www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

سر القدر بين ابن عربي والقونوي/الدكتور بكري علاء الدين

0

اختلف المسلمون في القدر وانقسموا إلى: 1- أهل السنة والحديث الذين قالوا بضرورة الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى . 2- وإلى المعتزلة الذين أوضحوا قدرة الإنسان على الفعل بالاستناد إلى القرآن نفسه وتأويل ما خالف آراءهم عقليًا. 3- أما الأشاعرة فقد تبنوا حلا ً ثالثـًا بالرجوع إلى المصطلح القرآني ” الكسب” الذي يفسح المجال أمام حل وسط وإلى ما صار يعرف فيما بعد “بالجبر المتوسط”. ومن الشيعة و المرجئة الخوارج من قال قول المعتزلة أو قول مخالفيهم.

سر القدر بين ابن عربي والقونوي
مقدمة :

اختلف المسلمون في القدر وانقسموا إلى: 1- أهل السنة والحديث الذين قالوا بضرورة الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى . 2- وإلى المعتزلة الذين أوضحوا قدرة الإنسان على الفعل بالاستناد إلى القرآن نفسه وتأويل ما خالف آراءهم عقليًا. 3- أما الأشاعرة فقد تبنوا حلا ً ثالثـًا بالرجوع إلى المصطلح القرآني ” الكسب”   الذي يفسح المجال أمام حل وسط وإلى ما صار يعرف فيما بعد “بالجبر المتوسط”. ومن الشيعة و المرجئة الخوارج من قال قول المعتزلة أو قول مخالفيهم.
إن خطورة مسألة القدر جعلتها من المسائل الخلافية الكبرى في علم الكلام, وذلك لارتباطها بالعقيدة الإسلامية الأولى: عقيدة التوحيد , يقول محمد بن شهاب الزهري وهو من ممثلي التيار السني المبكر ” الإيمان بالقدر نظام التوحيد, فمن: وحَّد ولم يؤمن بالقدر كان ذلك ناقضًا توحيده ” , كذلك ربط المعتزلة بين التوحيد والعدل. العدل الإلهي القائم على الصلاح وعلى محاسبة الإنسان المسؤول عن أفعاله وقدره . أما الصوفية فإنهم قرنوا التوحيد بالتوكل . وبيّن الغزالي في إحياء علوم الدين أن التوحيد هو أصل التوكل. وللقدر بحسب الغزالي “سر تحير فيه الأكثرون ومنع من إفشاء سره المكاشفون. والحاصل أن الخير و الشر مقضي به،  وقد كان ما قضي به واجب الحصول بعد سبق المشيئة , فلا رادّ لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره” .
إن هذا الإيمان العميق بالتوكل يوحي بالجبر. إلا أن الغزالي لا يقبل الجبر الأعمى الذي يبطل الثواب والعقاب بل يجعل التوكل قائمًا على الثقة المطلقة “بالوكيل” والتي يرى الصوفي من خلالها أنه ” ليس في الإمكان أبدع مما كان”. إنه التوحيد القائم على الحب أكثر من استناده إلى العقل . وعلى الرغم من التوسع في فهم القدر ضمن دائرة المحبة والإيمان , فإن الغزالي لم يصرح بإمكانية قراءة الغيب وفك سر القدر. لأن القدر كما ورد في الأثر “سر الله”  ومن كمال الأدب عند الصوفية عدم إفشاء السر.
وأول من  صرح بإمكانية كشف هذا السر هو الصوفي الكبير الشيخ عبد القادر الجيلاني (ت 571 هجري) حيث يقول:
“كل الأولياء لما وصلوا إلى القدر وجدوه مصمتًا, فوقفوا, إلا أنا: فُتحت لي فيه روزنة (نافذة) فولجت فيها, فدافعت أقدار الحق بالحق” .
مدينة قونية وسر القدر
إذا كان الشيخ عبد القادر الجيلاني يفتخر على من سبقه من الأولياء بولوج عالم القدر من خلال نافذة صغيرة, فإن ابن عربي دخل هذا العالم من بابه العريض، وذلك بالاستناد إلى نظرياته الفلسفية وتجربته الروحية الفريدة. ولم يزعم أحد من بعده أنه توصل إلى فهم “سر القدر”, وأنه ذاقه من خلال تجربة صوفية سوى ربيبه وتلميذه صدر الدين القونوي، وتلميذ القونوي نفسه، شارح فصوص الحكم مؤيد الدين جندي! (راجع فيما يلي الحاشية رقم 16) وتشغل مدينة قونية موقعًا متميزًا لاجتياز عقبة القضاء والقدر على صعيد التجربة الصوفية.
من المعلوم أن ابن عربي أقام في قونية مرات عدة فيما بين سنة 602 هجري و620 هجري, أي عندما تجاوز الأربعين من عمره, وقبل أن يبلغ الستين. وقد ترك لنا ابن عربي في كتابه الفتوحات المكية , تفاصيل عديدة عن “المنزل” الذي أُشهِدَه بقونية والحال الذي ورد عليه فيها: “في ليلة لم يَمُرَّ عليَّ أشدَّ منها لنفوذ الحكم وقوته وسلطانه”. وهو يحمد الله على أن هذا “الحال” اقتصر على ليلة واحدة ولم يتأبد. ويضيف ابن عربي بأنه وبعد أن رُدَّ إلى نفسه وعند رجوعه إلى الإحساس: “فرقت بين قضائه وقدره في الأشياء”. وقد صادف أن أحد أصدقائه واسمه شهاب الدين، كان قد طلب منه أن يشرح له عن طريق المراسلة, أحواله وتجاربه الروحية. فكتب له ابن عربي على الفور قصيدتين يطلعه فيهما على ما حواه هذا ” المنزل” من المعارف. ونذكر من القصيدة الثانية منهما هذين البيتين:
        سفينكم  أجسامكم في بحر دنيا قد زخر
        ومالكم من ساحل غير القضـاء والقدر
ثم يعدد نثرًا العلوم التي يتضمنها “المنزل” المذكور، ويقترب عددها من ثلاثين علماً , وأن الله لا يطلب من الإنسان إلا ما يقتضيه وجوده, ولا يعطيه إلا منه .
يحدثنا صدر الدين القونوي أنه مر بنفس التجربة التي مر بها ابن عربي  حينما بلغ التلميذ نفس العمر الذي كان لأستاذه حينئذ. لقد اجتاز كلاهما نفس العقبة في توقيت واحد من عمريهما وفي نفس المدينة, أعني قونية. ويصف القونوي ما جرى معه في “يوم عجيب وحال غريب بعد عقبات… فكنت أنتظرها منذ قدمت البلاد. فإن شيخنا… جرى له هنا بهذه البلدة في نحو هذا التأريخ من عمره أمران عظيمان عبر عنهما بالعقبة . نظم في الواحدة قصيدته المذكورة في الفتوحات في المجلد الثاني من النسخة الأولى, حيث يقول: “اعترضت عقبة وسط الطريق في السفر, وكان الأمر بقونية… فلما تحققت صحة النسبة إليه انتظرت العثور هنا على بعض ما عثر عليه” . ومع الأسف لا نستطيع تحديد تاريخ التجربتين بدقة.

حدود تأثير ابن عربي في القونوي:
كذلك يخبرنا صدر الدين القونوي في رسالة النصوص أنه يتحدث عن نصوص كلية. وهي حسبما نفهم نصوص أساسية تتناول الحقائق أو ما وراء الطبيعة, على طريقة ابن عربي أو زبدة الحقائق لعين القضاة الهمذاني. حيث يعتبر النص وجيزًا في تناوله لإحدى القضايا الأساسية في الفلسفة الصوفية. وهذه النصوص التي أفرد لها القونوي رسالته، كتبها أو أنشأها دونما الاعتماد على الغير أو إيضاح كلام لمفكر أو لعارفٍ آخر. ويفتخر بأن الله أغناه بهباته الخالصة عن العواري الخارجية وهذا هو نصه الحرفي: “من النصوص الكلية, نصوص ذكرتها في كتاب مفتاح الغيب… وفي غيره من الكتب التي أنشأتها غير مختلط          بكلام أحدٍ من الناس، فإن ذلك ليس من دأبي” . إن اهتمام القونوي (شأنه شأن شيخه ووالده الروحي) إنما ينصب بالدرجة الأولى على الجانب الإلهامي أو الهبات الإلهية مما يغنيه عن الرجوع إلى مؤلفات الآخرين. ويقول القونوي بهذا الصدد: “قد عصمني الله من ذلك وأغناني بهباته الخالصة العلية عن العواري الخارجية السفلية” . إنه الاكتفاء بالكشف الصوفي الذي ينير له طريق العلم  والاغتراف من الينبوع دون الحاجة إلى الوسائط الخارجية.
وعلى الرغم من هذا الميل إلى البحث عن أصالة شخصيته فإننا لا يمكن أن ننكر ما بينهما من علاقة روحية خلاقة. ومن خلال دراسة موضوع سر القدر  لديهما يمكننا الوقوف على جوانب استقلالية وأخرى مخلصة للتلميذ مع الأستاذ.
أراء ابن عربي في “سر القدر المتحكم في البشر”:
يقرر ابن عربي بأن مسألة “سر القدر” غامضة جدّاً  “لا يهتدي إليها عقل على الحقيقة من حيث فكره، بل بكشف إلهي نبوي.”  ومن المعلوم أن مشكلة القدر مشكلة قديمة في علم الكلام. ومن المجمع عليه بأن معرفة القدر والغيب شأن إلهي خالص. ولم يتجرأ أحد قبل ابن عربي ليزعم بأنه قادر على معرفة قدره أو التنبؤ بالغيب سوى الجيلاني . ولكن الشيخ الأكبر يقدم في تاريخ  الفكر العربي الإسلامي حلا ً أصيلاً لمعرفة الأساس الذي تقوم عليه تركيبة القدر. ومتى علمنا الآلية الميتافيزيقية للقدر، فإن ذلك يمنحنا راحة نفسية وأملاً في أن يعرف الصوفي قدره ومستقبله بأدق التفاصيل. ويستند موضوع “سر القدر” لدى ابن عربي إلى فكرتين أساسيتين:
الأولى: هي فكرة ” العلم يتبع المعلوم”
والثانية: هي فكرة “الأعيان الثابتة”
والواقع فإن الفكرتين مترابطتان لا يمكن الفصل بينهما إلا نظرياً. إن فكرة العلم يتبع المعلوم طرحت ونوقشت قبل ابن عربي, وتعرض لها المعتزلة والأشاعرة , ويبدو أن الشيخ الأكبر لم يكن على علم بتفاصيل نظرية المعرفة السابقة عليه, بدليل قوله: ” العلم تابع للمعلوم, ما هو المعلوم تابع للعلم فافهمه! وهذه مسألة عظيمة دقيقة ما في علمي أن أحدًا نبه عليها, إلا إن كان وما وصل إلينا” . ويفتخر مؤلفنا بقدرته الإبداعية فيها فيقول: “ولو لم يكن في هذا الكتاب إلا هذه المسألة, لكانت كافية لكل صاحب نظر سديد” . ويميز ابن عربي بين حالين للأعيان الثابتة وهي المعلومات أو كافة أشكال الموجودات قبل ظهورها. فحالها قبل الخلق يمكن أن يفهم من خلال “المساوقة”, مما يعني أن “علم الحق بنفسه عين علمه بالعالم”  أي أنها موجودة في العلم الإلهي القديم كأشياء ممكنة, وكل شيء فيها يتضمن شخصيته المستقلة وقدره الخاص به. أما حالها بعد الخلق, أي بعد وجودها في العالم الخارجي فإن العلم بها ينطلق منها, وبهذا يكون علم الله بالأشياء أو المعلومات بعد خلقها مرتبطًا بالمعلومات بما هي عليه في نفسها.

 

ما فوق “سر القدر”:
إن مشكلة سر القدر إذن تقع بين حالي الأعيان الثابتة, ففي الحالة الأولى لا يكون لها وجود مستقل, بل شيئية عدمية, ولكنها بعد ظهورها في العالم الخارجي, تظل على حالها من العدمية, أي بحسب تعبير ابن عربي “ما شمت رائحة الوجود”  لأن “الوجود” الحقيقي لا يطلق إلا على الله, أما الممكنات فالوجود الذي تتمتع به إنما عارية (أو معار لها). وهكذا فإن علم الله بها لا يتغير فهو يعلمها قبل إيجادها وبعده على حالة واحدة . يقول ابن عربي: “اعلم أن الأعيان باقية على أصلها من العدم. غير خارجة من الحضرة العلمية، فما شمت رائحة الوجود. وليس لها وجود في الخارج إلا وجود الحق متلبساً بصور أحوال الممكنات. فلا يتلذذ بتجلياته ولا يتألم منها سواه. واعلم أن التألم والتلذذ من صفات الكون، فاستنادهما إليه إنما هو باعتبارين: أحدهما, اتصافه بصفات الكون في مقام التنزل, وثانيهما رجوع الكون وصفاته إليه. وأما باعتبار “الأحدية” فالكل مستهلك فيها. فلا التذاذ ولا تألم. فهذا السر فوق سر القدر, لأنه سر الأحدية المستعلية عن الكثرة”  إذن نحن هنا أمام سرين الواحد منهما فوق الآخر. ويؤكد ابن عربي على مستوى “الأحدية”، وهي التي ينفي فيها وجود المخلوقات ولا يعترف إلا بوجود واحد، بأن الأشياء فانية في الذات الإلهية. كما أن المخلوقات بعد خلقها لا تملك وجودها “وإنما هي لمن أظهرها… إذ ما ثمَّ إلا هو” .
الوقوف على سر القدر:
وإذا عدنا إلى سر القدر فسنجد أن ابن عربي لا يستبعد الوقوف على سره, بعكس ما عليه الحال لدى أتباع الفقه التقليدي. وهو يطلعنا على إمكانية ذلك فيقول “الواقف على سر القدر (هو) من يعلم أن علم الله به في جميع أحواله هو ما كان عليه في حال ثبوت عينه قبل وجودها” .
وثمة درجة أعلى من ذلك في الوقوف على هذا السر الخطير, إذ يمكن لكبار الصوفية وابن عربي منهم “أن يُكشف له عن عينه الثابتة وانتقالات الأحوال عليها إلى ما لا يتناهى, وهو أعلى. فإنه يكون في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به, لأن الأخذ ]هو[ من معدنٍ واحد. إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت له” . ومن أهم النصوص في هذا الموضوع هو ما كتبه ابن عربي في فصوص الحكم في الفص الرابع عشر: فص حكمة قدرية في كلمة عُزَيرية, حيث يعالج مشكلة القضاء والقدر بتركيزٍ أشد مقارنة بما هو عليه الحال في الفتوحات, فيعرفهما على النحو التالي: القضاء “حكم الله في الأشياء … على حد علمه بها وفيها”. والقدر هو: “توقيت ما هي عليه الأشياء في عينها من غير مزيد.” ويطلق الرأي التالي:  “فما حكم القضاء على الأشياء إلا بها… فلله الحجة البالغة. فالحاكم في التحقيق تابع لعين المسألة التي يحكم فيها بما تقتضيه ذاتها. فالمحكوم عليه, بما هو فيه، حاكم على الحاكم أن يحكم عليه بذلك: فكل حاكم محكوم عليه بما حكم به وفيه.”
إذن مسألة القدر قابلة للحل, وجهل هذه المسألة نابع من شدة الظهور. علماً بأن الطلب والإلحاح بهذا الشأن عظيمان. ونفهم من خلال آراء ابن عربي: أن سر القدر من أجل العلوم, ولا يصل إلى حل لغز هذا السر على الرغم من بساطته وظهوره إلا من اختاره الله لذلك. أما الجهد العقلي والرياضات الصوفية فلا توصل إليه. إن الله لا ينقله ويفهِّمَه إلا “لمن اختصه بالمعرفة التامة” .
مشكلة جبرية ابن عربي:
ويستنتج الباحثون  بأن ابن عربي يقول بالجبر ويمكننا العثور على بعض النصوص التي تؤيد هذا الاتجاه لديه. وهي تتعلق بـ “استحالة عصيان الحق ورد أمره” بحسب رأي صدر الدين القونوي نفسه والذي يستشهد فيه بمقطوعة شعرية لابن عربي يقول فيها: (مخلع البسيط)

جَعَلْتَ فيَّ الذي جعلتـا         وقلت لي: أنت قد عملتا
وأنت تدري بأن  كوني         ما فيه غير الذي  جعلتا
فكل فعـل تـراه  مني         أنت- إلهي– الذي فعلتا
غير أن علينا أن ننتبه إلى السياق الذي جاءت فيه فكرة الجبر. إنه سياق “الأمر التكويني” الذي يميزه ابن عربي عن “الأمر التكليفي” . فالأول لا يمكن أن يعصى لأنه مرتبط بـ “كن”. أما الأمر التكليفي, فيمكن للمؤمن من خلاله أن يكون طائعاً أو عاصياً.
وفي مجال آخر نرى أن ابن عربي يثني على تلميذ له هو ابن سودكين الذي وجد تأويلاً صوفيّاً مهماً لقدرة المؤمن على الاختيار. يقول ابن عربي: “فاوضني في هذه المسألة. اسماعيل بن سودكين فقال لي: “وأي دليل أقوى على نسبة الفعل إلى العبد وإضافته إليه والتجلي فيه؟! إذ كان من صفته من كون الحق “خلق الإنسان على صورته”. فلو جُرِّد عنه الفعل لما صَحَّ أن يكون على صورته. ولما قبل “التخلق” بالأسماء، وقد صحَّ عندكم وعند أهل الطريق بلا خلاف أن الإنسان مخلوق على الصورة. وقد صح التخلق بالأسماء.”  وأعجب ابن عربي بنباهة تلميذه المقرب, و غمره شعور بالسعادة لا يقدر أحد على وصفه , كما يقول باعتبار تلميذه مبدعاً ومدافعاً عن حرية الإنسان في اختيار أفعاله.
يمكننا هنا أن نستنتج بأن ابن عربي لا يقول بالجبر على طريقة الجبرية التقليدية كما يحاول أن يصوره لنا المرحوم أبو العلا عفيفي, علماً بأن له أبياتاً وأفكاراً تؤكد هذا المنزع بشكل واضح , وأخرى تخالفها, كما هو الحال في الآيات القرآنية. إن التمييز بين نوعين من الأمر الإلهي أو اللجوء إلى تأويلات سليمة لحرية الاختيار يتماشى مع عقلية منفتحة كعقلية ابن عربي يجعلنا نتوخى الحذر في إطلاق حكم نهائي عليه, كالقول بأن “الجزاء بالمعنى الديني لا وجود له في قاموس مصطلحاته.”
من جهة أخرى فقد عالج ابن عربي مشكلة العمل استكمالاً لبحثه في القدر، وهي جملة أفكار لا نجدها في مؤلفات القونوي. وهي أفكار أصيلة لا نجد لها نظيراً في التراث الكلامي (اللاهوتي)، لا قبل ابن عربي ولا بعده. يُسَلِّمُ ابن عربي بأن مسألة نسبة الفعل (أو العمل) إلى الله أو إلى الإنسان لا يمكن أن نجد لها حلاً نهائياً. بل يجب أن تقبل على أنها معضلة مستعصية على الحل. وذلك لأن أصحاب الأديان السابقة على الإسلام والفلاسفة من “أصحاب العلل” و”الدهريين” و”الطبيعيين” لم يعثروا على حل سحري يرفع الإشكال عن هذا الموضوع. ويرى ابن عربي بأن الحل هو القبول بعدم الحل أو بما يسميه “عدم التَّخَلُّص”. ويفضل على ذلك تبني فكرة “الاشتراك” في الفعل بين الله والإنسان. فالنصوص القرآنية لا تحسم الأمر لصالح أحد الطرفين، وإن كانت من حيث الأدب تنسب الأفعال إلى الله بحسب الآية: ((قلْ كل من عند الله)). يقول ابن عربي: “فلا بد في الأفعال من حق وخلق”، ويؤكد في الباب خمسين وثلاثمائة من الفتوحات المكية (ف3/211-212) أن “الأمر الصحيح في ذلك أنه مربوط بين حق وخلق، غير مُخَلَّصٍ لأحد الجانبين”. هذا الحل الأصيل للموضوع يؤكد بأن ابن عربي ليس من القائلين بالجبر. وهو يذكر مرة أخرى في الفتوحات المكية بأن قضية الفعل التي لا ترد إلى أحد الطرفين بانفراد تشبه ارتباط حرف الالتباس وهو حرف لام ألف الذي يرسم هكذا “لا”. لأن “كل من دلَّ على أن الفعل للواحد من الفخذين دون الآخر فذلك غير صحيح” (ف1/177).
إذن: “لم يتخلص الفعل الظاهر على يد المخلوق لمن هو؟ إن قلت: “هو لله” صدقت. وإن قلت: “هو للمخلوق” صدقت: ولولا ذلك ما صح التكليف”.
إن الحس السليم ينسب الفعل الظاهر للإنسان، وهذا ما يؤيده التكليف. فلا يمكن أن نتصور أن يصدر من الله الحكيم العليم أمر للعباد يطلب منهم أن يصلوا وأن يصوموا وأن يصبروا ولا يمنحهم قدرة على الفعل (ر.ف2/681).
سر القدر عند صدر الدين القونوي:
العلاقة بين القونوي وابن عربي هي علاقة أبوة روحية, ولسنا نريد هنا أن نمتحن هذه العلاقة بالمقاييس العلمية. إن رغبة صدر الدين أبي المعالي في وصيته عن كيفية غسله و تكفينه عند موته تكفي لفهم هذه العلاقة على صعيد رمزي. لقد أوصى ابن مدينة قونية أن يجري تغسيله بعد موته على مقتضى كتب الحديث تجنباً لاتباع الفقهاء. وهذه الفكرة لابد أنها وصلت إلى القونوي تحت تأثير شيخه ابن عربي الذي عاصر في الأندلس الخليفة الموحدي المنصور الذي ألغى حوالي سنة 580 هجري كتب الفقه، وذلك لاختلاف الفقهاء فيما بينهم. وأمر بالرجوع إلى الحديث النبوي, طالباً من العلماء أن يجتهدوا بأنفسهم في فهم القرآن والحديث النبوي, دون الرجوع إلى أفهام غيرهم. كذلك أوصى  القونوي بأن يُكَفَّن بثياب ابن عربي التي ورثها منه بعد وفاته. إن هذا الإخلاص والوفاء والمحبة لشيخه هو ما يجب التركيز عليه, أكثر من قولنا: هنا يوافق القونوي أستاذه وهنا يخالفه وهنالك يتجاوزه وينفصل عنه. والمعتقد أن القونوي لم يكن يخطر بباله أن يفعل مع أستاذه ما فعله أرسطو بأفلاطون. فعالم ابن عربي كما ورثه القونوي معمور بالمحبة والبحث عن الكمال الروحي لبلوغ مرتبة الإنسان الكامل. من هنا يمكن أن نفهم تعليق القونوي في تلخيصه للفصل العُزيري من كتاب فصوص الحكم. (وفي هذا الفص توجد أهم أفكار ابن عربي -كما مر معنا- بخصوص سر القدر). يقول القونوي في كتاب الفكوك: “وقد زاد شيخنا رضي الله عنه بسطاً, فلا حاجة إلى التصدي لإعادة الكلام فيه. هذا وإن كنت قد استوفيت الكلام عليه غير مرة في هذا الكتاب وغيره من تصانيفي وأتممت تقريره.”  ويوجز لنا في نفس الكتاب “مفتاح سر القضاء والقدر”. فأصل “المجازاة” أو الثواب والعقاب كما يعرضها القونوي قد تعينت: “باعتبار الرحمة (الإلهية) العامة الإيجادية التي وسعت كل شيء.” وذلك وفقاً لقابلية واستعداد المخلوقات . إن سبب الخلق هو الرحمة للمخلوقين من جهة, وأن تكون المخلوقات بمثابة المرايا لظهور الوجود فيها, و ظهور آثار الخالق… لأن ظهور الآثار الإلهية هو الذي استندت إليه الأسماء الإلهية في خلق العالم. إن لكل مخلوق عينه الثابتة القديمة في العلم الإلهي, وظهورها في العالم يتطابق مع حالها الأزلي، وقدر هذه المخلوقات آت منها وذلك وفقاً للأمر التكويني, فالحق يظهرها: “بالتجلي الوجودي على نحو ما علمها, وهذا السر هو مفتاح سر القضاء و القدر.”  ويمكن أن نعثر على فكرة “العلم يتبع المعلوم”. في نفس الكتاب في بداية فك ختم الفص العزيري (ص 217). ومع ذلك فإن القونوي كان يركز على استكمال معرفته حتى يبلغ بنفسه التجارب الصوفية التي بلغها أستاذه. ومن أهمها الاطلاع على سر القدر, حيث يمكن للمتصوفة أن يروا الأعيان الثابتة للأشياء قبل ظهورها في الخلق أي أنهم “يرون الممكنات المعدومة قبل تلبسها بالوجود المفاض من الحق وكيف ومتى تتلبس بالوجود.”  وهذا من أعلى درجات العلم بالشيء. وهو أن: “تعلمه بعلم يكون نتيجته رؤيتك إياه في علم الحق تماماً” .
يخبرنا القونوي في إحدى “النفحات الإلهية الكلية” وذلك في أواخر صفر سنة 663هـ أن الله سبحانه أشهده وأراه وعرفه سر قدره “غير ما مرة” . ولم يكتف القونوي بالوقوف على قدره مرات عديدة, بل إن طموحه هو أن يرى الأشياء كما هي في علم الحق تماماً, و يسري “بذاته في كل شيء, سريان الوجود في حقائق الشؤون المسماة عند الجمهور ممكنات, سراية أبدية بأحكام أزلية” . ويبدو أن الغرض من هذا السريان في حقائق المخلوقات مرتبط ببلوغ مرتبة “الإنسان الكامل” التي خصص لها القونوي بحثاً مستقلاً في نهاية كتابه مفتاح الغيب.
من جهة أخرى يميز القونوي بين ضربين من المقدرات, وهذا التمييز يشبه ما ذكره ابن عربي من الفرق بين القضاء والقدر، يقول ابن عربي: “كان لفظ القضاء بإزاء الأمر الكلي وكان لفظ القدر بإزاء الأمر الجزئي” (كتاب المعرفة، ص85). وهو ما يطلق عليه القونوي “الضرب المختص بالكليات والضرب المختص بالجزئيات”.
وبعد أن يسوق القونوي حديث النبي المروي عن أم حبيبة والذي يمنعها فيه من الدعاء بأن يمتعها الله بزوجها رسول الله وبأخيها معاوية وبأبيها أبي سفيان, يعود فينصحها بمناسبة أخرى أن تسأل الله أن يجيرها من عذاب القبر و عذاب في النار. ويصف القونوي هذا الحديث بأنه “حديث مشكل”. ولكنه يعطينا الحل بالرجوع إلى التمييز بين نوعين من القدر. قدر لا مهرب منه لأنه متعلق بالكليات, وهذه الكليات محصورة, كما يقول القونوي في أربعة أشياء وهي العمر والرزق والأجل والشقاء والسعادة. ويبدو أن هذه المُقدّرات التي لا مفر منها هي ما يعني ابن عربي حينما يقول بالأمر التكويني. يقول القونوي: “ذلك نتيجة قضاء الله وقدره بموجب علمه السابق, الثابت الحكم أزلاً وأبداً بمقتضى تعلقه بالمعلومات” . أما ما يسميه اللوازم الجزئية التفصيلية فهي التي يصلح فيها الدعاء أو الكسب والسعي و التعمل… “فهذا هو الفرق بين ما نهى عنه (ص) من الدعاء وبين ما حرض عليه” . وعلى الرغم من الخلاف في المصطلح وفي بعض التفصيلات بين الشيخ وبين تلميذه فإنهما ينهلان من نبع واحد, فالصوفية على خلاف الفلاسفة لا يعترفون بوجود الخلافات فيما بينهم. و يظل النقد والتعارض والمناقضة من السمات الأساسية للتفلسف.
خاتمة:
علينا أن نتذكر بأن ابن عربي يميز بين مستويين وجوديين في العلاقة بين الله والإنسان. المستوى الأول وهو عالم “الأحدية”، حيث تكون الذات الإلهية مقطوعة عن أي علاقة مع العالم الخارجي. وفي هذا المستوى يتم نوع من التجلي الذاتي يطلق عليه ابن عربي مصطلح: “التجلي الأقدس”. أما المستوى الثاني فيطلق عليه اسم “التجلي المقدس” وفيه تنتظم العلاقة في عالم “الواحدية” بين الإله والمألوه، بين الحق والخلق. ويتميز المستوى الأول بالتنزيه المطلق بينما يختص الثاني بالتشبيه والخلق الجديد.
العلم الإلهي في المستوى الأول أزلي مطلق ولا علاقة له بالتغير، والعالَم المخلوق المتجدد مع الأنفاس لا يؤثر في نقاء العلم الإلهي القديم وثباته. ومن هنا نفهم العلاقة بين الأعيان الثابتة في العلم القديم وبين الموجودات التي تظهر إلى العالم الخارجي مع تقدم الأزمنة. وسر القدر هو الذي يوضح هذه العلاقة التي تؤكد بأن: “الأعيان الثابتة مساوقة لواجب الوجود في الأزل”  وهذا يعني بأن العلم القديم الأزلي هو عين علم الله بالعالم، كما مر سابقاً، وهو أساس القضاء. وليس القدر إلا تفتح الموجودات في الزمان المقيد دون الخروج عما يجب أن تكون عليه. يقول ابن عربي: “سر القدر هو ما علمه الله تعالى من كل عين في الأزل من أحوالها التي تظهر عليها عند وجودها. فلا يحكم بشيء إلا بما علمه من عينه (عين الشيء) في حال ثبوته.” (كتاب المعرفة. ص 126).
لا يمكننا إلا أن نفهم من ابن عربي هنا سوى جبرية كونية صارمة. ولكن علينا أن نتذكر أن هذه الرؤية تتعلق “بالأمر التكويني” أو “بالأمر الكلي”. أما فيما يخص “الأمر التكليفي” أو “الأمر الجزئي التفصيلي” فإن علينا أن نتوقع حرية في الاختيار تنسجم مع مبدأ التكليف الشرعي نفسه. ومن أجل حل هذه المعضلة لم يلجأ ابن عربي إلى تبني فكرة “الكسب” التي قال بها الأشعري في بدايات القرن الرابع للهجرة، وإنما توصل إلى ابتكار مصطلح جديد هو مصطلح: “السبب الاقتداري”. (ر.ف2/659) وهو نسبة الفعل للخلق في الحس، على الرغم من أن الفعل هو لله في حقيقة الأمر أو أنه كما قال فعل عليه “رائحة اشتراك” (ف3/211). كذلك فإن الإنسان ليس فيه من خالقه شيء ولا حل فيه، وإنما هو مجلى ومظهر للخالق. ويلجأ ابن عربي لتوضيح نظرته هذه إلى استخدام مثال نور الشمس المنعكس على صفحة القمر. ويعقب ابن عربي على هذا التمثيل قائلاً: “إذا كان الأمر بين الشمس والبدر بهذه المثابة مع الخفاء، وأنه لا يعلم ذلك كل أحد، فما ظنك بالأمر الإلهي في هذه المسألة مع الخلق؟ (فإنه) أخفى وأخفى!” (ر.الفتوحات جـ2، ص659). ونستطيع أن نفهم من “النفحة الإلهية” التي عرض فيها القونوي الفرق بين نسبة الاختيار إلى الحق وإلى الناس أنه لا يتبنى نظرية في الجبر، فهو يقول: “إن توهم متوهم جبراً فليتصوره من المعلوم على نفسه” أما الاختيار الإلهي فإن مقامه عند القونوي: “بين الجبر والاختيار المفهومين للناس. وإنما المعلومات جميعها، ما قُدِّرَ دخولها في الوجود وما لم يُقَدَّرْ مرتسمة في عَرَصَةِ علمه سبحانه أزلاً وأبداً، متعينة صورة كل شيء على حدة، مترتبة ترتيباً أزلياً لا أكمل منه في نفس الأمر.”
غير أننا لم نجد نصاً حرفياً للقونوي يتحدث فيه كأستاذه عن “سبب اقتداري” كما هو الحال بالنسبة لاسماعيل بن سودكين الذي أوضح لابن عربي عن ضرورة كون الإنسان مختاراً لأن الله “خلق الإنسان على صورته”. وبالتالي فحرية الاختيار في الأمر التكليفي مفروغ منها على مستوى العبادات والمعاملات، وإلا فإن مبدأ الجزاء القائم على الثواب والعقاب سيفقد معناه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.