www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

البديل الاقتصادي لإنقاذ الشعوب من تغوُّل الرأسمالية/”رؤية إسلامية”/حلقة (3)/أسامة عكنان

0

أولا.. مبادئ العدالة في الجانب الاقتصادي للحياة المجتمعية.. بعد أن تأكدت لدينا في الحلقة (2) من هذه الدراسة النتائج السابقة بخصوص موضوع الملكية كحقائق ثابتة تحكم الإطار النظري له، يجدر بنا الآن أن ننتقل مستندين عليها وعلى مضامينها إلى معالجة ما تقتضيه العدالة من طرائق للتعامل الواقعي مع ما يمتلك الإنسان فردا أو نوعاً حقَّ الانتفاع به لسد حاجاته.

 
البديل الاقتصادي لإنقاذ الشعوب من تغوُّل الرأسمالية
“رؤية إسلامية”
حلقة (3)
أسس نظرية التوزيع في الاقتصاد الإسلامي
 
أسامة عكنان
عمان – الأردن
 
أولا.. مبادئ العدالة في الجانب الاقتصادي للحياة المجتمعية..
بعد أن تأكدت لدينا في الحلقة (2) من هذه الدراسة النتائج السابقة بخصوص موضوع الملكية كحقائق ثابتة تحكم الإطار النظري له، يجدر بنا الآن أن ننتقل مستندين عليها وعلى مضامينها إلى معالجة ما تقتضيه العدالة من طرائق للتعامل الواقعي مع ما يمتلك الإنسان فردا أو نوعاً حقَّ الانتفاع به لسد حاجاته.
إن العدالة الاجتماعية بوجه عام وفي الجانب الاقتصادي منها بوجه خاص تقوم على أساس الإقرار أولاً بالمباديء التالية..
– في العادة فإن جهدَ الإنسان الموهوب له من الله عَبْرَ قوانين الطبيعة، يناسب حاجتَه من حيث قدرة هذا الجهد على الحصول على ما من شأنه أن يُلَبيِّ الحاجة الإنسانية الملحة لديه ويشبِعَها، وتبرز هذه الحقيقة أكثر ما تبرز عند إمعان النظر في واقع الإنسان القديم، نظرا لبساطة حياته وطرائق إشباعه لحاجاته، في حين أن إنسان اليوم يعيش وضعا شديد التعقيد من حيث طرائق إشباع هذه الحاجات. فكُلُّ هيئات ومؤسسات المجتمع الذي هو بدوره كبير وشديد التعقيد البُنْيَوي، تصير بالنسبة لكل إنسان مهمة وحيوية من أجل إشباع حاجاته. فالتطور هو الذي أوصلَ الإنسان إلى هذا الارتباط الحيوي لكل فرد في المجتمع بكل هيآته ومؤسساته، في حين كان الإنسان القديم، ويَصِحُّ هذا القول كلما أوغلنا في تاريخه قِدَماً، أقلَّ ارتباطا بالمؤسسات الاجتماعية الأخرى، نظرا لأن عملية الإنتاج لإشباع الحاجات، لم تكن معقدة بالشكل الذي هي عليه الآن.
إذن فالقطاع الكبير والواسع جدا من البشر يمتلكون قدراتٍ وجهوداً تقارب حجم الحاجات المطلوب إشباعها لديهم. وهذا لا ينفي بل يؤكد وجود قطاع صغير آخر من الناس يتوزع أفراده بين فئتين: الأولى تَمتلك جهوداً أقلَّ من قدرتها على تلبية وإشباع الحاجات الضرورية الملحة لها. والثانية تَمتلك جهودا أكبر من قدرتها على إشباع تلك الحاجات. وتعكس الفئة الأولى مجموع العاجزين والضعاف وقليلي القوة والقدرة على الصعيدين الذهني والبدني. فيما تعكس الفئة الثانية مجموع القادرين والأقوياء على الصعيدين الذهني والبدني أيضا. وهذا التقسيم الفئوي ليس تقسيما هندسيا لأفراد المجتمع، بل هو تقسيم تَكَتُّلِي، إذ أن نفس القادرين جدا، تختلف إمكاناتهم الزائدة، كما أن الضِّعاف تختلف مراتب ضعفهم، والعاديون يدورون ويتمحورون حول معيار قُدْرَوي واحد، وإن كانوا لا يطابقونه جميعا وبنفس الصورة.
– إن الحاجاتِ الإنسانية بوجه عام حاجاتٌ متقاربة في حجومها لدى كافة الأفراد ولا تَختلف فيما بينهم إلاَّ في حدود ضيقة جدا. فهذا ما يؤكده العلم والمنطق والتجربة. وبالتالي فإن إشباع هذه الحاجات في زمان ومكان معينين يقتضي حجوما من السلع والخدمات متقاربة لدى الجميع. فحاجة الإنسان للجنس الآخر يشبعها عادة اتصال الذكر والأنثى. وحاجته إلى الطعام تشبعها عادة ولدى الجميع كميات محددة علميا من المواد الغذائية. وكذلك حاجته إلى الشراب، والسكن الذي يُؤْوي الإنسان يؤدي غرضه لدى الكل باستثناء خلافات بسيطة تتعلق بعدد الأفراد الذين سينتفعون بهذا السكن. وحجم الراحة التي يَحتاجها الأفراد العاديون متقاربة في العادة.. إلخ. أماَّ الحالات التي يحتاج فيها الأفراد لحجومٍ أكبر من السلع والخدمات للانتفاع بها من أجل سد الحاجة لديهم، فهي حالات نادرة وقليلة وتُعتبر استثناءً للقاعدة الأساسية.
– إن المقدرة الذهنية والبدنية للإنسان هي مقدرة موهوبة له ومعطاة لا يتحكم هو شخصيا في صنعها لنفسه لا بالزيادة ولا بالنقصان إلاَّ بقدرٍ ضئيلٍ وبعد تَجاوز سنٍّ معينة يكون فيها فعله وتأثيره قليلاً لأنه اكتسب الأساس من خارج حدود ذاته وإرادته. والبيئتان الاجتماعية والطبيعية هما اللتان تسهمان إسهاما عميقاً في صنع هذه القدرات وفي تشكيلها بشتى القوانين الطبيعية والاجتماعية. وما يقال عن القدرة الذهنية والبدنية يقال عن حجم الحاجة وعن حجم ما من شأنه أن يشبعها، وبنفس الصورة، فليس الإنسان هو الذي يجعل من نفسه إنساناً يمتلك طاقة جنسية هائلة ولا هو الذي يركب جسمه بطريقة تقتضي منه أن يضاعف الغذاء اللازم له، ولا هو الذي وَرَّثَ نفسه مؤهلاتِ الحاجة الإنسانية بأيِّ شكلٍ من أشكالها. فكل ذلك مُكتسب جاء من خارج حدود ذاته، وتكون مساهمته في صقل هذه الحاجات وترويضها وصنعها ضيقةً لا يمكنه التدخل فيها إلاَّ بعد سنٍّ معينة هي سن الرشد الاجتماعي. أماَّ قبل ذلك فهو عجينةٌ تُصنَع وصفحةٌ بيضاء تتلقى لتواجِهَ الحياةَ بعد ذلك بقدرات أُعطِيَت لها وبحاجاتٍ فُرِضَت عليها.
– كل إنسان ونتيجة لكونه يعيش في بيئةٍ اجتماعية وطبيعية تؤثر في بُنْيَتَيْه الحاجاتية والقُدْرَوية بشكل أو بآخر، فهو معرض من حيث المبدأ لأن يكون واحداً من أيِ فئة من الفئات التي سبقت الإشارة إليها على صعيدي القدرة أو الحاجة. فكل إنسان معرض لأن يكون ضعيفا أو عاجزاً، ذكيا أو غبيا أو مجنونا، قويا أو قادرا، بِحَسْب ما تعطيه الطبيعة وما يعطيه المجتمع. كما أن كل إنسان معرض لأن تكون حاجته بالحجم الفلاني أو بالحجم العلاني رغما عنه وليس بإرادته أو باختياره.
– بما أن جهودَ الأفراد في المجتمع الذي يُمارس العملية الإنتاجية ليست هي العنصر الوحيد المسْهِمَ في الإنتاج، بل هي عنصرٌ واحدٌ من مجموعة عناصر، فهنالك علاوة على عنصر العمل الذي هو جهود الأفراد، عنصر الأرض وما عليها وما في باطنها، كما أن هنالك عنصر تراكم جهود الآباء والأجداد (رؤوس الأموال العينية والنقدية). نقول.. بِما أن هذا هو واقع العملية الإنتاجية في المجتمع، فلا يكفي أن تكون جهود الأفراد في مجموعها قادرةً على إنتاج ما من شأنه إشباع الحاجات الملحة لهم كي يتم إنتاجها ما دامت هنالك عناصر أخرى جوهرية وأساسية في العملية الإنتاجية، واحتمال قصورها عن الأداء اللازم أو الضروري وارد. فأن يكون الناتج الإجمالي من السلع والخدمات في المجتمع كافياً أو غير كافٍ لإشباع حاجات أفراده، مسألة ترتبط بمدى الفعالية الإنتاجية لتركيب عناصر الإنتاج المذكورة على بعضها البعض بصورة أو بأخرى. 
– إن السلع والخدمات التي يحتاجها الإنسان لإشباع حاجاته المتنوعة والثابتة زمانا ومكانا تُنْتِجُها مؤسساتٌ إنتاجية عديدة يعج بها المجتمع الذي يُمارس العملية الإنتاجية بوجه عام، وبما أن الإنسان في هذا المجتمع يمتلك حق الانتفاع الطبيعي بتلك السلع والخدمات لإشباع حاجاته، فهذا يعني بالتالي وبالضرورة أن أيَّ إنسان يَمتلك حق الانتفاع بتلك المؤسسات الإنتاجية وبتلك العناصر والعوامل الإنتاجية، كي يتمكن بالتالي من الانتفاع بالسلع والخدمات المُنْتَجَة عبرها ومن خلالها.
كل أفراد المجتمع إذن شركاء طبيعيون في ملكية حق الانتفاع بعناصر الإنتاج، كما أنهم شركاء طبيعيون في الانتفاع بالمؤسسات الإنتاجية التي انبثقت عن استغلال تلك العناصر، لتكون النتيجة الملزمة لنا موضوعيا في نهاية المطاف أن عناصر الإنتاج من عمل ورأس مال وأرض هي ملك عام من حيث حق الانتفاع بها، وكل ما ينبثق عنها من مؤسسات إنتاجية تتصف بنفس الصفة العامة في ملكية حق الانتفاع بها، ولا يصح أن يُمَّلك حق الانتفاع بشيء من ذلك ملكية فردية إطلاقا لعدم انسجام ذلك مع مقتضيات التطور وبالتالي مع مقتضيات العدالة.
ثانيا.. مدخل إلى نظرية توزيع الإنتاج في المذهب الاقتصادي الإسلامي..
لا يختلف مسلمان على أن الله سوف يحاسب الناس يوم القيامة إن شراً فبشر، وإن خيراً فبخير.. (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) (الزلزلة  7، 8). كما لا يختلف مسلمان أيضا على أن معايير محاسبة الناس هي أعمالهم الإرادية مناط التكليف.. (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات 13).. (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).. ولا يخفى على أحد أن التقوى هي الصورة العملية للمراد بالتكليف الإلهي للإنسان أساسا.
إنه بصرف النظر عن الأسلوب الذي سيتبعه الله مع عباده ليستوفي منهم أعمالهم يوم القيامة ليحاسبهم على أساسها بما يكفل تمثل الإرادة التامة فيها، فمن المؤكد أنه لن يحاسبهم بأي حال على أي أمر خارجٍ عن إرادتهم لم يسهموا هم أنفسهم في فعله وصنعه. وبناءً على ذلك فلن يميز الله في الآخرة بين الناس إلاَّ على أساس صنائعهم المقدور عليها بنفس المستوى ضمن نفس الشروط التي لا يمكن لأحد غير الله أن يحكم عليها وأن يستوفيها من الناس، بحيث لا يجوز في حق الله أن يعاقب رجلا سرق لأنه جائع إذا كان سيعاقبه أصلا بنفس مستوى عقاب رجل سرق رغم أنه ليس جائعا. كما أنه لا يجوز أن يعاقب الله سارق مال أسرة كما يعاقب سارقي أموال الأمم والشعوب وناهبي ثرواتها.
الله سبحانه وتعالى إذن وانسجاما مع مقتضى عدله المطلق، لن يُمَيِّزَ بين الناس لا في النعيم ولا في العقاب إلاَّ على أساس أعمالِهم التي يَمتلكون إزاءَها نفس الحجوم من الإرادات فيتفاوتون فيها رغم ذلك. وبما أن حجوم الإرادات عند الناس تتأثر أحيانا كثيرة بظروف بيئاتِهم الاجتماعية والطبيعية فيتفاوتون فيها انطلاقا من تفاوت التأثيرات البيئية والاجتماعية والطبيعية عليهم. وبما أن التأثيرات البيئية هذه خارجة عن إرادتهم غالبا، ما يجعل الاختلاف في حجوم الإرادات قضية خارجة عن إرادتهم أيضاً، فإن الله آخذٌ هذه الحقيقة بعين الاعتبار بكل تأكيد، لأن هذا ما يقتضيه العدل. إذ ليس مِماَّ ينسجم مع عدل الله أن يحاسب إنسانا يؤمن بالسحر والشعوذة كطريقة للعلاج إذا كان يعيش في بيئةٍ اجتماعية تُكَرِّسُ فيه منذ الصِّغر فاعلية هاتين الممارستين في شفاء الأمراض، بنفس حجم محاسبته لأنسانٍ آخر يؤمن بذلك مع أنه يعيش في بيئة اجتماعية تُكَرِّسُ كل وسائلها التربوية والإعلامية تسفيه فاعلية هذه الممارسات بصورة تتحرى فيها العلمية والموضوعية.
فإذا كان مقتضى العدل الإلهي أن لا يُمَيَّزَ الإنسانُ عن أخيه الإنسان في شيء اقتضته صفاته الموهوبة له من قبله سبحانة وتعالى عبر القوانين الطبيعية والاجتماعية يوم الحساب لإحقاق الحق وإبطال الباطل. فماذا يحدث لو حاولنا إسقاط هذا المفهوم للعدل على الواقع الإجتماعي للإنسان فيما يتعلق بالناحية الاقتصادية تحديدا؟!
في أي مجتمع يمارس العمليةَ الإنتاجية يقدم الأفراد العاملون في المجتمع جهودهم المُعَبَّرِ عنها بأعمالهم. ومن الطبيعي أن تتفاوت جهود العاملين في العملية الإنتاجية استناداً إلى ما سبق وأن أشرنا إليه بخصوص التفاوتات المقدرية الموهوبة من قبل الله لعباده عبر ما أرساه من قوانين في هذا الكون، سواء كانت هذه الجهود ذهنية أو بدنية. سنفترض نظرياً الحالة التي يقدم فيها كل فرد عامل كامل جهده المقدور عليه، وأن التفاوتات بين الجهود المُقَدَّمَة ليست بسبب الإهمال أو التقصير أو الكسل أو الرغبة في الحياة بالتَّطَفُّل على جهود الآخرين، بقدر ما هي بسبب التفاوتات الطبيعية والبيولوجية التي أشرنا إليها بين الأفراد. سنُواَجَه في النهاية بإنتاج إجمالي من السلع والخدمات في المجتمع حققه تضافر الجهود المتفاوتة “طبيعيا” لجميع الأفراد العاملين فيه مع باقي عناصر الإنتاج من أرضٍ وما حوت، ومن رأس مال تركه الآباء والأجداد، وهذا الناتج الإجمالي من السلع والخدمات سَيُوَزَّع على كل أفراد المجتمع. فعلى أي أساس سيوزع؟
من الواضح أن الأرض ما كانت لتنتجَ شيئا لولا العمل، أي لولا جهود الأفراد. كما أن العمل ما كان ليكون له معنىً لولا الأرض التي كان العمل فيها وبها. وأن كل ذلك ما كان ليصل إلى مستوىً إنتاجي معين لولا رأس المال، أي لولا جهود الآباء والأجداد، ولكان أقل لو كان رأس المال الاجتماعي المتوفر أقل. إن هذه العناصر مُجتمعةً إذن هي صانعة الإنتاج الإجمالي للمجتمع. وبما أن هذه العناصر الإنتاجية ليست ملكا لأحد دون أحد، بل إن ملكية حق الانتفاع بها هي لكل المجتمع كما ظهر لنا ذلك بوضوح عندما تحدثنا عن نظرية الملكية. فإن مسألة التوزيع تبدأ من هذه النقطة باحثةً عن أعدل الطرق لتوزيع الناتج على أفراد هذه الشركة الكبيرة المُسَماَّة مجتمعا منتجا.
يمكننا أن نقرر منذ البدء أن معيار التوزيع على أفراد المجتمع لن يكون هو الجهد المقدم من قبل العاملين، فجوهر العدالة والموضوعية كما سيتبين يتعارض مع هكذا معيار للأسباب التالية..
1 – من المستحيل عمليا وضع مقياس دقيق يمكن التَّعرف من خلاله على دور كل عنصر من عناصر الإنتاج في عملية الإنتاج ذاتها. فالأرض ورأس المال والعمل، هي عناصر شاركت في عملية الإنتاج مشاركة تامة وجوهرية. فإذا أردنا أن نعرف حجم مساهمة كل واحد من تلك العناصر في السلع والخدمات المُنْتَجَة، فسنقف عاجزين عن ذلك عجزا تاماًّ.
إن الموضوعية تقتضي كي نعرف معرفة دقيقية حجم المساهمة التي يقدمها كل عنصر من عناصر الإنتاج بنسبٍ رقمية مُحددة، أن نقوم بثلاث عمليات عزل وفرز متتابعة تتمثل الأولى في مُمارسةِ الإنتاج باستثناء عنصر العمل وبمشاركة رأس المال والأرض فقط. وتتمثل الثانية في ممارستها باستثناء عنصر الأرض وإشراك عنصري العمل ورأس المال فقط. وتتمثل الثالثة في ممارسة العملية الإنتاجية باستثناء رأس المال وبإشراك العمل والأرض فقط. وذلك من أجل أن نَحصل على عدد من المعادلات الرياضية بعدة مجاهيل هي عناصر الإنتاج الثلاث وكميات الإنتاج في الحالات الثلاث، ليتسنى لنا بعد ذلك معرفة الكمية الرقمية التي يسهم فيها كل عنصر من تلك العناصر في العملية الإنتاجية.
ولكن من الواضح أن تَحقيق أيِّ عملية من تلك العمليات قضية مستحيلة. إذ لا يمكن الحصول على أيِّ إنتاج إذا قمنا بعزل أيِّ عنصر من تلك العناصر. فكل عنصر منها إذن جوهري في العملية الإنتاجية بصرف النظر عن عدم إمكانية تحديد مساهمته الكمية. فإذا استثنينا الأرض فلن ننتج شيئا، لأن الإنتاج لن يكون إلاَّ بها وعليها. وإذا استثنينا العمل فلن يحصل إنتاج، لأن الأرض لن تنتج شيئا إذا لم يعالجها الجهد البشري بالعمل. وإذا استثنينا رأس المال، فهذا يعني أننا سنعود بأنفسنا إلى اللحظة الأولى للتواجد الاجتماعي للإنسان، وسنبقى ندور فيها، وهذا مستحيل، لأن اللحظة الثانية لهذا التواجد تقتضي وجود رأس مال.
نستطيع أن نتبين استحالة الحصول على نِسَبِ المساهمات الرقمية لتلك العناصر رياضيا بالعرض التالي..
سنفترض أن العمل هو (ع)، ورأس المال هو (ر)، والأرض هي (أ). فعندما نستثني الأرض سنحصل على معادلة الإنتاج التالية.. (ن1 = ع + ر). وعندما نستثني العمل سنحصل على المعادلة التالية.. (ن2 = أ + ر). وعندما نستثني رأس المال سنحصل على المعادلة التالية.. (ن3 = ع + أ). حيث تُعَبِّر (ن1، ن2، ن3) عن الناتج في الحالات الثلاث على التوالي. وبحل المعادلات الثلاث السابقة نحصل على النتائج التالية..
 
أ =   ن2 +ن3 – ن1
                2
ر =  ن2 + ن1 – ن3
                2
ع = ن1 + ن3 – ن2
                2
من الواضح أن المعادلات السابقة معادلات يستحيل الوصول إلى أيِّ حلٍّ لها. فكل مجهول من المجاهيل محسوب بدلالة ثلاثة مجاهيل لا تقوم أصلا بدون معرفة قيمة المجهول الذي عَّبَرت عنه كَمِّياًّ. فالمسألة إذن مسألة مستحيلٍ مَبني على مستحيل. وإذا تبين لنا ذلك، فأيُّ معنىً من معاني العدل بل أي معنى من معاني المنطق يقتضيها ذلك الطلب الذي يطالب بأن يكون توزيع الناتج على أفراد المجتمع عبر توزيعه على مختلف عناصر الإنتاج، على أساس المساهمة التي يقدمها كل عنصر من تلك العناصر في العملية الإنتاجية.
إن النتيجة الأولى إذن هي أن مَجموع جهود الأفراد أساسا هو كمية مجهولة تستحيل معرفتها ويستحيل حسابها رقميا من خلال الكشف عن حجم إسهام أولئك الأفراد أنفسهم في العملية الإنتاجية. وإذا كان هذا الإسهام مَجهولا فكيف نستطيع معرفة إسهام كل جهد من تلك الجهود منفرداً؟ إن القضية الوحيدة المعروفة هي حجم الإنتاج الكُلِّي الذي يمتلك كل المجتمع حق الانتفاع به لسد حاجات أفراده، ويجب أن يتوزع هذا المجموع على أساس معيار آخر غير معيار الجهد البشري المستحيل معرفته عقلا.
2 – إذا تبينت لنا مما سبق استحالة قياس نسبة مساهمة الجهد البشري في عملية الإنتاج ككل، فمن باب أولى أن قياس هذا الجهد على المستوى الجزئي (الفردي) في مختلف المؤسسات الإنتاجية أكثر استحالةً. فإذا كان الكل الذي هو بالتالي مجموع الأجزاء مجهولاً، فإن تلك الأجزاء أيضا مجهولة، ولو لم تكن كذلك لأمكن حساب مجموعها، هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى فإن السلعة أو الخدمة تشترك في إنتاجها عادةً علاوة على العناصر الإنتاجية من أرض ورأس مال، جهود بشرية عديدة قد تكون متساوية وقد تكون متباينة، ومن المستحيل عمليا قياس كمية الجهد المبذول من قبل كل فرد عامل في المجتمع في إنتاج سلعةٍ أو خدمةٍ معينة، إذ لا وجود لوحدات قياسية من هذا القبيل تصلح لقياس جهود الأفراد وحجوم مساهماتهم في العملية الإنتاجية فردا فردا.
صحيح أن هنالك حالاتٍ خاصةً نستطيع أن نقدر فيها تقديراً تقريبياً أن عَمَلاً معينا قد أسهم أكثر من غيره في إنتاج سلعة أو خدمة معينة، أو في تطوير شيء من ذلك. ولكن مثل هذه الحالات تبقى نادرة ومحدودة، كما أنها ستبقى ظَنِّيَّة تفتقر بدورها الى الحساب الكمي، ومع ذلك فإن مثل هذه الحالات لها ملابساتها الخاصة التي تندرج ضمن فكرة الحوافز.
وهكذا نخلص إلى صياغةِ المسألة على النحو التالي.. فإماَّ أن جهود كافة الأفراد المبذولة متساوية، وبالتالي فليست هنالك مشكلة، وسيتم توزيع الناتج بالمساواة على الجميع. وإماَّ أن الجهود متباينة بحكم التباين في المقدرات الذهنية والبدنية ابتداء، ولا يوجد مقياس لتحديد الفروق بين تلك الجهود المبذولة، فلا يصح إذن اعتبار الجهد معياراً أو مقياساً لتوزيع الإنتاج على الأفراد المُنْتِجين.
3 –  اذا كنا فيما مضى نتحدث عن استحالة استيفاء قياس كمي للجهد سواء على مستوى الأفراد لمعرفة مساهمة كل منهم في العملية الإنتاجية بالنسبة للآخرين، أو على المستوى الإجمالي للمجتمع لمعرفة مساهمة مجموع جهودهم في العملية الإنتاجية إلى جانب العناصر الأخرى. فإننا كنا نناقش الجهد من وجهة نظر حسابية. ولكن ليس ذلك كل ما في مسألة الجهد من تناقضات تؤكد استحالة إمكانية اعتماده مقياساً لتوزيع الإنتاج. فإن تعارض مفهوم معيارية الجهد مع مقتضى العدل يعتبر أهم ما في المسألة، لأن التناقض الحسابي السابق إذا كان يطرح المسألة على أساس أنها تُعْييِنا ونحن نبحث عن حلٍّ لها من وجهة نظر رياضية، فإن التعارض التالي مع العدالة سوف يجعل اعتمادَها معياراً مرفوضاً ومنبوذاً عقلا وإن استطعنا استيفاءها كَمِّياً، مع أننا لم ولن نفعل.
إن العامل الذي يُنتج في وحدةٍ زمنية ضعف ما ينتجه عامل آخر بحكم تفاوتِ المقدرات الذهنية والبدنية الموهوبة لهما من الطبيعة ومن المجتمع، إذا استطعنا أن نستوفي هذا التوجه الكمي في إنتاجهما، لماذا يستحق جزءا من الناتج أكثر من الآخر؟ هل يتميَّز عنه بحكم قوانين الطبيعة والمجتمع ليتميز أيضا بسبب ذلك التَّميز في حجم السلع والخدمات التي يستهلكها؟ ألا تقتضي العدالة إن شئنا أن نُفَرِّق بينهما أن يُعوَّضَّ المحروم رغم أنفه، مِماَ حُرم منه؟ أيُحرم المرء من القدرات ويُحرم أيضا من مُجاراة من وُهِبَ هذه القدرات حتى في الاستهلاك؟ أين هي العدالة في ذلك؟
إن الله عندما وعد كل محروم من شيء في الدنيا حرمانا قسريا بموجب قوانين الطبيعة والمجتمع بالتعويض عماَّ حُرِمَ منه في الآخرة، أليس لأن ذلك عدل؟ فإذا كان ذلك هو العدل في الفهم الإسلامي عندما يتم النظر إليه في سياقه الرباني المطلق. أليس عدم التفريق بين ذلك المحروم وبين غير المحروم في الاستهلاك في واقعنا الاجتماعي الدنيوي، هو أدنى مراتب العدل والإنصاف المقدور عليها بشريا في سياق محاولة تَقَمُّض صيغة العدل الإلهي المطلق في واقع مادي محدود؟!
ومع ذلك فمن الضروري الإشارة إلى أن تدني جهود بعض الأفراد في العملية الإنتاجية عن غيرهم ليس راجعا دائماً وبالضرورة إلى هذه الفروق الطبيعية القسرية، بل هو يتداخل تداخلا عضويا وجوهريا مع عناصر أخرى ذات طابع شخصي، مثل الكسل والتواكل وعدم الرغبة في بذل الجهد اللازم أو الرغبة في استغلال جهود الآخرين أحيانا كثيرة، وهو ما يقتضي أن تُؤْخَذ هذه المسألة في الاعتبار عند وضع خطط التوزيع وقواعده، ليظهر الفرق الموضوعي والعادل في الاستهلاك بين من يستحق التحفيز ومن لا يستحقه، من منطلق فكرة “الحوافز والمكافآت” التي تعتبر حلاًّ سحريا من شأنه أن يقضي على هذه الظاهرة، لتنحصر أسباب التدني الجهدي في نهاية المطاف في شكلها القسري.
وإذا انتقلنا مِمن هو قادر ولكن بصورة أقلَّ من غيره إلى من هو عاجز أصلا. فهل يُلبي المجتمع حاجاتِه كرما منه أم واجبا وحقا؟ إن العاجز لا يأخذ ولا يجب أن يُنْظَر إليه على أنه يأخذ حاجاته من المجتمع استجداءً، بل هو يأخذ حقاًّ طبيعيا من حقوقه رغم عدم مساهمته في الإنتاج. فعدم مساهمته ليست بسببه بل بسبب الطبيعة التي حرمته ووهبت غيره. فإذا كان من واجبه ومن حق المجتمع عليه أن يُقدم جهده كاملا عندما يكون قادرا عليه ليأخذ مقابل ذلك حاجاته، أوَ ليس من حقه على المجتمع ومن واجب المجتمع عليه أن يُعْطيِ له حاجاتِه المقدور عليها عندما يعجز عن تقديم جهد لهذا المجتمع؟ فإذا كان هذا هو حال العاجز، فكيف يكون حال غير العاجز، ولكن قليل القدرة والكفاءة والإمكانات؟ ألا تقتضي العدالة والحال كذلك أن يُعْتَبَرَ اعتماد الجهد معياراً لتوزيع الناتج ظلما؟!
4 – إن عملية الإنتاج ستؤدي في نهاية المطاف إلى إنتاج توليفة كبيرة جدا من السلع والخدمات التي يسعى أفراد المجتمع من خلال استهلاكها إلى إشباع حاجاتهم الحيوية المتنوعة. تمثل السلع مختلف المنتجات المحسوسة والملموسة والمنظورة كالخبز واللحم والسكر والأثاث.. إلخ. وتمثل الخدمات مجموعة المنتجات غير المحسوسة أو غير المنظورة بصورة مُجسمة كحلاقة الشعر والركوب في الطائرة والتعلم.. إلخ. والإنسان وهو يعيش ليمارس حياته، لا ينفك عن الحاجة إلى مجموعة كبيرة من السلع ومن الخدمات، فهو يحتاج إلى الطعام واللباس. وهو يحتاج إلى العلاج والتنقل والتعليم والنظافة والراحة والسكن.
هناك فرق أساسي وجوهري بين كلٍّ من السلعة والخدمة اللتين يستهلكهما الإنسان لإشباع حاجاته. فالسلعة يُمكن للإنسان أن يَحتفظ بها دون استهلاكٍ آني، فيؤجل استهلاكه لها إلى وقت آخر، ولو بشيء من الحرمان المؤقت. بِمعنى أنه يستطيع أن يَدَّخِرًها أو يَدَّخِر جزءاً منها في العادة، بينما الخدمة ليست كذلك. فهي تُقَدَّم له من قبل أناسٍ آخرين بصورة مباشرة. فالطبيب يعالجه، والمعلم يعلمه، وسائقو المركبات ينقلونه إلى مكان عمله.. إلخ.
فهو لكي يستهلك السلعة ليس بِحاجة لأحد لكي يُحقق له استهلاكها، بينما هو لكي يستهلك خدمة فهو بِحاجة إلى القَيِّم على تلك الخدمة كي يقدمها له وبصورة مباشرة. فالخدمة بهذا المعنى لا يمكنها أن تُدَّخَر أو أن يُدَّخر جزء منها كي يستهلكه آخرون كما هو الحال في السلعة. فقد يَدَّخِر الإنسان سلعةً عاماً كاملاً أو أكثر.. إلخ. بينما لا يحدث شيء من ذلك بالنسبة للخدمة. فالخدمة إماَّ أن يستهلكها صاحب الحاجة في حينها وإماَّ أن لا يستهلكها. وإن لم يستهلكها في حينها فهذا لا يعني أنه ادَّخرها لنفسه أو لغيره إلى المستقبل.
فإذا أجَّلَ الفرد حلاقة شعره شهرا، أو إذا أجَّل ذهابه إلى المستشفى سنة، فإن هذا لا يعني أبداً أنه ادَّخر خدمة الحلاقة لغيره، ولا أنه ادَّخر خدمة العلاج ليحصل عليها بحجم أوفر في المستقبل، كما هو الحال بالنسبة للسلع. وعندما يدخر الأب جزءاً من السلع الاستهلاكية ويَمنع أسرته من استهلاكها الآن، فهو إنَّما يُؤجل استهلاكَها إلى المستقبل، ليستهلكوها بحجم أكبر في وقت لاحق. بينما هو إذا لم يتداو، أو إذا لم يداو ولدَه المريض، أو إذا لم يعلمه، فهو في الواقع لم يدخر شيئا من ذلك للاستفادة منه بكثرة في المستقبل، بل حرم نفسه وابنه من خدمة التداوي حين الحاجة الماسة إليها، مع بقائه وبقاء الآخرين دائما قادرين على الحصول على هذه الخدمة في وقت لاحق عندما يحتاجون إليها.
خلاصة القول إذن أن الادِّخار يطال السلع الاستهلاكية ولا يُمكنه أن يطالَ الخدمات بأيِّ حال. والسبب في ذلك واضح وبسيط. فالانسان لا يمكنه أن يستهلك السلعة إلاَّ إذا كانت في حوزته، فيما لا يمكنه أن يستهلك الخدمة إلاَّ إذا كانت في حوزة مُقَدِّمها، وربما أنها سميت خدمة لهذا السبب. وهذا يعني أنه بوصفه مستهلكا لا يمكنه التَّحَكُّم في الخدمة بادخارها بينما يستطيع ذلك فيما يتعلق بالسلعة.
ولكن ماهي الفائدة التي نجنيها من هذا التوضيح لجوهر الفرق بين السلعة والخدمة بالنسبة للمستلهك. إن الوصول إلى إدراك هذا الفرق مهم جدا. وهذا ما سيتضح لنا بعد قليل فلنحتفظ بهذه النتيجة ولننتقل الآن إلى عرض فكرة مقتضبة هامة عن النقود، نرجع بعدها مجددا إلى ما توصلنا إليه هنا لجني ثمار أهمية التفريق بين السلعة والخدمة في ضوء ذلك العرض المقتضب.
لا تمتلك النقود قيمتَها الحقيقة من ذاتِها، فهي في حد ذاتها لا قيمة لها إلاَّ بمقدار ما تَحويه من جهد وموارد مبذولة على إصدارها. أماَّ قيمتُها الحقيقية التي جعلتها تكتسب صفة الشريان وأهميته بالنسبة للحياة الاقتصادية في كل المجتمعات، فهي النيابة والوكالة التامة التي تحملها في طياتها عن مُجموع السلع والخدمات المُنْتَجَة في المجتمع. فالنقد وكيل عن السلع والخدمات يساعد على تسهيل تداولها بحكم استحالة أو صعوبة مبدأ المقايضة المباشرة، وهو الأسلوب البدائي في تداولها.
فالنقود التي يملكها إنسان ما في مجتمع ما، هي تعبير آخر عن حجم السلع والخدمات التي يمتلك ذلك الإنسان حق الانتفاع بها بشرائها بتلك النقود، وذلك على أساس نظامٍ للتسعير يكون سائدا في المجتمع تضعُه الدولة إذا كان المجتمع ينتهج التخطيط المركزي لاقتصاده، ويفرضه السوق على أساس معايير العرض والطلب إذا كان المجتمع ينتهج نهجا اقتصاديا رأسماليا حُراًّ. إن النقود المعطاة لمختلف أفراد المجتمع تعكس النمط المفترض اتِّباَعُه في توزيع السلع والخدمات، على أن تتمثل فيها مقولة النيابة عن تلك السلع والخدمات. يُفترض إذن النظر إلى النقد المُمَلَّك للفرد، على أساس أنه حجم السلع والخدمات التي يَحق له تمَلُّك حق الانتفاع بها على أساس التوزيع المتبع انطلاقا من ركيزة المساواة عندما ناقشنا معايير توزيع الناتج الإجمالي في المجتمع.
عود على بدء إلى الفرق بين السلعة والخدمة والمتمثل في إمكانية إدخار السلعة وعدم إمكانية إدخار الخدمة. لنحاول أن نُسقط مفهوم النقد على هذه النتيجة. ماذا سنلاحظ؟ سنفترض بطبيعة الحال أن النقد المقدم إلى الفرد يُمثل حجم الحاجات التي يُقَدَّرُ أن تكون من نصيبه على أساس التوزيع العادل للسلع والخدمات، بحيث يتمكن هذا الفرد من الحصول على ما يشبع حاجاته بما يحمله ويحوزه من نقد.
عندما يحتاج هذا الفرد إلى سلعة فإنه سيذهب لشرائها من السوق، وسيفعل ذلك تماما عندما يحتاج إلى خدمة، فهو سيدفع ثَمن خدمة ركوب الحافلة عندما يركبها، وسيدفع ثَمن خدمة العلاج عندما يتعالج من مرضه، كما سيدفع ثمن خدمة الأمن الذي يَحصل عليه من الجندي والشرطي، وإن كان ذلك سيتم بخصمه منه بشكل مسبق من الدولة المهيمنة على القوات المسلحة والأمنية التي تقدم له خدمة الحماية والأمن.. إلخ.
ومن الطبيعي أن حاجة الناس إلى العديد من الخدمات ليست واحدة، كما لا يمكن التنبؤ بها بشكل دقيق حتى يتم تقديرها نقديا بشكل صحيح، أو قريب من الصحة على أقل تقدير. فقد يحتاج فرد ما إلى العلاج مرة في السنة، وقد لا يمرض 20 عاما، وقد يضطر إلى زيارة الطبيب عشر مرات في الشهر الواحد. وما يقال عن خدمة العلاج يقال عن خدمة النقل، فقد تكثر تنقلات إنسان ما لسبب أو لآخر، وقد تقل.
إن العديد من الخدمات تندرج تحت هذا الإطار الاحتمالي غير المضبوط مسبقا. وهذا يقتضي صعوبةَ إن لم يكن استحالة التقييم المسبق لحجم الخدمات التي يحتاجها المواطن الواحد في عام إنتاجي واحد، ليُنابَ عنها بحجم معادل ومكافئ من النقود. وبالتالي فستتقارب إلى حدٍّ بعيد حجوم النقود المعطاة للمواطنين نيابة عن حاجاتهم إلى الخدمات انطلاقا من رؤية تقديرية هي في جوهرها غير عادلة لأنها غير دقيقة ابتداءً.
وفي مثل هذه الحالة سوف نصل إلى نتيجة ظالمة وغير منصفة، وهي أن بعض الأفراد وانطلاقا من عدم استخدامهم للكثير من الخدمات، سوف يَدَّخرون قسما من النقود التي خُصِّصَت لهم لإشباع هذه الحاجات. بينما هناك قسم آخر سوف يضطر إلى اقتطاع قسمٍ من النقود المخصصة للسلع الاستهلاكية لتغطية احتياجاته المتكررة إلى أنواع محددة من الخدمات لا يمكن الاستغناء عنها، ومن ذلك خدمة العلاج وما ارتبط بها من تنقلات ومواصلات.
وقد يواجِهُ الفردُ عندئذٍ أزماتٍ مالية ناتجة عن عدم قدرته على إشباع حاجاته من خدماتٍ أخرى من حقه إشباع حاجته إليها، وسوف تنبثق عن ذلك حالة من الادخار الزائد لدى البعض يستطيعون تحويل مدخراتهم فيها إلى سلع استهلاكية وخدماتٍ ترفيهية، وبالتالي سيتمتعون بمستوى معيشية استهلاكي أكثرَ رفاهية من الآخرين الذين عانوا من ذلك الوضع الخدماتي الذي أشرنا إليه، فينعكس ذلك على مستوى معيشة أُسَرِهم فتبدأ أولى مظاهر عدم تكافؤ الفرص لدى من لا ذنب لهم في ذلك، بالتَّكَوُّن.
وعلى ضوء ما سبق يمكننا أن نؤكد على أن الحل العادل لمثل هذا المأزق يتمثل في إلغاء نيابة النقود عن الخدمات الأساسية ذات الطابع الإنساني مثل خدمة العلاج، تمهيدا لإلغائها عن باقي الخدمات في نهاية الأمر، وإبقاء نيابتها عن السلع إلى حين يُقدر على إلغاء نيابتها حتى عن السلع عندما يصل المجتمع إلى مستوى يستطيع فيه تأمين كل احتياجات المواطنين منها على اختلاف أذواقهم ورغباتهم. ففي مثل هذه الحالة سوف يحصل كل فرد على حاجاته الخدماتية دون أن يتأثر النقد الوكيل عن السلع. كما أن أولئك الذين تقل حاجاتهم إلى خدمات محددة، لن تتاح لهم فرصة ادِّخار نقود يستخدمونها في تطوير مستوى استهلاكهم السلعي وفي توسيع دائرة استهلاكهم الخدمي الترفيهي…
… يتبع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.