www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

البديل الاقتصادي لإنقاذ الشعوب من تغوُّل الرأسمالية/أسامة عكنان

0

1- ملكية الأشياء وملكية حق الإنتفاع بالأشياء.. إن أول حقيقة يجب أن ننطلق منها لمعالجة موضوع تبرير أو عدم تبرير الملكية بأي من أشكالها أو مستوياتها من وجهة نظر الإسلام، هي أن نُقِرَّ بأن العالَم كُلُّه في التَّصَوُّر الإسلامي هو ملك لله. فهو خالقُه ومالكه، والإنسان الذي هو خليفته فيه بمعنىً من المعاني كما نص على ذلك الخطاب القرآني، ليس أكثر من نائبٍ عنه فيه

البديل الاقتصادي لإنقاذ الشعوب من تغوُّل الرأسمالية
“رؤية إسلامية”
الحلقة (2)
مدخل إلى نظرية الملكية في المذهب الاقتصادي الإسلامي
 
أسامة عكنان
عمان – الأردن
 
1- ملكية الأشياء وملكية حق الإنتفاع بالأشياء..
إن أول حقيقة يجب أن ننطلق منها لمعالجة موضوع تبرير أو عدم تبرير الملكية بأي من أشكالها أو مستوياتها من وجهة نظر الإسلام، هي أن نُقِرَّ بأن العالَم كُلُّه في التَّصَوُّر الإسلامي هو ملك لله. فهو خالقُه ومالكه، والإنسان الذي هو خليفته فيه بمعنىً من المعاني كما نص على ذلك الخطاب القرآني، ليس أكثر من نائبٍ عنه فيه. فهو إذن نائب عن المالك الأصلي والحقيقي في مُلكه. إن المفهوم المبدئي (الجوهري) للملكية والذي يقتضي أن يكون المالك حُرَّ التَّصرف في مُملوكِه حُرِّيَّةً مطلقة، لا ينطبق على الإنسان وهو يَدَّعي ملكيته لهذا العالم. فهو لا يستطيع أن يتصرف فيه كما يشاء، بحكم خضوعه لقوانينه التي لا يتمكن من تجاوزها. وإذا هو استطاع أن يتصرف بحريةٍ ظاهرةٍ في حدودٍ معينة، فإن هذه الاستطاعة مُقَيَّدة بشروطٍ وضعها المالك الحقيقي الذي هو الله. ما يُكَرِّس مفهوم نيابة الإنسان عنه في تطوير هذا العالم واستغلاله واستثماره.
وكما أن هذا المفهوم النيابي ينسحب على الإنسان كجنس، فإنه ينسحب أيضا وبالضرورة على الإنسان كفرد. فإذا كان الكل لا يَملكون، فمن بابِ أولى أن الجزءَ أبعد ما يكون عن اتصافه بالتَّمَلُّك. وإذا كان الإنسان نائبا عن المالك الأصلي والحقيقي الذي هو الله، فهو موجود إذن في ملك غيره، يحيى فيه ويعيش، ويُغَيِّر فيه ويطور. هذا وقد ارتبطت حياته ارتباطا وجوديا بالأرض التي هي مملوكة لله، كما هو أيضا مملوك له. وإن علاقة الإنسان بالأرض التي يحيى فيها وعليها يجب أن ننظر إليها كعلاقة مملوكٍ أولٍ هو الإنسان بمملوكٍ ثانٍ هي الأرض لمالك حقيقي ووحيد هو الله.
إن ما يقتضيه العقل في هذا السياق، أن لا يكون الوجودُ الواحد مالكا ومملوكا في ذات الوقت. فإذا كان الله مالكا مطلقا لهذا العالم فلا يمكنه أن يكون مملوكا لأحد، لأن لا أحد خارج ملكه من حيث المبدأ، مادام لا أحد خارج هذا العالم أساساً. وبالتالي فلا أحد غيره يمكنه أن يَتَمَلَّك. وإذا كان هذا العالم جملةً وتفصيلاً مملوكا لله فلا يمكن له – أي العالم – أن يكون بدوره مالكا لشيءٍ أو لأحدٍ فيه، لأن لا شيءَ ولا أحد يقع خارج حدوده، وبالتالي فلا أحدَ ولا شيء يقع خارج حدود ملكية لله المالك الواحد المطلق له. وإذا كان الإنسان بوصفه جزءاً من هذا العالم المملوك، مملوكا لله بتبعية كونِ العالمِ الذي هو جزءٌ منه مملوكا لله ابتداءً، فلا يمكنه أن يكون مالكا لشي في هذا العالم، وإلاَّ لما كان مملوكا بالمعاني الحقيقية (الجوهرية) لكل من المالك والمملوك والملكية.
ولا يصح أن يتم الاعتراض علينا بالقول بأنه من الجائز أن يكون الوجودُ الواحد مالكا ومملوكا في ذات الوقت، والاستدلال على ذلك بِما يُرى من ملكية الإنسان لموجودات كثيرة في هذا العالم، على الرغم من أنه وإياها مملوكان لله. فهذا الاعتراض قاصر الشكل والمضمون. فنحن نناقش مفهوم التملك من حيث المبدأ وفي ضوء المعاني الجوهرية الممكنة له عقلاً. فاذا لم يصح التملك مبدئيا في حق الإنسان بموجب ما يقرره العقل في ضوء العلاقة بين الله ومملوكاته، فيجب عندئذٍ أن ننظر إلى ما اعْتُقِدَ أنه تَمَلُّك، على أنه شيء آخر غيره، مادام النظر العقلي منع حق الإنسان فيه للأسباب المذكورة أعلاه، لا أن نسمي ظاهرة معينة نراها تَمَلُّكاً، ثم نستنتج على أساس ذلك جوازَ التَّمَلُّك في حق الإنسان.
وبعد، فإن مِماَّ يقتضيه العقل أن لا يكون الوجود الواحد المملوك مملوكا لمالكين مختلفين في ذات الوقت، فهذا مستحيل. فإذا كان العالمُ – والأرض جزء لا يتجزأ منه –  مملوكاً لمالكٍ هو الله، فلا يمكن أن يكون مملوكا من جهة أخرى لمالك آخر غير الله، كأن يكون هذا المالك الثاني هو الإنسان مثلا. وهنا أيضا لا يصح أن يقال أن المملوك الواحد يمكن أن يكون مملوكا لمالكين من خلال الاستدلال بإمكانية تجزِئَةِ المملوك الواحد إلى أكثر من جزءٍ تُوَزَّع على أكثر من مالك. فمثل هذا الاستدلال قاصر الشكل والمضمون أيضا.
فالوجود الواحد عندما يتجزأ لم يعد وجودا واحدا بل أصبح أكثر من وجود، وكل وجود منها لا يمكنه أن يكون مملوكا لأكثر من مالك، فضلاً عن أن كل تلك الأجزاء هي من حيث المبدأ مملوكة لله، وبالتالي فإن أيَّ فعل لغيره فيها لا يمكنه أن يكون فعلَ تَمَلُّك، بل هو فعلٌ من نوعٍ آخر بعيدٍ عن كل معاني التملك بمفهومه المبدئي المشار إليه سابقا.
وأيضا فإن القولَ بأن شخصين قد يمتلكان شيئا واحدا ينتفعان من ورائه معا وفي نفس الوقت، ما يبطل مقولة عدم جواز ثنائية المالك لمملوك واحد، هو قول عار عن الصحة والموضوعية، فالوجود الواحد الذي يعود بمنفعة يقتسمها أكثر من شخص، ليس ملكا لا لهما معا ولا لأي منهما منفرداً، لأنهما لا يمتلكان معاً سوى حق الانتفاع به، وملكية حق الانتفاع بالشيء تختلف من عديد الأوجه عن ملكية الشيء نفسِه، فضلاً عن كون ما امتلكا حق الانتفاع به ملك لغيرهما وهو الله.
خلاصة القول إذن هي أننا عندما نؤكد على عدم تَوَفُّر فعل الإنسان في هذا العالم على معاني الملكية بمفهومها المرفق بحرية التصرف التامة والمطلقة، فإننا نؤكد على حقيقة أخرى لا تقل عنها أهمية، ألا وهي أن كل ما نراه من مظاهر الفعل الإنساني المصطلحِ عليه في عالم البشر بأنه تَمَلُّك، ليس تَملُّكاً بالمعنى الذي نفيناه، ويَجب بناء عليه أن نُدَقِّقَ فيه لمعرفته على حقيقته التي هي بالتأكيد شيء آخر غير الملكية التي ننفي اتصاف الإنسان بها في هذا العالم.
إن الله اختار أن يكون الإنسان خليفة له ونائبا عنه في ملكه، على أن يكون واضحا أنه نائبٌ مَحكومٌ بِما ينسجم مع بقائه مَملوكا لله، ومع كونه ينوب ويتصرف في ملك غيره بما أراده هذا الغير، ألا وهو العدل الذي هو مقصد الله عبر استخلافه للإنسان في هذا العالم أصلا. وإذن فإن الحديثَ لا يعود متعلقا بِموضوع الملكية وحق التملك المبدئيين، فكون الإنسان نائبا عن الله في أرضه فهذا يعني قطعا أنه لا يملكها لا بصفته فردا ولا بصفته جنسا. ولا يمكن أن يكون عدم ملكيته لها محل خلاف أو موضوع نقاش.
إنَّ مَحَلَّ الخلاف وموضوعَ النقاش يغدو في ظل هذا التصوُّر، هو موضوع النيابة. وعندما يُصاغ الموضوع على هذا النحو، تبرز التساؤلات التالية.. من ينوب عن الله في أرضه؟ وكيف ينوب النائب عن الله في أرضه؟ وما هي شروط استحقاقه للنيابة؟.. إلخ. ومن الواضح أن الإجابة على هذه التساؤلات ستختلف بالضرورة التي تقتضيها طبيعتها، عن الإجابة على التساؤلات فيما لو تعلقت بِموضوع الملكية من حيث هي تسلتزم حرية تصرف المالك في ملكه.
إن الله خلق الإنسان خليفةً في الأرض عندما قال لملائكته.. (إني جاعل في الأرض خليفة) (البقرة – 30). والإنسان الخليفة هو الإنسان النَّوع، أماَّ الإنسان الفرد فيكتسب صفة الاستخلاف من خلال كونه واحدا من هذا النَّوع المُكَلَّف بالخلافة. إن التكليف بالخلافة لا يتعلق من حيث المبدأ بالانسان الفرد لينتقل من ثم من هذا الفرد إلى المجموع على اعتبار أن هذا المجموع يُعَبِّرُ عن توليفةٍ وتشكيلة من هؤلاء الأفراد المكلفين، بل إن هذا التكليف مُوَجَّه للإنسان كنوع لينسحب هذا التكليف من ثم على الأفراد الذين هم بطبيعة الحال عناصر في هذا الكل المسمى النَّوع الإنساني.
كما أن النَّوعَ البشريَ منذ أن أُخبِرَ بالتكليف لم يكن فردا بل كان مجموعةً بشرية. وكُلِّفَت هذه المجموعة أول تكليف.. (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) (البقرة – 35). ثم بعد هذه الخطوة التكوينية في فكر الاستخلاف تَوَجَّه التكليف مُجددا الى المجموع.. (قلنا اهبطوا منها جميعا فإماَّ يأتينَّكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (البقرة – 38).
وعندما يتوجه الخطاب التكليفي إلى المجموع فإنه يطال عناصر هذا المجموع بالضرورة. بينما عندما يتوجه إلى الفرد فإنه لا يطال جميع الأفراد إلاَّ بعد استقراء توجيهه إليهم جميعا فردا فردا. ومن يَطَّلِع على القرآن الكريم يلاحظ تركيزَ اللهِ سبحانه وتعالى باستمرار على توجيه الخطاب إلى المجموع (يا أيها الذين آمنوا)، (يا أيها الناس).. إلخ.
وبالتالي فان الخطاب التكليفي بالخلافة في الأرض مُوَجَّه إلى الإنسان بمفهومه الكلي، الأمر الذي يجعله يطال في مُحتواه كل مخلوقٍ ينطبق عليه المفهوم الكلي للإنسان. من هنا نَخلص إلى التأكيد على أن النيابة عن الله في ملكه يجب أن تتحقق بصورة جماعية. فنُواب الله أو خلفاؤه إن صح التعبير، هم مجموع البشر. وهذه النتيجة تقتضي أن لا يتولى كل فرد في هذا المجموع بِمفرده تحقيقَ أمر النيابة عن الله فيما يتعلق بالمسائل الخارجة عن ذاته وشخصه. وعندما يتولى المجموع تحقيق أمر النيابة، فمن الواضح عندئذ أن توزيع المهام النيابية بما يكفل مصلحة المجموع وبِما يُمرر مفاهيم العدالة الجماعية ومقتضياتِها أمر ضروري لا فكاك عن الحاجة إليه.
ارتبطت حياة الإنسان منذ وجوده على الأرض، من حيث بقاؤها واستمرارها بمجموعة من الحاجات التي تتطلَّب الإشباعَ، كي يتمكن من تحقيق أمر التكليف الذي أُنيطَ به. وإذا كان تحقيق هذا الأمر يتطلب منه بالضرورة  إشباع حاجاته التي انبثقت عن وجوده على الأرض، فإن من مقتضيات العدل الإلهي ابتداء، أن يمتلك الإنسان حق إشباع تلك الحاجات.
الإنسان إذن وبرغم أنه لا يَملك وجودا يتصرف فيه بحرية، فهو يَملك حقأًّ مبدئياً متمثلا في إشباعه لحاجاته التي يرتبط وجوده وبقاؤه واستمراره بها. وهذا الحق يَملكه النَّوْع البشري في كل مكان وزمان فردا فردا، لأن كل فرد يطاله التكليف عبر تكليف المجموع، ولأن الحاجات التي تتطلب الإشباع بقدر ما هي في جانب منها جماعية الطابع، فإنها في غالبيتها فردية بشكل مفرِطٍ في فرديته.
فإذا كانت القاعدة الشرعية المستندة إلى مفردات العقل والتي تنص على أن ما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجب، قاعدة صحيحة، فإن مفردات العقل ذاتَها التي أمدتنا بتلك القاعدة تؤكد لنا على معقولية وموضوعية إسقاط روحِها على مختلف مجالات الحياة التي تقتضي إسقاطَها عليها. فإذا كان إشباع حاجاتنا الحيوية حقاًّ نَمتلكه من المالك الحقيقي لهذه الأرض بسبب أنه كلفنا وربط قدرتنا على تنفيذ التكليف بإشباع تلك الحاجات ربطاً وجوديا، وإذا كانت حاجاتنا تلك لا يُمكن إشباعها رغم امتلاكنا لهذا الحق، مالم نَمتلك حقاًّ آخر هو حق الانتفاع الكامل بِما من شأنه أن يُشبعها، فإن امتلاك حق الانتفاع هذا ضروري بالنسبة للإنسان.
والخلاصة إذن، أن من مقتضيات التكليف انبثاقُ الحاجات الإنسانية، وأن من مقتضيات انبثاق الحاجات إشباعُها، وأن من مقتضيات الإشباع امتلاكُ حق الإشباع، وأن من مقتضيات امتلاك حق إشباع الحاجات، امتلاك حقٍّ أسبقَ هو حق الانتفاع بكل وجود من شأنه أن يُشْبِعَ أو أن يساعد على إشباع تلك الحاجات.
فالبشرية جمعاء تَمتلك إذن حق الانتفاع بهذا العالم بصورة تكفل إشباع حاجاتها الجماعية والفردية، كي تحقق أمرَ الخلافة المنوط بها. ولا يُمكن لإشباع الحاجات أن يكون مَحَلَّ خلافٍ أو مِحل ضرورة إثباتٍ بنص شرعي. فالشريعة ليس من شأنها أن تتكلم أو أن تتحدث عن تَحصيل الحاصل إلاَّ استثناءً. وما أثبته العقل بطرائق موضوعية هو شَرعٌ بكل تأكيد. ومن ثم فإن عدم تَمَلُّك الإنسان لأيِّ شيءٍ في هذا الوجود وتَمَلُّكِه لحق الانتفاع بكل أشيائه وموجوداته على نحو يشبع تلك الحاجات بالشكل المناسب، ليست قضيةً مَحل نقاش عبر نصوصٍ شرعيةٍ كونها قضية من القضايا التي تُدرك بالعقل وبالنظر في المعقولات.
2 – ملكية حق الانتفاع بين الفطرة والاكتساب..
عندما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم.. (الإسلام دين الفطرة)، فهذا يعني أن مفاهيم الإسلام وأحكامه وتشريعاته ومواقفه من مُختلف القضايا، تنسجم تمام الانسجام مع الفطرة الإنسانية، وهي الجِبِلَّة التي جبل الله عليها الناس، ولا تتعارض معها. والفطرة بمعنى الجِبِلَّة هي في شكل من أشكالها مَجموعة الإحساسات الذاتية في الإنسان والمرتبطة بوجوده وبقائه الحيوي في هذا العالم.
فالشعور بالميل إلى الجنس الآخر شعور فطري يقوم عليه استمرار النوع. والشعور بالجوع والعطش والرغبة في النوم والراحة واللعب، كلها مشاعر فطرية يرتبط وجود الإنسان بها بشكل من أشكال الارتباط. والشعور بالرغبة في العدل وبحبه وحُسْنِه وبكره الظلم وبغضه، هو أيضا شعور فطري، لأنه شعور يتحقق به الوجود الإنساني في أسمى وأرقى وأنبل هيآته. هنالك إذن مَجموعة من المشاعر والأحاسيس الفطرية التي لا تُكتَسب بالتربية أو بالمؤثرات الخارجية سواء كانت مؤثرات بيئية اجتماعية أو طبيعية.
وعندما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام.. (يولد المولود على الفطرة فأبواه هما اللذان يُهَوِّدانه أو يُمَجِّسانه أو يُنَصِّرانه)، فهو إنما يبين لنا بكل وضوح أن التربية والبيئة بصورة عامة تسهمان إلى حدٍّ بعيد في طمس معالم الفطرة في بعض الجوانب، ما لا تتاح معه الفرصة للإنسان كي يصل إلى الحقيقة بكل موضوعية. وهي الحقيقة التي ما كان إلاَّ ليصلَ إليها فيما لو حيلَ بين فطرته واستعداداته الطبيعية من جهة والمكتسبات التي جاءت بها البيئة الاجتماعية فغطَّت من خلالها على بعض ملامِحها الأصيلة من جهة أخرى.
وقد تُسهم البيئة الاجتماعية والمفاهيم التربوية التي يعيش في ظلها وكنفها الإنسان، في توليد العديد من الأفكار والأحاسيس التي تغدو مع الزمن ومن خلال التواصل النفسي من جهة والاجتماعي التاريخي من جهة أخرى، وكأنها حقائق ومشاعر راسخة ترقى إلى مصافِ ثوابت الفطرة الإنسانية، مع أنها في حقيقتها ليست كذلك وما تلبث عدم فطريتها أن تَتَكَشَّف أمام ناظرينا عند أي امتحانٍ اختباري بسيط. وما موضوع الملكية الفردية للموجودات إلاَّ واحدٌ من هذه المواضيع التي عانت من الضياع البُنْيَوي بين مقولة الفطرية والاكتساب.
فمقولة حق الإنسان (الفرد) في التَّمَلُّك استنادا إلى فطرية هذا الحق ما لا يجوز معه الوقوف في طريقه إلاَّ إذا أريد الوقوف في طريق الفطرة ومحاربتها، وهو الأمر الذي يتهدد النظام البشري ككل، تماما كما يتهدده لو تمت محاربة ميل الإنسان إلى الجنس الآخر، أو رغبته في سد رمقه من الطعام والشراب، هي المقولة التي يتبناها من يؤكدون على ضرورة بناء النظام الاقتصادي في المجتمع على أساس الملكية الفردية، وذلك بإتاحة الفرصة الحرة أمام الناس ليتملكوا.
وفي المقابل فإن هنالك مقولة أخرى ترتكز الى اعتبار حق التملك الفردي للأشياء والموجودات حقاًّ تعسفيا، فهو لا يَمت لا من قريب ولا من بعيد إلى فطرة الإنسان. فالإنسان لم يوجد ولم يولد وهو يلهث وراء ملكية الأشياء ملكية فردية كلهاثه وراء الطعام والشراب، بل إن مثل هذا الشعور بالرغبة في التملك هو شعور مُكتسب تَخلقه له البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها من خلال المفاهيم التي تحاول تكريسها في ذهنه عبر التربية والتعليم ووسائل الإعلام والاتصال والتَّلقين المختلفة في المجتمع، ما يعني أن الإنسان لو عاش في بيئة اجتماعية لا تعير التفاتاً ولا أهمية للتنظير لمقولة فطرية حق التملك، لنشأ هذا الإنسان دون أن يشعر بأي رغبةٍ في تَملك الأشياء تملكاً فرديا، ولكان شعوره بِحق المجموع في تَملك هذه الأشياء أعمق إذا ما انتهجت تلك البيئة الاجتماعية نَهجا تربويا وتعليميا وتلقينيا يكرس مثل هذا المفهوم الجماعي.
إن المقولتين السابقتين معا ارتكزتا إلى فكرةٍ واحدة هي في جوهرها خطأ، إنها حق التملك الإنساني للأشياء والموجودات، بصرف النظر عن كون المقولة الأولى اعتبرته حقاًّ فرديا، وعن كون المقولة الثانية اعتبرته حقاًّ جماعيا وليس فرديا. ومكمن الخطأ هو أن الإنسان لا يمتلك بالمفهوم المبدئي للملكية الذي يقتضي حرية التصرف، وهو حين لا يمتلك فهو لا يمتلك لا بصفته فرداً ولا بصفته مجموعاً، لأنه لا الفرد ولا مجموع الأفراد لهم الحق في التَّصرف في موجودات هذا العالم بدون قيود أو شروط.
إن ما يمتلكه الإنسان الفرد أو الإنسان الجماعة هو حق الانتفاع بموجودات هذا العالم بِما يكفل له أو لها إشباع حاجاته أو حاجاتها كي يستطيع أو كي تستطيع تحقيق أمر التكليف الإلهي. من هنا يأتي خطأ المقولتين معا حين تعاملتا مع العالم كأنه ملك للبشر، وحين أهملتا الدور النيابي للبشرية. وهكذا يغدو من الأجدر أن نعالجَ ملكيةَ حق الانتفاع لمعرفة الفطري من المكتسب فيها.
ليس بكثير أهمية أن يكون أمرٌ ما فطريا في حدِّ ذاته وبصورة مباشرة كي نتعامل معه على أساس ما تقتضيه الفطرة، فقد يكون غير فطري ولكن تمرير الفطرة لا يتم إلاَّ به فيكتسب صفة اللزوم الفطري. وهذه الحالة شبيهة تماما بالقضايا العقلانية التي تدرك بالنظر العقلي. فليس بالضرورة كي تكتسب حقيقة ما صفة اللزوم العقلي أن تكون واضحة في العقل كوضوح الحقيقة التي تنص على أن لكل حادث سبباً، فقد يكون التركيب المنطقي للحقائق الواضحة بعضها إلى بعض موصلا إلى حقيقة غير واضحة في العقل بصورة مباشرة ولكنها مع ذلك تكتسب صفة اللزوم العقلي. وما الرياضيات إلاَّ دليلٌ على ذلك.
فنحن قد لا ندرك من حقائق الرياضيات بوضوح عقلي تام إلاَّ القليلَ جدا منها، كحقيقة أن المستقيم هو أقصر بعد بين نقطتين في واقع هندسي إقليدي، أو كحقيقة أنه من نقطة خارج مستقيم لا نستطيع أن نرسم سوى مستقيم واحد يوازيه، ومع ذلك فلا فرق من حيث اللزوم المعرفي العقلي بين هاتين الحقيقتين البديهيتين وبين حقيقة أن مربع الوتر في المثلث القائم يساوي مجموع مربعي الضلعين الآخرين فيه، وهي الحقيقة الرياضية التي لا نستطيع معرفتَها بدون برهان رياضي تركيبي من النوع غير السهل بكل تأكيد. كذلك هي القضايا الفطرية.
فنحن لا نشعر بملكيتنا لحق الانتفاع بالموجودات شعورا فطريا، بل إن هذا الشعور شعور اقتضته المشاعر الفطرية الحقيقية. فنحن مثلا نشعر بحاجتنا إلى الطعام لسد رمق جوعنا، وإذا كانت هذه الحاجة لا تتحقق في زمان ومكان معينين إلا عبر الانتفاع ببعض الموجودات بطريقة معينة، فإن الانتفاع بها بتلك الصورة يغدو مُتَّصِفاً باللزوم الفطري، ويغدو امتلاكنا لحق الانتفاع بها مشروعا، لأن الفطرة أدَّت إليه تماما كما هو شأن المعارف العقلية المركبة التي أدت اليها المعارف العقلية البسيطة.
إذن فملكية حق الانتفاع بالموجودات تترتب تَرَتُّباً ضروريا على شعورنا بالحاجات الفطرية ذاتِها، ما يَجعلها تكتسب صفة اللزوم الفطري من حيث المبدأ، في كل زمان ومكان، لأن تلك الحاجات الفطرية لا تُشْبَع إلاَّ عبر الامتلاك المبدئي لحق الانتفاع بالموجودات التي تُشبعها. وهكذا نَخلص إلى حقيقة أن ملكية حق الانتفاع بما في الأرض هي ملكية تتصف باللزوم الفطري المترتب على حاجاتنا الفطرية المحتاجة إلى إشباعٍ لا يمكن تحقيقه إلاَّ عبر الانتفاع الذي لا يمكنه أن يتحقق ابتداءً إلاَّ عبر امتلاكنا لحقنا فيه.
إذن فكما أن هناك على المستوى المعرفي العقلي نوعين من المعارف العقلية، النوع البسيط الذي اكتسب بساطته من وضوحه التام والمباشر في العقل، والنوع المركب الذي لا تُمكن معرفته إلاَّ عبر مُمارسة نوعٍ من الاستدلال المنطقي بتركيب مجموعة المعارف البسيطة، للوصول إليه بسبب عدم وضوحه التام والمباشر في هذا العقل، فإن هناك على المستوى الفطري نوعين من الإحساسات الفطرية، النوع البسيط الذي يكتسب بساطته من الشعور المباشر به، والنوع المركب الذي لا يُمكن الشعور به ولكن يمكن اكتشافه بعد الشعور بالأول وبأنه ضروري لإشباع وتحقيق هذا الأول.
فإذا كان تَمَلُّكُنا لحق الانتفاع بالموجودات قد اكتسب لزومه الفطري من جراء كونه الضرورة التي بها تُلَبَّى الحاجات، فلا يمكن لهذا الشكل من أشكال التَّمَلُّك أن يَتَحَدَّد وتُعْرَفَ أبعاده وماهيته إذن، إلاَّ عبر التَّعَرُّف على أبعاد ذلك الشعور الفطري الذي أدَّى إليه ابتداءً، وهو الحاجة. وهنا فقد صار لزاما علينا أن نُناقش هذه الحاجة الإنسانية التي يُحِسُّ بها الإنسان فطريا والتي أكسبت ملكية حق الانتفاع لزوما فطريا، كي تتسنى لنا معرفة حق الانتفاع نفسه كيف سيكون وكيف ستكون ظروفه وملابساته، وما يُمكن أن يكون منه فطريا وما يُمكن أن يكون مُكتسبا بالتربية وبالتَّنْشِئَة الاجتماعية.
للوهلة الأولى يتبين لنا بكل وضوح أن الحاجات الإنسانية هي حاجات محدودة من جميع جوانبها الوجودية، وليست مطلقة لا محدودة. فإحساس الإنسان بالميل إلى الجنس الآخر يدفعة إلى الاتصال به. وبعد عملية الاتصال وإشباع نهم هذه الحاجة نَجد أن الإنسان يعزف عن الاتصال ويَعِفُّ عنه إلى درجة اللاَّرغبة المؤقته في الجنس الآخر، إلى أن يتجدد هذا الميل عبر فترة زمنية مُقبلة لتبدأ الدورة من جديد. ورغم أنه صحيح أن الناسَ يتفاوتون في شدة الميل وحجم المطلوب من الاتصال لإشباعه، إلاَّ أن الكل في النهاية يقدرون على الوصول إلى مرحلة الحصول على حجمٍ من الاتصال يُشبعُ ميلَهم بالكامل.
وإحساس الإنسان الفطري بالجوع يدفعه إلى البحث عن الطعام والتهامه، ومهما التهم الإنسان الجائع من طعام، ومهما كانت حاجته منه كبيرة في ظروفٍ معينة، فإنه سيصل إلى مرحلةٍ من الإشباع لا يستطيع معها أن يُضيف شيئا إلى جوفه، لتبدأ الدورة من جديد، وذلك باستهلاك الطعام شيئا فشيئا داخل جسده، لتعود الحاجة إلى طعامِ جديد بالظهور، وهكذا. وما يُقال عن الحاجة إلى الطعام، يقال عن الحاجة إلى الشراب، وما يقال عن الحاجة إليهما يقال عن كل الحاجات الفطرية أو ذات اللزوم الفطري عند الإنسان.
الإنسان يحتاج إلى الراحة فيرتاح ثم يشبع منها باحثا عن تعب جديد. ويَحتاج إلى اللَّعِب فيلعب إلى أن يَمَلَّ اللَّعب بعد أن يشبع منه. ويَمرض الإنسان فيتعالج، وعندما يشفى تنتهي حاجته للعلاج إلى أن يمرض مرة أخرى. ويسكن في بيته إلى أسرته فيطمئن ويرتاح ولكنه يشبع من كل ذلك فيخرج من البيت باحثا عن واقع جديد وعن وجه جديد لحياته. هكذا هو الإنسان، وهكذا هي حاجاته، عميقة تُهدد وجودَه بالفناء إذا لم يُلَبِّها عند الشعور بها، ويصل وهو يمارس معها عملية التَّلْبِيَة إلى حدِّ الإشباع الذي لا يطيق معه التفكير فيها إلاَّ بعد أن تعاودَه الحاجة إليها.
وإذن فكلُّ حاجات الإنسان محدودة، وحجم المطلوب من الموجودات ومن طرائق الانتفاع بها لتلبيتها هو أيضا محدود بحكم محدودية الحاجات ذاتها. وإذا كانت الحاجات الإنسانية محدودة، وإذا كان حجم المطلوب من الموجودات والمنافع لإشباعها محدوداً بالتالي، فلا شكَّ إذن في أن ما تطلبه الفطرة بإلحاحٍ وباستمرارٍ هو إشباع هذه الحاجات، أماَّ ما فوق الإشباع فليست له علاقة بالفطرة. لأن الفطرة التي هي من خلق الله، لتكون مُرشد الإنسان في حياته كي يحافظ عليها وينميها، رُكِّبَت وصُمِّمَت بالشكل الذي تلح فيه على طلب الإشباع لتسكن بعد هذا الإشباع، إلاَّ في حالة واحدة، وهي أن تكونَ البيئةُ التي نشأت فيها بيئةً تُكَرِّس مفاهيم معينة عنها تضيف اليها ما ليس منها وما ليست لها به علاقة.
خلاصة القول إذن أن الفطرة تَكُفُّ عن المطالبة بشيء عند إشباع حاجات صاحبها. ولا يوجد هنالك شيء تطلبه الفطرة ويُعترف له بفطريته أو بلزومه الفطري على الأقل ويكون خارج حدود الانتفاع به لإشباع حاجةٍ من حاجاته التي ترتكز أساسا إلى الفطرة. وبِما أن حاجات الفطرة معروفة وبَيِّنَة واضحة فإن تلبية وإشباع تلك الحاجات الضرورية للإنسان مطلوب فطريا، أماَّ غير ذلك والإلحاحُ عليه وعلى كونه فطريا، هو إلحاح في غير موضعه، تصنعه البيئة التي تؤثر في العقل وليس في الفطرة وتصبح المطالبة به مطالبة من الشكل الذي يحاول اقحام الفطرة عنوة فيما ليس لها به دخل أو شأن.
إن الإنسان يحس بحاجته إلى الطعام في كل زمان وفي كل مكان منذ وُجِدَ على هذه الأرض. ولكن الطُّرُقَ التي يتبعها لإشباع حاجته هذه مختلفة بحسب الإمكانات المتاحة أمامه وبحكم المعارف والعلوم التي توصل إليها للاستفادة من الطبيعة لصالح غذائه. فهو في بداية وجوده كان يأكل الأعشاب والنباتات والثمار المتوافرة له في الطبيعة بشكل مباشر، ثم أصبح يأكل اللحوم النيئة من صيد الحيوانات التي تشاطره المكان، بعد أن اكتشف وسائله الخاصة لاصطيادها.
وبعد أن اكتشف ما بداخل البحار أخذ يصطاد حيوانات البحار ويأكلها، وبعد اكتشافِه للنار أخذ يطهو طعامه فوجده أطيب وألذ فأصبح الطهي طريقةً جديدة معتمدة لديه لإشباع حاجته من الطعام. ثم بعد أن اكتشف الزراعة استقر في الأرض وأخذ يزرع ما يناسبه، وتنوعت المزروعات التي يستخدمها في غذائه عبر الزمان والمكان. وبعد أن تَمكن من تدجين الحيوانات اعتمد عليها كثروة غذائية. وبعد أن دخلت الصناعة حياته بدأ يُحول الأغذية ويركبها ويُخَزِّنُها، وتطور هذا النمط الغذائي له. وقد يصل إلى مرحلة الاعتماد على الحبوب والكبسولات المُكَثَّفَة بمادتِها الغذائية المصنعة كيمياويا في المستقبل.. إلخ.
فالحاجة الى الغذاء حاجة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، أماَّ طريقة إشباع هذه الحاجة فهي متغيرة ومتبدلة، وبحكم طبيعة التطور التقدمي الغالب على حياة الإنسان، فإن التغيرَ والتبدلَ إنما يَحصل باستمرار نحو الأفضل والأحسن بالمقاييس والمعاير الإنسانية. وما يقال بهذا الخصوص عن الحاجة إلى الطعام يقال عن الحاجات الإنسانية كلها، سواء الحاجة إلى الشراب أو إلى التنقل أو إلى السكن أو إلى الأمن أو إلى غير ذلك.
وإذا اتضح لنا أن إشباع الحاجة مسألة نسبية من حيث شكلها وطريفتها، تَحكمها إمكانات المرحلة التاريخية والواقع المكاني الذي يحياه الإنسان، فإنه وهو يسعى إلى إشباع حاجاته الفطرية يمتلك حق الانتفاع بالموجودات الطبيعية بما يُحَقِّق له الإشباع المطلوب بالمعايير العلمية والحضارية والمقدراتية لزمانه ومكانه المُعَيَّنَين. فعندما كان الإنسان يستعمل الجمال والبغال والخيل كوسائل للتنقل من مكان إلى آخر، فهو إنما يُعبر عن امتلاكه لحق الانتفاع بتلك الموجودات بتلك الصورة لتلبية حاجة التنقل عنده، لأن تلك الوسيلة كانت هي الوسيلة التي وصل إليها جهده وعلمه. وعندما أصبحت السيارة وسيلتَه للتنقل عبر التطور العلمي الذي أحرزه، فإن استعماله لها في تنقلاته إنما يُعبر عن امتلاكه لحقه في الانتفاع من موجودات الطبيعة بالصورة التي أوصله إليها علمه ومعرفته ومقدرته وبحثه الدؤوب نحو تطوير واقعه مُعَبَّراً عنها بالسيارة.
لكن الحديث عن الفطري والمكتسب من المشاعر والأحاسيس، وعن علاقة ذلك بالحاجات وإشباعها، لا يكتمل دون التطرق بحيادٍ وموضوعية إلى مسألةٍ هامة تتعلق بالفطرة في سياقها غير الحاجاتي. فليست كل المشاعر الفطرية أو التي تتصف باللزوم الفطري نابعة دائما عن حاجات حيوية غريزية تتطلب الإشباع المباشر. قد نكون محقين إلى حدٍّ بعيد إذا قلنا أن المشاعر الفطرية عندما تتعلق بالحاجات التي تتطلب الإشباع، فإن تحديدها وتأطيرها يجب ألاَّ يخرج عن حدود تلك الحاجات التي ارتبطت بها وانبثقت عنها. ولكن ما هو شأن المشاعر الفطرية أو ذات اللزوم الفطري التي تنشأ وتنبثق في الإنسان بشكل يبدو فطريا وغريزيا دون أن تكون وراءَها حاجاتٌ حيوية دفعت إليها؟!
كي يكون حديثنا واضحا وذا دلالة نُحَبِّذ الاستئناس بمرحلة الطفولة المبكرة المتحررة من ضغوطات الآثار الفعلية للتنشئة الاجتماعية. فهذه المرحلة هي أكبر مؤشر على ما يمكنه أن يكون فطريا مما لا يمكنه أن يكون كذلك. فالطفل المبكر وهو التعبير الطبيعي عن الحالة الشعورية الفطرية لدى الإنسان قبل أن تكتنفها المؤثرات البيئية، وقبل أن تتدخل في صياغتها مؤسسات التنشئة الاجتماعية بأّيٍّ من أشكالها، يُعْتَبَر الوعاءَ الحاضن للمشاعر الإنسانية في سياقها الأكثر تلقائيةً وطبيعيةً وبُعْداً عن التأثر بالمحيط الخارجي، بحيث يمكننا الاعتماد على هذا الوعاء اعتمادا كُلِّياً في تصنيف المشاعر الإنسانية التصنيف الأصيل، أو التصنيف ما قبل الاجتماعي إن صح التعبير.
يبدأ الطفل حياته بشعورٍ كلي بأن العالمَ ملك له يجب أن يستجيب لاحتياجاته أياًّ كانت. تتجلى مظاهر التعبير عن هذا الشعور لدى الطفل برغبته الشديدة والحازمة – غالباً – في الاستحواذ على ما في أيدي الآخرين وفي تَمَلًّكِه، خاصة إذا كانوا أطفالا في مثل سنه. ومع تقدمه في السن يبدأ هذا الشعور الكلي بالتملك يتقلص ويتهذَّب، بسبب اكتشاف الطفل لحقيقة الواقع الموضوعي المحيط به، والذي يتعلم منه أن هناك شركاء لا يمكنه أن يتجاوزهم وأنَّ لهم الحقوقَ نفسها، وبالتالي فإن عليه أن يبدأ بالسيطرة على رغباته كي لا تجلب له الضرر بالنظر لما فيها من عدائية تستفز الآخرين إذا تواصلت بشكلها ذاك. وهو في المقابل يرى الآخرين من نُظرائه يفعلون الشيء نفسَه، فيدرك أن طبيعة الأمور تقتضي ذلك، وأن الوضع فيه قدر معقول ومناسب من العدل والإنصاف، فلا أحد يطالبه بفعل ما لا يطالِب الآخرين من أقرانه بفعله.
الطفل أيضا يشعر بسعادة غامرة كلما تَمَّت مكافأته على أفعال حسنة تُطلب منه، أو على نجاحات يحققها في مجالٍ أو في آخر. وكلما كانت المكافأة التي يحصل عليها ذات قيمة مادية واضحة التأثير في إشباع حاجاته ومُتَعِه كلما كان أكثر سعادة بها. لن تستوقفَنا من ظاهرة عدم إدراك الطفل المبكر للواقع الموضوعي، سوى مسألة واحدة هي على وجه التحديد الدلالة الحقيقية لنزوع الطفل إلى الاستحواذ والتملك والسيطرة على ما لدى الآخرين، فضلا عن تأثير المكافآت والحوافز عليه وعلى أدائه وعلى سعادته.
في الوقت الذي يؤكد فيه دعاة لا فطرية النزعة إلى التملك على أن هذه النزعة تُمْنَح بالاكتساب وعبر مُدخلات التنشئة الاجتماعية المختلفة، وأن الإنسان لا ينشأ وهذه النزعة قائمة فيه ومُتَحَكِّمَة في مشاعره، لكنها ترافقه من خلال المعتقدات التي تحقنه بها الأسرة والمدرسة والثقافة الاجتماعية السائدة بكل عناصرها. فإننا نجد أن حالة الطفولة المبكرة التي اعتمدنا عليها لسَبْرِ غور الحقيقة، تشير إلى عكس ذلك تماما. فهي تكشف لنا عن أن الإنسان يولد ونزعة السيطرة على ما في أيدي الآخرين متحكمة فيه ومتأصلة في مشاعره وبشكل عدائي أحياناً، وأنَّ المجتمع ومؤسسات التنشئة والثقافة بالتالي هي التي تُسهم مُجتمعة في تهذيب هذه النزعة وتخفيف وطأتها وتأثيرها عليه. فضلا عن أن حب المكافأة والتَّحفيز ينطوي ضمنا على كل معاني الرغبة في التملك والتميز عن الآخرين بهذا التملك.
كيف يمكننا قراءة ظاهرة النزوع إلى التملك في الطفولة المبكرة عبر عنصري الرغبة في الاستحواذ والسعادة بالمكافأة، في ضوء قناعتنا بأن المشاعر الفطرية المرتبطة بالحاجة تَكُفُّ عن المطالبة بأكثر من إشباع الحاجة عندما يتم إشباعها، مع أن هذه النزعة لدى الطفل المبكر تبقى مُسيطرةً عليه حتى بعد إشباع كل حاجاته التي تكون في حاجة إلى إشباع؟!
في الواقع لا يوجد فرق بين الطفل المُبَكِّرِ وبين الإنسان الراشد في هذه النزعة إلى التَّمَلُّك بعنصريها، إلاَّ في مستوى ظهورها وفي طريقة التعبير عنها وفي الموقف الأخلاقي منها فقط. ولأن الطفل في سِنِّهِ المبكرة تلك مُتَحَرِّرٌ من مؤثرات التنشئة الاجتماعية، ومن التحفظات الأخلاقية، ومن الوعي بالواقع الموضوعي ومتطلباته، ومن إدراك الحدود والفواصل بين “الأنا” و”الأنت” و”الهو”، فإنه يعبر عنها بدون حرج أو تحفظ، عبر ممارسةِ ما من شأنه أن يكشف عن رغبةٍ فَجَّةٍ في الاستحواذ على ما في أيدي الغير من أقرانه على الأقل، وعبر إبداءِ استجابته وسعادته البالغتين بالمكافآت والحوافز التي يحصل عليها متميزا بها عن الآخرين.
فيما تجعل التحفظات بمختلف أشكالها، ومنظومات القيم الأخلاقية، ومؤثرات المجتمع، تلك النزعة إماَّ كامنة أو مختفية تماما وإماَّ مُعَبَّرٍ عنها برغبة في التَّمَلُّك المحدود، أو التَّمَلُّك واسع النطاق، أو التَّمَلُّك غير المحدود، لدى الإنسان الراشد، مع بقاء النزعة إلى حب التملك عبر المكافأة أكثر بروزا لارتباطها في العادة بكفاءات خاصة يحب المرء إظهارَها لا إخفاءَها، لما فيها من إشباع لنزعة التَّمَيُّز والظهور. تُرى هل معنى ذلك أن الشعورَ العارم بالرغبة في التَّمَلُّكِ هذا، هو نتاج نزوع فطري إليه، خلافا لكل ما قلناه وما قعَّدناه بشأن العلاقة بين الحاجة وبين تَمَلُّك حق الانتفاع؟!
بكل تأكيد فإن المسألة ليست على هذا النحو على الإطلاق. فالنزوع إلى تَمَلُّك حق الانتفاع بما يلبي الحاجات ويشبعها هو ناتج في الأساس عن وجود تلك الحاجات على وجه الحقيقة، ضمن منظومة أحاسيس ومشاعر فطرية غريزية الطابع. وبالتالي فإن النزوع إلى استمرار هذا التَّمَلُّك حتى بعد إشباع هذه الحاجات، لن يكون نزوعا إلى نفس المعنى للتملك ولا لتحقيق نفس الغرض الذي دفعت إليه المشاعر الفطرية الحاجاتية، والمتمثل بالرغبة في إشباع الحاجة.
نستطيع اكتشاف طبيعة هذا النوع الجديد من النزوع عبر ملاحظة أنه غير ذي جدوى في إشباع الحاجات، ولا حتى في تأمين مستقبلها، لأنها مشبعة أصلا به وبدونه حاضرا وربما مستقبلا أيضا، ولأنه نزوع إلى تَمَلُّكِ ما هو أكبر بكثير من متطلبات تلك الحاجات للإشباع. ومع ذلك فالنزوع إليه قائم وعميق. إنه نزوع إلى تَمَلُّك حق الانتفاع بِما يُحَقِّق رغبةً فطرية في السيطرة والنفوذ والتحكم والقيادة. إذ من حقنا أن نتساءل عن القيمة الحقيقية وعن الدلالة الفعلية لأن يحرصَ شخصٌ ماَّ على امتلاكِ ثروةٍ قادرة على تلبية كلِّ حاجاته بأرقى صور التلبية الممكنة والمتاحة وأكثرها رفاهية وكُلْفَة، ويحرص مع ذلك على بقائها ثروة ضخمة وكبيرة بالقدر الذي لا يحس بأنها مُسَّت أو بأنه قد نقص منها ما يمكنه أن يؤثر في حجمها؟!
إن أي ثروة في العالم، عندما تزيد عن حدٍّ معين لا يُعتبر في ذاته كبيرا بالقدر المُتَصَوَّر بالقياس لما نراه في عالم اليوم من ثروات مهولة، تَفْقِدُ قيمتَها على صعيد علاقتها بالحاجة التي تتطلب الإشباع، ويحدث نوع من الانفصال الفعلي بينها وبين تلك الحاجة. لأن الحاجة لا تتطلب ثراءً من النوع الكبير لإشباعها حتى بأرقى صورها ونماذجها ترفا وبذخاً. وإذن فإن الثروة بعد ذلك الحد المتصور تتحول إلى وسيلة من وسائل السيطرة والتحكم والنفوذ والقيادة. لذلك فإن قادة المجتمعات عادة هم أثرياؤها أو من يتحركون بتوجيهات من أولئك الأثرياء. إن الحاجات الإنسانية لو افترضنا أنها ستُشْبَع على أعلى مستوىً ملوكي في العالم، فلا يمكننا تخيل أنها تتطلب ثراء من ذلك الذي يُسَمى فاحشا أو باذخا.
فلو تم السكن في قصر، ولو تم امتلاك عدة شاليهات متناثرة في أنحاء مختلفة من العالم للإقامة فيها أثناء السفر، وإذا استخدمت في التنقل أرقى وسائل النقل بما في ذلك الطائرت الخاصة، ولو تم تناول أرقى أنواع الأطعمة التي يجهزها أكفأ الطهاة في العالم. وإذا تم ارتداء ملابس من أغلى الماركات العالمية، واستخدام عطور مصنعة كماركات خاصة مسجلة باسم مستخدمها، والاستحمام بماء الورد، والإنفاق بترف على النُّزْهات والرحلات السياحية، والتداوي في أرقى وأغلى مستشفيات العالم في حالة المرض، وتشغيل عشرات الحرس والمرافقين الخاصين للحماية والأمن.. إلخ، فإن الانفاق السنوي لمن يعتمد سياسة انفاقية على هذا القدر من المبالغة بأسعار أغلى دولة في العالم، لن تتجاوز بضعة ملايين من الدولارات.
ومع ذلك فإننا نعرف جيدا أن هذا المستوى من الحياة المُرَفهَة لا يَحياه حتى معظم أولئك الذين يستطيعون أن يعيشوا فيه، وأن مبلغ بضعة ملايين من الإنفاق السنوي هو مبلغ تافه أمام ما نعرفه من إنفاقٍ غير معهود في تاريخ البشرية من قبل فئاتٍ شاءت الأقدار أن تضع بين أيديها ثروات خرافية القِيَم. فالمسألة في الثراء إذن ليست مسألة حاجاتٍ أساسية يجب أن تُشبع بأكثر طرق الإشباع رفاهية، بل إنها تلبية لنزعة إلى السلطة والنفوذ، تُوجه الثروات لتحقيقها بالشكل المناسب على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية. وعندما تتجاوز الثروة إمكانات الحاجات وظروف السلطة والنفوذ، فإنها تتحول قطعا إلى وسيلة من وسائل الفساد والانحلال بكل أشكاله المتصورة. فضلا عن تضخيم بعض عناصر الحاجة بشكل غير مسبوق ولا معهود لتتم تغطية نفقاتها بشكل غير عادي.
إن مهمة الأديان والأخلاق عموما هي تخليص الفئات ذات النزعة السلطوية المدمرة من البشر من نزعتهم تلك، وتحويلها إلى نزعة بَناَّءَة. أو تخليص المجتمعات الإنسانية من أمثال أولئك بحرمانهم من مواقع السلطة والنفوذ، ومن تَكَدُّس الثروات في أيديهم. وبالتالي، فليس كل ما كان فطريا تجب مداراته أو يجب التجاوب معه وتقنين الواقع بما لا يقف في طريقه. ولسنا بحاجة لأن نثبت عدم فطرية النزوع إلى التملًّك، كي نضع القوانين والقواعد التي تنظمه بشكل قد يبدو أحيانا وكأن فيه اعتداءً على تطلعات الكثير من الطموحين إلى حدودٍ واسعة منه، عندما يكون هذا التنظيم مطلبا أخلاقيا وعادلا.
لم يكن أعداءُ الملكية الخاصة في حاجة إلى ذلك القدر من تلجيم الفطرة والخروج على المنطق بادعاء عدم فطرية ما هو فطري، كي يثبتوا صحة وجهة نظرهم في ضرورة مناجزة الملكية الخاصة العداء. فالعمل على تحجيم الملكية الخاصة والتقليص من دوائرها المؤذية والضارة للفرد والمجتمع، يستندان إلى مبادئ وأسس أخرى لا تقل أصالة عن مقولة اللافطرية نفسها. ولا يُعْطِيِ أنصارَ الملكية الخاصة مشروعيةً لفلسفتهم القائمةِ على إطلاق العنان لها، مجردُ إثبات أنها فطرية وأن النزوع إليها نزوع طبيعي بمشاهداتهم الواقعية المقروءة بشكل خاطئ.
فالنزوع إلى السلطة والنفوذ والتحكم، وبسبب كونه مرتبطا بالثروة وبشكلِ ومكانِ تمركزها في المجتمع، كان من الطبيعي أن يؤصل لتبرير التملك بشتى أشكاله عند من يدافعون عن نفوذهم وتحكمهم، لأنه هو الأداة التي يحققون بها تلك السلطة وذلك النفوذ. في حين أن شيئا من الدقة في قراءة الظاهرة فلسفيا ومن ثم علميا، يطلعنا على أن تملكك ما هو أكثر من حق الانتفاع بما يلبي الحاجة الإنسانية الملحة، لا يتعلق بالفطرة في سياقها الحاجاتي، بل بالنزوع إلى التحكم والسيطرة، وإن تحجيم وتهذيب هذه النزعة غير ذات العلاقة بالحاجات الفطرية للإنسان، يتطلب حتما تحجيم وتهذيب نزعة التملك التي ترتبط بها وتشكل بالنسبة لها أداة التحقُّق.
فما أكثر الرجال الذين ينزعون إلى رغبةٍ عارمة في امتلاك عشرات بل ومئاتِ النساء والاستمتاع بهن بغير ضابط؟ ومع ذلك، فهل يوجد مجتمع على وجه الأرض تجاوب مع هذه النزعة الفطرية لملايين الرجال لمجرد أنها فطرية؟! حتى المجتمعات الرأسمالية الغارقة في رأسماليتها، قد نظمت واقعها بحيث لا تسمح بالتملك الخاص المطلق. فعديد المؤسسات الاقتصادية الضخمة في الولايات المتحدة اضطرت إلى أن تقبل بقرارات التقسيم والتفتيت عندما بلغ تضخمها حدودا يأباها المجتمع وترفضها القوانين، ومؤسسات أخرى اضطرت لتلجيم اندفاعها التضخمي كي لا تلامس الحدود التي تفرض عليها أن تتفتت أو تدخل أفرادا آخرين في ملكية أصولها. ولعل الأزمة المالية الكبرة التي شهدها العالم منذ صيف عام 2008 تؤكد على أن الرأسمالية نفسها تلجأ إلى وسائل ليست من صميم بنائها النظري المعروف، كي تعيد الميزان الذي اختل إلى سابق عهده إن استطاعت.
 3 – ملكية حق الانتفاع بين الفردية والجماعية..
إن كل مجتمع بشري يُمارس العمليةَ الاقتصادية. وكل مجتمع تُمارَسُ فيه هذه العملية يتألف من تشكيلةٍ كبيرة من الأفراد الموَزَّعين على مختلف قطاعات الإنتاج السِّلَعي والخدماتي المتوفرة فيه. العمل هو الفعل الإنساني في الموجودات الطبيعية كي تتحول إلى سلع وإلى خدمات صالحةٍ للاستهلاك البشري، وذلك بمساعدة عناصر أخرى تُسهم في عملية الإنتاج غير العمل الإنساني المباشر والمُعَبَّرِ عنه بالجهود البدنية والذهنية لمجموع الأفراد العاملين في المجتمع.
إن مجموع أفراد المجتمع وهم يقدمون أعمالَهم – أي جهودهم البدنية والفكرية – لتُحدِثَ فعلها في موجودات الطبيعة بالشكل الذي تصبح فيه هذه الموجودات سلعا وخدمات استهلاكية تلبي وتشبع حاجاتِهم، إنما يشركون عنصراً هاما من العناصر الإنتاجية المتوفرة في المجتمع في عملية الإنتاج. فالمجتمع المعين الذي يُمارس عملية الإنتاج لا يتوفر فقط على عملِ أفراده، بل هو يتوفر أيضا على الأرض التي يحيى عليها هذا المجتمع وما تحويه في باطنها وعلى ظهرها من مختلف الثروات الطبيعية، كما يتوفر على تراكمات جهود الآباء والأجداد متمثلة في رؤوس أموال ومظاهر إنتاجية وعملية متنوعة قائمة في المجتمع وعلى أرضه بصرف النظر عن طريقه وأسلوب التوزيع المعتمد في المجتمعات لتلك الثروات المتراكمة أو الأراضي القائمة.
إن كل فرد في المجتمع وهو يُسهم بعمله في إنتاج سلعة أو خدمة معينة يحتاج إلى كل السلع والخدمات المُنْتَجَة من قبل أفراد المجتمع الآخرين عبر أعمالهم المتَخَصِّصَة. وانطلاقا من ذلك فإن كلَّ فرد في المجتمع ونظراً لأنه لن يُنْتِج بعمله الخاص كافة السلع والخدمات التي يحتاج إليها، فهو يمتلك حق الانتفاع بكافة السلع والخدمات المُنْتَجَة في المجتمع، كي يستطيع إشباعَ حاجاته المتنوعة، كما ستُوَزع السلع والخدمات التي ينتجها ذلك الفرد – إذا كان منتجا مباشرا وشاملا لها – أو التي يسهم في إنتاجها – إذا كان جهده المبذول في إنتاجها مُقَدَّما من خلال عملية إنتاجية معقدة ومركبة – على كافة أفراد المجتمع، عبر نهجٍ تَخَصُّصِيٍّ يتعمق في المجتمعات البشرية يوما بعد يوم مرتبطا بالتطور العلمي والمعرفي للإنسان.
إن نظرة فاحصة نلقيها على مجموع ما ينتجه مجتمع ما من سلع وخدمات لإشباع حاجات أفراده، تطلعنا على أن كل فرد فيه مهما كانت فاعليته الإنتاجية عالية في السلعة أو في الخدمة التي تقع ضمن دائرة تَخصُّصِه، فإنه محتاج حاجة وجودية إلى الآخرين وسلَعِهم وخدماتِهم مهما كانت فاعليتهم قليلة من وجهة النظر الإنتاجية.
فربما أننا نستطيع التأكيد على أن عاملاً ماَّ في مصنع للكيماويات يُنتج يوميا طناًّ من مادةٍ مُعينةٍ تصلح لحماية ألف هكتار من الأراضي الزراعية من الحشرات الضارة بالمزروعات. ورغم ذلك فإن هذا “الطن” لن يفيده في شيء إذا لم يحصل على لقمة يأكلها وعلى ثوب يلبسه وعلى عقار يتداوى به عند مرضه وعلى ساعة يرتاح فيها، وعلى بيت يسكن فيه، وعلى معبد يخلو فيه إلى الإله الذي يؤمن به. إن حاجة الإنسان في المجتمع إلى نتاج أعمال الآخرين حاجة حيوية تقتضيها طبيعته البشرية ضمن إمكانات العصر شديدة التَّخَصُّص إلى أبعد الحدود. وهنا نتساءل لماذا يمتلك الفرد في المجتمع حق الانتفاع بإنتاج الآخرين؟
إن مجردَ بروزِ الحاجة الإنسانية يقتضي في حد ذاته امتلاك حق الانتفاع بما من شأنه أن يشبعَها، ولو كان في أيدي الغير عند توفره. وامتلاك الفرد لحق الانتفاع بما في أيدي الغير لإشباع حاجته لا يستند فقط إلى كون هذا الفرد يُسهم بعمله في إنتاج ما من شأنه أن يشبع الآخرين، وبالتالي لكون الآخرين يشاركونه في ملكيتهم لحق الانتفاع بما ينتجه من سلعة أو من خدمة، بل هو يستند إلى مبدأ الحاجة ذاتها.
من هنا يُمكن تفسير حق العاجز عن العمل أو من هو دون سن العمل في الحصول على حاجاته رغم عدم إسهامه بعمله في إنتاج السلع والخدمات، أو على الأقل رغم قصور قدرته عن المساهمة بالحجم الذي يعكس حاجته التي يستوفيها من المجتمع كحقٍ طبيعي له بحكم كونه إنساناً يحيى ويحتاج. ولولا استناد مبدأ حق الانتفاع بما في أيدي الغير إلى هذا الأصل لعجزنا عن تقديم تفسير فلسفي متماسك لحق العاجزين في إشباع حاجاتهم.
ولكن إذا كان المجتمع بمجموع أفراده يتكفل للفرد الواحد منه بتمليكه لحق الانتفاع بمختلف مفردات إنتاجه من سلعٍ وخدماتٍ من أجل إشباع حاجاته الطبيعية منها في جميع حالاته سواء كان قادراً على الإنتاج أو لم يكن، وذلك بحكم مبدئية وضرورة إشباع الحاجة الإنسانية المطلوبة فطريا، أفليس من مقتضيات العدالة والانسجام مع المعقول عندئذ أن يَمتلك المجتمع بمجمله حق الانتفاع من عمل الفرد كاملا غير منقوص عندما يكون الفرد قادراً عليه بصورته الكاملة تلك؟!
إن ملكية المجتمع بمجموعه لحق الانتفاع من عمل أفراده كاملا أمرٌ ضروري كي يتكفل لهم فُراَدَي بتمليكِهم لحقهم في الانتفاع بالسلع والخدمات المنتَجَةِ عبر أعمالهم. ووجه الضرورة يكمن في أنه لو افترضنا أن كل فرد سينعتق من الالتزام بتقديم منفعة عمله للمجتمع كحق لهذا المجتمع عليه، فهذا يعني أن المجتمع في النهاية وهو مجموع الأفراد سيفتقر إلى أي ناتج عملي من سلع أو من خدمات، وبالتالي لن يستطيع أن يلتزم لأي فرد فيه بتمليكه لحقه في الانتفاع، لأن الناتج الإجمالي للمجتمع من السلع والخدمات هو في النهاية الناتج الإجمالي الحاصل عبر أعمال مجموع الأفراد العاملين في هذا المجتمع.
إن هذه الصورة التي نوضحها تُبرز علاقةً جدليةً عميقةً ومتأصِّلَة ومُتَجَذِّرَة بين ملكية حق الانتفاع بصورتها الفردية وملكية حق الانتفاع بصورتها الجماعية. فالمجتمع ككل يمتلك حق الانتفاع بأعمال أفراده العاملين كعنصر من عناصر الإنتاج الرئيسية في المجتمع في سياق عملية الإنتاج الإجمالية فيه. وكل فرد من هؤلاء الأفراد يمتلك بالتالي حق الانتفاع من السلع والخدمات المنْتَجَة في المجتمع في سياق إشباع حاجاته النسبية المنبثقة عن ضرورات الفطرة. ولا يمكن للمجتمع أن يمتلك الحق الأول إن لم يمتلك أفراده الحق الثاني. كما أنه لا يمكن لهولاء الأفراد أن يمتلكوا الحق الثاني إذا لم يستوف منهم المجتمعُ الحقَّ الأول. وحيث يكون حق الانتفاع بالعمل حقا للجميع، فتقديمه له واجب الأفراد، وحيث يكون حق الانتفاع بالسلع والخدمات المنْتَجَة حقاًّ للأفراد، فتقديمه لهم هو واجب المجتمع ككل.
إن المجتمع ككل لا يمتلك فقط حق الانتفاع بأعمال مجموع أفراده كي يكفل لكلٍّ منهم ملكيته لحق الانتفاع بالسلع والخدمات المنْتَجَة عبر تلك الأعمال الجماعية، بل هو يمتلك أيضا وبَما هو مجتمع، حقَّ الانتفاع الجماعي بكافة العناصر والعوامل المختلفة التي تدخل في الإنتاج. فهو يمتلك حق الانتفاع بالأرض وبِما في باطنها وبما على ظهرها، كما يمتلك حق الانتفاع بجهود وأعمال الآباء والأجداد المتراكمة والمُعَبِّرِ عنها إماَّ برؤوس أموالٍ نقدية أو عينية.
فإذا كان المجتمع يمتلك حق الانتفاع بأعمال أفراده، وهو العنصر الإنتاجي الذي تبدو فيه الحرية والإرادة وبالتالي متعلقات وحيثيات التملك الخاص، واضحةً أكثر من باقي العناصر الإنتاجية الأخرى، فمن باب أولى أن يمتلك المجتمع حق الانتفاع الجماعي بتلك العناصر الإنتاجية المشار إليها. وإذا كان الفرد لا يمتلك بمفرده حق الانتفاع بعمله، بل هو يُشرك الآخرين فيه ويشاركهم في الانتفاع بأعمالهم، فمن الطبيعي أن لا يمتلك بمفرده حق الانتفاع بباقي عناصر الإنتاج، وأن يكون هو والآخرون من أفراد المجتمع شركاء في ملكية المنفعة المترتبة على تلك العناصر.
وهكذا نَخلص إلى أن مجموع أفراد المجتمع يمتلكون حق الانتفاع بكافة عناصر الإنتاج في مجتمعهم، وهي العمل ورؤوس الأموال والأرض، على أن يتم السعي الاجتماعي الجماعي إلى إشباع الحاجات الفردية التي اقتضت اللزوم الفطري لهذا الانتفاع لكل أفراد المجتمع الواحد.
إن وضعَ نظامٍ عادلٍ للملكية في المجتمع لا يقوم على البحث عن مشروعيةٍ لمكوِّنات ذلك النظام في فطرية أو عدم فطرية العناصر التي ستنظمها قواعده. بل هو يقوم على تصور مذهبي للعدالة تُنْتَج ثروة الأمة وتُوَزَّع في ضوئه وفي ضوء فضاءاته، حتى لو كان في ذلك خروج على القواعد التي بدت لنا فطرية، والتي بدا لنا الخروج عليها منطويا على شكل من أشكال الخروج على متطلبات الفطرة. وإذن فلماذا سقنا كل هذا الحديث عن الفطرة وعن علاقتها بالملكية وبالحاجات الإنسانية؟! سيتضح لنا السبب في ذلك بعد أن نخلص إلى النتائج الرئيسة التالية في موضوع العلاقة بين تلك العناصر الثلاثة..
1 – الإنسان لا يتملك الأشياء والموجودات على الحقيقة لا فردا ولا جماعة، وإنما يتملك حق الانتفاع بتلك الأشياء والموجودات بما يشبع حاجاته، تَملكا ضروريا وكحقٍ من حقوقه الطبيعية.
2 – إن تَملكَ حقِّ الانتفاع يتصف باللزوم الفطري، لأن الفطرةَ متمثلة في الإحساس بالحاجات الطبيعية، لا تُشْبَع إلاَّ به، رغم عدم فطريته المباشرة. وهذا ما عناه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بوصفه للإسلام بأنه دينُ الفطرة، أي بوصفه له بأنه الدين الذي لا يقف في وجه الغرائز الطبيعية التي يجب أن تُشبع ضرورةً، وهي تطالب بحقها في أن تُشْبَع، لا بوصفه له بأنه الدين الذي يتجاوب مع الفطرة أياًّ كانت، حتى لو انطوت على ما من شأنه أن يسيءَ إلى الآخرين أو أن يعتديَ على حقوقهم، مادامت الفطرة تنطوي على أشياءَ من هذا القبيل أحيانا. وبالتالي فهو الدين الذي يعترف بكل الحقوق المترتبة للبشر في ضوء متطلبات فِطَرِهم الطبيعية العاكسة لحاجاتهم الحيوية التي لا يتحقق أمر الاستخلاف بدونها. وهو من ثمَّ الدين الذي يدعو إلى صياغة العلاقات الاجتماعية اقتصادية الطاَّبَع بين الناس على أساسِ مقدرةِ تلك العلاقات على تلبية حاجات الفطرة المحددة هذه تلبيةً تامة بوصف تلك الحاجات حقوقا طبيعية غير قابلة للمساس بها أو بوضعها مَوْضِعَ مساومة.
3 – إن النزوعَ إلى الرغبة في التملك لإشباع الحاجات، يتلاشى وينتهي بإشباع تلك الحاجات. وإذن فإن أيَّ نزوعٍ للتملك بعد هذا الإشباع هو ناتج عن سبب آخر لا علاقة له بالحاجات الأساسية للإنسان، ولا علاقة له بالفطرة بوصفها تلك الحزمة من الحاجات التي تتطلب الإشباع المُلِح كي يقوم الإنسان بدوره المنوط به في الحياة من حيث المبدأ.
4 – إن أيَّ نزوعٍ لتملك حق الانتفاع بعد تلبية الحاجات الأساسية بالشكل الذي يخرجها من دائرة الاهتزاز والقلق وعدم الأمان المستقبلي، ويحققها بمستويات راقية ومرفَّهة، إنما يقوم لتحقيق هدف واحد، هو النفوذ بالمعنى الواسع لكلمة نفوذ. سواء كان نفوذا اجتماعيا أو سياسيا أو إعلاميا أو ثقافيا، أو غير ذلك. لأن الثروة كلما زادت عن آفاق تلبية الحاجات، تفقد أيَّ قيمةٍ لها تربطها بِمستويات الاستهلاك التي تُعَبِّر عن الحاجة، وتتحول إلى أداة تحريك وإلى سلاح تَحَكُّم.
5 – إن هناك بشراً لو امتلكوا الثروة تحولوا إلى فاسدين مفسدين منحلين، وبالتالي فيجب أن يقوم نظام العدالة في مسألة الملكية على عدم إتاحة الفرصة لهم كي يتملكوا، أو نزع ملكياتهم إذا تملكوا، أو توجيهها قسرا إلى حيث يفقدون قدرتهم على استغلالها للفساد والإفساد.
6 – إن النزوع إلى “التَّمَيُّزِ والظهورِ والتَّحْفيزِ والمكافأةِ”، هو نزوع أصيل وفطري في الإنسان، وليس في هذا النزوع الفطري إذا تَمَّت السيطرة عليه وإذا تَمَّ توجيهه الوجهة السليمة ما يُمكنه أن يكون أداةَ إفساد أو إضرار. وبما أن الإسلامَ دينُ الفطرة، فيجب أن يقوم نظام العدالة لديه على أخذ هذه المسألة بعين الاعتبار، على ألاَّ تتعارضَ منظومات تنظيمه لهذه النزعة الفطرية مع منظومات تنظيمه لقواعد تلبية حُزَم الحاجات الأساسية…
 
                                                                            … يتبع
 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.