www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

في زمن الاحتلال الفرنسي… بقلم آرا سوفاليان

0

توفي والده وهو صغير فقررت والدته ان تخرجه وإخوته من المدرسة فلقد كانت مسألة فك الحرف كافية وقراءة رسالة أكثر من المطلوب ولكنه كان يعرف بأنه حصل على أكثر من ذلك بكثير… لقد حصل على السيرتفيكا من مدرسة آباء العازرية في باب توما وهو يجيد الفرنسية اكثر من خريجي الأدب الفرنسي في هذا الزمان!

في زمن الاحتلال الفرنسي… بقلم آرا  سوفاليان
توفي والده وهو صغير فقررت والدته ان تخرجه وإخوته من المدرسة فلقد كانت مسألة فك الحرف كافية وقراءة رسالة أكثر من المطلوب ولكنه كان يعرف بأنه حصل على أكثر من ذلك بكثير… لقد حصل على السيرتفيكا من مدرسة آباء العازرية في باب توما وهو يجيد الفرنسية اكثر من خريجي الأدب الفرنسي في هذا الزمان!
عمل في مصالح متعددة الى أن توظف أخيراً في مصلحة الهاتف وهو شاب يافع وكانت سوريا في عهد الانتداب وفي دمشق مقسم هاتف وحيد هو مقسم النصروهو في طور الإنشاء ولم يكن اسمه مقسم النصر بل كان يطلق عليه مسمى كوبانية التلفون، وهو يعمل بنشاط ويحب أن يثبت لرؤسائه بأنه جدير بهذه الوظيفة رغم صغر سنه، ويستحق أن يثبَّتْ فيها.
وكان زمن حرب ومجاعة… وطوابير على الأفران وكوى توزيع المؤن… وكان يستاء من الطريقة التي تلفظ بها نسبته الأرمنية من قبل الشرطة، وهم من السوريين بملابس الشرطة الفرنسية، يتعمدون لفظ نسبته كما تلفظ نواة التمر من الفم… مما اضطره الى تبديل كنيته فيما بعد وأن يطلق على أولاده أسماء عربية فضاع أصله الأرمني.
ولأنه يجيد الفرنسية فلقد كان مسؤول الصيانة المعتمد في المقاسم الخارجية الملحقة في الوزارت والمؤسسات، و تحت تصرف الضابط الفرنسي المسؤول عن شركة الهاتف ومعه كادر الضباط الملحقين من فرنسيين وعرب وكان أغلبهم يعمل في التنصت والاستخبارات، واكتفى هو بالصيانة وكان موضع ثقة ومحبة رؤسائه.
طلب منه في يوم من الأيام أن يذهب الى الأركان للتفتيش عن عطل كبير أدى إلى تعطل مقسم الأركان بالكامل وكانت الأركان يومذاك  في المثلث المحصور ما بين نادي الضباط القديم وسينما الزهراء وفندق الشام ووزارة الصناعة، وكان يباشر أعمال الصيانة بنفسه وكان عصبي المزاج لا يحب البلادة والكسل وقد يأس من تفاعل الشغيلة الذين كانوا بمعيته فهربوا بحجة البحث عن مكان يشترون منه طعام الافطار، وظل يعمل وحيداً، واقترب من مكان العطل وهو تهشم كبل هاتفي رئيسي معلق على حافة جدار الطابق الأول بسبب أعمال الاكساء والحفر وكانت هناك نافذة مكسوة بالقضبان الحديدية، إضطر للدخول منها والنزول بالمقلوب بعد أن ربط وسطه بحزام جلدي غليظ يستعمل للصعود الى الأعمدة الخشبية، وصار جسمه في الفضاء رأسه الى الأسفل وقدميه إلى الأعلى واستطاع الوصول الى مكان العطل وباشر بتحرير أجزاء الكبل المحطم والذي أدى الى تماس أحرق فيوزات المقسم بالكامل.
وكان منشغل بالعمل ومنتشي بالنصر رغم المطر الذي بلل رأسه و ملابسه، فلقد عثر على العطل وسيتمكن من إعادة تشغيل مقسم الأركان وسيستثمر هذا في مواجهة رؤسائه.
 سمع جلبة وشتائم لم يتوقع أنها موجهة له، فلقد كانت تجري في الباحة مراسم تحية العلم وكان العلم هو علم الانتداب المثلث الألوان الذي كان يرفع على الصاري ليصل الى موازاة حذائي الرجل وكان الضابط الفرنسي يؤدي التحية للعلم وظهره للمبنى ولا يستطيع رؤية الشاب بعكس بعض الجنود الذين كانوا يضحكون من المنظر.
انتبه الضابط للأمرفأمر بمثول الجنود المسيئين أمامه وامرهم بالانبطاح فوق ماء المطر المتجمع وأمر آخرين بالصعود بأحذيتهم فوق المنبطحين… وأرسل إثنان لإحضار المتسبب، فتم إخراجه من المكان وإحضاره محمولاً بين يدي الضابط الفرنسي وقال له أحدهم وباللهجة الشامية المحكية(تشَّهد على روحك… يخرب بتك على هلـ عملة).
وقف الشاب أمام الضابط مزهواً ومرفوع الرأس وعلى وجهه علامات عدم المبالاة فصرخ الضابط في وجهه بالفرنسية قائلاً:
ـ قف بحالة الاستعداد فأنت في حضرة ضابط فرنسي
ـ أنا مدني ولا يعرف الوقوف في حالة الاستعداد إلاَّ العسكري ولا يطلب العاقل من الناس شيء لا يعرفونه
ـ تتحدث الفرنسية إذاً …
ـ نعم
ـ هذا يضاعف الجريمة
ـ لا توجد جريمة إلاَّ في خيالك
ـ ماذا كنا نفعل أنا وعناصري في الباحة
ـ تؤدون مراسم تحية العلم
ـ وماذا كنت تغعل أنت
ـ كنت أخدم أناس لا يستحقون الخدمة
ـ لطالما أنك تعرف أننا كنا في مراسم تحية العلم فلماذا لم تقدِّم واجب الاحترام لهذا العلم؟
ـ لا يمكنك أن تسميه واجب ولا يمكنك أن تلزمني به
ـ لماذا؟ ألست من سكان هذا البلد… ومشمول بهذا العلم
ـ لا أبداً فهذا علم احتلال وهذا العلم لا يعترف بي وأنا لا أعترف به ولا بأهله ولست منهم وليسوا مني
ـ كيف لا يعترف بك؟
ـ هو يعترف بك أنت وأنت تعترف به لأنك تحمل الجنسية الفرنسية وانت فرنسي، وأنا لا أحمل الجنسية الفرنسية ولن أعترف به، وأنتم لا تعترفون بنا وتطلقون علينا لقب سكان المستعمرات وألقاب أخرى أستطيع تذكيرك بها إن أحببت، فنحن مستَعمرون وأنتم مستعمِرون وشتان بين الكلمتين، أنت تخدم في الجيش الفرنسي وتعترف به لأنه اعترف بك ومنحك رتبة وتحب علمه وهو يمثلك ويمثل بلدك فرنسا ويمثل شعب فرنسا المتواجد في بلده أو المنتشرفي أرجاء المعمورة، أما أنا فلا يعترف بي أحد ممن ذكرت وعلمك الذي يمثلك لا يمثلني،فنحن لم نخلق هكذا من العدم كما تتخيلون فلقد كان لنا مجد وحضارة وإستقلال وعلم وكان ولا زال في ضمائرنا أجمل علم وكان لنا قبل مجيئكم ملك هو الملك فيصل ولا زال في ضمائرنا أجمل ملك.
 وهناك علم آخرأحمر اللون يتوسطه الصليب المعقوف معلق في زوايا برج ايفيل في باريز الآن، هل تعتقد أنه يشرفك أو يمثلك، إن أجبتني بنعم فهذا الذي سيضاعف الجريمة ولكن جريمتك أنت وليس جريمتي أنا، لأنه وكما قلت لك لا توجد جريمة إلا في خيالك.
إصفرَّ وجه الضابط وحدق طويلاً بعيني الشاب وتحولت نظرة الحقد الى شيء آخر مختلف وقال:
ـ سأوصي بصرف مكافأة كبيرة لك، وأرجو أن تشرفنا أنت ومن معك على مائدة الغذاء ظهيرة اليوم في الندوة،  وان احتجت الى اي شيء فأنت تعرف مكاني.
ـ أعتقد أنني لن أبقى حتى الظهيرة لأن العطل قد انكشف وتصليحه لن يستغرق مني أكثر من ساعة عمل، أما بالنسبة للعلم الأحمر الذي يتوسطه الصليب المعقوف المعلق في زوايا برج ايفيل الآن فإنه لن يبقى طويلاً في مكانه لأن في الجيش الفرنسي ضباط مثلك.

حاشية للكاتب:
بطل القصة هو في ذمة الله الآن ولد في دمشق في أواسط العشرينات من القرن الماضي من أب أرمني (أرمن كاثوليك) وأم من ولاية ماردين وهي (مسيحية وأرمن كاثوليك ولكنها لا تعرف التحدث بالأرمنية… والقسم الأكبر من سكان ماردين كانوا أرمن كاثوليك غيروا أسماؤهم الى العربية ونسيوا الأرمنية بسبب الاضطهاد وخوفاً من الموت والتنكيل) وماردين اليوم في الجانب الآخر من الحدود السورية التركية، وكان قد تم تهجيروالدة صاحب القصة في العام 1915 هي وأهلها من ولاية ماردين بإتجاه صحراء دير الزور حيث لم يبق من أهلها أحد على قيد الحياة وقد تم قتلهم جميعاً، وكانت متزوجة وفي حجرها ولد تم انتزاعه منها بالقوة وتم سوقها ضمن سوقية التهجير، وخرج بعض الأكراد الكامينين خلف الأكمة وأغاروا على السوقية وقتلوه من قتلوه ونهبوا الأحياء والأموات وكان نصيبها سبع طعنات خنجر في الخصر والظهر والبطن وألقي بها في الجب مع الأموات،وشاء الرحمن الرحيم أن يبقيها على قيد الحياة، وأنقذها من الجب فارس عربي من أتباع الملك فيصل وكان وقتذاك أميراً لم يحظ بتاج الملك على سوريا بعد، وأحسن الفارس العربي الى المرأة وأنفق على علاجها وتماثلت للشفاء، وطلبت من كفيلها البحث عن ابنها فبحث عنه بلا جدوى إلى أن خصص جائزة لمن يدله على مكان الطفل… وعاد الطفل الى أمه… وطلب الفارس العربي يد المرأة، فأجابته بما يلي:
لا أنكر بأنني أدين من بعد الله أدين لك بحياتي فلقد أنقذتني من هلاك محقق وأنفقت على علاجي حتى تماثلت للشفاء وأعدت لي إبني من خاطفيه، ولكنني متزوجة وعلى ذمة رجل وهذا الولد من ذاك الرجل وارتباطي بك هو محض زنى وهذا لا يقبله دينكم ولا ديني فأنا أرمنية مسيحية وعلى ذمة رجل أحبه ويحبني لا أعرف إن كان ميت أم حياً يرزق، فإن كان حياً لا بد أن يأتي في يوم من الأيام ويسألني عن البر والمحبة والاخلاص فبماذا أجيبه وبيننا عهد أمام الكاهن الذي عقد قراننا سرحني لوجه الله ودعني أبحث عنه واعتبر أن ما قمت به كنت تبتغي فيه وجه ربك.
وابتعد الرجل وهو يغض الطرف بعد الذي سمعه ورآه  وصار واحد من أفراد عائلتها  الذين لم يقدر الله فيما بعد أن يقع نظرها على أي منهم … وجاء الخبر اليقين وتأكدت من مقتل زوجها في سجن ماردين وقبيل الترحيل، وتم قيدها في سجلات الكنيسة كأرملة وتزوجت من جديد ورزقت بأولاد أحدهم صاحب هذه القصة … وهم جميعاً الآن بين يدي الخالق ونطلب لهم الرحمة

آرا  سوفاليان
Ara  Souvalian
ara@scs-net.org
Damascus 17 07 2009

 

 

 

 
 

 

      

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.