www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

قراءة من نوع آخر … (قصة قصيرة)/بقلم: شامل سفر

0

النهار بالنسبة لكلٍّ منهما غربةٌ يومية ..

يعانيان منها إلى أن يحلّ المساء ، فيعود كلٌّ منهما إلى وطنه ..

يعود كلٌّ منهما إلى الآخر ..

يسكنه ، يحلُّ فيه ، يفترشه ، يتوسّده ، يتدثر به ، يتقلّب بين جنبات دفئه ، يُودِعه ما لا يُفضي به لأحد ، ويُلقي عنده مرساةَ ترحاله .
كل واحد منهما كان مدمناً يتعاطى الآخرَ … في جلسة صفاءٍ مساءَ كل يوم ؛ لا يستطيعان الإقلاع عنها ، ولا يريدان الشفاء .
هي .. بنقائها الذي يتعلّم منه العطرُ ويقتبس … و هو .. بحنانه الذي لا يعرف هو نفسه ؛ هل يعطيه أم يتلقّاه …. كانا لبعضهما دفءَ شتاءٍ أجملُ ما فيه أن لياليه طويلة ، وأنها كثيراً ما كانت تنتهي بالنوم حيث هُما ، في غرفة الجلوس .. فغرفة النوم ما زالت باردة ، ولا داعي للانقطاع المزعج.
سنواتٌ من زواجهما مرت .. وكأنها برهانٌ من براهين النظرية النسبية … وكأنها حلم .. وكأن الحكاية الحلوة بدأت منذ بضعة أيام ، لا أكثر .
حتى زيارات الأبناء والبنات ، وصخب أطفالهم ، وقصصهم مع أزواجهم … جعلا لها يوماً محدداً .. الخميس ولا يوم سواه … والحادية عشرة تماماً هي ساعةُ: « آنستمونا و شرفتمونا » … فجرعة الإدمان لا تنتظر طويلاً .. وجلسةُ الدفءِ لا مكانَ فيها لعذول ، ولو كان فلذة الكبد .
وأما تلفازهما .. والدراما التي يشاهدان حلقاتها … فكانت ـ مثلهما ـ من نوع خاص .. من نوع آخر مختلف.
فمنذ أن التقيا ذات يومٍ صيفي في مكتبة .. وصادف أن أرادت هي شراءَ كتابٍ لم يتبقَّ من نسخه عند البائع إلا نسخة وحيدة .. وأراد هو شراء نفس النسخة ، فكادت أن تقع مشكلة … وتم حل الموضوع آنذاك باقتراحٍ من صاحب المكتبة … اقتراح غريب .. أن لا يبيع الكتاب لأيٍّ منهما ، بل يعطيه لها برسم الإعارة لمدة محددة … تعيده بعدها للمكتبة ، كي يأخذه هو ، برسم الإعارة أيضاً … منذ ذلك اليوم ، بدأت قصة القراءة بالتبادل .. وبدأت معها بوادر قصة حب .
اضطرت هي لتمديد الفترة الزمنية ، لأنها لم تنته من قراءة الكتاب بعد ، واضطر البائع بالتالي أن يعطيها رقم هاتف القارئ ( الأكابر ) الذي ينتظر بكل نبالة دون أن يعترض … كي تعتذر منه شخصياً .. وتقبّل صاحبنا الاعتذار بصدر رحب .. طبعاً … فالصوت الذي تهادى إلى سمعه عبر الأثير ، يحنّن الحجر … ثم رسالة نصية منه ، كتبها ـ للأمانة والتاريخ ـ بكل تهذيب ؛ يسألها فيها عن رأيها بالكتاب .. ورسالة رد منها ، مهذبة هي الأخرى، وحروفها تقطر أنوثةً .. ثم رسائل عديدة … وهكذا ، إلى أن حرك الكتابُ قلبَين كانا يعانيان من البرد .. ويكابران عليه .
البرد .. نديم الوحيدين أمثاله … وأنيس وحشة الأرامل .. أنيسٌ سَمِجٌ ونديمٌ ثقيل ، لكن ليس على الساحة غيره … لا يغادر إذا ما وُجِدَت حرارةٌ اصطناعية .. مستعارة .. كاذبة … مؤقتة .. تظل رياحه تعوي عواءَ جوعٍ لا يشبع … لكنه يهرب بسرعة ، حالما يظهر الدفءُ الحقيقي .. وتأتي بشائرُ الدفء الحلال.
وكلاهما كان في مرحلة عمرية لا يمكن معها أن يلجأ إلى الكذب على النفس … ولا حتى على مجتمعٍ ديدنه الكذب … فتزوجا .
الأقاويل .. الغمز واللمز … الإشارات المبطنة .. الجبّة الـ (حمرا) التي لبساها بعد الـ (كبرة) .. اعتراضُ أبنائها وتحفّظ أبنائه .. التذكير بأنهما جد وجدة .. ركلا كل ذلك .. وتزوجا .
تابع المجتمعُ ممارسةَ هوايتهِ في العواء .. لفترة محدودة فقط … ثم عندما لم يجد مَن يرمي له بعظمة .. سكت …… وهرب البردُ إلى غير رجعة .
ومنذ أن تزوجا … لم يقرأ أحدهما كتاباً لوحده قطُّ … بدأت قصتهما بقراءة شبه مشتركة ، فقررا أن يمضيا حياتهما في قراءة مشتركة .. وتعاهدا على ذلك .
في غرفة الجلوس الـ (مكنكنة) والممدودة بالكامل .. لا يحلو الجلوس .. وبصراحة: ولا الاستلقاء .. إلا على (طراريح) وضعت على السجّادة … هناك في غرفة الدفء ، وتحت الـ (بطّانية) .. دع عنك الوسائد طبعاً ؛ لا داعي لوجودها ، فالحبيبان ـ بصراحة أكثر ـ يتوسّد أحدهما أي جزءٍ يحب من الآخر .. لدرجة أن كل عبارات الاختلاط ، والاندماج ، والتماهي ، وكل الـ (فذلكات) اللغوية الأخرى ، قاصرةٌ عن وصف الحبيبين إذ يتعاطى أحدُهما حنانَ الآخر .. ما من مفردةٍ تستحق أن يوصف بها مشهدُ العاشقين في مثل حالهما هذه ، إلا مفردة شامية عامّية وعتيقة … فكل واحدٍ منهما (ينطمّ) بالآخر … وفاكهةُ الشتاءِ في المدفأة القديمة تغني لهما موسيقاها التصويرية ؛ سروراً بالعاشقين ، وكأنها تتعاطف معهما .. ثم الهمس … الوشوشة .. ذلك الفن .. ويا له من فن .
علماء الفيزياء تحدثوا عن التوافق النبضي .. حسناً … التوافق بين هذين الحبيبين لم يكن فيزيائياً وحسب ، ولا نبضياً وحسب …… بل توافق العقلان ، والقلبان ، والجسدان … ثم توافقَ أسلوبا القراءة ….. أو بالأحرى ، توافقت روحا القراءة في كلٍّ منهما أولاً ، فتوافق فيهما ذلك كله من حيث النتيجة … القراءة كانت المبتدى …. وكانت المنتهى أيضاً.
وهما متعانقان … يا لهذه العبارة كم هي قاصرة .. كانت تقرأ ، وهو يصغي .. ثم يقرأ هو ، وهي تستمع … لا تسلني متى وكيف كانا يتبادلان الدور ، ثق أنني لا أدري … لكنهما تبادلا كل شيء … التعليقات .. الآراء .. ردات الفعل .. التساؤلات .. التفاعل مع النص .. محبته .. كرهه .. كونه مؤثراً أو بارداً … تبادلا كل ذلك، وهما يتبادلان الحب ، والحنان ، والتفهّم ، والتفاهم ، والعطاء ، والأخذ ، والإفضاء ….
والقراءة التي كانت المبتدى .. أبت إلا أن تكون المنتهى … فبعد أن نطق الشهادتين وهي تحتضنه ، في آخر يومٍ من أيام مرضه … بكت .. قالت كما يحب ربنا ويرضى لنا أن نقول .. أغلقت عينيه .. عدّلت وضعَ جثمانه بيدين حانيتين … فتحت جوّالها .. أرسلت رسالةً لابنها ؛ تخبره ….. تناولت الكتاب الذي كانت تقرأ له منه … قرأت له الفقرة التالية بصوتٍ هادئ .. كانت على يقين من أنه يسمعها … ثم استلقت بجانبه تماماً ، ونطقت الشهادتين .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.