التوقيعة اسم مرة التوقيع الذي هو إيقاع شيء على شيء من أشياء دون شيء
وهذا من عجائب العربية؛ فعلى رغم دلالة صيغة التفعيل على تكثير الفعل
تدل على المراوحة بين الفعل وعدم الفعل، فكأن التكثير قد شمل مع الفعل عدم الفعل؛ فإذا هما كلاهما كأنهما فعلان، لا فعل وعدم فعل! من ذلك توقيع المطر أي إصابته بعض الأرض دون بعض، ومنه توقيع الدَّبَر (الحفاء) أي إصابته بعض الجلد دون بعض؛ فأما هذا فمنه أُخذ توقيع الكتاب أي إجابته بعبارة بليغة نافذة، تضاف إليه من آخره بلون غير لونه، وأما ذاك فمنه أخذ تنسيق الأصوات الموسيقية، أي المراوحة بين إطلاقها وحبسها.
ولعل الدكتور أحمد بسام ساعي حين سمى الشعر الحر شعر التوقيع، بكتابه “حركة الشعر الحديث في سورية من خلال أعلامه”، المنشور أول مرة عام 1398=1978، بدار المأمون الدمشقية- إنما نظر إلى معنى تنسيق الأصوات الموسيقية، من حيث يستبيح الشاعر فيه لنفسه أن يستحدث ما شاء من الأوضاع الصوتية العَروضية وغير العَروضية. ولكن الدكتور محمد عز الدين المناصرة الشاعر الفلسطيني الكبير، المتخرج عام 1968 في كلية دار العلوم من جامعة القاهرة، المشتغل بتوقيع الشعر منذ 1964 إلى 2013، إنما نظر إلى معنى إجابة الكتاب بالعبارة البليغة النافذة المضافة بلون غير لونه، ولعله الذي نبه الدكتور أحمد بسام ساعي نفسه، إلى تسمية الشعر الحر شعر التوقيع!
لقد ألقى الدكتور محمد عز الدين المناصرة عام 1965 على الجمعية الأدبية المصرية -وكان أحد أعضائها- نصًّا سماه “توقيعات”، بعشر توقيعات مُرَقَّمة غير مُعَنْوَنة- ثم عام 1968 نشره بكتابه الشعري “يا عنب الخليل”، فإذا فيه نص ثانٍ سماه “توقيعات مرئية”، بتوقيعتين اثنتين مرقمتين ومعنونتين. ثم عام 1969 ضمَّن كتابه الشعري “الخروج من البحر الميت”، نصا ثالثا سماه كذلك “توقيعات”، بعشرين توقيعة مرقمة غير معنونة -وكتابه النثري “مذكرات البحر الميت: قصائد نثرية رعوية”، نصا رابعا سماه “لا تغازلوا الأشجار حتى نعود: توقيعات”، بتسع عشرة توقيعة مرقمة ومعنونة. ثم عام 1974 ضمَّن كتابه الشعري “قمر جرش كان حزينا”، نصين خامسًا سماه “توقيعات مجروحة إلى السيدة ميجنا”، بأربع عشرة توقيعة مرقمة غير معنونة- وسادسًا سماه “توقيعات في حفل التدشين”، بخمس توقيعات مرقمة غير معنونة. ثم عام 2000 ضمَّن كتابه الشعري “لا أثق بطائر الوقواق”، نصا سابعا سماه كذلك “توقيعات”، بعشرين توقيعة مرقمة ومعنونة. ثم عام 2013 اختار من ذلك كله كتابه “توقيعات عز الدين المناصرة: إبيجرامات شعرية مختارة”.
لقد شمل بكل نص من تلك النصوص السبعة، تسعين نُصَيْصًا مُرَقَّمًا، أي منصوصًا على تميزه من داخل نصه، بل عَنْوَنَ من هذه التسعين واحدًا وأربعين، مبالغة في تمييز بعضها من بعض، ثم لما دعته فاتن أنور منصور إلى تسميتها غير ما سمَّاها، قال مما نشرته بعنوان “عز الدين المناصرة… رائد شعر التوقيعات (شعر هايكو عربي) 1964″، بصحيفة رأي اليوم اللندنية، في 26/12/2017:
– “البداية كانت مع بداية نشوء منظمة التحرير الفلسطينية في القدس 1964. عام 1964 كان انطلاق الشعر الحقيقي لي ولمحمود درويش، ولغيرنا من شعراء فلسطين. إنّ الذي أثر فعليا في كتابتي للتوقيعات، هي التوقيعات العباسية النثرية، وقصيدة البيت الواحد، والمقطعات الشعرية الجاهلية، والهايكو الياباني المترجم والإبيجرام، والسونيتات الإنجليزية… هذه كلها دفعتني لكتابة التوقيعات.
– هل التّوقيعة هي الهايكو العربي؟
– نعم؛ سمّيتها أولا هايكو، ثم عدت وأسميتها توقيعة، لأن فن الهايكو الياباني هو أحد مصادري الشعرية.
– نحن نسميها هايكو أستاذ وهناك نادي الهايكو العربي!
– لماذا لا تسمّونه توقيعة، توقيعات؟ وهو فن نثري ظهر بالعصر العباسي يقوم على الاختصار والتكثيف. أنا لست ضد إدخال كلمة هايكو أبدا؛ إنما أخشى على اللغة من التبريد ومحو الهوية وتقليد غيرنا. أنا مع الشّعر العربي. ليس كل شعر موزون شعرا، وهنا أشير كمثال الى ألفية ابن مالك (اللاشعر).
– إذن التوقيعات كانت في سنة 1964؟
– نعم؛ وقد ألقيتُ تلك القصائد في القاهرة منذ عام 1964 حتى فبراير 1970. كنت عضوا في الجمعية الأدبية المصرية، والتي كان الدكتور عزالدين اسماعيل رئيسا لها. وبعيدا عن ذلك هي منشورة في مجلدي الأعمال الشّعرية في طبعاتها العشر”.