www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

شخصية قلّما يجود الزمان بمثلها د. مجيب الرحمن*/محمد المختار الشنقيطي

0

مقتطفة من رسائل مجموعة الدكتور عبد العزيز قاسم البريدية :
طبّقت شهرته الآفاق، في حياته، كما بعد رحيله إلى دنيا الخلود يوم 27 يوليو (تموز) 2015

عن عمر يناهز الـ83 عاماً، إثر نوبة قلبية أسقطته أرضاً، بينما كان يُلقي محاضرة علمية له في ”المعهد الهندي للإدارة “

في مدينة ”شيلونغ “، كبرى مدن ولاية ”ميغالايا “ الهندية. إنه الرئيس الحادي عشر لجمهورية الهند، و ”رجل الصاروخ الهندي “،

أبو الفاخر زين العابدين عبد الكلام.

 

بُعيد رحيله، بدأت تتكشّف تفاصيل أخرى عن حياة أبو الفاخر زين العابدين عبد الكلام، مؤكّدة استثنائيّته في كلّ شيء، وأنه كان أشبه بإنسان ليس من كوكبنا. فقد عاش حياة كلّها تضحية وإخلاص ونزاهة. مات الرئيس السابق لأكبر جمهورية في العالم، ولم يترك وراءه من متاع الدنيا إلّا حقيبة صغيرة تحمل ملابسه، وشقّة متواضعة (تبرّع بها)، وكمبيوتراً محمولاً، وجهاز الموسيقى ”فيينا “، ومكتبة صغيرة.
عاش بعد تقاعده من الرئاسة على جزءٍ من المال الذي كان يُحصّله من بيع مؤلّفاته. أما راتبه الشهري، فقد تبرّع به لتنمية قريته. لم يملك سيارة، ولا جهاز تلفزيون، ولا رصيداً في بنك، ولا أمتعة أخرى تذكر.
تحدّر الرئيس عبد الكلام من أسرة فقيرة لم تتغيّر حالتها الاقتصادية، حتّى بعد تولّيه الرئاسة؛ وما يزال أعضاء أسرته فقراء يعيشون على الكفاف حتّى اللحظة. ولمّا استضاف رئيس جمهورية الهند أعضاء أسرته في قصر الرئاسة، كانت الاستضافة على حسابه الشخصي، ولم يرضَ أبداً أن تتحمّل الحكومة نفقات سفرهم، وإقامتهم في قصره؛ مقدّماً بذلك أروع الأمثلة وأسماها عن كيف تكون المسؤولية السياسية العليا بالنسبة إلى رجال السياسة الكبار.
لُقِّب بـ ”رئيس الشعب “، لأنه كان حقاً رئيس شعبه الذي أحبّه حبّاً جمّاً. فتح أبواب قصر الرئاسة لجميع طبقات الشعب، ولاسيّما للفقراء والمهمّشين. وبذلك فاق أبو فاخر عبد الكلام الرؤساء السابقين في الشعبية، ولكنّه هو الآخر، لم تكن تهمّه شعبيّته، بقدر ما كانت تهمّه عمليات مكافحة الفقر والجهل في الهند، والدفع بمسيرة تقدّم البلاد في مجالات العلم والتكنولوجيا والصناعة.
ولد عبد الكلام في العام 1931 في قرية ”راميشوارام “ في جنوب الهند في كنف أسرة فقيرة. كان أبوه زين العابدين إماماً في مسجد ”راميشوارام “. ربّى ابنه فأحسن تربيته، وأثّر تأثيراً عظيماً في حياته. كان أصغر خمسة أولاد أبويه. ولمّا لم تكن حالة الأسرة الاقتصادية جيدة، فقد اضطر الولد الصغير عبد الكلام إلى بيع الصحف لسدّ ثغرة في جدار الفقر المقيم. على أن واقع الفقر هذا لم يحل دون تحقيقه حلمه. فبعد إكماله المرحلة الثانوية في إحدى مدارس ”راميشوارام “، التحق عبد الكلام بكلّية سانت جوزيف، وحصل على شهادة البكالوريوس في العلوم، والتحق بقسم هندسة الطيران في ”معهد مدراس للتكنولوجيا “، ثمّ انخرط في رحلة علمية حفلت بإنجازات مدهشة، جعلته أحد كبار علماء الهند في القرن العشرين.
عبد الكلام الحالم
تملأ شوارع دلهي لافتات عملاقة تحمل صورة عبد الكلام، وكلمات شهيرة له تقول: ” ليست الأحلام تلك التي نراها في المنام، بل هي تلك التي لا تسمح لنا بأن ننام “. وبالفعل كانت حياته عبارة عن ترجمة لذلك. فقد حلم أوّل الأمر في أن يصبح طيّاراً في القوّات الجوّية الهندية، لكنّه لم ينجح في الامتحان، ثمّ أدرك أن حبّه للطيران قد يتحقّق في مجال البحث في علم الصواريخ، فانخرط في المنظّمات البحثية العلمية ذات العلاقة بالدفاع والطيران، مثل ”منظّمة أبحاث وتطوير الدفاع“، و ”المنظّمة الهندية لأبحاث الفضاء “ منذ العام 1958، وتولّى قيادة الأولى لحقبة طويلة، وقاد مشروعات كثيرة في مضمار تطوير أنظمة الصواريخ وعربات إطلاق الأقمار الاصطناعية. وقد كان حلمه أن يجعل الهند دولة تتمتّع بالاكتفاء الذاتي في تكنولوجيا الصواريخ والأقمار الاصطناعية، فإليه يرجع الفضل في تطوير أول قمر اصطناعي هندي ”روهيني “، وتطوير عربة إطلاق الأقمار الاصطناعية 3، SLV-III، وعربة إطلاق الأقمار الاصطناعية القطبية PSLV، وتطوير أحدث أنظمة الصاروخ الهندي ”بيرتهيوي “، و ”تريشول “، و ”آكاش “، و ”ناغ “، و ”أغني “. وبذلك وضع الهند في مصاف الدول المتقدّمة في مجال الدفاع والأقمار الاصطناعية. وقد أدّى دوراً قيادياً في ميدان إجراء الهند تجربتها النووية الثانية المعروفة بـ ”بوكهران-2 “ في العام 1998، فأصبحت الهند بذلك دولة تمتلك القدرة النووية.
كان عبد الكلام محبّاً عظيماً لوطنه. نذر حياته لخدمة الهند، وتطوير مسارها العلمي والتكنولوجي على نحو غير مسبوق. وإذا ما كانت الهند قد حقّقت مكانة قيادية في العالم على مستوى أبحاث الفضاء (وهو ما يبرهن عليه نجاح الهند في الوصول إلى المريخ بتكلفة زهيدة، أو تعاونها مع منظّمة NASA الأميركية في عدد من المشروعات البحثية في الفضاء الخارجي)، فالفضل في ذلك كلّه يعود إلى هذا العالم الجليل الذي ضحّى بحياته الشخصية من أجل ترجمة حلمه هذا، وحلم بلاده في آن معاً.
رجل العلم وليس رجل السياسة
كان عبد الكلام أولاً، وآخراً، رجل علم، ولم يكن أبداً رجل سياسة. فللسياسة مقتضياتها التي لا تتماشى، في أحايين كثيرة، واهتمامات رجل العلم. لم يكن يرغب أبداً في أن يقتحم ميدان السياسة. لكن الظروف، والشعبية الواسعة التي كان يتمتّع بها، دفعته إلى مضمار السياسة، ولكنّه أضاف إلى مهمّته السياسية بُعداً جديداً: أزال الحواجز، وألغى المسافات التي كانت تحول دون وصول الشعب إلى رئيسه. وسعى من خلال منصبه إلى أن يُلهم الشعب نحو تحقيق ما كان يصبو إليه؛ وهو أن تتحوّل الهند إلى دولة متطوّرة، وبأسرع ما يمكن، لأنها تمتلك كلّ المؤهلات لذلك؛ واستطراداً لانضمامها آلياً إلى نادي الكبار في هذا العالم.
كان يتحدّث إلى شعبه، لا كرئيس دولة، وإنما كمعلّم أصبح رئيساً للدولة، يُلقّنهم دروس الحياة ومسؤولياتها وأعباءها. كان يتعامل مع الموظّفين وعامة الناس كأنه ”قطعة “ منهم. لم يمارس البتّة أسلوب الكبرياء والتغطرس. وكان كريماً وشفوقاً وعطوفاً مع الصغار. وقد شهد له زملاؤه ومرؤوسوه بمعاملته الإنسانية الاستثنائية. قضى خمس سنوات في قصر الرئاسة، خلّف خلالها مثالاً يُحتذى للحياة العامة، في السياسة كما في الاجتماع. تُدووِل كثيراً قوله: ” دخلتُ قصر الرئاسة مع هذه الحقيبة التي تحمل ملابسي، وسأخرج منها مع هذه الحقيبة “. وفعلاً ترك أبو الفاخر عبد الكلام الرئاسة مع الحقيبة التي دخل بها قصر الرئاسة. ولكن حقيبته هذه المرّة، كانت مملوءةً بحبّ شعبه الذي لقّبه بـ ”رئيس الشعب “، وهو ما لم يظفر به أيٌّ من الرؤساء السابقين للهند، على الرغم من شهرتهم وعظمتهم.
سرّ شعبيّته
يحار الإنسان أمام هذه الشعبية الواسعة التي حظي بها الرئيس الهندي عبد الكلام في حياته، كما في مماته، من مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية في الهند، بغضّ النظر عن انتماءاتها الدينية. ولكن المتأمّل في حياته، يدرك سرّ شعبيّته بكلّ سهولة، وهو إخلاصه في حبّه لوطنه، ودوره في تأهيل بلده وتقويته في مجال الدفاع، والأقمار الاصطناعية. ثمّ في قدرته على إلهام فئة الشباب، التي كانت ستضطلع بدورٍ محوريّ في تحوّل الهند إلى قوّة عظمى بحسب مشروعه.
والمتأمّل في كتاباته، يلحظ التفاؤل القوي، والنهج الإيجابي والبنّاء في منحاه الفكري، على الرغم من شيوع الفساد في الحياة السياسية العامة. أضف إلى ذلك، بساطته في العيش، واحترامه العظيم للثقافة المشتركة بين الديانات التي تتميّز بها الهند.
تلك هي القوّة الأخلاقية التي تحلّى بها رئيس الهند الراحل، في حياته الفكرية والعملية. وهي التي جعلته مثالاً يُحتذى به لدى شرائح وفئات الهند كافة. ولقد كان للانسجام الطائفي بين المسلمين والهندوس والمسيحيين، السائد في قريته، دوره الكبير في تشكيل شخصيّته المتمثّلة في احترامه لأفضل التقاليد الروحية والثقافية الرامزة إلى الوحدة في التعدّدية الهندية، وذلك انطلاقاً من إيمانه بأن احترام الديانات والثقافات عنصرٌ مهمّ في الإسلام. نُقل عنه قوله ”بالنسبة إلى العظماء، الدين وسيلة لتكوين الصداقات. أما صغار الناس، فيجعلون الدين وسيلة للقتال “.
خلّف عبد الكلام عدداً من المؤلّفات الملهمة، والتي تُباع نسخها بالملايين. والجدير ذكره هنا، أن مؤلّفاته المُترجَمة إلى اللغة الكورية مقبولة جداً في كوريا، ومن أبرزها: ”أجنحة من النار “ (سيرة ذاتية مُتَرجَمة أيضاً إلى العربية) و ”العقول الملهَمة “ و ” الهند بحلول العام 2020 “ الذي وضع فيه مخطّطه لتقدّم الهند العلمي والتكنولوجي، وتحوّلها إلى قوّة عظمى في المعرفة، ودولة متقدّمة بحلول العام 2020، و ”هدف ثلاثة مليارات “. وقد بلغ عدد المؤلّفات التي وضعها، بالاشتراك مع مؤلّفين آخرين، 17 مؤلفاً، حظيت كلّها بشعبية واسعة.
نال أعلى الجوائز والأوسمة المدنيّة الهندية مثل ”بادام شري “، و ”بادام بهوشان “ ، و ”بهارت راتنا “. كما حصل على درجة الدكتوراه الفخرية، وشهادة تقدير، من أكثر من 22 جامعة ومؤسّسة هندية وأجنبية.
مقطع القول: شخصيات من وزن الرئيس أبو الفاخر زين العابدين عبد الكلام وطرازه ، هي مفخرة للبشرية جمعاء، وليس للهند وشعبها فقط.
*رئيس مركز الدراسات العربية في جامعة
جواهر لال نهرو – نيودلهي – الهند

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.