الصليبية مِمَّن نحسبهم كتبوا وأرَّخَوا لتلك الفترة وهم يتحسَّرون على ما فقده الصليبيون بفشل حملاتهم، مُبينين أسباب ذلك، وكأنهم يضعون مؤشِّرات النجاح للصليبية الجديدة.
فهم جميعهم يرون أن جرأة المحاولة لتأسيس دولةٍ صليبية، على نمطٍ أوربي تحت سماءٍ شرقية لافحة، لم تلقَ ما لقيت من التوفيق، إلاَّ بسبب ما تردَّت فيه القوى الإسلامية وقتذاك من شقاق. كما أنه لم يكن باستطاعة تلك الدول الصليبية أن تُعَمِّرَ طويلا لولا شيء واحد، وهو أن الجمهوريات الإيطالية اهتمت كل الاهتمام بنشر تجارتها في الشرق. فاشتركت أساطيلٌ من البندقية وجَنوا وبيزاَّ في حصار الموانئ السورية والاستيلاء عليها. ومع هذا فقد ظلت الدول الصليبية في حالةٍ غير آمنة، لأن اهتمام الجمهوريات الإيطالية لم يتعد بلاد السواحل. ويبدو أن زعماء الصليبيين أنفسهم لم يدركوا أهمية الاستيلاء على الشام كلها حتى أطرافها الطبيعية من المسلمين. وما كان باستطاعةٍ لديهم أن تنهض بذلك العمل الكبير دون إمدادات متواصلةٍ من أوربا.
إذن فمن الواضح أن التجزئة ساعدت دولة الصليبيين على الاستمرار مدةً أطول. كما أن دولتهم ما كان لها أن تقوم وتستمر بدون الإمدادات الأوربية المستمرة. ناهيك عن أن التوسع نحو الشرق لو حصل لكان عمقا إستراتيجيا لهذه الدولة، أو لهذه الدول المتعاقبة. وإسرائيل قد انتهجت منذ البداية أسلوب تحقيق العمق الإستراتيجي لضمان سلامتها مدةً أطول. كما أن إسرائيل لا تقوم أو تستمر بدون دعم التحالف الإمبريالي لها. وهي والوحدة العربية بأي شكل من أشكالها نقيضان، فنراها تخلق دائما مبررات التجزئة وتخاف من الوحدة. ولعل حرصها على انتهاج نهج المفاوضات المنفردة بكل دولة عربية، يدل على عمق الرعب من الوحدة حتى لو تمثلت في موقف سياسي تفاوضي.
إلا أن الأمر الذي اختلف في إسرائيل عن الإمارات الصليبية الأولى، هو البعد الاستيطاني الواسع الذي يرفد البعد العسكري بالقوة، ووجود العنصر العربي الممعن في “رُغاليته” بالقياس لما كان عليه الحال في الهجمة الصليبية السابقة. مع أن هذه الاختلافات لا تغير من الجوهر شيئا، وإن كانت تؤثر على طبيعة المعركة، وعلى كيفية خوض الصراع، وعلى كيفية تحديد مساره وأولوياته.
إن الدُّوَل الصليبية الأربع استطاعت برغم قلة مواردها من الرجال والمال أن تبقى على حالها بالشام، مادام الأمراء المسلمون المحيطون بها في استقلال بعضهم عن بعض. أي ماداموا بعيدين عن الوحدة، محققين للتجزئة الخادمة للمشروع الصليبي سابقا. غير أنه لم يكن لتلك الحال أن تدوم والشرق الأدنى يتمخض عن ثلاثةٍ من أقدر الرجال الذين غيروا موازينه وأوضاعه في مدة لا تتجاوز نصف قرن من الزمان. إذ استولى زنكي أمير الموصل على حلب سنة 1128م، وامتدت مملكة ابنه نور الدين إلى دمشق سنة 1154م، والقاهرة سنة 1168م، حتى إذا توفي نور الدين سنة 1173م، حلَّ محله صلاح الدين الأيوبي الذي جعل الشرق الأدنى كله من دجلة إلى النيل، مملكة واحدة بفضل ما اجتمع فيه من خصائص الزعامة المطبوعة لتبدأ مسيرة التحرير بقيادته. 
ونحن لا نريد أن نطيل في سرد أوجه الشَّبَه أو الاختلاف الكامنة بين الهجمة الصليبية الأولى والهجمة الصليبية المعاصرة، وحسبنا أن أكدنا بالدليل القاطع ومن خلال التحليل والمعلومة، أن إسرائيل هي أحد أوجه الهجمة الجديدة التي تهددها الأمور نفسها التي كانت تهدد مظاهر الهجمة الأولى. الأمر الذي يجعل من غير المعقول أن تقبل إسرائيل دون ضغط أو إكراه سلاما من النوع الذي يفتح المجال واسعا أمام ظهور زنكي ونور الدين وصلاح الدين، وأمام دولة الشرق الأدنى الواحدة. ومع ذلك فإن هذا لا يعني أن الأمر مستحيل، بل هو يعني أن إسرائيل ومعها معاقل الرغاليين الجدد من زعماء أنظمة التجزئة في المنطقة وبالدعم الكامل من الإمبريالية الأُم في واشنطن يسعون إلى تأجيله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
إن بروز الهوية الفلسطينية يخلق معضلات لإسرائيل. وكلما كان مستوى بروز هذه الهوية متقدما، كلما كانت المعضلة التي ستعاني منها أكثر تأثيرا على أدائها المعادي لقضايا الجماهير، وكلما كان رد الفعل المعادي لحركة الجماهير بالتالي متجها إلى انتهاج السبل التي من شأنها تخفيف حدة التناقض لكيلا يصل إلى مراحله المتقدمة والأكثر حسما.
تفعيل المقاومة بكل أشكالها داخل الأرض المحتلة يسهم أكثر في تجسيد ملامح الهوية الوطنية الفلسطينية داخليا وخارجيا، واقعيا وقانونيا. ومقارعة أنظمة التجزئة الرغالية بما يناسبها من وسائل وآليات سيدفع إلى تخفيف وطأتها على الجناح المقاوم للاحتلال داخل فلسطين، فيُحْقَن أداؤُه نتيجة لذلك بجرعاتٍ دافعة ومُفَعِّلةٍ. وبالمقابل، عندما تقوى المقاومة ويشتد عودها وتتطور وسائلها وتنتشر ثقافتها في الداخل وفي الخارج، تزداد حدة التناقضات بين الجماهير العربية وإسرائيل على ساحة المقاومة المباشرة، فيسهم ذلك في تصعيد سقوف المطالب الجماهيرية العربية المقاوِمة لأنظمة التجزئة والمتعلقة بالحرية وبالوحدة لدعم المشروع المقاوم للاحتلال، فنقفز خطوات متقدمة في ساحة صيرورة الصراع، ليس بأقلها أهمية إبراز تخاذل النظام الرغالي، ودفع تناقضاته مع الجماهير العربية للاستفحال. وتبدأ الدورة من جديد وتستمر إلى نهايتها المحتومة.
إن كل هذه التفاعلات تقُوِّي من جبهة الجماهير المواجِهَة للإمبريالية عبر كلٍّ من إسرائي

 

إن كل هذه التفاعلات تقُوِّي من جبهة الجماهير المواجِهَة للإمبريالية عبر كلٍّ من إسرائيل والنظام الرُّغالي العربي، فتتقدم هذه المواجهة خطوة إلى الأمام، سواء من خلال توتير الوضع في المنطقة بدفعه باتجاه تعميق وتجذير مآزق كلٍّ من إسرائيل وأنظمة التجزئة، حيث ستحصل الجماهير العربية في ظل هذه المسيرة المتصاعدة على حقوقها التدريجية بتنازلاتٍ اضطرارية من الطرف المعادي إنقاذا لما يمكن إنقاذه، أو من خلال المواجهة التي قد تتخذ أي شكل ممكن ومتصور.
لسنا هنا بصدد التنبؤ بشكل المواجهات المتوقعة خلال صيرورة الحركة الجماهيرية، بل بصدد تصوير ميكانيزمات الدَّفع الجماهيري في المنطقة، من خلال استغلال معطيات كل مرحلة، زحفا بالتناقض القائم إلى مراحل حَسْمِه النهائية التي قد يتم الوصول إليها إما بالتنازلات الاضطرارية المتدرجة التي تفرضها على المعسكر المعادي المعضلاتُ والمآزقُ التي تولِّدُها الحركة الجماهيرية المتنامية، وإما بمواجهات محدودة في كل مرحلة، حسب مستوى وحجم الاستعداد الجماهيري والنضج في مُكَوِّنات ساحة الحركة لاحتضانِ قدرٍ من هذه المواجهات، وإما بمواجهات حاسمة ونهائية، إذا كانت الظروف العامة مواتية من جميع جوانبها لمثل هذه المواجهات. ولا يمكن أن يتم كل ذلك، أو أن تنموَ حركة الجماهير وتتصعَّد لتحقيق أهدافها في الحرية والعدالة والوحدة والاستقلال عن كل العلاقات الإمبريالية، إلاَّ عبر التفاعل التام لهذه الجماهير مع الطليعة الفاعلة المُمَثِّلَة لها أثناء حركتها وصيرورتها.
إن العلاقة الجدلية بين مختلف أطراف التناقض من جهة، وبين مختلف مستويات الصراع المتولد عن هذا التناقض من جهة أخرى، تفرض أن يتولى قيادة الجماهير خلالها تنظيم قادر وحاسم وواعٍ يملك نظرية عمل متكاملة. إلى أن تتمكن الجماهير بقيادة ذلك التنظيم من تحقيق أهدافها البعيدة، قاضية على أنظمة التجزئة ومُحَقِّقَةً القدرَ المطلوب والمناسب من الوحدة، ومُفَرِّغَةً إسرائيل من محتواها الصهيوني الإمبريالي، وفاتحة أبواب الاستعداد لمقارعة أي قوة أخرى ناشئة متربصة على مصاريعها، عندما تتمكن هذه القوة الناشئة في ظروف التخاذل العربي الرسمي والضعف العربي الجماهيري من الإسهام في إعادة رسم الخرائط الجيوسياسية والجيوصراعية للمنطقة بما يحقق طموحاتها وأجنداتها على حساب الحقوق القومية العربية، إلى جانب أم الإمبرياليات كلها، الولايات المتحدة. هذا بطبيعة الحال إن لم تهيمن على تلك القوة الناشئة الطموحة قبل فوات الأوان مراكز قوى تخفف من اندفاع طموحها القومي في الإقليم على حساب الجغرافيا والتاريخ العربيين، وتدرك حتمية وضرورة التحالف مع قوى التحرر العربي لا مناجزتها العداء ومقارعتها والتناقض معها.
ومع ذلك فإن الحركة الجماهيرية قد تعاني من انتكاسات، وقد تُفاجأ بممارسات مغامرة من هذا النظام أو من ذاك، وقد تضطر إلى مواجهة موقف إسرائيلي أو أميركي غير متوقع على المستوى التفصيلي للأحداث. إلاَّ أن هذا كله لن يغير سوى من الصورة التكتيكية لحركة الجماهير وليس من حقيقة التَّوَجُّهات الإستراتيجية لتلك الحركة، هذه التوجهات التي تبقى محكومة في كل جوانبها بحيثيات ومعطيات التحليل الذي قدَّمناه حتى الآن والقائم على فكرة المقاومة، والمقاومة الدائمة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.