www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

قرآن أم قِرْيانة؟ الرد على سخافات المستشرق الفرنسى كلود جيليو بشأن النبى الكريم والقرآن العظيم إبراهيم عوض

0

 

الصورة الرمزية إبراهيم عوض

 

 

 

 

للمستشرق الفرنسى كلود جيليو (Claude Gilliot)

مقال منشور فى ” Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée, n° 129, 2011-1, p. 31-56″ عنوانه:

“Le Coran, production littéraire de l’Antiquité tardive ou Mahomet interprète dans le « lectionnaire arbe» de la Mecque”

وترجمه إلى العربية ناصر بن رجب ونشره فى موقع “الحوار المتمدن” تحت عنوان “محمّد تُرْجُمان- القِرْيانَة العربيّة-المكّيّة”. وفى هذا المقال يزعم المستشرق الفرنسى أن القرآن الكريم ليس فى الحقيقة سوى تجميع عدد من النصوص النصرانية وغيرها يهدف إلى إنشاء كتاب ليتورجى عربى يستخدم فى الصلوات والعبادات. صحيح أن الكلام فى بداية بحثه يدور حول القرآن المكى، لكن الحكم فى الواقع يشمل القرآن كله. وهو يسمى القرآن الكريم بـ”قرآن المصبّ” فى مقابل “قرآن المنبع”. يقصد المصادر التى استمد منها محمد ذلك القرآن. 

ويزعم جيليو فى دراسته أن القرآن ما هو إلا قِرْيَانة تشبه القريانات التى كان السريان يجمعون فى كل منها نصوصا مختلفة من كتابهم المقدس لاستخدامها فى الصلوات. وهذه القريانة العربية قد سميت خطأ بـ”القرآن”، الذى كونه محمد والفريق المعاون له من نصوص منتقاة من أسفار الكتب المقدسة لدى اليهود والنصارى وغيرهما لاستخدامها أيضا فى العبادات كما يزعم. كما حكم على كلمة “قرآن” بالخطإ قائلا إنها ليست عربية، إذ العربية لا تعرف فعلا للقراءة يُشْتَقّ منه هذا اللفظ. والصواب عنده هو “القريانة”، التى أخذها محمد شكلا ومضمونا ووظيفة من السريانية هو والفريق المعاون له. 

ونبدأ بالدعوى التى تزعم أن “القرآن” ليست كلمة عربية، بل تحريفا لكلمة “قريانة”. وقائل هذا السخف جاهل كبير. فالقرآن مشتق من “القراءة” لأنه يُقْرَأ. وليس أدل على ذلك من النصوص القرآنية التالية التى ورد فيها فعل القراءة، ومعظمها تقع فيه القراءة على القرآن ذاته: “وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ” (الأعراف/ 204)، “فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ” (النحل/ 98)، “وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا” (الإسراء/ 13- 14)، “وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا” (الإسراء/ 45)، “وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا” (الإسراء/ 106)، “وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ” (الشعراء/ 198- 199)، “إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” (المزمل/ 20)، “لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ” (القيامة/ 16- 18)، “وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ” (الانشقاق/ 21). 

بل إن الوحى حين نزل على محمد لأول مرة، ولم تكن لفظة القرآن قد جرى لها ذكر فيه بعد، وجدناه يُوقِع على نفسه فعل القراءة بما يعضد أن لفظة “قرآن” مأخوذة من القراءة: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم” (العلق/ 1- 5)، إذ المطلوب أن يقرأ محمد ما يتلوه عليه جبريل من كلام الوحى. ثم إن صيغة الكلمة هى صيغة “فُعْلان”، والكلمات التى على وزانها كثيرة فى لغة العرب، مثل “ربّان، فرقان، فقدان، نعمان، جردان، بطنان، سبحان، برهان، بطلان، طغيان، غفران، عنوان، رجحان، شكران، كفران، تكلان، لقمان، بنيان، بحران، لقيان، قربان، خسران، حسبان، سلطان، نقصان…”. ثم لو كانت كلمة “قرآن” غير عربية أو غير مفهومة أكان المشركون يسكتون على استعمال محمد لها فى تسمية الكتاب الذى يقول لهم إنه آتٍ من السماء أنزله الله عليه، وفى نصوص الوحى المبكرة، فلا يستغربونها ساخرين من استعمال محمد لها على هذا النحو المباغت؟ وفى أصل كلمة “قرآن” يقول معجم “تاج العروس” للزبيدى فى مادة “ق ر أ”: “القُرْآن هو التنزيل العزيزُ، أَي المقروءُ المكتوب في المصاحف… قَرَأَه وقرأَ به بزيادة الباء… قَرْءًا (عن اللّحيانيّ) وقِراءةً (ككِتابةٍ) وقُرآنًا (كعُثْمان)، فهو قارِئٌ (اسم فاعل) من قومٍ قَرَأَةٍ”.

بل إن أول ما سمعه محمد من جبريل فى لقائه به عند الغار أيام التحنث هو كلمة “اقرأ” أى اقرأ ما أتلوه عليك، وهى الكلمة التى بدأ بها أول نص من نصوص الوحى فى أشهر الروايات المتصلة بذلك الموضوع: “أولُ مَا بُدِئَ به رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الوَحْيِ الرؤيا الصادِقَةُ في النَّوْمِ، فكان لا يَرَى رؤيا إلا جاءتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، فكان يأتِي حِرَاءً فيَتَحَنَّثُ فيه (وهو التَّعَبُّدُ) الليالِيَ ذواتِ العَدَدِ، ويَتَزَوَّدُ لذلك، ثم يَرْجِعُ إلى خديجَةَ فتُزَوِّدُهُ لمِثْلِها، حتى فَجِئَهُ الحقُّ وهو في غارِ حِرَاءٍ، فجاءه المَلَكُ فيه، فقال: اقْرَأْ. فقال له النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فقُلْتُ: ما أنا بِقَارِئٍ. فأخَذَني فَغَطَّني حتى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثم أَرْسَلَني فقال: اقْرَأْ. فقُلْتُ: ما أنا بِقَارِئٍ. فأَخَذَني فغَطَّني الثانيةَ حتى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثم أَرْسَلَني فقال: اقْرَأْ. فقُلْتُ: ما أنا بِقَارِئٍ. فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثالثةَ حتى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثم أَرْسَلَنِي فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ… حتى بَلَغَ: عَلَّم الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم”. 

ومن شواهد شعر تلك الفترة فى هذا المجال البيتان التاليان لشاعرين أحدهما لم يسلم قط، وهو أمية بن أبى الصلت، والثانى لم يكن أسلم بعد، وهو كعب بن زهير. يقول أمية:

كِتاباً مِنَ الله نَقْرأ بِهِ فَمَنْ يَعْتَريهِ فَقِدْمًا أَثِمْ

ويقول كعب:

يَسْقِينَ طُلْسًا خَفِيّاتٍ تَراطُنُها كَما تَراطَنُ عُجْمٌ تَقرَأُ الصُّحُفا

ومن استعمال العرب آنذاك كلمة “قرآن” بمعنى الكلام المقروء ما جاء فى “اتفاق المبانى وافتراق المعانى” للدقيقى من أن أبا بكر سأل عن “قرآن” مسيلمة، أى الكلام الذى كان يزعم أنه ينزل عليه من السماء ويقرؤه على أتباعه. وفى “البداية والنهاية” لابن كثير خبر آخر عن هذا الموضوع وردت فيه لفظة “قرآن” بنفس المعنى. وفى “المثل السائر” لابن الأثير وصف لكتاب “الشاهنامة” بأنها “قرآن القوم”.

وبالمناسبة فدعوى المستشرق الفرنسى بسريانية الكلمة مسبوقة منذ وقت طويل، إذ قال بذلك لويس شيخو اليسوعى فى كتابه: “النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية”: “وعندنا أنّ أصل الكلمة من السريانيّة (كلمة سريانية) وهي مصدر، ومعناها القراءة وقطعة من الكتاب لا سيّما الكتاب المقدّس. ويقال بهذا المعنى: “رأس القِرْيان” (كلمة سريانية)”. ثم لم يكتف شيخو بهذا، فقال عن كلمة “فرقان” إنها سريانية أيضا: “وقد استعملوا “الفرقان” بمعنى “القرآن”. قالوا: دُعِيَ بذلك لأنه يفرق الحق من الباطل. وجاءت الكلمة في القرآن في سورة “البقرة” بمعنى التوراة حيث قال: “وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ” (راجع “تاج العروس” في مادة “ف ر ق”. وأصل هذه الكلمة، على ما نرى، من السريانيّة. وهي كلمة سريانية بمعنى النجاة والخلاص مع الإشارة إلى الفصل والتفريق”. 

وفى مادة “قرآن” من “The Encyclopaedia of Islam” أن معظم الباحثين الغربيين الآن يقبلون رأى شڤالى وغيره من أن كلمة “قرآن” مأخوذة من الكلمة السريانية: “قريانا”، ومعناها قراءة الكتاب المقدس أو أحد دروسه. أما فى ذات المادة بـ”Encyclopaedia of the Qur’an” فيكتفى كاتبها بقوله إن ثم صلة بين هذه الكلمة وبين كلمتى “قريانا” السريانية و”مقراء” العبرانية، دون أن يقول إنها ترجع فى أصلها إلى أى منهما. وهو موقف مقبول، إذ يضع اللغات الثلاث على مستوى واحد بوصفها كلها لغات سامية ترجع جميعا إلى أم واحدة، وإن كان هناك من يعطى للعربية السبق والصدارة: 

“Etymologically, the term is linked to the Syriac word qeryana (scripture reading, lection) and to the Hebrew miqra’ (recitation, scripture)”. 

ومن اللافت للنظر قول كاتب البحث الذى بين أيدينا عقب هذا: “لقد وُلِد القرآن في وسط مُعيّن، وفي فضاء ثقافي معيَّن، وفي زمن مُعيّن، شأنه في ذلك شأن كلّ إنتاج ثقافي أو أدبي آخر. لا شيءَ يأتي من لا شيء، عدا ما يخلقه الله من العدم. غير أنّ هذا الامر المُعْتَرَف به عامّة بخصوص الكتاب المقدّس، سواء أسفار العهد القديم أو الأناجيل، ما زال يثير إشكالا للبعض حَالَمَا تتعلّق المسألة بالقرآن. وهذا الرّفض يباغتنا. فالتراث الإسلامي من تفاسير وتاريخ وشبه تاريخ، وحتّى الخرافي منه، وهو إذ يُقِرُّ بالمصدر الإلهي المحض لــ”القِرْيَانة العربيّة” التي تحمل اسم “قرآن”، فهو يسمح في العديد من رواياته وأحاديثه، المتضاربة غالبا تضاربات تشغل الباحثين وما تزال، لعناصر تاريخ “قرآن المنبع” و”قرآن ما قبل القرآن” أن تبرز وتطفو على السّطح. في دراسات سابقة كنّا قد اعتبرنا أنّ التَّعبيرَيْن: “قرآن المنبع” و”قرآن ما قبل القرآن” تعبيران مُتَكافِئان، أي القرآن ما قبل ما يُسمّى بالقرآن “العثماني”، وخصّصنا التعبير: “قرآن الْمَصبّ” لما يُسمّى: القرآن العثماني”. وهو ما نحب بل ينبغى أن نقف إزاءه”.

هذا ما قاله الكاتب. وسوف أقف عند العبارة التالية: “لقد وُلِد القرآن في وسط مُعَيَّن، وفي فضاء ثقافي معيَّن، وفي زمن مُعيّن، شأنه في ذلك شأن كلّ إنتاج ثقافي أو أدبي آخر”، وأحاكمه إليها. فإذا كان القرآن، كما يقول، ابن زمانه ومكانه وبيئته وثقافتها، فكيف يكون مستمدا من نصارى السريان وكتبهم التى يعدونها للصلوات والعبادات؟ هل كان هناك سريان فى مكة؟ فمن هم يا ترى؟ وكيف كان يجتمع بهم محمد؟ وأين؟ ومتى؟ ومن ذا الذى شاهدهم وهم مجتمعون يفكرون ويخططون ويستعيرون ويترجمون؟ إن أصحاب محمد معروفون بالاسم منذ أول لحظة من لحظات الوحى بل من قبل ذلك. إنهم خديجة وميسرة وعلى وأبو بكر والأرقم بن أبى الأرقم وعثمان… إلخ. فهل كان هؤلاء هم معاونى محمد فى الأخذ من السريان والنسج على منوالهم؟ هل كان أى من هؤلاء يعرف السريانية؟ فأين تعلمها؟ ومتى كان يتكلمها أو يقرأ بها؟ وإذا كان هناك قساوسة نصارى أو حاخامات يهود فمن هم يا ترى؟ ولماذا لم يظهروا طوال كل هاتيك العصور؟ بل لماذا لم يفكر أى منهم فى القيام بدور محمد، الذى عاونوه وعلموه، فطفا هو على السطح وحاز الشهرة وبَقُوا هم فى القاع دون أن يلتفت إليهم أحد أو يهتم بهم أحد؟ أم تراهم تخلصوا من الطبيعة البشرية بما فيها من تنافس وغيرة وتحاسد ورغبة فى الاستئثار بالخير أو على أقل تقدير: فى المشاركة فيه؟ 

على أن الكاتب رغم ذلك لا يكتفى بالقول بأن محمدا كان له من يعاونه فى تأليف القريانة العربية، بل يدعى أن لغات بعض هؤلاء المعاونين يحتمل أن تكون العبرية أو السريانية أو الآرامية، وكأننا إزاء معهد عال لتعليم اللغات الشرقية فى مكة. إن الكاتب يتناول الموضوع بخفة وطيش ويصور الأمر وكأن هناك عصابة تتآمر وتجتمع سرا وتضع الخطط وتترجم وتنقل من كتب السريان وتراجع ما تنقله حتى يأتى مستويا سلسا محكما كما هو الحال فى القرآن ليس عليه عجمة الترجمة فى وقت لم يكن العرب يعرفون الترجمة بعد ولا مارسوها. ولقد رأينا ترجمات حنين بن إسحاق بعد ذلك بتاريخ طويل وعليها آثار العجمة وصعوبة الفهم ووعورة التعبير، فما بالكم بترجمة مثل تلك النصوص الدينية فى ذلك الوقت المبكر حين لم تكن ترجمة ولا تعريب بل لم تكن كتابة ولا قراءة ولا كتب أصلا إلا فى أضيق نطاق؟ 

وقبل ذلك كيف تنصر محمد أو على أقل تقدير: كيف نشأ اهتمامه بالنصرانية بحيث يشكل الاعتقاد فى المسيح مشكلة تشغله وتؤرقه؟ لقد كان محمد فى مكة يعمل بالرعى صبيا ثم بالتجارة عند خديجة بعدما كبر وعرضت عليه أن يقوم على تثمير أموالها فى الأسواق يعاونه غلامها ميسرة. وكان أميا لا يقرأ ولا يكتب. ولم يكن فى مكة مبشرون يلتقطون الصبيان أو الشبان أو الرجال يغرونهم باعتناق النصرانية، وإلا فمن هم أولئك المبشرون يا ترى؟ ومن أين أَتَوْا؟ وأين كانوا يمارسون نشاطهم؟ ومن شاهدهم؟ وماذا كانوا يقولون لمن يريدون تنصيره؟ ومن أولئك الذين كانوا يحضرون خطبهم ومناقشاتهم؟ المعروف لجميع الناس أنه لم يظهر فى حياة محمد أى قساوسة أو رهبان قط، اللهم إلا فى الخبر الذى يدور حول لقائه ببحيرا فى طريقه أثناء صباه إلى الشام. وهو خبر كيفما قلبته لن تجد فيه تبشيرا ولا كلاما عن النصرانية على أى وضع. 

يقول الخبر: “خرجَ أبو طالبٍ إلى الشامِ ومعه النبي صلى الله عليه وسلم في أشْياخٍ من قريشٍ، فلما أشرفُوا على الراهبِ (يعني بحيرا) هبطُوا فحلُّوا رِحالهُم فخرج إليهم الراهبُ، وكانوا قبلَ ذلك يمرونَ بهِ فلا يخرُج إليهِم ولا يلتفت، قال: فنزل وهم يحلون رِحَالَهم فجعل يتخللهم حتى جاء وأخذ بيدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وقال: هذا سيدُ العالمين (زاد البيهقيُّ: ورسولُ ربِّ العالمينَ ابتعثهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ). فقال له أشْياخُ قريشٍ: وما علمكَ؟ فقال: إنكم حينَ أشرفتُم من الثنيّةِ لم يبقَ شجرٌ ولا حجرٌ إلا خرّ ساجِدا، ولا يسجدونَ إلا لنبيّ. وإني أعرفهُ بخاتمِ النبوةِ أسفلَ من غضروفِ كتفهِ. ثم رجعَ فصنعَ لهم طعاما. فلما أتاهم به، وكان هو في رعيةِ الإبلِ فقال: أرسلوا إليه. فأقبلَ وغمامةٌ تُظلُّهُ. فلما دنا من القومِ وجدهُم قد سبقوهُ إلى الشجرةِ. فلما جلسَ صلى الله عليه وسلم مالَ فَيْء الشجرةِ عليهِ، فقال: انظروا إلى فَيْء الشجرةِ مالَ عليهِ!”. وهناك خبر آخر عن الْتِقَائه بذلك الرَّاهِبِ يقول إنه “تَفَرَّسَ فيه ورأى مَعَالِمَ النُّبُوَّةِ في وجهِه وبينَ كَتِفَيْهِ. فلما سأل أبا طالبٍ: ما هذا الغلامُ منكَ؟ قال: ابْنِي. قال: ما يَنْبَغِي أن يكونَ أَبُوهُ حَيًّا! قال: فإنه ابنُ أَخِي. مات أَبُوهُ وأُمُّهُ حُبْلَى به. قال صَدَقْتَ. ارْجِعْ به إلى بَلَدِكَ واحْذَرْ عليه يَهُود”.

ويمكنك أن تقبل الخبر أو ترفضه، لكنك لن تُلْفِىَ فيه أية مناقشة حول النصرانية أو أى دين آخر. وبالنسبة لى فإنى لا أطمئن إلى الخبر كثيرا، وإلا لقد كان ينبغى أن يتخذه النبى حجة على صحة نبوته، ويجعل منه الصحابة تكأة لإعلان إيمانهم به وتسويغه. وعلى أية حال لقد كان محمد أوانذاك مجرد صبى يتيم لا تشغله تلك الموضوعات. وقد هب كارلايل يسخّف مزاعم الأوربيين حين رآهم يعضّون بنواجذهم على تلك الرواية متخذين منها دليلا على أن محمدا قد تعلم النصرانية من بحيرا آنذاك واختزن ما تعلمه منه وظل محتفظا به إلى أن حان الوقت المناسب فشكّل منه دينا يدعو الناس إليه. وفى رأيه أن محمدا كان صبيا صغيرا، وأن اللقاء بينه وبين بحيرا تم فى حضور المكيين، ولا يمكن أن يحدث شىء فى مثل تلك الظروف ولا كانت الظروف مواتية لأية مناقشة فى الدين. بل لم يكن محمد يعرف لغة أجنبية: 

“I know not what to make of that “Sergius, the Nestorian Monk,” whom Abu Thaleb and he are said to have lodged with; or how much any monk could have taught one still so young. Probably enough it is greatly exaggerated, this of the Nestorian Monk. Mahomet was only fourteen; had no language but his own”. 

وعلى الوجه الآخر كان ينبغى أن يتخذ مَنْ كفروا بنبوة محمد وكذبوه وحاربوه من ذلك اللقاء، لو كان بحيرا قد لقنه شيئا من النصرانية أو من غيرها كما يدعى بعض المستشرقين والمبشرين الأوربيين، ذريعة إلى تكذيبهم له وكفرهم به. لكنهم قد سكتوا فلم يقولوا شيئا. ومعنى هذا أن بحيرا لم يفده قليلا ولا كثيرا. أما إذا لم يكن هناك بحيرا أصلا فلا تعدو المسألة كلها حينئذ أن تكون زوبعة فى فنجان.

وقد اتهم محمدا أيضا بعض المستشرقين والمبشرين بأخذ دينه عن الحنفاء. وفات هؤلاء المتهِمين أن الحنفاء قد أسلموا أو أسلم أبناء من ماتوا منهم بل أسلمت أسرهم كاملة. فكيف يمكن أن يقع ذلك إذا كان محمد هو التلميذ، والحنفاء هم الأساتذة؟ كما اتُّهِم كذلك بأنه قد أخذ عن الرهبان والقساوسة الذين كان يقابلهم فى أسفاره أيام متاجرته بمال خديجة، وكأنه كان يترك التجارة ويذهب للتباحث مع رجال اليهودية والنصرانية؟ ثم من شهد ذلك يا ترى؟ إن محمدا لم يكن يسافر فى تلك الرحلات وحيدا بل كان معه التجار المكيون جميعا، ومنهم معاونه فى تجارة خديجة: ميسرة غلامها. وهو ما لا يسمح له بأن يغيب عن عيون من حوله ومن معه طرفة عين دون أن يلحظوا ذلك. ثم من أولئك القساوسة يا ترى؟ وفى أية موضوعات كانوا يتحدثون إليه؟ وبم كان يجيبهم؟ 

ثم لماذا سكت أولئك القساوسة والرهبان والحنفاء فلم ينبس واحد منهم، واحد فقط، واحد ليس غير، واحد ابن حلال يريد ألا تندثر الحقيقة، فيقول إننى أنا الذى علمت محمدا وأمددته بدينه هذا، أو إننى رأيت محمدا وهو جالس بين يدى فلان أو علان أو ترتان يتلقى عنه معارف النصارى أو يتعلم ما عند الحنفاء؟ صحيح أنه كانت هناك اتهامات مرسلة من بعض مشركى قريش لمحمد بأنه يتعلم من بعض الحرفيين بمكة أشياء مما عند أهل الكتاب. لكن حقيقة الأمر أنهم كانوا من الرقيق الأعاجم ذوى المعارف الساذجة الذين لا يستطيعون الحديث بالعربية، فضلا عن أن يشرحوا ما فى أديانهم من عقائد وقصص ومواعظ. ثم إن أولئك الذين اتهموه بذلك قد انقلبوا على أنفسهم فأسلموا أو أسلمت أسر من مات منهم، بل أسلم أيضا أولئك الحرفيون، وصار الجميع كلهم على بكرة أبيهم أتباعا لمحمد: يؤمنون بكتابه ويدافعون عن دينه ويُسْتَشْهَدون فى سبيله ويبدون من ضروب التحمس لهذا الدين والتضحية من أجله ما يبعث على الدهشة والانشداه. ومعنى ذلك أنهم قد لحسوا كل اتهاماتهم لمحمد وكذبوا أنفسهم بأنفسهم، وبينوا بأجلى بيان أنهم إنما كانوا يفترون ويكذبون ويتخرصون. وإلا فهل هناك معنى آخر لهذا الذى حدث؟

ثم يقول جيليو فى هذا الصدد: “جلب أخصّائي الأدبيّات المسيحيّة الأولى ج. بومان (J. Bowman) الإنتباه إلى وجود مونوفيزيّين (القائلين بطبيعة إلهيّة واحدة للمسيح) في نجران شمال اليمن وبين القبائل العربيّة الكبرى مثل الغساسنة، ولكن أيضا اللّخميين التي كانت الحيرة عاصمة لمملكتهم. فهو يعتبر أنّ نُبُوّة القرآن ومحتواها الكتابي يمكن أن يُفَسَّرا بحقيقة أن محمّد كان على اتّصال بالمونوفزيّين (اليعاقبة) الذين كانوا يستعملون إنجيل تاتيان الرُّبَاعِيّ (دياتسارون) Tatian s Diatessaron ويعتبرونه بمثابة النّص القانوني للأناجيل. لنُذَكِّر أن المقصود بالدياتسارون هو “الإنجيل الذي جُمِّع من الأناجيل الاربعة”، ويُسمّى أيضا: “التجميع التوفيقي للأناجيل” (لقد وُجِدت عدّة تجميعات توفيقيّة أخرى للأناجيل غير تجميع تاتيان) أو “الإنجيل المتكامل”. وهو نصّ من المحتمل أن يكون قد كُتِب في الأصل بالسريانيّة، الشيء الذي يفترض التطابق والإنسجام بين الاناجيل الأربعة. لقد ظلّ لفترة طويلة نصَّ الأناجيل الوحيد المستعمَل في طقوس الكنائس التي تستخدم اللّغة السريانيّة. هناك العديد من هذه الكنائس لا تزال تستخدمه في أيّامنا هذه خلال الأسبوع المقدَّس (الأسبوع الذي يسبق يوم الفِصْح).

باستعمالهم هذه المصادر بما فيها مقاطع من الأناجيل المنحولة يمكن هكذا أن يكون محمّد ومن أعانه قد أنشأوا قريانتهم الخاصّة بهم (قرآن، كلمة غير عربيّة مأخوذة من السريانيّة “قريانة” qeryânâ)، لتلبية حاجياتهم الخاصّة بهم. نقول: “محمّد ومن أعانه” لأنّه لا يجب “إقصاء إحتمال أنّ القرآن كان قد نشأ داخل مجموعة يمكن أن يكون محمّد قد كان قدوتها”. 

وإذا ما نظرنا إلى هذا الكلام راعنا ما فيه من تساخف شديد: فالقبائل التى يقول إنها كانت تؤمن بطبيعة واحدة للسيد المسيح كانت موجودة فى اليمن وشمال بلاد العرب فى دولتى الغساسنة واللخميين، أى بعيدا عن مكة وعن محمد تمام البعد. فكيف كان محمد يتصل ببعض أبناء تلك القبائل وهو فى مكة على ذلك البعد السحيق من تلك البلاد، وفى تلك الأزمان التى كانت وسائل المواصلات بدائية شديدة البطء؟ الحمد لله أنْ لم يقل المستشرق الفرنسى إنه كان يتصل بهم عن طريق الموبايل والإنترنت ويتابع معهم كل جديد حيث يرفعون له كل ما يحتاجه من كتب على الفورشيرد ليقوم بإنزالها على راحته فى صمت وخفاء، ولا من شاف ولا من درى. وإنى لأتساءل: كيف لم يظهر واحد فقط ممن عاون محمدا على صوغ قريانته العربية فيهتك أستار الصمت والظلام عن ذلك الموضوع ويفضحه فى العالمين بعد أن خرج عن الاتفاق وهاجم النصرانية واتهم أتباعها بأنهم يشركون مع الله آلهة أخرى، قالبا لهم بذلك ظهر المِجَنّ ومتمردا عليهم بعد أن علَّموه وهذّبوه ولقنوه وأمدوه بكل احتياجات القريانة، بل بعد أن صاغ قريانته وأضحت له قريانة كما لهم ولغيرهم قريانة. لقد خان بذلك العيش والملح، وصار لا بد من الانتقام منه، ولا أحسن ولا أروع من كشف حقيقته وأنه مجرد سارق مغير، وإن أردنا الرطانة العصرية فليقولوا: إنه استغل “التناص” مع القريانات السريانية أسوأ استغلال. 

ولعل القارئ يتساءل عن الحكمة فى اهتمام الكاتب بالكلام عن مذهب الطبيعة الواحدة للسيد المسيح وقوله إن بعض القبائل فى اليمن وغسان وعند اللخميين على حدود العراق كانوا يتمذهبون بتلك العقيدة. الواقع أنه يريد إلى القول بأن محمدا قد أخذ عن هؤلاء المونوفيزيين ما قاله فى السيد المسيح. وهذا كيد رخيص من الكاتب، فالمونوفيزيون يعتقدون بأن ليسوع طبيعة واحدة إلهية، وأن طبيعته البشرية امتزجت بهذه الطبيعة. ويمكن اختصار هذه الطبيعة في أن يسوع المسيح، الابن، هو شخص وأقنوم واحد بطبيعة واحدة: الإنسان الإله. ومن ثم فلا فرق فى موقف الإسلام من القائلين بطبيعتين أو بطبيعة واحدة للسيد المسيح، ألا وهو موقف الرفض والإنكار. ومن ناحية الفريقين فإنهما يكنان لمحمد ودينه كراهية وحقدا شديدين. إن كلا من الفريقين يؤله المسيح على نحو أو على آخر. وهذا مرفوض ومجرَّم فى الإسلام قولا واحدا. ومعنى هذا أن كل ما قاله الكاتب أيضا فى هذا الموضع متهافت لا قيمة له ولا قوام. 

وفى تعريفه لـ”الدياتسارون” يقول الكاتب إنه “الإنجيل الذي جُمِّع من الأناجيل الأربعة”، وهو نصّ من المحتمل أن يكون قد كُتِب في الأصل بالسريانيّة، الشيء الذي يفترض التطابق والإنسجام بين الاناجيل الأربعة”. فانظر كيف أن الأمر كله قائم لديه على الاحتمال والافتراض، فضلا عن أن هذه النتيجة التى يصل إليها هى نتيجة تعادى المنطق والتاريخ والوثائق. ذلك أن الأناجيل الأربعة لا تتطابق بأى حال. كما أنها ليست منسجمة فيما بينها، بل تعج بتناقضات وتغايرات كثيرة طبقا لما يعرفه كل من له بها أدنى اتصال، فضلا عن تناقض كل إنجيل مع نفسه. أما إذا كان ما يقوله الكاتب صحيحا لا ريب فيه فما الحاجة يا ترى إلى تجميع نصوص من الأناجيل الأربعة ما دام الموجود فى هذا الإنجيل هو نفسه الموجود فى ذاك؟ لقد كان ينبغى إذن الاكتفاء بإنجيل واحد كامل متكامل دون خلط عيوشة بأم الخير. فأحمد هو الحاج أحمد، ولا داعى إذن لتضييع الوقت فيما لا يقدم أو يؤخر. أليس هذا هو ما يقضى به المنطق والعقل السليم المستقيم؟ 

ويقول الكاتب أيضا: “إضافة إلى ملاحظات غ. لولينغ (G. Lüling) عن “المصطلحات الإسلاميّة العالِمَة لمختلف طبقات القرآن”، التي شحذت همّتنا للمضيّ في هذ المسعى، تجدر الإشارة إلى تشجيع آخر جاء من عند كريستوف لوكسنبيرغ عندما يكتب: “إذا كان القرآن يعني حقيقةً “قريانة” (lectionnaire) باستطاعتنا أن نفترض أنّ القرآن كان قد أراد لنفسه أن يُفْهَم على أنّه لا شيء آخر غير كتابِ طقوس (ليتورجي) يحتوي على نصوص مختارة من الكتابات المقدّسة (العهد القديم والعهد الجديد، أو كتابات أخرى يهوديّة- مسيحيّة قديمة)، وليس على الإطلاق كبديلٍ عن الكتابات المقدّسة نفسها، أي ككتابٍ مقدّس مستقلٍّ بذاته. ومن هنا جاءت التلميحات العديدة للكتابات المقدّسة السابقة التي بدون معرفتها يمكن للقرآن أن يبدو للقارئ كتابا خُتِم بسبعة أختام” (أختام تحول دون فهمه). أخيرا لقد مارست أيضا تحليلات الباحث Jan Van Reeth الدقيقة تأثيرها على تدرّج تفكيرنا وتطوّره.

إذا أضفنا إلى المصطلحات التي ذكرناها آنفًا وإلى الفلك الليتورجي الذي يدور فيه القرآن فحقيقة أنّ هذه القريانة المكّية، باعتبار فنّها الأدبي والأسلوبي والليتورجي، تُذكِّر بدون أيّ شكّ بفنّ المزامير مثلما لاحظ ذلك سابقا هيرشفيلد (Hirschfeld)، وحديثًا نوفيرث (Neuwirth)، فسيُفْهَم لماذا نتوجّه نحو هذه القريانة لمعرفة ماذا تقول عن نفسها. إنّها يمكن أن تكون في موقع كتاب المزامير لو لم يكن عندنا أسفار موسى الخمسة Pentateuque (التوراة) وأسفار العهد القديم التاريخية: ففي المزامير تلميحات إلى قصص، وإلى مواضيع لا يمكن فهمها بدون أسفار موسى وبدون الأسفار التاريخيّة، ولكن أيضا التغييرات الفُجْئيِّة للمواضيع داخل نفس المزمور (“السورة” بالنّسبة للقرآن)، والتكرارات لنفس الموضوع ونفس الفكرة، “ابتهالات”، تذكيرات بما فعله أو عاناه الآباء وما صنعت العناية الإلهية بخصوصهم (“الذِّكْر” واشتقاقاته في القرآن)… إلخ.

ليس من الغريب أن تكون المزامير قد حازت اعتراف محمّد، قُدْوة الفريق الذي كان يساعده، أكثر من أيّ شيء آخر، مع التوراة، وهما سفرا العهد القديم الوحيدان اللّذان يُسمّيهما القرآن، “باعتبار أنّهما كانا باستمرار في أفواه اليهود على شكل صلوات”. بصورة مّا فإنّ محمّد “يضع التوراة والمزامير في نفس المستوى”: “وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ” (سورة 17، آية 2)، و”وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا” (سورة 17، آية 55). الشيء الذي يمكن على الأرجح أن نربطه بما جاء في سورة الشعراء (195، 196): “بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ، وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ” (لم يقل: “كُتُب” بل قال: “زُبُر” كما لاحظ ذلك جيّدا الباحث مُنْذِر صفَر). نفهم جيّدا أن تكون المزامير قد مارست “انجذابا قويّا” على روح محمّد، مزامير “لا يذكرها فقط، ولكنّه أيضا يُقلِّدها”. ويظهر ذلك منذ أوّل سورة، فاتحة القرآن: فهي تشبه بجُمَلها القصيرة مزمورًا، وآيتها السادسة: “اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ” يبدو أنّها تُذكِّر بما جاء في المزمور 27، 11: “طَريقَكَ يَا رَبُّ عَلِّمْنِي، وَسَبِيلَ الإِسْتِقَامَةِ آهْدِنِي”. إنّ معرفة محمّد بالمزامير تبدو كرونولوجيًّا قديمة في القرآن، فالآية: “لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ” (سورة القدر، آية 3) تُذَكِّر بالآية: “إِنَّ يَوْمًا فِي دِيَارِكَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ” (مزمور 84، آية 11) أو أيضا: “وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ” (الحجّ، آية 47)”.

هذا ما قاله الكاتب. وردا على دعواه بأن “القرآن كان قد أراد لنفسه أن يُفْهَم على أنّه لا شيء آخر غير كتابِ طقوس (ليتورجي) يحتوي على نصوص مختارة من الكتابات المقدّسة (العهد القديم والعهد الجديد، أو كتابات أخرى يهوديّة- مسيحيّة قديمة)، وليس على الإطلاق كبديلٍ عن الكتابات المقدّسة نفسها، أي ككتابٍ مقدّس مستقلٍّ بذاته” نقول: هل كان الأمر، والحالة هذه، يؤدى إلى كل هذا الصدام بين محمد وبين قومه؟ الواقع أن القساوسة والحنفاء لم يكونوا قليلين فى بلاد العرب، فهل سمع أحد أنه قام صدام بينهم وبين قبائلهم؟ فلِمَ يختلف الأمر مع محمد يا إلهى إذا كان نشاطه مقصورا على تشكيل كتاب للصلوات؟ ثم لمن كان يعد محمد هذا الكتاب النصرانى؟ أليس غريبا حين نعلم أن القوم فى مكة كانوا وثنيين؟ ترى كيف يجهز لهم إذن كتابا نصرانيا؟ بل هل كان هو نصرانيا فى يوم من الأيام؟ فمن نصَّره يا ترى؟ ومتى؟ وكيف تم التنصير؟

ثم أين هذا التشابه بين القرآن، فى المرحلة المكية أو المدنية، وبين الأناجيل؟ أين مثلا الكلام عن عيسى عليه السلام كابن لله سبحانه؟ لا يوجد، بل يوجد الإلحاح على عبوديته لله وتبرؤه من تأليه النصارى له ومهاجمة عقيدة التثليث والصلب والفداء. ثم أين سيرة السيد المسيح منذ ولادته حتى انتهاء حياته على الأرض مرتبة ومفصلة كأى كتاب تاريخى كما هو الوضع فى الأناجيل؟ لا يوجد، بل لا يوجد شىء كهذا بالنسبة لسيرة محمد عليه السلام. وهل يبدأ كل سفر من أسفار الأناجيل بـ”بسم الله الرحمن الرحيم” أو حتى بـ”باسم الآب والابن والروح القدس”؟ كلا. وهل صلاة النصارى: “أبانا الذى فى السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما هى فى السماء كذلك على الأرض. خبزَنا كفافَنا أعطنا اليوم” تشبه “الفاتحة” رغم كل ما يقوله كثير من المستشرقين والمبشرين عن التشابه بين هذين النصين ووظيفتيهما ومكانتيهما؟ أبدا. أم هل هناك فى الأناجيل وصف مفصل للفردوس والجحيم مثلما هو الأمر فى القرآن المجيد، وبخاصة فى السور المكية؟ لا ثم لا. إنما هى إشارة عارضة عن شرب عصير الكرمة فى السماوات. وهل يعتمد القرآن الأسلوب المترسل فى سوره كما هو أسلوب الأناجيل بل أسلوب العهد الجديد كله بل الكتاب المقدس جميعه؟ أبدا، إذ تسود الفواصل النص القرآنى من مفتتحه إلى مختتمه. فهل التشريعات إذن واحدة أو حتى متقاربة بين قرآننا وأناجيل النصارى؟ لا ثم لا ثم لا. 

هل هناك فى الأناجيل مثلا تحريم للخمر أو الخنزير والربا؟ لا. هل فى كتب القوم حديث عن أحكام الحرب وتنظيم الزكوات والحج والصيام؟ أم هل فى القرآن دعوة إلى إدارة الخد الأيسر لمن يصفع المسلم على خده الأيمن؟ أبدا أبدا. هل فى القرآن تصوير لعيسى على النحو الذى تصوره الأناجيل شتاما عيابا عصبيا لا يوقر أحدا ولا حتى أمه وحوارييه بل يتطاول على الجميع ويتهم تلاميذه المقربين فى إيمانهم؟ لا بل الصورة التى يصورها له القرآن تشير إلى حنانه ووده ورحمته واحترامه لأمه ومن حوله. وأخيرا وليس آخرا هل تتعرض الأناجيل للأنبياء القدماء كنوح وإبراهيم ولوط؟ لا. هل تتعرض للحديث عن الأنبياء العرب: شعيب وهود وصالح وما جرى لهم مع أقوامهم؟ هل فى الأناجيل حديث عن العلم وأهميته ومكانة العلماء، وعن العمل الصالح الذى لا يصلح إيمان بدونه؟ الواقع أنه لا يوجد. هل كلام الأناجيل عن عيسى يشبه ما يقوله القرآن عن محمد من أنه مجرد بشر ليس له مع ربه من الأمر شىء ولا يعلم الغيب ولا يقول إنه ملك أو إنه سوف يشترك مع الله فى حساب الناس يوم القيامة جالسا على يمين أبيه سبحانه؟ لا بل الكلامان مختلفان. هل فى الأناجيل ما يشبه حديث القرآن عن انتصار الإسلام الحتمى مهما جيش المشركون لحربه من رجال وعتاد وأموال ووضعوا من خطط ومشاريع؟ لا طبعا. 

كذلك فالقرآن يذكر لعيسى بعض المعجزات التى لا تعرفها الأناجيل الأربعة كخلقه للطير ونفخه فيه فيكون طيرا بإذن الله، وتنبيئه قومه بما يأكلون وما يدخرون فى بيوتهم. وعلى الناحية الأخرى يخلو من هبوط الحمامة عليه وهو يتلقى العماد على يد يحيى فى نهر الأردن حيث سمع هاتفا من السماء يناديه بـ”ابنى الحبيب” ومن تجربة الشيطان إياه ومحاولته إسجاده له ومن هجومه هو وأتباعه على أحد الحقول والتهامهم ما فيه من ثمار دون إذن صاحبه وغير ذلك. وفوق هذا يَعْرَى القرآن فى كلامه حول عيسى عن التناقضات التى تعج بها الأناجيل كما هو الحال مثلا عند الكلام عن نسب يسوع، حيث نجد عدد آبائه وترتيبهم وأسماءهم مختلفا فى متى عنه فى لوقا على نحو لا يقبل علاجا ولا توفيقا. ومثله قول يسوع إنه ما جاء لينقص الناموس بل ليكمله ثم ينهال فى الحال نقضا للناموس ومحوا له. ومثله أيضا قوله عن حوارييه إن ما يحلونه أو يربطونه فى الأرض يُحَلّ ويُرْبَط فى السماء، ورغم هذا نسمعه يصف أكبرهم بقلة الإيمان بل يقول له: يا شيطان! هذا هو الكلام الذى ينبغى أن يطرح بدل السخافات التى ينتهجها الكاتب الكذاب الذى يعلم تمام العلم أنه كذاب، وخطط منذ البداية لاختلاق تلك الأكاذيب ونشرها أملا فى إشاعة الفوضى عند المسلمين من ورائها، ثم قام بعضهم بهمة مريبة لترجمتها ونشرها بأسلوب ركيك وأخطاء لغوية بدائية ليكمل الخطة ظنا منه أنه بالغٌ ما لم يبلغه دهاقنة المستشرقين ودهاة رجال الدين من نصرانيين ويهوديين على مدى القرون المتطاولة. خيبة الله عليهم جميعا! 

هذا عن المقارنة بين القرآن والأناجيل الأربعة، فماذا عن المقارنة بين القرآن والمزامير؟ لقد ذكر الكاتب أن محمدا يبدى تعلقا شديدا وانشغالا قويا بالمزامير وتوراة موسى دون بقية كتب الأنبياء. وسؤالنا هو: هل هناك كتب للأنبياء الآخرين لها أسماء كالتوراة مثلا والإنجيل حتى يقال إن القرآن لم يذكرها؟ والجواب بطبيعة الحال: لا. ومع هذا فإن كلام القرآن لا يقتصر على توراة موسى ومزامير داود، بل هناك أيضا إنجيل عيسى، وهو شىء يختلف عن الأناجيل الأربعة. فهذه الأناجيل هى سِيَرٌ عيسويةٌ مختلفةٌ كتبها بعض البشر بعد انتهاء حياة المسيح على الأرض. أما الإنجيل الذى يتحدث عنه القرآن فهو وحى نزل من السماء على عيسى عليه السلام وأمره الله بتبليغه وليس هو البشارة بمجيئه. كذلك يشير القرآن إلى صُحُف إبراهيم، وإلى كُتُب الأوَّلين (أو زُبُر الأولين)، وإلى أهم ما قاله الأنبياء القدماء لأقوامهم كنوح وإبراهيم ولوط ويونس، فضلا عن حديثه عن بعض أنبياء العرب: هود وصالح وشعيب ودعواتهم وقصصهم مع أممهم، وهو ما لا وجود له فى الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. وقد تكرر هذا كله مرارا. وإذن فما قاله الكاتب عن اعتزاز محمد بالتوراة والمزامير وحدهما هو كلام فارغ لا قيمة له. 

أما عن وجه الموازنة بين القرآن والمزامير فالمعروف أن كل مزمور من المزامير لا يبتدئ ببسملة كما تبتدئ كل سورة من سور القرآن المجيد. وكثيرا ما تتعدد موضوعات السورة الواحدة ما بين كلام عن اليوم الآخر وحديث عن الرسل السابقين وما أصاب أقوامهم من العذاب والتدمير جراء عنادهم وتمردهم وكفرهم ووصف عناصر الطبيعة وتحميد الله وتسبيحه وتوقيره وتهديد المشركين المكيين بوبال شنيع إن لم يرعووا ويرجعوا عن كفرهم وتكذيبهم وإنكارهم الحياة الآخرة ويقلعوا عن سبل الغى والعصيان مع تبشير المؤمنين بجنات النعيم وما ينتظرهم فيها من مباهج ولذات، والمحاورات التى كانت تقع بين الرسول وأهل مكة والتشريعات المختلفة من صلاة وصيام وزكاة وحج وقتال وزواج وطلاق وعِدّة وحلف وبيع وشراء وربا ورهان ودَيْن وتعليم وسفر وطعام وشراب ونظافة وطهارة وغير ذلك، فضلا عن طول كثير من السور طولا شديدا لا يتناسب وطول المزامير، التى يدور كل منها على التسبيح والتهليل لا يخرج عنه. ولا ننس أن داود فى العهد القديم، وعند النصارى كذلك، هو حاكم زان ظالم قاتل، أما فى القرآن فهو قريب من ربه. بل هناك من ينفى عنه النبوة ويجعله مجرد حاكم ليس إلا، لكنه فى القرآن حاكم ونبى كريم.

ويتوقف الكاتب أيضا أمام قوله تعالى على لسان المؤمنين فى سورة “الفاتحة”: “اهدنا الصراط المستقيم” قائلا إن هذا دليل على أن محمدا كان على صلة قديمة بمزامير داود، إذ نجد داود يدعو ربه قائلا فى واحد منها: “طَريقَكَ يَا رَبُّ عَلِّمْنِي، وَسَبِيلَ الإِسْتِقَامَةِ اهْدِنِي”، وهو ما يدل لديه على أن محمدا قد استمد هذه العبارة من داود. لكن هل مثل هذه العبارة من الصعوبة والتعقيد بحيث لا يمكن أن تخطر فى عقل إنسان آخر إلى جانب داود؟ إن كل واحد من البشر يتمنى دائما لنفسه الهداية والتزام الصراط المستقيم؟ فما المشكلة فى ذلك؟ ثم أين الدليل على أن محمدا كان على صلة بالمزامير: يقرؤها ويستعير منها لغته وأسلوبه؟ وعلى كل حال فإننا نؤمن بأن كل ما نزل على داود ومحمد وغيرهما من النبيين والمرسلين فمصدره الله سبحانه وتعالى. على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، إذ ثمة فارق هام وحاسم بين الدعوتين: فداود يطلب من ربه أن يهديه الصراط المستقيم حتى لا يقع فى أيدى أعدائه المتربصين به بينما يطلب المؤمنون فى “الفاتحة” أن يهديهم الله الصراط الذى اختص به من أنعم عليهم بنعمة الإيمان والرضا ممن لم يتعرض لغضبه سبحانه ولم يضل عنه ضلالا. 

وهذا نص ما قاله المؤمنون فى سورة “الفاتحة”: “اهدنا الصراطَ المستقيم * صراطَ الذين أنعمتَ عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين”، بينما يقول داود: “طَريقَكَ يَا رَبُّ عَلِّمْنِي، وَسَبِيلَ الإِسْتِقَامَةِ اهْدِنِي”. وأما فى طبعة فانديك فنص الكلام كاملا هو: “7اِسْتَمِعْ يَا رَبُّ. بِصَوْتِي أَدْعُو فَارْحَمْنِي وَاسْتَجِبْ لِي. 8لَكَ قَالَ قَلْبِي: «قُلْتَ: اطْلُبُوا وَجْهِي». وَجْهَكَ يَا رَبُّ أَطْلُبُ. 9لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي. لاَ تُخَيِّبْ بِسُخْطٍ عَبْدَكَ. قَدْ كُنْتَ عَوْنِي فَلاَ تَرْفُضْنِي وَلاَ تَتْرُكْنِي يَا إِلهَ خَلاَصِي. 10إِنَّ أَبِي وَأُمِّي قَدْ تَرَكَانِي وَالرَّبُّ يَضُمُّنِي. 11عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ، وَاهْدِنِي فِي سَبِيل مُسْتَقِيم ٍبِسَبَبِ أَعْدَائِي. 12لاَ تُسَلِّمْنِي إِلَى مَرَامِ مُضَايِقِيَّ، لأَنَّهُ قَدْ قَامَ عَلَيَّ شُهُودُ زُورٍ وَنَافِثُ ظُلْمٍ. 13لَوْلاَ أَنَّنِي آمَنْتُ بِأَنْ أَرَى جُودَ الرَّبّ ِفِي أَرْضِ الأَحْيَاءِ. 14انْتَظِرِ الرَّبَّ. لِيَتَشَدَّدْ وَلْيَتَشَجَّعْ قَلْبُكَ، وَانْتَظِرِ الرَّبَّ”. فالسياق، كما هو واضح، غير السياق، وأبعاد الدعوة هنا غير الأبعاد هناك. ويكفى أن دعاء داود هو دعاء شخصى يختص بموقف معين بخلاف دعاء المؤمنين فى “الفاتحة”، فهو دعاء مبدئى عام لا يختص بموقف محدد بل ينفتح على كل المواقف والأشخاص. 

وعلى نفس المنوال يتوقف الكاتب عند قوله عز شأنه فى سورة “القَدْر”: “ليلة القدر خير من ألف شهر”، الذى يراه اقتباسا من قول داود فى المزامير: “إِنَّ يَوْمًا فِي دِيَارِكَ خَيْرٌ مِنْ أَلْف”، متجاهلا أن المبالغات العددية موجودة فى كل اللغات. ومن ناحية أخرى فإن المقارنة القرآنية هى بين ليلة القدر وبين ألف شهر، بينما هى فى المزمور بين يوم فى ديار الله، التى لا نعرف ما هى ولا أين تقع، وبين لا شىء، إذ لم يذكر المزمور طرف المقارنة الثانى. كذلك فنحن فى القرآن إزاء مقارنة بين ليلة معينة وبين ألف شهر، بينما نحن فى المزمور أمام مقارنة بين يوم فى مكان معين، وإن كنا نجهله ونجهل المقصود به، وبين ألف يوم. لكن فى أى مكان؟ هنا يتوقف المزمور فلا يتكلم. كذلك لدينا فى النص القرآنى ليلة القدر، وهى شىء لا وجود له فى أى دين آخر غير الإسلام بما فى ذلك الدين الذى جاء به داود عليه السلام. وعلى هذا فلا معنى لما أثاره المؤلف من مشكلة. 

ولكى تتضح الصورة أكثر سوف أورد نَصَّىْ سورة “الفاتحة” والمزمور السابع والعشرين الذى وردت فيه العبارة محل المقارنة بتمامهما حتى يرى القارئ بنفسه بما لا يدع مكانا لأى ارتياب أن كلام المؤلف هو كلام فارغ من المضمون والصدق تماما. قال تعالى: “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ”. وقال داود فى مزموره: “1الرَّبُّ نُورِي وَخَلاَصِي. مِمَّنْ أَخَافُ؟ الرَّبُّ حِصْنُ حَيَاتِي. مِمَّنْ أَرْتَعِبُ؟ 2عِنْدَ مَا اقْتَرَبَ إِلَيَّ الأَشْرَارُ لِيَأْكُلُوا لَحْمِي مُضَايِقِيَّ وَأَعْدَائِي عَثَرُوا وَسَقَطُوا. 3إِنْ نَزَلَ عَلَيَّ جَيْشٌ لاَ يَخَافُ قَلْبِي. إِنْ قَامَتْ عَلَيَّ حَرْبٌ فَفِي ذلِكَ أَنَا مُطْمَئِنٌّ. 4وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ، وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ وَأَتَفَرَّسَ فِي هَيْكَلِهِ. 5لأَنَّهُ يُخَبِّئُنِي فِي مَظَلَّتِهِ فِي يَوْمِ الشَّرِّ. يَسْتُرُنِي بِسِتْرِ خَيْمَتِهِ. عَلَى صَخْرَةٍ يَرْفَعُنِي. 6وَالآنَ يَرْتَفِعُ رَأْسِي عَلَى أَعْدَائِي حَوْلِي، فَأَذْبَحُ فِي خَيْمَتِهِ ذَبَائِحَ الْهُتَافِ. أُغَنِّي وَأُرَنِّمُ لِلرَّبِّ.

7اِسْتَمِعْ يَا رَبُّ. بِصَوْتِي أَدْعُو فَارْحَمْنِي وَاسْتَجِبْ لِي. 8لَكَ قَالَ قَلْبِي: «قلتَ: اطْلُبُوا وَجْهِي». وَجْهَكَ يَا رَبُّ أَطْلُبُ. 9لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي. لاَ تُخَيِّبْ بِسُخْطٍ عَبْدَكَ. قَدْ كُنْتَ عَوْنِي فَلاَ تَرْفُضْنِي وَلاَ تَتْرُكْنِي يَا إِلهَ خَلاَصِي. 10إِنَّ أَبِي وَأُمِّي قَدْ تَرَكَانِي، وَالرَّبُّ يَضُمُّنِي. 11عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ، وَاهْدِنِي فِي سَبِيل مُسْتَقِيم ٍبِسَبَبِ أَعْدَائِي. 12لاَ تُسَلِّمْنِي إِلَى مَرَامِ مُضَايِقِيَّ لأَنَّهُ قَدْ قَامَ عَلَيَّ شُهُودُ زُورٍ وَنَافِثُ ظُلْمٍ. 13لَوْلاَ أَنَّنِي آمَنْتُ بِأَنْ أَرَى جُودَ الرَّبّ ِفِي أَرْضِ الأَحْيَاءِ. 14انْتَظِرِ الرَّبَّ. لِيَتَشَدَّدْ وَلْيَتَشَجَّعْ قَلْبُكَ، وَانْتَظِرِ الرَّبَّ”. وواضح تماما الآن أن النصين مختلفان موضوعا وجوا نفسيا وأسلوبا وأبعادا. 

كذلك يتخذ المؤلف من استعمال القرآن كلمة “زبور” وجمعها: “زُبُر” برهانا على أن محمدا كان يعكف على مزامير داود متعلما ومستفيدا منها وناقلا عنها وحاذيا قريانته حذوها. وفاته أن كلمة “زَبُور” إنما تعنى “الكتاب” أيا كان، وليس كتاب المزامير بالذات، وأن القرآن يستعمل، إلى جانب كلمة “الزبور والزبر” كلمة “الكتاب والكتب”. بل إن كلمة “كتاب” ومشتقاتها لتتردد فيه مئات المرات بينما لم ترد كلمتا “زبور” و”زُبُر” سوى تسع مرات ليس إلا. وعلى أية حال ها هم أولاء الشعراء الجاهليون يستخدمون “الزبور والزُّبُر” والفعل المشتق منهما قبل مجىء محمد بدعوته مما يدل على أن استعمال القرآن لهذه الكلمة لا يعنى انشغال محمد بالعكوف على مزامير داود والنقل عنها كما يزعم الكاتب، بل على استعمال القرآن للغة القوم الذين أرسل إليهم محمد: “وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه ليبيِّن لهم”. 

وهذه شواهد إتيان كلمة “زَبُور وزُبُر” فى الشعر الجاهلى وشعر المُخَضْرَمِين. قال امرؤ القيس: 

أَتَتْ حِجَجٌ بَعْدِي عَلَيها فَأَصْبَحَت كَخَطِّ زَبُورٍ في مصاحِفِ رُهْبانِ

وقال الملك الضليل ايضا:

لِمَنْ طَلَلٌ أَبْصَرْتُهُ فَشَجاني كَخَطِّ زَبُورٍ في عَسِيبِ يَمَانِ؟

وقال عبد الله بن العجلان النهدى:

أَمِ الدار أَمْسَت قَد تَعَفَّت كأَنَّهَا زَبُورُ يَمَانٍ نَقَّشَهُ سُطُورُهَا؟

وقال المرقِّش الأكبر:

قد خُطّ ذلك في الزُّبُو رِ الأوَّلِيَّاتِ القَدَائِمْ

وقال لبيد بن ربيعة العامرى:

وَجَلا السُّيُولُ عَنِ الطُّلولِ كَأَنَّها زُبُرٌ تُجِدُّ مُتُونَها أَقْلامُها

وقال أبو ذُؤَيْب الهُذَلى:

عَرَفْتُ الدِّيارَ كَرَقْمِ الدَّوا ةِ يَزْبِرُها الكاتِبُ الحِمْيَرِيُّ

فالكلمة موجودة فى لغة العرب قبل محمد واتصاله المزعوم بالقِرْيَانَات السُّرْيَانية. ومن ثم فاستعمال القرآن لها أمر طبيعى، إذ هى اللغة التى يستعملها العرب ويفهمها العرب، ومن الطبيعى أن يخاطَب بها العرب، مع العلم بأن كلمة “كتاب” ومشتقاتها قد تكررت فى القرآن الكريم مئات المرات، وبكل مشتقاتها، فى حين لم يستعمل من مادة “ز ب ر” سوى “الزبور” فقط مفردا وجمعا، وفى تسعة مواضع ليس إلا. 

وقد ادعى المؤلف زورا أن محمدا كان هدفه وضع قريانة عربية تجمع نصوصا من الأناجيل كى يستعملها هو ومن؟ (لا أدرى والله) فى الصلاة والعبادة. والمعروف أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يجتمع بأتباعه فى بيت الأرقم عند الصفا والمروة مثلا أو بين شعاب بعض الجبال، فيصلون هناك. فهل سمعه أحد يصلى بشىء من الأناجيل؟ إن حياته صفحة مفتوحة بيضاء ليس فيها أى غبش، وهى متاحة فى القرآن الكريم والأحاديث الشريفة والسِّيَر النبوية وكتب التاريخ، وليس فى شىء منها أى كلام عن الصلاة بنصوص من غير القرآن. لا مانع أن يكفر أحد بالله وبالإسلام، ولكن ليس بهذه الطريقة. 

لقد كان الرسول منذ اللحظة الأولى يعرف أن الأمر هو أمر اتصال بالسماء. ولقد رجَّته التجربة فى بدايتها الأولى رجًّا عنيفًا زلزل كيانه حتى لقد عاد من الغار إثر اللقاء الأول له مع ملاك الوحى ترجف بوادره طالبا من خديجة أن تغطيه وتدفئه، وإن لم يَدَعْه الوحى يهنأ بالتلفف فى الأغطية، فأهاب به أن يقوم ويترك الإخلاد إلى الراحة. ترى هل هذا رد فعل رجل كل همه أن يجمع نصوصا من هنا وها هنا من الأناجيل وغيرها مما عند أهل الكتاب لكى يصلى بها هو ومن يسايره فى خطته؟ 

يقول “صحيح البخارى”: “كانَ أوَّلُ ما بُدِئَ بهِ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم الرؤيا الصادقةُ في النومِ، فكانَ لا يرَى رؤيَا إلا جاءتْ مثلَ فَلَقِ الصُّبحِ، ثم حُبِّبَ إليهِ الخَلاءُ، فكانَ يلْحَقُ بغارِ حِرَاءٍ، فيَتَحَنَّثُ فيهِ (قالَ: والتَّحَنُّثُ) الليالِيَ ذواتِ العددِ قبلَ أن يَرْجِعَ إلى أهلِهِ، ويَتَزَوَّدُ لذَلِكَ، ثمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ، فيَتَزَوَّدُ بمثْلِهَا، حتى فَجِئَهُ الحقُّ وهو في غَارِ حِرَاءٍ، فجاءَهُ المَلَكُ فقالَ: اقرأْ. فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ما أنَا بِقَارِئٍ. قالَ: فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتى بلغَ مني الجَهدَ، ثم أرسلنِي فقالَ: اقرأْ. قلتُ: ما أنَا بقارِئٍ. فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانيةَ حتى بلَغَ مني الجَهدَ، ثم أرسلَني فقالَ: اقرأْ. قلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ. فأخذَنِي فَغَطَّنِي الثَالِثَةَ حتى بلَغَ مني الجَهْدَ، ثمَّ أرسلَنِي فقالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ… الآياتِ إلى قَوْلِهِ: عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم. فرجَعَ بهَا رسولُ اللهِ صلَى اللهُ عليهِ وسلمَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حتى دَخَلَ على خَدِيجَةَ، فقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي. فَزَمَّلوهُ حتَّى ذهَبَ عنهُ الروعُ. قالَ لخَدِيجَةَ: أيْ خَدِيجَةُ، مَا لِي؟ لقدْ خَشِيتُ على نفسِي. فأخبرَهَا الخَبَرَ،. قالتْ خَدِيجَةُ: كلَّا. أَبْشِرْ، فواللهِ لا يُخْزِيكَ اللهُ أبدًا. فواللهِ إنَّكَ لَتَصِلُ الرحِمَ، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ على نَوَائِبِ الحقِّ. فانْطَلَقَتْ بهِ خديجةُ حتَّى أَتَتْ بهِ وَرَقَةَ بنَ نَوْفَلٍ، وهوَ ابنُ عمِّ خديجَةَ أَخِي أبِيهَا، وكانَ امرأً تَنَصَّرَ في الجاهِلَيَّةِ، وكانَ يكْتُبُ الكتابَ العربِيَّ، ويكتُبُ من الإنجيلِ بالعربيةِ ما شاءَ اللهُ أن يكتُبَ، وكانَ شيخًا كبيرًا قد عَمِيَ، فقالتْ خديجةُ: يا ابنَ عَمِّ، اسمَعْ من ابْنِ أخِيكَ. قالَ ورَقَةُ: يا ابنَ أخِي، ماذا تَرَى؟ فأَخْبَرهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم خَبَرَ ما رأَى، فقالَ ورَقَةُ: هذا النَّامُوسُ الذي أُنِزَل على موسَى. لَيْتَنِي فيهَا جَذَعًا، ليتَنِي أكُونُ حيًّا (ذَكَرَ حَرفًا). قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: أوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قالَ وَرَقَةُ: نَعمْ، لم يأتِ رجلٌ بمَا جِئْتَ بهِ إلا أُوِذِيَ. وإنْ يُدْرِكْنِي يَومُكَ حيًّا أنْصُرُكَ نصرًا مُؤَزَّرًا. ثمَّ لم يَنْشَبْ ورقةُ أنْ تُوُفِّيَ. وَفَتَرَ الوحْيُ فَتْرَةً حتى حَزِنَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم”.

ويقول أول نص نزل من القرآن: “اقرأ باسم ربِّك الذى خَلَق * خَلَقَ الإنسانَ من عَلَق * اقرأ وربُّك الأكرم * الذى علَّم بالقلم * عَلَّم الإنسان ما لم يَعْلَم”. فأين الدياتاصرون هنا؟ إن طريق الوحى الذى نزل على محمد لهو طريق جديد يباين الطرق التى كانت موجودة آنذاك تمام المباينة. إنه طريق العلم والفكر والقلم والثقافة والإبداع. إنه طريق الحضارة. ثم يأتى متسافه كذوب فيقترف كذبا جلفا بشعا ويقول إنه عليه السلام إنما كان يريد وضع قريانة عربية! 

على أن أمر محمد لا ينحصر فى النبوة المحلية بل يتعداها إلى النبوة العالمية التى تتغيا هداية البشر جميعا على اختلاف أديانهم وأقطارهم وأزمنتهم. وهذا مثبت فى نصوص الوحى المبكرة والمتأخرة: “وماأرسلناك إلا كافَّةً للناس بشيرا ونذيرا”، “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، “قل: يا أيها الناس، إنى رسول الله إليكم جميعا”، “إن الذين آمنوا، والذين هادوا والصابئين والنصارى: من آمن بالله واليوم الآخر، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون”، “ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين”. كما تكرر فى القرآن القول بأن موسى وعيسى قد بشرا بنبوة محمد ودَعَوَا أتباعهما إلى المسارعة للإيمان به. ومصداقا لهذا دعا محمد اليهود والنصارى فى بلاد العرب إلى اعتناق دينه، كما بعث برسائل إلى ملوك الأرض من حوله يدعوهم إلى الإسلام. فهل هذا صنيع رجل كان منتهى أمله وجُمَّاع همه أن يجمع بعض نصوص الأناجيل كى يصلى بها هو ومن معه؟ ثم لماذا لم يرد عليه هرقل مثلا قائلا له: اربع على ظلعك! أتراك تظن أننا لا نعرف حقيقتك وأنك واحد من أتباع ديننا كل غايتك تصنيف دياتصرون تصلى به وتعبد ربك وتدعوه؟ لكنهم كلهم سكتوا فلم ينبسوا ببنت شفة. فعلام يدل ذلك؟ 

بل لقد كان القرآن يتحدى أعداءه على الدوام مؤكدا لهم فى كل مرة أنهم منهزمون منهزمون مهما أنفقوا من أموال وحشدوا من رجال وحاكُوا المؤامرات وحبكوها. وهذا التحدى قد بدأ مبكرا فى مكة ومحمد ضعيف يتعرض صباح مساء إلى الأذى والأخطار التى تتهدد حياته، ولم ينتظر حتى ينتقل وأتباعه إلى المدينة وتصير له دولة وقوة، وظل القرآن ينتهج ذات النهج إلى آخر عمره عليه السلام: “قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ” (الأنعام/ 135)، “وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ” (هود/ 121- 122)، “قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ” (الزُّمَر/ 39- 40)، “إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ” (الأنفال/ 36)، “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ” (التوبة/ 33)، “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا” (الفتح/ 28)، “وَمَنْ أَظْلَـمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ” (الصفّ/ 7- 9)، “إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا” (النصر/ 1- 3)… فما السر يا ترى؟ السر، ببساطة شديدة، هو أنه كان نبيا مرسلا من عند الله عز وجل، ولم يكن، كما افترى عليه الكاتب، رجلا كل همه أن يؤلف كتابا ليتورجيا. 

كذلك كان له صلى الله عليه وسلم أعداء نصارى ومنافقون ويهود ووثنيون. فكيف سكتوا كلهم فلم يفتح الله عليهم بكلمة تتهمه بأنه ليس سوى رجل نصرانى يريد إنشاء قريانة عربية يصلى ويعبد الله بها هو ومن يرافئه على هذا السخف؟ لقد كان هناك زوج رملة بنت أبى سفيان، الذى هاجر مع من هاجر من مكة إلى الحبشة، وهناك تنصر وأخذ يسخر من رفقائه المسلمين ويعلن أنه كان مغمض العينين ففتَّح، وبَقُوا هم فى عماهم القديم. فلماذا لم يقلها؟ وكان هناك أمية بن أبى الصلت، وكان يبغض محمدا ويريد أن يكون هو النبى المنتظر. فلماذا لم يهتبل الفرصة السانحة ويضرب محمدا ضربة تطيره من مقعد النبوة ويحتل هو مكانه، ولن يكلفه الأمر شيئا سوى أن يعلن ما كان يعرفه من أنه ليس أكثر من نصرانى كل همه تجميع كتاب من بعض نصوص الأناجيل يستعين به فى صلواته وعباداته؟ وكان هناك وفد نجران، الذى أتى إلى المدينة ودعاهم النبى إلى المباهلة فنكصوا على أعقابهم وآثروا دفع الجزية والبقاء على ما هم عليه من النصرانية. ولنلاحظ أنهم من أهل اليمن، الذين قال المؤلف إنهم من اليعاقبة وتأثر بهم محمد فى عقيدته حول السيد المسيح. ترى لماذا لم ينتهزوا فرصتهم العظيمة لكى يقضوا على مزاعم محمد ويخزوه ويكشفوا الغطاء عن حقيقته عوضا عن الهروب من المواجهة والمباهلة وتفضيلهم دفع المال لينجوا من الهوان والفضائح؟ وكان هناك أيضا جَبَلَة بن الأيهم، الذى ارتد فى عهد عمر وهرب تحت جنح الظلام والتحق بالروم وصار من مقربيهم والمبجلين لديهم. فلم يا ترى لم يكشف السر الخطير الذى ظل دفينا حتى هل علينا المستشرق الفرنسى ووصل بلوذعيته إلى ما لم يصل إليه أحد طوال كل هاتيك الأجيال؟ وبالمثل كان هناك يهودٌ كِثَارٌ فى المدينة تقبع فى قلوبهم نحو محمد إِحَنٌ وعداواتٌ وثاراتٌ وأحقادٌ متلتلة، ولم يفلتوا أية وسيلة دون أن يحاربوه بها إرادة القضاء عليه وعلى دينه. فما السبب يا ترى فى أنهم خَرِسُوا كغيرهم فلم يكشفوا الغطاء الذى يتلفف به محمد ويخفى به حقيقته؟ السبب هو أنه لم يكن ثم غطاء ولا كانت ثم عورات يعمل على إخفائها البتة. لقد بلغت بهم الوقاحة وجمود الوجه والكفر أن سافر بعض زعمائهم إلى مكة أثناء اشتعال الصراع بين مكة الوثنية والمدينة الموحدة وقالوا للمشركين إن آلهتهم خير من توحيد محمد. أفلو كان هناك شىء مما يزعمه الكاتب على محمد كذبا أكانت يهود تسكت فلا تطنطن به وتستخدمه خنجرا فى ظهره؟ 

ومما يلجأ إليه الكاتب أيضا لإثارة اللغط والبلبلة حول القرآن زعمه أن كلمة “يُلْحِد” فى قوله تعالى عن الشخص الذى كان المشركون يدَّعون أنه هو الذى علم الرسول فكانت ثمرة تعليمه القرآن: “ولقد نَعْلَم أنهم يقولون إنما يعلِّمه بَشَرٌ. لسان الذى يلحدون إليه أعجمىٌّ، وهذا لسانٌ عربىٌّ مبينٌ” مأخوذة من الكلمة السريانية: “l’ez” بمعنى “تكلم بإبهام”. وهذا عنده دليل على أن مصدر القرآن سريانى. ثم يمضى فى مزاعمه الطائشة قائلا إن القرآن لا ينفى أن يكون معلم محمد أعجميا، إذ كل ما يثبته هو أنه مصوغ صياغة عربية مبينة، لكنه لا ينكر وجود معلم أعجمى لمحمد. وكما يرى القارئ فإن الكاتب يخلط الأمور خلطا شنيعا، إذ أين الدليل على أن كلمة “يلحد” مأخوذة من السريانية؟ لا دليل، بل هو خلل خلقى وعلمى أصاب الكاتب ودفعه إلى هذه الفرية المبينة. كما أن الكلمتين لا تتطابقان صوتيا، وليس هناك دليل على أن العين والزاى فى الكلمة السريانية قد تحولتا إلى حاء ودال فى العربية. وفوق هذا فمعنى الكلمتين مختلف، فالقرآن لا يريد أن يقول إن اتهام المشركين للنبى كان مبهما، بل كان منحرفا عن سواء الحق، إذ يتركون الصواب وينحرفون إلى مثل تلك الاتهامات الكاذبة. وهذا معنى “اللحد والإلحاد” فى اللغة العربية. وحتى لو افترضنا أن “ل ح د” موجودة فى السريانية وأن هذا هو معنى الكلمة فيها فعلا فلم ياترى يجب أن تكون العربية هى الآخذة لا المعطية؟ إن كلتا اللغتين لغة سامية، والعربية لغة قديمة جدا حتى إن بعض علماء اللغة من بين الغربيين أنفسهم يجعلون من لغة الضاد أصل اللغات السامية جميعا. ومن وقاحة الكاتب زعمه أن القرآن لا ينفى وجود معلم لمحمد. ترى كيف ذلك؟ لقد أورد القرآن تهمة المشركين ورد عليها مؤكدا أن من يقول ذلك عن محمد ويكذب بنبوته وبالقرآن هو مفترٍ للكذب وله يوم القيامة عذاب أليم: “وَلَقَدْ نَعْلَـمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ * إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ”. فما معنى ذلك؟ معناه أن ما يقوله المشركون باطل. لكن الكاتب يعمل بخبث على إفساد اللغة والمنطق بضميره المنكوس. 

ولنأخذ بعض النصوص الأخرى التى تتناول نفس الموضوع جريا على ما يقوله الكاتب من أن القرآن ذاتى المرجعية، ومن ثم ينبغى الرجوع إليه عندما نريد أن نفسر منه شيئا، إذ هو يفسر بعضه بعضا. جاء فى سورة “الفرقان”: “تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * … * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا”، وفى سورة “الكهف”: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا”، وفى سورة “طه”: “طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا”، “وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا”، وفى سورة “الأنبياء”: “َقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ”، “وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ”، وفى سورة “الحج”: “وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ”، وفى سورة “القصص”: “وكذلك أنزلنا إليك الكتاب”، “أَوَلَـمْ يَكْفِهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يُتْلَى عليهم؟”، وفى سورة “ص”: “كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ”. وفى سورة “القدر”: “إنا أنزلناه فى ليلة القدر”… إلخ، وهو كثير. 

ليس هذا فحسب، بل لقد أُمِر محمد أن يعلن، ردا على المشركين الذين كانوا يريدون منه تبديل الوحى، أنه لا يستطيع شيئا من هذا لأن الأمر ليس مرده إليه بل إلى الله: “وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ”. ومع هذا يتغشمر الكاتب فيزعم أن القرآن لا ينكر أن يكون هناك معاونون لمحمد يخبرونه بما فى القريانة السريانية. كل ما هنالك أنه حريص على القول بأنه عربى الصياغة واضح المعنى. ما كل هذا التواضع يا كاتبنا؟ 

ثم ها هو ذا القرآن لا ينفى فقط أن يكون هناك معلمون لمحمد (من أهل الكتاب طبعا!)، بل يجعل من نفسه الرقيب والمهيمن على التوراة والإنجيل كما جاء فى سورة “المائدة”: “وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ”. ذلك أن أهل الكتاب، كما نقرأ فى نفس السورة، قد عبثوا بكتابيهما: “وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ”، “يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ”… 

على أن هذه ليست خاتمة المطاف، ففى نصوص الوحى المبكرة كلام عن النبوة والرسالة وصحف الوحى واليوم الآخر والنعيم والعذاب وما إلى ذلك مما ينسف الفكرة التى يلف المؤلف ويدور حولها فى تساخف بغيض كما نرى فى سور “الهُمَزة والتكاثر والقارعة والعاديَات والزلزلة والليل والغاشية والانشقاق والانفطار وعَبَسَ والنبأ والمرْسَلات والإنسان والقيامة والمدَّثِّر والمزَّمِّل والجن والمعارج والحاقّة والقلم والمُلْك… وهَلُمَّ جَرًّا. أى أن كل الطرق التى يحاول المؤلف سلوكها مغلقة تمام الإغلاق فى وجهه لا يستطيع معها شيئا مهما اتخذ من الحيل ووضع من الخطط،إذ هو يقول كلاما متهافتا يدابر المنطق ويناقض وقائع التاريخ الصحيحة. 

وفى نهاية المطاف، وبعد أن اتضح تهافت فكر المؤلف ولامنطقيته وتناقضه وما يعج به من خيالات مريضة، نتساءل: ترى ما الغاية التى يتغياها هذا الشيطان من وراء هذا السخف؟ إنه محاولة البلبلة ونشر الفوضى فى الذهن الإسلامى حتى يخر ساقطا من الإرهاق والشك وعدم الاطمئنان لشىء أو الاستقرار على شىء. إنه الفوضى الخلاقة التى تسعى أمريكا إلى خلقها خلقا فى بلاد المسلمين، لكنها هذه المرة فوضى فكرية لا سياسية. وهذه الفوضى أعتى من الفوضى الأخرى لأنها تأتى إلى أساس كل شىء، ألا وهو العقل، فتنسفه أو على الأقل: ترجّه وتبلبله أملا فى أن ينتهى به الأمر إلى الإرهاق الشديد والسقوط الذريع. وفى المثل الشعبى: “الزَّنّ على الآذان أَمَرّ من السِّحْر”. والواقع أن المؤلف قد أقدم على كتابة بحثه هذا وفى ذهنه تحيير العيون وشَلّ العقول ولخبطة الأذهان، وبخاصة وقد أضاف إلى هذا كله عددا كبيرا من المراجع يختار كلمة من هذا وعبارة طائرة من ذاك متقافزا من مرجع إلى آخر، ومن عصر إلى عصر غيره، سواء كانت هناك صلة بين هذه الأطراف أو لا. فالمراد هو إرعاب القارئ بإيهامه أنه أمام عالم لوذعى فذ، وتدويخ عقله وشله تماما بكثرة الإحالات ومراكمة المصادر والمراجع بحيث يجد نفسه فى حالة انبهار وتسليم وعجز. ولن يعدم المؤلف شياطين مستعدين للمعاونة فى هذا المجال أو حمقى جاهزين لتصديق هذا الجنون. ومرة أخرى على رأى المثل الشعبى: “طلقة الرصاص التى لا تصيب تزعج”. كفانا الله شر الرصاص والإزعاج، ووقانا خبث شياطين الإنس!

ومن الواضح أيضا أن الكاتب يتصرف فى دراسته هذه، إن صحت تسميتها: “دراسة”، تصرُّف من يمارس لعبة الچيج سو (jig saw). إنه طوال الوقت يبذل جهده للبحث عن القطع التى يملأ بها الفراغات المجهزة سلفا حتى ينتهى إلى الشكل المراد تجميعه. فلديه، منذ البداية، الشكل النهائى الذى يجب الخروج به فى نهاية اللعبة مهما أخذت من وقت واستعمل لها من طرق. لقد وضع المؤلف فى ذهنه مسبقا أنه لا بد من الوصول إلى أن محمدا لم يكن نبيا بل كان يجمع النصوص المستعارة من اليهوديّة والنصرانية واليهوديّة- النصرانيّة والمانويّة والغنوصيّة والدياتسارون والأناجيل الأبوكريفا… إلخ لتكوين قريانة عربية كالقِرْيَانَات التى كان يؤلفها السريان. وعلى هذا الأساس ينطلق المؤلف فيلتقط هذا النص من هنا، وذلك النص من هناك واضعا كلا منها فى الفراغ المخصص له بحيث ينتهى إلى الفكرة المذكورة. وما هكذا يكون البحث العلمى. فالبحث العلمى يقوم على الحيادية والمنطق والمقدمات التى تؤدى إلى نتائجها الطبيعية واحترام السياق والنصوص والوثائق لا الاجتراء عليها وإهمالها وضرب الصفح عنها. 

ثم إن هذه الفكرة الملفقة التافهة تفترض أن محمدا كانت تحت يده مكتبة متخصصة فى اللغات الشرقية والنصوص الدينية المختلفة، ولديه هو والفريق الذى يعاونه وقت بلا حساب للنظر فى كتب تلك المكتبة وتفليتها تفلية دقيقة كى يختاروا منها النصوص التى يمكن تأليف قِرْيَانة منها، ثم ترجمة تلك النصوص ترجمة راقية رُقِيًّا غيرَ مسبوق أو ملحوق ثم مراجعتها مراجعة دقيقة لا يخرّ منها الماء، فضلا عن خلوّ البال من مقلقات العيش ومتطلبات الحياة، وهو ما يستلزم وجود مؤسسة تنفق على هذا المشروع وعلى من يقومون به عن سعة. ثم إنهم، بعد ذلك كله، يجتمعون فى السر والظلام بحيث لا يراهم أحد ولا يسمع بهم أحد ولا يعرفهم أو يتنبه لأمرهم أحد، اللهم إلا المؤلف النِّحْرِير بعد كل تلك القرون المتطاولة. 

والحق أن هذا ليس بغريب فى ساحة الصراع الثقافى القائم بيننا وبين الغرب والمستمر منذ قرون. فالغرب فى صراعه مع الإسلام يتنفس طول عمره الكذب تنفسا. وله فى ذلك تقاليع كارثية. فقديما افترى الغربيون الكذب على الإسلام زاعمين أن محمدا قسٌّ رومانيّ محنق لأنه لم ينتخب لكرسي البابوية. وقال بعضهم إنه إله زائف يقرّب له عباده الضحايا البشرية. وادَّعَوْا أنه مات في نوبة سكر بيّن وأن جسده وُجِدَ مُلْقًى على كوم من الرَّوْث وقد أكلت منه الخنازير، وهذا هو السبب الذي من أجله حرّم لحم ذلك الحيوان فى الإسلام. وجعلوا له صنما من ذهب. أمّا أغنية رولان، التي تصوّر فرسان شارلمان وهم يحطّمون الأوثان الإسلامية، فتزعم أن مسلمي الأندلس يعبدون ثالوثا مكوّنا من ترفاجان وماهوم وأبلون. وتزعم “قصة محمد” أن الإسلام يبيح للمرأة تعدّد الأزواج! وهو، كما ترى أيها القارئ، كلام يشبه كلام المجانين. 

أما فى العقود الأخيرة فقد رأينا مثلا كتاب “الهاجرية” للمستشرقين: مايكل كوك وباتريشيا كرون، اللذين يزعمان أنْ “ليس ثمة دليل قوي حول وجود القرآن بأي شكل قبل العقد الأخير من القرن السابع، والتقليد الذي يقدّم هذا النص المنزّل المبهم إلى حد ما في سياقه التاريخي لم يُشْهَد على صحته قبل منتصف القرن الثامن”. وهناك بيير راكان الطبيب النفسانى الفرنسى الملتاث الذى ينادى فى كتابه: “Un Juif nommé Mahomet” ببقر بطن المدينة المنورة كى نثبت لجنابه أن محمدا كان موجودا حقيقة، ولم يكن وهما من الأوهام. ألا يقول المسلمون إنه كانت هناك معركة تسمى: معركة الخندق؟ فلنبقر بطن المدينة إذن حتى نثبت أنه كان هناك فعلا خندق، ومن ثم كان هناك رجل اسمه محمد. وهذا جنون مطبق دون مراء. وهو ما تناولته فى دراسة لى بعنوان “تقاليع مجنونة فى كتابة السيرة النبوية”. 

وقبل هذا وذاك ظهر على الساحة فى بداية الربع الثانى من القرن العشرين بحث لديفيد صمويل مرجليوث يمضىى نفس الاتجاه التشكيكى الشامل، وإن دار تشكيكه حول شعر ما قبل الإسلام. وعنوان البحث: “The Origins of Arabic Poetry”، وفيه ينكر المستشرق البريطانى الشعر الجاهلى كله مدعيا أنه من نتاج العصر العباسى، ولم يكن له وجود البتة قبل ذلك التاريخ. والعجيب أنه رغم كل تلك المؤامرات يتهمنا الغربيون بأننا نعتقد بنظرية المؤامرة دون وجه حق وأن اعتقادنا فيها قد صار إدمانا، وأفسد علينا عقولنا وحياتنا، وجعلنا نتوهم أشياء ما أنزل الله بها من سلطان. أى أنهم يريدون منا إلغاء عقولنا ورجوعنا إلى حالة السذاجة الأولى حين لم تكن التجارب قد صقلت البشرية، فيصير من السهل إذن خداعنا والمكر بنا وقلب الحق باطلا، والباطل حقا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.