www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

المشهد المصري لعبةُ ”لوغو” إقليمية يخوضها سفهاءٌ يدمرون الأمةً (!!)/اسامة عكنان

0

هذه الدراسة هي خلاصة محاورات ولقاءات ومطالعات ومتابعات مُكثَّفة ومُعَمَّقة

 

مع نخبةٍ من المثقفين المصريين، وعصارةُ تحليلاتٍ

 

قامت على تلك المحاورات، ونتجت عن قراءةٍ محايدة وموضوعية ومُطِلَّة على تفاصيل المشهد المصري من داخله، وفي ضوء أخذ كلِّ تفاصيلة في الاعتبار، كلُّ تفصيلٍ بحسب موقعه وتأثيره في المشهد، وليس إطلالا عليه من حوافه ومن على هوامشه، ولا غرقا في الفتات الذي يلقيه “صُناعُ الحدث” إلى السُّذَّج الذين يعتقدون أنهم يسهمون في صناعته والتأثير فيه من حيث هم وقوده وأدواته ليس إلا (!!)

مدخل ضروري لتشخيص المشهد المصري في ارتباطاته الإقليمية
إن المرحلة القادمة في مصر – ونقصد بها السنوات الخمس القادمة – ستشهد ضخا استثماريا عالميا تتجاوز قيمته الـ “200” مليار دولار كمرحلة استثمارية أولى، وذلك إسهاما في تغيير خريطة المنطقة اقتصاديا عبر مصر، وهو الأمر الذي عقدت لأجله مؤتمرات مانحة وداعمة ومشجعة، وبدأت تعد لأجل متابعته وتنفيذه لجان متخصصة.. إلخ. وسوف تتركز الاستثمارات في إقليم سيناء وقناة السويس، في قطاعات السياحة والزراعة والصناعة.
يدرك نخبويو السياسة في مصر هذه الحقيقة ويتابعونها، بل هم قد أدركوها منذ وقت مبكر عقب تنحي الرئيس مبارك، فيما راحت تتضح معالمها أكثر فأكثر بعد أن حددت الولايات الأميركية إستراتيجيتها في المنطقة في ضوء التحولات الكبرى الراهنة في الوطن العربي، متمثلة في المتغيرات التي تحدث في سوريا والعراق واليمن والأردن، معلنة عن أنها ستكون إستراتيجية تقوم على تغيير ملامح الإقليم اقتصاديا، في ظل حالة استقرار سياسي طويلة المدى تجسِّدها العناصر التالية:
* نزوع اقتصادي مصري إلى المركزية والهيمنة في الإقليم، تُبقي على حالة السلام المصرية الإسرائيلية غير مهددة لمدة طويلة جدا..
* إقحام سوريا في عملية إعادة بناء قد تمتد لربع قرن من الزمان بعد استكمال عملية تدميرها وتقسيمها على مدى الأشهر القادمة من خلال عمليىة الأفغنة التي لاحت في الأفق، ليكون محتما عليها خلالها تأجيل أيَّ تطلعات سياسية باتجاه أي نوع من المواجهة مع إسرائيل، بصرف النظر عمن سيحكمها بعد انتهاء الأزمة الراهنة فيها..
* حصر إيران في دائرة الحصول على بعض مظاهر النفوذ الإقليمي التي لا تمس مساسا جوهريا بتركيبة الإقليم الإستراتيجية، على حساب تنازلات نوعية في ملفها النووي، ومكاسب معتبرة في العراق بالدرجة الأولى، وفي اليمن بدرجة أقل، خاصة وأن تغيير الأوضاع في سوريا بالشكل المشار إليه سوف يقلص من مدى الطموح الإيراني بعد أن يكون قد غيَّب حزب الله عن دائرة التأثير الفاعل كذراع متقدمة لإيران في المنطقة..
* فيما تكون إسرائيل قد ضمنت إعادة إدخال القضية الفلسطينية في نفق أوسلوي جديد يمتد لعقدين من الزمان أو أكثر، وذلك عبر شقين، اول “ضفاوي” بسيناريو ما مع الأردن، والثاني “غزاوي” بسيناريو مقابل مع مصر، وربما يكون كل ذلك من خلال سيناريو احتلال بعض الأراضي الأردنية الحساسة مثل مرتفعات “أم قيس”..
* بينما تكون تركيا قد وجدت لنفسها موطئ قدم فعال اقتصاديا وثقافيا في الإقليم، بعد تلجيم النفوذ الإيراني وقصقصة أجنحة الدولة السورية، وإدخال مصر في سرداب الرفاهية الاقتصادية والنفوذ الإقليمي، وخنق القضية الفلسطينية، التي لن يضير إسرائيل ولا الولايات المتحدة عندئذٍ أن تبقى تركيا مستفيدة من بعض مواقفها الأخلاقية التي اكتسبتها فيما مضى تجاهها وملتزمة بها من باب عدم التناقض السياسي..
إن هذا الضخ الاستثماري الضخم المسنود بهذه الإستراتيجية التي تتشكّل مكوناتها وعناصرها تدريجيا في كل من مصر وسوريا والأرض المحتلة والعراق والخليج العربي، سوف يجعل من الفئة السياسية المشرفة عليه والقائمة على جلبه إلى مصر، فئة ستتمكن من حكم مصر ما لا يقل عن خمسين سنة قادمة، دون بذل أيِّ جهد ثقافي جماهيري يؤثر على بنيتها الثقافية هي، فضلا عن أنه سيتيح لها فرصة إنتاج الدولة في شتى المجالات على نحوٍ يجذِّر سيطرتها على كل مرافق الدولة ومنافذ الثقافة والتواصل الشعبي والجماهيري وعلى مُكَوِّنات الاقتصاد على مدى عقود قادمة من الزمن..
وفي ظل مستقبلٍ هذه إرهاصاته، يغدو من الطبيعي أن يسيلَ لعابُ كل السياسيين ومن جميع الأطياف على عمل المستحيل كي لا تفلت منهم فرصة الوجود على سدة الهيمنة والنفوذ للانتفاع من المردود السياسي والثقافي والشعبي لهذا الضخ الاستثماري غير المسبوق..
وفي هذا السياق فإننا نستطيع أن نقرأ عنصرا هاما آخر في مُكونات التنافس المحتدم على إدارة الدولة المصرية واقتصاداتها الضخمة المنبئة عن عملاق اقتصادي قادم، ألا وهو عنصر التنافس بين ليبراليتين تتصارعان على السيطرة على الاقتصاد المصري وتوجيهه، ألا وهما الليبرالية الرأسمالية الإسلامية التي يتزعمها الإخوان المسلمون والسلفيون من جهة، والليبرالية الرأسمالية العلمانية التي تتزعمها تيارات الليبرالية الاقتصادية القائمة على اقتصاد السوق بمفاهيمه الغربية الصرف من جهة أخرى.
أي أن هناك تنافسا محتدما على السيطرة والتحكم، بين الرساميل التي يملكها ويديرها ويخدمها أصحاب التوجهات الدينية الإسلامية، والرساميل التي يملكها ويديرها ويخدمها أصحاب التوجهات العلمانية، مع العلم بأن هذا التقسيم ينطوي على بعض التداخلات، بحيث من السهل أن نرى أن الرساميل التي يملكها ويديرها ويخدمها “أهل التصوف” في مصر تعتبر جزءا من معسكر “الليبرالية العلمانية” لأسباب تاريخية جعلت من هذا التيار الديني حليفا للنظام السابق، في الوقت الذي تميل بعض الرساميل التي يملكها “بعض الأقباط” إلى أن تكون جزءا من خندق “الليبرالية الدينية الإسلامية”. وهو الأمر الذي يكشف عن واقعة أن الصراع في جوهره هو صراع على الهيمنة الاقتصادية التي هي أساس الهيمنة السياسية، خاصة وأن مصر ستنتقل خلال العشرية القادمة إن استقرت أوضاعها، إلى الدولة الاقتصادية المركزية في الشرق الأوسط وغرب آسيا وإفريقيا، ممثلة في المنطقة ما تمثله “كوريا الجنوبية” و”ماليزيا” و”تايوان” و”أندونيسيا” مجتمعة. وهو الوعد الذي حصلت عليه الدولة المصرية من الغرب عموما ومن الولايات المتحدة خصوصا، عبر القوات المسلحة، والإخوان المسلمين، وكافة قيادات المعارضة السياسية خلال الفترة الانتقالية وتجاذباتها التي سبقت الانتخابات الرئاسية التي أوصلت محمد مرسي إلى سدة الرئاسة، إذا تمَّ ضمان الهدوء التام لعقود قادمة على الجبهة الشرقية.
الكل في مصر “إخوانا” و”معارضين”، مسلمين” و”أقباطا”، يعلمون أن طبيعة الدولة المدنية التي تضمن التشاركية والتعددية مكفولة ومضمونة ولا خوف عليها بضمانات أميركية، وإخوانية، خاصة بعد أن أبدى الرئيس مرسي في خطابه الأخير قبل الانقلاب عليه استعداده الكامل لتبني مقترحات المعارضة فيما يتعلق بأي تعديلات دستورية تطرحها معتبرا أنه لن يستدرك عليها وأنه سوف يقدمها باعتبارها مقترحات مؤسسة الرئاسة نفسها.
وبالتالي فالمبالغة في التباكي على مدنية الدولة التي اختبأ وما يزال يختبئ وراءها كل المعارضين لمرسي وللإخوان بهذا القدر من اللامهادنة، هي مبالغة لا تريد أن تكشف حقيقة المكون الاقتصادي العميق الذي ذكرناه للصراع.
هذه هي الأسباب العميقة التي تقف وراء السعي المحموم والمسعور باتجاه السيطرة على الدولة ومؤسساتها ومنافذ القرار فيها تحت أيِّ عنوان، ومهما كلف الأمر من خسائر ومن تناقضات، قبل أن تهل بركات هذا الضخ الاستثماري المربك والمسيل للعاب الجميع، وقبل أن تبدأ مصر بأخذ مكانتها الاقتصادية المركزية في الإقليم، وقبل أن يتحدد مصير الملف السوري والملف الإيراني والملف الفلسطيني.. إلخ.
وإننا سننطلق من هذه المقاربة الاقتصادية الإقليمية ذات الدلالة لتحليل مختلف مكونات المشهد المصري خلال سيرورته على مدى السنوات الأربع الأخيرة.

النقاط الرئيسة التي تقوم عليها المقاربة المتعلقة بسيرورة الأحداث في مصر
إن المقاربة التي يدور حولها موضوع هذه الدراسة تقوم على 6 نقاطٍ رئيسة تستند إلى وقائع يعرفها المطلون على كواليس الحدث، وتسنِدُ صحتَها سيرورةُ الأحداث على الأرض، وهي:
1 – إن الجيش هو الذي أسهم في سرعة وفي طريقة إسقاط الرئيس “مبارك” على نحوٍ منحه قيادة مصر في مرحلةٍ انتقاليةٍ برضا معظم المصريين بعد أن دفعهم لذلك وجهزهم له، لأنه كان ضد “مبدأ التوريث” الذي كان قد أصبح ديدنَ “مؤسسة الرئاسة” و”مؤسسة الحكومة” و”مؤسسة الحزب الوطني”، فوجد في أحداث الخامس والعشرين من يناير الشعبية وفيما ما تلاها، فرصة لأن يُغير واقع البلاد بشكلٍ لا يظهره انقلابيا من جهة، ومن خلال سيرورةٍ للأحداث لا تمس بُنية الدولة الأساس ومُكوناتها العميقة من جهة أخرى، وهو ما لم يكن لا قادرا ولا مستعدا ولا مؤهلا للقيام به قبل “انتفاضة 25 يناير”، التي جسَّدت خلاصةً لفعلٍ شعبي على الأرض، انتهى بأن طلب منه “صانعو الفعل” أنفسهم التدخلَ لحسم الوضع، فظهر بمظهر المنقذ للشعب وللدولة في الوقت المناسب بالشروط وضمن الظروف ووفق المعطيات التي حددها هو نفسه، أي الجيش.
2 – إن الجيش ومن خلال متابعته لأحداث الانتفاضة المصرية منذ 25 يناير وحتى يوم تنحي الرئيس مبارك، وهي الأحداث التي كشفت عن حالة التقاء شكلي غير مؤدلج ولا مؤصَّل ولا متماسك – بسبب حالة الحماس والتوحد الجمعيين التي أصابت المصريين – بين تيارين بدا له أن من السهل إعادة تشكيلهما ليصبحا تيارين متعاديين بشكل تراجيدي، على خلاف ما ظهر منهما خلال الأيام الـ 18 للانتفاضة، هما “الحركة الشبابية المدنية” و”جماعة الإخوان المسلمين”.. نقول.. إن الجيش إذ لاحظ ذلك، فقد قرر أن يحرق هذين التيارين الواسعين الجارفين اللذين هيمنا على الفعل التحريكي والتغييري على الأرض، دون أن يتدخل في تفاصيل عملية الحرق، ليبقى على الدوام ذلك الصمام الذي يلجأ إليه المصريون في ذُرى الأزمات حتى وهم يحرقون بعضهم البعض في ميادين الإعلام والسياسة، بل وحتى في ميادين العنف، تاركا المعركة تدور بينهما – أي بين ذينك التيارين – حول السلطة التي أدرك قادة الجيش بحنكتهم أنها ستكون معركة شرسة بين تيارين لا يمكنهما أن يلتقيا، ولابد من أن يُسْتَدْرَجا ليدمرَ أحدُهما الآخر تمهيدا لأن يَهلكا سويا. ففعل ما بوسعه لتحقيق ذلك في هذه المواجهة الدامية بينهما، دون أن يحمِّلَه الشعب المصري وزرَ ومسؤولية أيَّ أمر يقوم به، مادام سيقوم به بناء على طلب الشعب بسبب تلك المعركة وأفرانها الحارقة.
3 – إن الجيش وقف وما يزال يقف وراء كافة الأحداث الخفية التي تدور في بُنية الدولة العميقة، وعلى رأسها تمثيلا لا حصرا أزمة الوقود التي لا أحد سواه يستطيع إدارتَها بذلك القدر من الكفاءة، لأن معظم شركات إنتاج وتكرير وتوزيع البترول ومشتقاته، هي أصلا تحت هيمنة وإشراف وإدارة الجيش بشكل مباشر، كما هو حال العديد من المؤسسات الاقتصادية الإستراتيجية في مصر.
4 – إن حركة “تمرد” التي بدا أنها تقود الفعل الشبابي في حدث “30 حزيران الأخير” 2013، هي صنيعة المخابرات العسكرية المصرية التي كلِّفت بإحداث اختراقات نوعية وعميقة في قلب القوى الشبابية والثورية عبر أداة شبابية جديدة تكتسب زخما جديدا. فكانت هذه الحركة التي مثلت القوى الشبابية التي أريد لدورها ولتحشيدها ولقيادتها ولمهماتها ولأدواتها أن تكون تحت الإشراف المباشر من القوات المسلحة التي وعدت الشباب ومن خلفهم “جبهة الانقاذ” الهرمة المترهلة الرموز والأفكار والمشاريع، بالإسراع في إسقاط مرسي وجماعته، إذا تمكنوا من حشد ما يلزم في الشوارع والميادين والتحرك بشكل مناسب يجعل تحرك الجيش لصالحهم تحركا مشروعا لا إنقلابيا. وأوفى الجيش بوعده، ولم يكِّلف الحركة الجديدة أكثر من ثلاثة أيام من التظاهر والتجمهر أعقبها بالتنفيذ الفوري للحلقة الثالثة من حلقات خطته. إن هذه العلاقة الاستخبارية المريبة بين “تمرد” والجيش راحت تتكشف يوما بعد يوم منذ ما بعد حدث الثلاثين من حزيران 2013، إلى أن غدت واضحة لا ينكرها لا هذا الطرف ولا ذاك في الآونة الأخيرة.
5- إن المعارضة التقليدية الهرمة فكريا وسياسيا وتنظيميا، والتي يقف على رأس عجائزها المهترئين أشخاص مثل “البرادعي” و”عمرو موسى” و”حمدين الصباحي” و”رئيس حزب الوفد” وغيرهم، لا تملك من أمرها شيئا، وهي مجرد بالونات اختبار لتوجيه حركة المنطاد العسكري. ومعظم هؤلاء قد تمَّ حرقهم سياسيا ولن يكون لهم أيُّ وجود في المرحلة القادمة أيا كان شكل الدولة، بل هم لن تقوم لهم قائمة سياسية بعد اليوم، وبالأخص الثلاثي الذي ظن في لحظة فارقة من زمن مصر أن المستقبل له وحده وهو “برادعي، موسى، صباحي”. وهم قد دخلوا بسرعة البرق إلى قلب المحرقة.
6 – إن “موجة” الثلاثين من حزيران منذ بُدِئَ الإعداد لها بأداتي “تمرد” الشبابية الثورية، و”جبهة الإنقاذ” السياسية الهرمة، وإلى أن تمكنت من حشد ما ساعد الجيش على التحرك للإطاحة بالرئيس مرسي وبجماعة الإخوان المسلمين، بل وحتى الآن وإلى أن تنزوي عن المشهد السياسي الريادي الذي سيطرت عليها نشوة أوهام إنجازه، هي صنيعة عسكرية بالكامل – نقصد موجة الثلاثين من حزيران – يتلقى قادتها توجيهاتِهم من المجلس العسكري، ولا يخرجون عن خطته، وهم غرقوا فيما مضى في وهم أن الجيش سوف يسلمهم الدولة المدنية على طبق من ذهب بعد أن يكون قد حررها من الإسلاميين ومن إرهاصات الدولة الدينية، دون أن يعوا طبيعة الجيش المصري الذي لا يمكنه أن يتعايش مع فكرة “الدولة المدنية” بالقدر نفسه الذي لا يمكنه أن يتعايش مع فكرة “الدولة الدينية”، لأنه في نهاية المطاف لا يقبل بأن يتمَّ المساس بسلطاته شبه المطلقة على السياسة وعلى الاقتصاد وعلى كل مراكز السيطرة والتوجيه في الدولة.
إن محطة الثلاثين من حزيران محطة مهمة من محطات خطة الجيش للقضاء على انتفاضة الشعب المصري، عبر الانتهاء من مسيرة قصقصة أجنحتها التي بدأت منذ نزلت القوات المسلحة إلى الشوارع في الثامن والعشرين من يناير 2011. ولقد كان الجيش بحاجة إلى محطة من هذا النوع وبهذا الزخم كي يعطي لخطوته اللاحقة وللمرحلة الأخيرة من خطته شرعيتَها التي تبعدُ فعلَه عن توصيفات الانقلابات العسكرية سيئة السمعة. ولعل ما يفسر لنا هذا التكتيك الذكي لدى المجلس العسكري، تلك الحالة من الهستيريا التي أصابت الجيش وكل الأدوات الإعلامية التي حركها وجندها أبواقا تنعق بما لا تعلم وغالبا بما لا تفهم، عقبَ تَرَدُّدِ الكثير من الدول الأجنبية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في حسم مسألة حدث الثلاثين من حزيران، من حيث كونه ثورة وليس انقلابا عسكريا. فحسم هذه النقطة في الذهن المصري عبر حسمها في الذهن العالمي كان يحظى لدى القيادات العسكرية بالأولوية على كلِّ المسائل الأخرى التي ترتبت على الحدث.

خطة المجلس العسكري في إجهاض حدث 25 يناير كي لا يصبح ثورة وكي لا ينتج دولة تنازع الجيش في مكتسباته
لقد تم اتخاذ القرار في كواليس الجيش المصري بتنفيذ هذه الخطة على 4 مراحل..
* الأولى “عسكرية انتقالية”، بإدارةٍ يتم خلالها تمهيد الواقع على الأرض ليؤسِّسَ لنجاح المراحل الثلاث التالية، وتبدأ هذه المرحلة برحيل مبارك في اللحظة التي يصبح فيها المنتفضون جاهزين لتسليم الجيش مقاليد الأمور بشرعية ثورية، ليكملَ بالنيابة عنهم مشوار الثورة الناقص جدا. وعلى مدى هذه المرحلة يتم اللعب بكل ما يتاح أمام الجيش من أوراق لتوجيه دفة السفينة نحو المرحلة الثانية بتؤدة وروية.
* الثانية “إخوانية انتقالية”، تبدأ بالزج بالإخوان المسلمين إلى محرقتهم الحقيقية عبر استدراجهم إلى السلطة، كي يتم كشفهم، وكي تتم تعريتهم وإظهار خوائهم وفوضويتهم وفشلهم وعجزهم وشموليتهم وانعدام أسس التعايش مع الدولة المدنية الحقيقية لديهم، فضلا عن كشف أنهم غير أمناء لا على مستقبل مصر، ولا على مستقبل العرب الذين تحتل بينهم مصر موقع الصدارة الأبوية، ولا على مستقبل الإسلام الذي يتحدثون باسمه، أمام الشعب المصري الذي كان متعاطفا معهم بحكم التدين الطبيعي لديه من جهة أولى، وبحكم أنهم امتلكوا على مدى عقود طويلة بريق المعارضة الملاحقَة والمضطهدة من جهة ثانية.
وفي هذه المرحلة أيضا سيقوم الجيش وعبر كافة أدوات الدولة العميقة بتوجيه دفة السفينة إلى حيث تصبح الساحة جاهزة لاحتضان المرحلة الثالثة، بعد أن يكون قد أسَّسَ لها بإعادة تأهيل الشباب الثائرين المُستثنَيين والمُحيَّدين من قبل جماعة الإخوان المسلمين على مدى سنة حكمهم الأولى. كما يكون الجيش قد تسبب بكل الاختراقات السياسية والإدارية والقانونية والاقتصادية التي سيتم إحداثُها بشكل متتابع وتواتري يقطع الأنفاس من قبلِ معارضةٍ تترسَّخ وإعلامٍ يساندها مساندة مطلقة، في بذر بذور، ومن ثم في تخليق مكونات، الفجوة السحيقة بين الإخوان المسلمين وبين الشعب عامة من جهة، وبينهم وبين الشباب وجبهة الإنقاذ خاصة من جهة أخرى، لتكون الساحة جاهزة ضمن سيناريو عاطفي مُحدَّد لاحتضان حدثٍ تغييري ملائم لطيِّ صفحة المرحلة الثانية التي ستكون نتيجتها حرق “جماعة الإخوان” سياسيا بشكل تراجيدي، وفتح صفحة المرحلة الثالثة التي ستقوم شرعية النظام الجديد خلالها على مشروع فضفاض ومريب ومرعب هو مواجهة الإرهاب الذي يتزعمه الإخوان المسلمون. والنظام الجديد إذ فكر بأن تكون شرعيته خلال هذه المرحلة قائمة على هذه المواجهة المخطط لها بينه وبين الإرهاب، فلأنه لا يملك ولا يفكر في أن يملك مشروعا اقتصاديا يحل مشكلات البلاد، ولا مشروعا تطهيريا ينقذها من الفساد.
* الثالثة “مدنية انتقالية معشَّقة بالنكهة العسكرية”، تبدأ بالإطاحة بالإخوان لصالح “القوى المدنية” بشقيها “الشباب الثائر ممثلا بتمرد”، و”جبهة الإنقاذ” التي تصدى لتمثيلها “محمد البرادعي” قبل أن ينسحب من المشهد ويعتزل الحياة السياسية عقب أحداث ميدان رابعة العدوية، بعد أن تمَّ تأهيل تلك المعارضة على مدى سنة كاملة لتتمكن من الإطاحة بالإخوان بدعمٍ عسكري، عرف المجلس العسكري كيف يُجَنِّبُ نفسَه من خلاله كلُّ التوصيفات القاطعة للانقلابات العسكرية الفَجَّة، عندما ظهر متدخلا باسم شرعيةِ شارعٍ أفقدت شرعيةَ الصندوق قيمتَها. وهكذا تصبح المعارضة ممثلة في مختلف القوى المدنية في هذه المرحلة هي الجهة التي تُعِدُّ نفسَها لاستلام السلطة بعد مرحلة انتقالية سريعة تُطَبَّق بشكل دستوري مسلوق سلقا لكنه مقبول ومستساغ، وسيجد الكثير من الأبواق الإعلامية والسياسية والعسكرية المتقاعدة والثقافية التي تروج له وتدافع عنه.
* الرابعة “عسكرية دائمة تتدرج في شكل تجسيد ديمومتها من منتهى القمع إلى استعادة الوضع الذي كان سائدا قبل 25 يناير لجهة وضع وموقع ومكتسبات الجيش”، وتبدأ المرحلة الرابعة بالإطاحة بالسلطة المؤقتة التي انبثقت لتكون وقودا في محرقة “المرحلة الثالثة”، إذا كانت تفاصيل الخطة قد مرت على الأرض كما هي مرسومة في أدراج المجلس العسكري، ليستلم الجيش زمام الأمور في البلاد بالكامل، ولتتحول مصر إلى دولة تحت حكم عسكري شرس، يعيد إنتاج الدولة على نحوٍ قادر على أن يحتضن في وقتٍ لاحق شكلا مدنيا أليفا وناعما من النوع الذي لا يجد تعارضا جوهريا في تعايشِ المدنية مع النكهة العسكرية اللاذعة، ومع رائحة القوات المسلحة الحادة، وهذا ما تفرضه حقيقة أن الجيش المصري لا يقبل بأيِّ شكل من أشكال “مدنية الدولة” إذا كان هذا الشكل سيتدخل في صلاحياته وسيطرته على مرافقها، وفي توجيهه لسياساتها الإستراتيجية العميقة التي كانت تحت إمرته منذ عام 1952. أما إذا كانت الأمور قد سارت على غير ما خططت له القوات المسلحة – وهو الأمر الممكن والمستبعد في الوقت نفسه – فإن السيناريوهات المتوقعة تبقى مرهونةً بشكل وبطبيعة الخروج الذي تم عن سكة خطة المجلس العسكري. وهذا يتطلب منا أن نلقي إطلالة على محتوى خطة الجيش للمرحلة الثالثة وما سيتبعها، كي نستطيع كي نفهم ما يحدث حاليا وما سيحدث لاحقا في ضوء المتغيرات الإقليمية التي فرضت على المجلس العسكري أنفاقا لمشروعه لم تكن في الحسبان.
إن الجيش الذي بدأ بالتحرك منذ أن أحسَّ بخطورة التوريث عليه، ومنذ أن وضع نفسه في خندق التعارض الشديد مع سياسة نظامٍ – يُفترض ألا دخل له فيها إذا لم يأتِ رفضُها من قِبَل البُنى والمؤسسات غير العسكرية للدولة – هو جزء لا يتجزأ منه من حيث المبدأ، راح يستشعر بوادر أزمةٍ جعلته يقف عاجزا عن فرض ما يريده على القيادة السياسية، عندما التقت “الرئاسة” مع “الحكومة” مع “الحزب الحاكم” مع “رجال المال والأعمال”، وهي كلُّ القوى الحاكمة من غير العسكر في البلاد – إذا استثنينا الرئيس الذي سيكون في حال نجاح سياسة التوريث آخر العسكر السياسيين في مصر – في خندق واحد يؤسِّس للتوريث اللاعسكري دون اكتراثٍ برغبات العسكر، الذين لم يكونوا يرغبون في أن تنتقل السلطة السياسية لنظامٍ لا توَلِّدُه وتسيطر عليه وتوجهه المؤسسة العسكرية بالكامل، وهو ما كان سيحدثُ فيما لو نجحت سياسة التوريث. وهو الأمر الذي كان ينذرُ بتحويل الجيش بالفعل ومع مرور الوقت إلى مؤسسة مستقلة ومحايدة سياسيا واقتصاديا وبالمواصفات التي يُغْدِقُها عليها المصريون لجهة ابتعادها عن السياسة وتفرُّغِها لحماية حدود الدولة وحماية أمنها القومي فقط، في حين أنها أبعد ما تكون عن تلك المواصفات، بسبب ولوغها الكامل والعميق إلى حدِّ السيطرة والتوجيه والهيمنة في الشأنين السياسي والاقتصادي للبلاد.
إن هذا الواقع الجديد الذي راحت تؤسّس له القيادة السياسية لنظام الرئيس مبارك متناقضةً من خلاله مع فلسفة الجيش المصري، وهي الفلسفة التي تجعله لا ينسجم ولا يستطيع التعايش مع بُنية دولة مدنية مرتقبة كانت تتكون في الأفق، ومن شأنها أن تُحَجِّمَ من مَديات الهيمنة والتوجيه والسيطرة التي تتمتع بها القوات المسلحة المصرية على الدولة ومرافقها ومؤسساتها واقتصادها بالدرجة الأولى.. نقول.. إن هذا الواقع الجديد جعل القوات المسلحة تسارع في النزول إلى الشوارع والميادين لحماية المتظاهرين والمعتصمين المطالبين برحيل النظام، كي لا يستخدم معهم النظام وقواه الأمنية وبلطجيته وجهاز أمن دولته.. إلخ، القمع الذي قد يُفشلُ المشروعَ الذي بدأ يتشكَّل في ميدان التحرير، والذي رأى فيه قادة الجيش بادرةَ الأملَ في القضاء على سياسة نظام مبارك عبر رحيل الرئيس، والإبقاء على ما من شأنه أن يكون سهل الانقياد للجيش، من بُنى الدولة العميقة وغير العميقة، كي يُعاد إنتاج الدولة على النحو الذي يستجيب لبعض المطالب التي صدح بها الثوار، مع الإبقاء على الهيمنة والسيطرة والتوجيه للجيش ضمن حالة تماسٍ عن بعد مع بُنْيَةٍ مدنية أليفة وناعمة يمكنها أن تلعب بكلِّ شيء إلا فيما يتعلق بالعسكرية العميقة الراسخة للدولة المصرية منذ عام 1952.
إذن فقد نتج عن نزول الجيش إلى الشوارع والميادين لحماية المتظاهرين أمران في غاية الأهمية حددا لوجهة الأحداث اللاحقة كلِّها وجهتها هما..
* حماية المنتفضين من قمع الآلة الأمنية للنظام، فظهر النظام عاجزا إلا عن الاستعطاف عبر تظاهر رئيسه في خطاباته الثلاث التي ألقاها قبل أن يرحل، بتقديم التنازلات. وهو ما كان يسابق به الزمن كي يجعل “المولد” ينفض قبل أن يستكملَ الجيش عناصرَ شرعيةِ تدخُلِه ذلك التدخل الذي لن يوصف بأنه انقلاب عسكري. وهو ما أتاح الفرصة لتقليص عدد ضحايا تلك الانتفاضة إلى أدنى الحدود المتصورة، مهيئا الظروف للثوار كي يواصلوا انتفاضتهم وهم يستشعرون حالةً من الأمان في كنف حمايةٍ دافئة من القوات المسلحة، اقتنعوا بكونها جزءا لا يتجزء في فلسفة جيشهم، فاعتنقوها دينا لانتفاضتهم فأفشلوا عبورها إلى مرحلة الثورة.
* إدارة الحدث وتوجيهه نحو القنوات المرسومة له عبر اللقاءات والحوارات والمباحثات التي كانت تتم من خلال المجلس العسكري، سواء مع القادة السياسيين للحركات والتنظيمات والأحزاب، أو مع الثوار في ميدان التحرير، ليصبَّ الحدث في نهاية الأمر في خانة التغيير الناعم الذي يقبل تكليف المجلس العسكري باستكمال المهمة بعد رحيل الرئيس. فالمجلس العسكري الذي كان يستعجل إزاحة الرئيس مبارك قبل دخول الحدث مرحلة الخروج عن السيطرة وتشكيل محكمة ثورية ومجلس قيادة ثورة في ميدان التحرير، كان حريصا على أن تتمَ صياغة التغيير المرتقب تحت إشرافه وبقيادته وبطلب من الثوار أنفسهم، كي يظهر الجيش وكأنه شريك فعلي في الثورة وحامٍ لها، ومتمِّمٌ لسيرورتها، فتزداد قداسته، ويصبح هو الملجأ في كل الأزمات القادمة. لقد كان يريد إزاحة الرئيس مبارك بتكليفٍ من الثوار والقوى السياسية والحزبية ورموز المجتمع المصري، في لحظة فارقة تُبقي على بُنْيَة الدولة العميقة قائمة كي يحسنَ استخدامَها لاستكمال خطته التي رسمها وحدَّد ملامحَها خلال الأيام الممتدة من “25” يناير، إلى “11” فبراير من عام 2011.
إذن فقد أراد الجيش المصري أن يسيطر على هذا المفصل التاريخي الخطير في عمر مصر، وهو المفصل الذي سيعيد تشكيل الدولة المصرية، كي يعادَ هذا التشكيل تحت سيطرته، فيتمكن من ثم من الاستفادة منه وتوجيهه بالشكل الذي يُمَكِّنُه من تحقيق بنود خطته الساعية في الأساس إلى الإبقاء على الطبيعة العسكرية للدولة المصرية أيا كانت التغييرات التي ستحصل فيها.
إن الحدث المفصلي ذاك كشف عن خريطة مصرية موزعة على النحو التالي..
* جماعة الإخوان المسلمين بصفتها أكبر قوة منظمة قادرة على السيطرة على الشارع في تلك المرحلة، والتي وإن لم تكن هي صانعة الحدث ولا مفِّجَرُته، ولا حتى مشاركة فيه مشاركة فعالة في يوْمَيْه الأولين، فإنها تمكنت عندما غدا حدثا يُقرأ لديها تحت عنوان “المفصلية” ذاتها التي قرأها الجيش، من أن تحسِنَ ركوب موجته أكثر من أيٍّ كان، وأن تتفوق في ذلك حتى على الثوار الأوائل أنفسِهم.
* الثوار غير المنظمين والمشتتين بصفتهم القوة الثانية والمُكَوِّن النبيل في كل مُكونات الحدث المصري، والمفتقرين إلى الخبرة التنظيمية وإلى الرؤية الواضحة وإلى المشروع السياسي الناضج والشامل.. إلخ.
* الأحزاب السياسية الديكورية التي لا تختلف كثيرا عن المستحاثات والمومياءات المحنطة، والتي لم تكن في الأساس معنية بتغيير النظام بهذا الشكل الراديكالي، لتركبَ موجتَه عندما أصبح حقيقةً في الأفق ثم أمرا واقعا على الأرض، رغم تدني فعاليتها في سيرورة الحدث نفسه.
* الشخصيات ذات الطبيعة الرمزية السياسية والثورية والقانونية والتي قذف بها الحدث إلى المقدمة لكل الأسباب المتصورة، النبيلة منها وغير النبيلة.
* بقايا وفلول النظام السابق الذي رحل رئيسه، سواء في قطاع الأعمال، أو قطاع الأمن الخفي، أو البلطجة المقنَّنة، أو في بُنية الدولة العميقة، وهؤلاء جميعا كانوا تحت سيطرة الجيش، وعلى مرمى بصره وإرادته الفاعلة والحقيقية.
* كافة الشرائح الشعبية التي خرجت إلى الشوارع لتساند هذا الطرف من أطراف الانتفاضة أو ذاك، لهذا السبب أو لذاك.
* كافة الشرائح الشعبية التي ليست من الفلول بالتوصيف السابق، وإن تَكُن مساندةً للنظام السابق ومتعاطفة معه، ولا تجد أيَّ تناقض بينها وبينه إما جهلا أو انتفاعا أو طبقية.
* كافة الشرائح الشعبية التي وقفت موقف المتفرج الذي لا يعنيه شيء في كل هذا “المولد”، ولا يهتم سوى بالمراقبة، وسيتعامل مع النتيجة أيا كانت بالاستسلام والقبول نفسه الذي تعوَّد عليه دائما.
القوات المسلحة المصرية تمكنت من كبح فرامل الانتفاضة بدهاءٍ منقطع النظير عند نقطة كانت هي الحالة المجتمعية والثورية والسياسية المصرية على النحو المشار إليها سابقا، بعد أن رأت أنها نقطة التوقف الأنسب لاستكمال الخطة. وحصلت على ذلك التكليف التاريخي من قبل الثوار والقوى السياسية والإخوان المسلمين، بأن تستكملَ الحدث بعد رحيل الرئيس، واستعد كلُّ طرف ليبذلَ كل ما في وسعه لتجيير الحدث لصالحه في إغفاءة البلداء تحت شجرة الجيش الآمنة الوارفة الظلال، انتظارا لطعنةٍ غير نجلاء تأخذ الغافين في غفوتهم.
كل الأطراف كانت خاسرة إلا القوات المسلحة، وكل الأجندات سقطت إلا أجندة الجيش، وكل الخطط غرقت في الوحل الذي ألقاه في طريقها قادة الجيش، إلا خطة المجلس العسكري التي ما تزال تُنَفَّذُ بحذافيرها. فبعيدا عن تفاصيل تجاذبات السنة والنصف التي سبقت الانتخابات الرئاسية مسفرةً عن وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة في المؤسستين “التنفيذية” و”التشريعية”، تمكن الجيش من دفع الحالة المصرية التي كانت سائدة إلى تلك النقطة من الخطة، وهي “ضرورة أن يتم حرق الإخوان” بتسليمهم السلطة بشكل شرعي، وهو ما يعتبر في نظر الجيش أنه قيام بتسليم الإخوان إلى الشعب المصري. فالإخوان سُلِّموا إلى شعب مصر عبر تسليمهم السلطة التي كان متوقعا أن يفشلوا فيها. ولأن الجيش يريدهم أن يفشلوا ولا يقيم سياسته فقط على توقعاته بأن يفشلوا، فإنه لم يكتف بيقينه، بل عمل على استخدام ما أتيح له من خطوط خلفية في مُكونات الدولة العميقة وبقايا النظام، واشتغل من خلال الإعلام على الإخوان وعلى الشعب، لكي يصل بالدولة وبكل مُكوناتها إلى حالة من هستيريا “رفض” الإخوان، وهوس “الفوبيا” منهم، بعد أن أصبحوا – بغبائهم وبجهالاتهم وبانعدام الرؤية لديهم وبسيطرة فلسفة التمكين والحاكمية عليهم أولا وقبل أيِّ شيءٍ آخر، ثم عبر نتائج خطة العسكر التي راحت تُنَفَّذ وتُؤتي أُكُلَها وهي تتفاعل في مخرجاتها مع ذلك الغباء ومع تلك الجهالات ومع ذلك الانعدام في الرؤية ومع تلك الرغبة المهووسة في السيطرة والتمكُّن ثانيا وبالتبعية – أسوأ ما يمكن للمصريين أن يقبلوا به، إذا ما قورنوا بأيِّ بديل ممكن ومتاح ومتصوَّر، وهذا ما كان.
تم حرق الإخوان، وتم التأسيس سياسيا وحركيا وتنظيميا لمن سيسقطهم شعبيا، وتم ترتيب كلِّ الأمور ليتم إخراج العملية بشكل سينمائي فيه قدر من الإقناع يحرر الفيلم من زلات وعثرات المخرجين الهُواة، ومن أخطاء “الراكور” التي يقع فيها مساعدو المخرجين عديمو الخبرة، وهذا ما حدث، لتبدأ المرحلة الثالثة، وهي المرحلة التي تمثل المرحلة الانتقالية الثانية في الحدث المصري (!!)
ولكن هل كانت خطة الجيش تقضي بالوقوف عند حدِّ حرق الإخوان وإسقاطهم ليخلوَ الجو للقوى المدنية لتستلم الدولة بدلا منهم؟!
بالطبع هذا غير صحيح، فالجيش المصري كما مر معنا، وبحكم طبيعته التكوينية والفلسفة التي تهيمن عليه لا يستطيع التعايش مع قوى مدنية ولا مع قوى دينية تدير الدولة، إذا كانت هذه القوى أو تلك ستنتزع سلطاته وصلاحياته ومكتسباته التاريخية في توجيه المسرح من وراء الكواليس، ليبقى هو سيد المسرح بلا منازع دون أن تخدش نزاهته وحياديته ووطنيته باعتباره فقط حامى الحمى والحدود (!!)
فهو – أي الجيش عبر قادته في المجلس العسكري – يدرك جيدا أن حدث 25 يناير وإن كان بالنسبة له فرصة سانحة للقفز على مشاريع نظام “حسني مبارك” بإسقاط رأس النظام الذي كان قد بدأ بالتأسيس للاعسكرية الرئيس، وبالتالي للاعسكرية الدولة لاحقا.. نقول.. هذا الجيش يدرك جيدا أن هذا الحدث الزلزالي الكبير قد يكون وبالا عليه أكثر من النظام السابق في القذف به إلى الخطوط الخلفية إذا لم يتم التعامل معه بذكاء يفرِّغه من كل مضمونه ويقلم كل أظافره ومخالبه التي كانت وبسبب تطلعاتها المدنية أو الدينية سوف تلقي بالجيش إلى الوراء بأكثر مما كان سيفعل النظام السابق ذاته. وبالتالي فبقدر ما كان سير الجيش في دعم مشروع 25 يناير تخلُّصا من خطرٍ قائم على مستقبل مكتسباته التاريخية، بقدر ما كان عليه أن يكون جاهزا كي لا يكون التخلص الأول بلا قيمة، لأن يُفْقِدَ الحدث الكبير الذي بدأ في 25 يناير قدرتَه على تحقيق ما عجز عن تحقيقه النظام السابق بفعل الحدث نفسه.
ولأن قادة الجيش يعرفون أن القوى المدنية من جهة أولى، والإسلام السياسي برأس حربته الإخوانية من جهة ثانية، يلتقون جميعهم على ضرورة إعادة إنتاج جيش جديد لمصر يأتمر بأمر المؤسسات السياسية للدولة التي تختص وحدها بوضع سياساته وإستراتيجياته، ولا يكون هو الآمر لها أو المحدِّد لسياساتها وإستراتيجياتها.. نقول.. ولأن قادة الجيش يعرفون ذلك جيدا، فقد كان عليهم من خندق الحفاظ على مكتسباتهم التاريخية التي أسَّسَت لها ثورة 23 يوليو عام 1952، أن يكونوا جزءا فاعلا من حدث 25 يناير، لا بل كان عليهم أن يكونوا هم الجزء الأكثر فاعلية فيه، ليتمكنوا من منع سيرورته باتجاه إنتاج دولة دينية أو مدنية تحجمانه. لذلك فقد كانت القوى المدنية والإسلام السياسي عنده سيان من حيث خوفه منهما، ومن حيث عدم رغبته في أن يكونا أسياد الدولة الجديدة.
ليس بذي أهمية عند قادة الجيش المصري أن تكون الدولة دينية يرسم معالمها الإخوان المسلمون، أو مدنية يرسم معالمها المدنيون – لأن ذلك في ذاته لن يؤثر عليه في شيء، مادامت اللعبة السياسية في مظاهرها وشكلانياتها لا تقع ضمن مهماته وأدواره الفعلية كمؤسسة عسكرية، فأيا كانت مستويات الحريات وأيا كانت آليات تداول السلطة، فالجيش غير معني بها من واقع العسكرية ذاتها، وأيا كان مستوى التدين في مؤسسات الدولة بل وفي تشريعاتها وقوانينها أيضا، فذلك لن يتاقض مع واقعةِ أن معظم أفراد القوات المسلحة مسلمون متدينون يؤدون جميع فرائضهم، وهم ينحدرون من أسر محافظة لا ترى أيَّ تناقض بينها وبين أن يقام حدُّ قطع اليد على سارق أو حدُّ الجلد على زانٍ من حيث تأثيره عليها مؤسَّسِيا وحقوقيا ومكتسبيا – إذا استطاع أن يضمن أن معالم تلك الدولة سواء عند هذا الفريق أو عند ذاك، لن تعتدي على مكتسباته التاريخية.
ولأنه يعلم علم اليقين بأن طرفي معادلة الحدث المصري يرفضان الاعتراف له بتلك الصلاحيات، فكان لابد له من أن يفكر على نحوٍ يجعل الشعب المصري نفسه بشرائحه الثلاث الكبرى وهي “بقايا النظام الذين أطلق عليهم الفلول”، و”أولئك الذين ليسوا ضد نظام مبارك السابق ولا يجدون بينهم وبينه أيَّ تناقض وإن لم يكونوا فلولا”، و”المحايدون المتفرجون من الشعب المصري”، وهؤلاء يمثلون الغالبية العظمي من شعب مصر.. نقول.. كان عليه أن يفكر على نحوٍ يجعل هؤلاء هم من يطالبونه بإسقاط الطرفين السابقين وإبعادهم عن السلطة، بل وبالتدخل لحماية الدولة والشعب والوطن من مراهقاتهم ومن ضعفهم ومن عنفهم.. إلخ.
ولكي يتحقق ذلك ويصبح الجيش قادرا على امتلاك أوسع شرعية شعبية ممكنة لدولة عسكرية لا مدنية ولا دينية، فقد كان لزاما أن يتم حرق الإخوان عبر استفحال التجاذبات بينهم وبين القوى المدنية، ثم حرق القوى المدنية بعدهم بإظهار عجزهم عن حماية الدولة من إرهاب وعنف الإخوان في ظل حياد الجيش، ليكون الحل الوحيد المحتمل والمطلوب والحتمي هو قفز الجيش على الديمقراطية وعلى مدنية الدولة لحمايتها من عنف العنيف ومن ضعف الضعيف عبر خروجه من دائرة الحياد ليتخندق في دائرة الفعل والمبادرة المباشرتين، تمهيدا لترتيب الأوضاع لخلق مدنية ناعمة لا مانع من أن تَمْنَحَ حقوقا سياسية يفرح بها المصريون، على أن تُبقي على وضع الجيش راسخا كما هو في الإدارة والتوجيه السياسي الإستراتيجي وفي الاقتصاد بالدرجة الأولى.
إن “أكبر خازوق” كان يمكن لقادة الجيش أن يتعرضوا له هو أن يعترف الإخوان المسلمون بالأمر الواقع فلا ينزلقون إلى العنف ويعودون إلى صفوف المعارضة، لأن الدولة عندئذ لن تتعرض لما من شأنه أن يجعل الشعب يطالب بتدخل الجيش لحماية البلاد من العنف والضعف. أما الخازوق المقابل الآخر الأكثر خطورة على خطة “العسكر”، فهو أن تبدأ قوى المعارضة المدنية التي كانت عقب الاتقلاب فورا بصدد التمهيد لاستلام سلطاتها في الدولة، بفتح خطوط التحاور الحقيقي والتوافقي مع الإخوان لحماية البلاد من مخاطر المغالبة التي يحاول الجيش تكريسها.
إن جيشا سعى مستميتا وما يزال لإنهاك ممثلي الدولة الدينية، ويعمل مستميتا على إنهاك ممثلي الدولة المدنية، ليحظى في نهاية المطاف بشرف مطالبة الشعب له بالتدخل لتخليصه من كارثة الدولة المدنية ومن مأساة الدولة الدينية، هو جيش سيصاب بخيبة أمل كبرى إذا حصل توافق بين طرفي المعادلة يحرمه من فرصة استعادة السيطرة على الدولة لضمان أن تتم إعادة تأهيلها على النحو الذي يريده.
أي أن الجيش هو الذي لا يريد أن يقبل الإخوان بالحوار، وهو الذي لا يريد أن يسمح للمعارضة المدنية بإبداء أيِّ لين في المواقف تجاه رؤوس الإرهاب (!!)، وهو الذي يدفع باتجاه تأجيج العنف والصدام بين الطرفين، وهو الذي يحرص على أن تبقى الأوضاع متفجرة في سيناء وعلى مشارف قطاع غزة أطول مدة ممكنة وقادرة على توطين الرعب من مدنية ودينية الدولة على حدٍّ سواء، وهو الذي يستفز القوى المدنية بالدفع نحو إظهار اللامهادنة لدى الجانب الآخر، وهو الذي يعمل على استفزاز الإسلاميين بكل الطرق الخفية التي لا تظهره متورطا بشكل مباشر بطبيعة الحال، كي يقتنعوا باستحالة أيِّ حل توافقي مع الطرف الآخر، وهو في نهاية الأمر من يريد أن يزداد عمق الخندقين إلى الحد الذي يستحيل معه الخروج منها إلا إلى الهاوية.
والجيش إذ يفعل كل ذلك، فلأن تلك هي المساحة التي كان ينتظر تبلورها كي يعمل ويتحرك فيها وبها ومن خلالها لضمان عدم المساس بمكتسباته التاريخية.
لذلك – وبعد كل هذا الشرح والتفصيل – نؤكد على أن سيناريوهات المشهد المصري كانت تنحصر منذ اللحظة الأولى للانقلاب في سيناريوهين لا ثالث لهما نذكرهما في التالي..
* الأول.. نجاح الجيش في إفشال كلِّ آفاق التوافق بين الطرفين، فتبقى الدولة في حالة ترنح، يجعل القوى المدنية التي استخدمها الجيش لطرد نظام الإخوان المسلمين عاجزة أمام حالة العنف والرفض والانقسام والاستقطاب غير المسبوق في البلاد، فيصبح تدخل الجيش أمرا لا مفر منه، ينتظره الشعب المصري الذي سيكون قد كفر بالثورة وبالحركة الإسلامية وبالقوى المدنية بل بالثورة نفسِها، متمنيا أن يعود الهدوء والاستقرار إلى البلاد تحت “حكم العسكر”. وهذا لا يضمن للجيش الحفاظ على شكل الدولة المستقبلي حتى بعدما تعود إليها بعض مظاهر المدنية كما كان حالها في عهد “حسني مبارك” فقط، بل هو يضمن ألا تتخلق في الشعب المصري أيُّ عناصر ثورية حقيقية إلا بعد مرور عقود طويلة تتغير فيها الكثير من الأمور في مصر وفي الإقليم وفي العالم.
* الثاني.. نجاح خصماء الدهر “الإسلام السياسي” و”القوى المدنية” في القفز على ذواتهم، وفي الانتباه للخديعة الكبرى التي أوقعهم الجيش في حبائلها، وفي الاقتناع بأن الدولة المصرية الديمقراطية التشاركية هي دولة توافقية بين الطرفين، تقوم في الأساس على رفض بُنية الدولة العسكرية بالدرجة الأولى، فيسعى الطرفان إلى تحييد الجيش بتوصلهم هم أنفسهم إلى الحل الذي يُفقد تلك الطغمة العسكرية أيَّ فرصة لتمرِّرَ مشاريعَها التي تريدها لضمان رهن واستلاب وإفقار الشعب المصري لعقدين قادمين من الزمان. فالجيش يقتات على هذه الخصومة، وهذه الخصومة هي التي ستعيد إنتاج الدولة على النحو الذي يريده الجيش.
ومع الأسف ما تزال مصر تخضع لهيمنة السيناريو الأول الذي لم يعد هناك من أفق للتخلص من تداعياته إلا بموجب ما راخت تفرضه المتغيرات الإقليمية التراجيدية في الجبهات الشرقية، والتي ستجبر النظام المصري على إعادة حساباته، وعلى إعادة تركيب سيناريوهات المشهد المصري على نحو مغاير لما كان يريده له الجيش منذ بدأ يخطط للسيطرة على الدولة بشرعية شعبية ثورية وهو في قلب ميدان التحرير.
هذا هو مصير كل ثورة لا تدرك أن أنصاف الثورات هي ثورات سالبة، وأن الثورات لا تَسْتَأمِن الجيوشَ على توجيهها وإدارتها، ولا تُسْلِمُها أعناقَها كي تجزها بلا رحمة، بل تضع هي – أي الثورات – للجيوش إستراتيجياتِها وسياساتِها التي عليها أن تنفذَّها وتخضعَ لها دون مناقشة، إلا عندما يكون الأمر أمرَ استشارة في خوض حرب أو ما شابه ذلك.
وهذا هو مصير كل ثورة لا تمتلك مشروعَها السياسي والنهضوي الخاص والشامل والواضح والدقيق، وتعتقد أن مهمتها تنتهي عند هتافات المطالبة بالتغيير التي يتقنها الجهلة والأميون أكثر من أيِّ عاقل متزن.
وهذا هو مصير كل ثورة تقبل بأن تتوقف قبل أن تنشئَ مجلس قيادتها الثورية ومحكمتها الثورية وقانونها الثوري، كي تطبق كل ذلك على القضاء وعلى الجيش وعلى بقايا النظام السابق، قبل أن تطبقه على أيِّ مواطن من المواطنين البسطاء.
إن مصر تدفع ثمن أخطاء أبنائها، وتعبِّد الأرض لعودة العسكر فاتحين محررين بكاريزميةٍ وعظمةٍ وأبَّهةٍ لا تقل عن عظمتهم وأبهتم التي دثرتهم عشية الثالث والعشرين من يوليو عام 1952.
فليهنأ ثوار مصر مدنيين وإسلاميين، “تمرديين” و”إخوانيين”، وليهنأ سياسيوها وإعلاميوها ومثقفوها، بما فعلوه بوطنهم وبشعبهم وبأمتهم العربية التي أصبحوا قريبين جدا من لحظة الإجهاز على بارقة الأمل الوحيدة الباقية في أرواح أبنائها، وهم يرون مصر تعود لتحضن العسكر وفلسفة العسكر، بعد أن كنا نعتقد أن زمن العسكر العرب قد ولى واندثر منذ الخامس والعشرين من يناير 2011.

اقتصاد الدم في إمبراطورية الفساد
من يعرف مصر والشعب المصري، وبنية هذا الشعب ثقافيا وطبقيا، وطبيعة التدين الفطري والمحافظة المعتدلة التي يتسم بها بمسلميه ومسيحييه، ومن كوَّنَ فكرة موضوعية عن الاقتصاد المصري، وعن علاقة القوات المسلحة بهذا الاقتصاد، وعن تغوَل الرأسمالية الفاسدة، وعن تفشي الفساد المُمَنْهَج في كل مستويات الدولة العميقة منها وغير العميقة، ودور القيادات العسكرية والشرطية والأمنية المتغلغل في الحياة المصرية على جميع الصعد، فضلا عن مستويات الفقر والبطالة التي يعاني منها المصريون.. إلخ، ومن لديه قدر من الوعي ببُنْيَة النخب الثقافية والسياسية والإعلامية والفنية في هذه الدولة، وطبيعة علاقاتها المتشعبة بمراكز القوى، بالإضافة إلى دور المؤسسة القضائية في تسييس القانون وفي تقنين السياسة..
ومن تابع التغيرات في الساحة المصرية منذ عام 2005 وحتى الآن وركز على تطورات الأحدث من 25 يناير وما بعده، ولم يقف عند حدود التلقي البَّبَغاوي من هذا الإعلام أو من ذاك، ودرس مصر من خلال معايشة كل طبقاتها، وكيف يتفاعل بعضها مع البعض الآخر..
نقول.. من يدرك كل تلك الأمور في مصر ويعيها ويفهمها ويتعاطى معها بتجرد وموضوعية، يستطيع بكل بساطة أن يفهمَ أن الأزمة الحالية والصراع الدامي الدائر من خلالها يستغل “السياسة” لأجل “الاقتصاد”، أي أنه “صراع طبقي شرس”، أراق دماء المصريين مستخدما لعبة “السلطة” لأجل تمرير لعبة “الثروة”..
إن اهتمامات وقضايا “90%” من الشعب المصري – وهذا ما يمكن إدراكه بسهولة لمن يعي الأمور المشار إليها سابقا – تقع خارج مُكَوِّنات اللعبة التي أثارت الأزمة وأجَّجَت الصراع وأراقت الدماء..
فهؤلاء الـ “90%” سواء كان شكل الدولة المصرية “مدنيا” أو “عسكريا” أو “دينيا”، فلن يشعروا بأيِّ تغيير في حياتهم..
فهم متدينون على نحوٍ لن تضيف لأيٍّ منهم شيئا غير مألوف أو منفراً أيُّ دولة دينية، ولن تنزع منه حريته الدينية الشخصية أيُّ دولة مدنية أو عسكرية..
لا بل إن الحريات المدنية المتعلقة بحقوقهم الإنسانية المتعارف عليها في عالمنا المعاصر، لن يشعر هؤلاء الـ “90%” من المصريين بأنها مُسَّت على الصعيد الشخصي أيا كان شكلُ الدولة..
فلو تقلصت الحريات بسبب عسكرية أو دينية الدولة، فأيٌّ من هؤلاء لن يشعر بذلك، لأنه ما تعوَّد على أن يعرف الحرية أو يمارسها في حدود يمكنه أن يشعر بالمساس بها لو تمت عسكرة الدولة أو تمت أسلمتها..
كما أن حرياته لو زادت هوامشها بسبب مدنية الدولة، فهو لن يشعر بأيِّ إضافة حقيقية في حياته، لأنه ما تعوَّد على أن يهتم بسقوفِ حرياتٍ من تلك التي يهتم بها النخبويون ويُعْنَى بها المثقفون عادة..
وإذن فهؤلاء الـ “90%” من المصريين لا يعنيهم من أيِّ صراعٍ دائر سوى أن يُسْفِرَ عن “عدالةٍ” تؤمِّن لقمةَ الخبز الكريمة، والدخل المناسب، والعمل المشرِّف، وتعليم الأبناء، والقدرة على الزواج لمن كان شابا، والتأمين الصحي، والتقاعد المجزي في نهاية العمر..
ولا يهمهم من “مدنية” الدولة أو “دينيتها” أو “عسكريتها” شيء على الإطلاق، لأنهم يفهمون أن تديُّنَهم لا يتعارض مع يمكن لأيِّ دولة دينية أن تضيفَه، ولا يُخشى عليه مما يمكن لأيِّ دولة مدنية أو عسكرية أن تتساهل فيه..
وهؤلاء ليسوا سوى متفرجين سلبيين يجلسون في مدرجات الملعب ويتابعون المباراة بدون تشجيع أيٍّ من الفريقين، لأنهم لا يعرفون على وجه اليقين أيُّ هذين الفريقين هو الذي سيسفر النزال عن انتصاره، بل ولا يعرفون أيٌّ منهما يملك عينين حانيتين ستنظر إليهم وإلى بؤسهم وفقرهم بعين الرأفة..
الصراع إذن يدور داخل دائرة الـ “10%” من الشعب المصري الذين يمثلون الشريحة التي ليست لديها مشكلة تتعلق بوضعها الاقتصادي، فهي خارج طبقات الفقراء والعاطلين والمعوزين والمعدمين، وهي تتمتع بحياة مرفهة تمتد من أدنى مستويات الرفاهية إلى أعلاها وأكثرها بذخا وترفا..
إلا أن “70%” من هؤلاء الـ “10%”، أي ما نسبته “7%” من إجمالي الشعب المصري، بدورهم لا تشغلهم في المعركة دعاوى مدنية ولا دينية الدولة ولا عسكريتها على الإطلاق، إلا بقدر ما يكون الشكل الاقتصادي لهذه الدولة سواء كانت “مدنية” أو “دينية” أو “عسكرية” ضامنا الحفاظَ على رفاهيتهم ووضعهم الاقتصادي المستقر دون مساسٍ جوهري بالبُنى التي من شأنها المحافظة عليه..
وهؤلاء الـ “7%” من الشعب المصري، مندمجون نسبيا وبشكل أو بآخر وبحسب ما يرونه محققا لتصورهم حول وضعهم الاقتصادي في الصراع المحتدم، ولكن عن بعد ودون تورط مباشر في تفاصيله..
وهم يتحركون في مدرجات الملعب مؤيدين ومناصرين لهذا الفريق أو لذاك حسب مجريات الأحداث، لأن كلَّ ما يهمهم في نهاية المطاف هو رفاهيتهم ووضعهم الاقتصادي وليس أيُّ شيء آخر، فليحكمهم “العسكر” أو “الإخوان” أو “جبهة الإنقاذ”، فهذا لا يهمهم..
وتُعتبر مدنية الدولة هي آخر ما يمكنهم التضحية لأجله بأيِّ شيء..
كما أن دينية أو عسكرية الدولة تعتبران آخر ما يمكنهم أن يرفضوه إذا رأوا أنه لا يطرح شكلا اقتصاديا للدولة يمس برفاهيتهم وبمستوى معيشتهم وبأنماط الإنتاج والتوزيع والمُلْكِيَّة التي تضمنهما..
إلا أن الفرق بين الـ “90%” الأولى من الشعب المصري، وهذه الـ “7%” منه – رغم أنهم جميعا غير معنيين بشكل الدولة السياسي من حيث مدنيته أو دينيته أو عسكريته – هو أن شريحة الـ “90%” سلبية ومتفرجة ومتلقية ومنفعلة تجاه كل ما يحدث، شاعرة بالعجز واللاجدوى..
فيما شريحة الـ “7%” تُعْتَبَر إيجابية وفاعلة، تندمج في الصراع المحتدم بهذا الشكل أو بذاك وبحسب ما تراه محققا لها فضاءات الحفاظ على رفاهيتها ومستويات معيشتها، لأنها تملك ما تخشى عليها، وما ترى نفسها معنية بالدفاع عنه..
الصدام الدامي إذن بكل مستوياته المأساوية يحدث داخل دائرة ديموغرافية لا يتجاوز تعدادها الـ “3%” من الشعب المصري. وهو صدام يجسِّد تكثيفا غير مسبوق للصراع الطبقي في بعده الاقتصادي، عبر واحدة من رؤيتين اقتصاديتين..
* إحداهما “رأسمالية ذات طابع ديني” تريد أن تقضي فعلا على “الفساد المُمَنْهَج” لتتاحَ لها فرصة إعادة إنتاج “اقتصاد السوق” و”الطبقية الاقتصادية” بعباءةٍ ذات مشروعية دينية إسلامية، لتكون بالتالي نموذجا عربيا إسلاميا من نماذج استنساخ الرأسمالية الغربية الشفافة اقتصاديا لجهة مكافحة الفساد..
* وثانيتهما “رأسمالية ذات طابع كومبرادوري فاسد ومتغوِّل” تحافظ على “الفساد المُمَنْهَج” الذي خلق طبقة من “أفسد أنواع البيروقراط في العالم” مدعوما بأبشع أنواع “البُنَى العميقة للدول” وأكثرها فسادا ووصولية وقبولا للرشوة المفسدة للضمير المهني والإنتاجي، وهي رأسمالية تضمن استمرار البُنَى والتحالفات الطبقية ومراكز القوى المتحكمة في البلاد في السطح وفي العمق، كما هي وعلى نحوٍ لا يختلف عما كانت عليه تلك البُنى والتحالفات على مدى العقود الأربعة الأخيرة من عمر الدولة المصرية..
إلا أن المسألة لا تقف عند هذا الحد من التقسيم والفرز، لأن نسبة الـ “3%” التي تتناحر على الدولة المصرية، هي بدورها تنقسم إلى فئتين إحداهما تحتل نسبة الـ “2,5%” من الـ “3%” وهي صاحبة المصلحة المباشرة في الصراع الدامي وفي إدارته بطرفيها المتناحرين اللذين هما:
* أنصار “رأسمالية الفساد الممنهج”، الناتجة عن تحالف “الكومبرادور المتغوِّل” و”البيروقراط الفاسد”..
* وأنصار “رأسمالية المشروعية الإسلامية”، الناتجة عن تحالف “الإسلام السياسي” و”الكومبرادور الإسلامي”..
فيما الفئة الأخرى من الـ “3%” والبالغة فقط “0,5%” من إجمالي المصريين تمثل الأداة التي يستخدمها كل طرف من طرفي المعادلة الرئيسيَّين في معركته ضد الآخر..
ولأن أنصار فريق “رأسمالية المشروعية الإسلامية”، تذوب فيهم الحدود الفاصلة بين أعضاء الفئة وأدواتها، فقد كانت صفة الأداة أكثر ما تكون وضوحا وجلاء في أولئك الذين يمارسون هذا الدور لحساب أنصار “رأسمالية الفساد المُمَنْهج”، وهم من يمكن حصرهم في معظم “النخب” الثقافية والسياسية والأكاديمية والإعلامية والفنية، ومعظم المتقاعدين العسكريين والأمنيين، وقطاع لا يستهان به من النخب الشبابية، فضلا عن المؤسسات الإعلامية الخاصة والعامة كاملة، دون تجاهل “فئة البلطجية” الواسعة، والتي تتولى المهمات الأكثر قذارة في هذه المعركة..
إن أيَّ قراءة للصراع الدامي في الساحة المصرية خارج هذه المعادلة ذات الجوهر الاقتصادي الذي أنجز عمليات خندقة واستقطاب واسعتين مستغلا “الدين” و”الديمقراطية” و”المدنية”، ومتلاعبا بمصطلحات “الإرهاب” و”الأمن القومي” و”الحرب على الإسلام”.. إلخ، من قبل الفريقين كلٌّ بالطريقة التي تلائم مشروعه وتتناسب مع طروحاته، هي قراءة لن تنتجَ تصورا حقيقيا لما يحدث هناك..
ولن يكون من يردِّدُ ويكرِّرُ أيَّ تحليل لا يأخذ في الاعتبار هذه المكونات العميقة والجوهرية للصراع، إلا شخصا مصابا بعمى الألوان، سواء كان في هذا الخندق أو في ذاك.

ليس دفاعا عن مرسي ولا رغبة في أن يعود إلى السلطة، وإنما إنصافا للشعب المصري وكشفا للحقيقة
مقدمة لابد منها كي يتم فهم منهج هذا التحليل..
أعتقد جازما بأن كلَّ فصائل الإسلام السياسي بمن فيهم “الإخوان المسلمون”، لا يمتلكون حلولا أصيلة للمشكلة الاقتصادية على الصعيد المذهبي، خارج حدود التوصيفات الأقرب ما تكون إلى الرأسمالية واقتصاد السوق، تهذيبا لهما حينا، وتغوُّلا بما هو أكثر منهما أحيانا أخرى..
لكن المشكلة الاقتصادية في واقعنا العربي – وفي كل واقع في العادة – تقوم وتتأسَّس على جانبين، أحدهما “مذهبي” وهو الجانب المتعلق منها بتصور “العدالة” على صعيد إنتاج وتوزيع وتمليك واستهلاك وتدوير الثروة في المجتمع، والثاني “تنظيمي” يتعلق بكيفية محاربة الفساد المستشري في إدارة الثروة المجتمعية بصرف النظر عن وضعها المذهبي، ومديات العدالة في تمليكها وتوزيعها، وقبل ذلك في إنتاجها، وبعد ذلك في استهلاكها وتدويرها.
الإسلام السياسي بوجه عام ورغم افتقاره إلى حلول للمشكلة الاقتصادية في جانبها المذهبي إلا أنه – وهذا من الصعب أن يختلف عليه حتى معارضو الإسلام السياسي – في الجانب الآخر من التعاطي مع المشكلة الاقتصادية وهو الجانب التنظيمي المتعلق بمحاربة الفساد بوجه عام، وبعيدا عن الخوض في التفاصيل التي قد تُظهر فاسدا منهم هنا وفاسدا هناك، دون أن يكون الفساد ممنهجا كما هو حال وواقع إدارة الثروات في المجتمعات العربية في الوقت الراهن.. نقول.. يمكن اعتبار الإسلام السياسي في هذا الجانب، طرفا نزيها إلى حدٍّ بعيد، وأقل نزوعا إلى الفساد بمعناه الذي نعانيه بسبب الأنظمة الحاكمة، والقائم على “نهب وسرقة المال العام” عبر الولوغ المباشر فيه، أو عبر التحايل عليه من خلال اختراع وابتكار أساليب خطيرة وشديدة الدهاء في الالتفاف عليه، لإتاحة الفرصة لنهب ما أمكن نهبه مما أفلت منه من مخالب الولوغ المباشر فيه.
في ضوء المتابعة الهادئة والمبصرة والمعمقة والبعيدة عن حماقات وإسفافات وعربدات إعلاميي ومحللي الفضائيات الأبعد ما تكون عن التعاطي مع الأزمة بأدوات السياسة وبمنطق العقل، من الصعب الاقتناع بأن جوهر الخلاف بين القوى السياسية التي تسمي نفسَها “مدنية” ومن ورائها “الجيش” و”الأمن” و”القضاء” من جهة، و”الإخوان المسلمين” ممثلين في كلٍّ من “حزب الحرية والعدالة” و”الرئيس مرسي” من جهة أخرى، يكمن في تفاصيل “الدولة المدنية”، عبر ما تمَّ التعارف عليه بـ “فاشستية الإخوان المسلمين”، و”حكم المرشد”، و”أخونة الدولة” و”تغوُّل حزب الحرية والعدالة”.. إلخ.
فأمام الوقائع التالية تغدو كل تلك العناصر الخلافية متدنية القيمة إذا ما قيست بحجم التهويل الذي أريد له أن يكون قائما عليها ومرتكزا إليها، في حين أن الوقائع التي سنذكرها تاليا تكشف بما لا يدع مجالا للشك عن أن معظم ما كان يقال عن “الفاشستية” و”التغول” و”الأخونة”.. إلخ، هو مجرد جزء من أدوات المعارك في هذه الحرب التي سيتبين لنا يقينا أنها حرب قامت على أسباب أخرى مختلة كلَّ الاختلاف عما يشاع هنا وهناك، وإن كان لابد من أن تختفي الأسباب الحقيقية تلك وراء حُجُبِ الأسباب المُدَّعاة والمتمحورة حول “المخاطر التي تهدد الدولة المدنية” من قِبَلِ “الإخوان المسلمين”، وحول “فشل الرئيس مرسي” في إدارة الدولة أمنيا ومعاشيا واقتصاديا.. إلخ.

مفارقات جديرة بالتوقف عندها..
دعونا نلاحظ الوقائع التالية..
* خلال فترة حكم “مرسي” لم يتم إغلاق أيَّ قناة تلفزيونية ولا حتى تلك التي كانت تشتم الرئيس وتستخف به وتتعقب سقطاته وعوراته أحيانا، وتتهكم عليه، بل ولا رأينا حتى أن النظام لاحق ملاحقة قضائية منتجة أيا من أولئك الذين لم يكن لهم من همٍّ سوى “الرئيس مرسي”. في حين أن كل القنوات المخالفة لما حدث في 30 حزيران تم إغلاقها من فورها وخلال ساعات قليلة من الإطاحة به. ولم نعد نرى سوى لون إعلامي واحد ووحيد، لا بل إن القنوات غير المصرية التي يمكنها أن تتعاطي مع الحدث المصري بشيء من الحيادية يظهر سلبيات النظام الجديد وإيجابيات النظام المعزول، تتم شيطنتها ومتابعتها ومضايقتها.. إلخ. فإذا كانت الحرية الإعلامية هي المعيار على مدى مدنية الدولة باعتبار الإعلام سلطة رقابية محايدة، نستطيع أن نتساءل بكل حياد وتجرد: أيُّ الطرفين يمثل خطرا حقيقيا على مدنية الدولة عبر الاعتداء على الإعلام الحر فيها (؟!) هذا لا يعني أنه في فترة حكم “مرسي” لم تكن هناك قناوت تسيء وبشكل سافر في الاتجاه المقابل، فمثل هذه القنوات كانت منتشرة بشكل يثير التقيؤ، ولكن النظام تعامل بتعفف عن التدخل في الإعلام وفرض سياسات معينة عليه، وتركه يمارس حريته في كل الاتجاهات بدون حسيب أو رقيب (!!)
* لم يطرح الرئيس “مرسي” ولا سمعنا من “الإخوان المسلمين” لا من قريب ولا من بعيد، لا سرا ولا علنا، لا بشكل مباشر ولا عبر أيٍّ من وسائل التورية التي تعرفها لغة العرب أن هناك نوايا “معلنة” أو “مبينة” بتطبيق “الشريعة الإسلامية” على النحو الذي يتعارض مع الدولة المدنية. ولقد كان الرئيس مرسي ونظامه محل انتقاد دائم وتخوين وتكفير أحيانا من قبل عديد فصائل الإسلام السياسي بسبب أن هناك تنكرا للشريعة الإسلامية وانقلابا عليها من قبل الإخوان المسلمين ورئيسهم “مرسي”. وقد رأينا هذه السياسة العامة تنعكس على الدستور الذي لم يجد معارضوه رغم كلِّ تهويشهم إلا الاعتراض على 15 مادة فيه لا تمثل في كل الأحوال قاعدة لنسفه حتى لو تم تعديلها تعديلات جوهرية، وهو ما يعني أن الدستور الذي عارضه هؤلاء وحاربوا النظام لأجله باعتباره أحد أسباب محاربته، لا يتعارض حتى مع أشد أشكال الدولة المدنية العلمانة تطرفا إلا في النزر البسيط الذي تحله الدول عادة بشكل تحاوري ديمقراطي هادئ كان قادما حتما بوعود مرسي نفسه. مع العلم – لمن لا يعلم – بأن النصوص الدستورية التي ظهرت وكأنها تفسر معنى الشريعة الإسلامية ومرجعيتها على نحو لم يرق للمدنيين وللأقباط، هي نصوص أصر عليها ممثلو الأزهر في الهيئة التأسيسية وليس الإخوان المسلمون، أي المؤسسة الدينية الرسمية التي اعتمد عليها الجيش في انقلابه على الإخوان المسلمين وعلى الرئيس مرسي (!!)
* المؤسسات الكبرى في البلاد وهي “الجيش” و”الشرطة” و”القضاء” لم يتم المساس بها ولا إجراء أي تغييرات فيها لا على مستوى الإدارة والقيادة ولا على مستوى الهيكل والبناء، على النحو الذي يجعل نظام “مرسي” نظاما يتغول ويؤخون البلاد.. إلخ. لا بل لقد رأينا أن عديد الوزراء المهمين في الحكومة كانوا من خارج الإخوان ومنهم “وزير الداخلية” و”وزير البترول” و”وزير الطاقة والكهرباء” وغيرهم كثر أيضا. لا بل لقد كانت الحكومة تناكف الرئيس أحيانا وتواجهه.. إلخ.
* عانى الرئيس “مرسي” وعانت حكومة “قنديل” منذ اللحظة الأولى لاستلام كل منهما مهماته الدستورية من نوع غير مفهوم من إخفاء الحقائق. فلأول مرة في تاريخ الدول لا يجد الرئيس الجديد ولا تجد الحكومة الجديدة من يسلمهما ملفات الدولة ومفاصلها ليتم تبادل المواقع بشكل سلس يسهل مهمات القادة الجدد. لقد وجد الرئيس الجديد – وبعده الحكومة – نفسه يستلم دولة لا يعرف عنها شيئا لا هو ولا مكتب رئاسته، ولم يكن يجاب على سؤال بشكل منتج ومساعد، ولم يُسَلَّم أيَّ مستندات تساعده على فهم ما كان يدور وما يجب أن يحدث، كي لا تختلط الأمور في إدارته للدولة، فراح يتحسَّس طريقه في الظلام، محاولا التعرف على مسالك هذا الطريق عنوة في خضمٍّ من العرقلة الواضحة من كافة قوى الشد العكسي وبقايا النظام السابق.
* ما يجب أن ندركه جيدا، وهو ما يتعمَّد الجميع إخفاءَه وعدم الحديث عنه، لأنه كان بداية استشعار الطرف الآخر للخطر الحقيقي الذي يمثله “مرسي” عليهم وعلى مشاريعهم وأجنداتهم. والطرف الآخر هو بالمناسبة رؤوس وقيادات المؤسسات الثلاث “القضاء” و”الشرطة” و”الجيش”، تضاف إليهم كافة القوى السياسية الديكورية القديمة منها والجديدة والمستنسخة، والقوى الشبابية الثورية منها والتائهة والطامحة والمتسلقة، التي تم استخدامها جميعها كأدوات تتولى هي مهمة المواجهة نيابة عن تلك المؤسسات التي ليس من حقها أن تمارس أيَّ نشاط سياسي.. نقول.. إن ما يجب إدراكه مما يتم تعمُّد إخفائه، هو أن الأشهر الأربعة الأولى من حكم “مرسي” – وليراجع من يشاء أو من يشكِّك في كلامنا إلى أخبار تلك الفترة حتى في الصحافة المصرية – كانت أشهرا علت فيها أسهم الرئيس مرسي وشعبيته وأسهم الإخوان معه، بسبب أن ملفات الفساد وخفايا هذا الأخطبوط المرعب الذي تجذَّر وعشَّش في البلاد على مدى ستين عاما، وبالأخص على مدى الأعوام الثلاثين الأخيرة منها، راحت تتكشف أمام الشعب المصري هنا وهناك إلى أن أصبح كلُّ موظفي القطاع العام ومن كل المراتب والمستويات يخشون من خيالاتهم ويتجنبون الإمضاء على أيِّ مستند قد يلقي بهم إلى ما يشبه “محاكم التفتيش” ولكن على الفساد بدل أن تكون على الدين، ما جعل المصريين يستشعرون الأمل ويثقون بأن الموضوع جدي، وهو الأمر الذي جعل الطرف الآخر ينتبه إلى أن الاستمرار على هذا النحو من النجاح في كشف ما يريد الشعب المصري أن يتمَّ كشفه، سوف يجعل الخطط التي تدار من خلف الأبواب المغلقة للإطاحة بمرسي وبنظامه وبالإخوان المسلمين من ورائه، غير مضمونة النجاح، ما يقتضي الإسراع في اختراع أساليب ووسائل جديدة لتهيئة الشعب المصري للاقتناع بأن هذا الذي يراه أمامه هو مجرد خدعة تُقَدَّمُ له كطعم كي يتم تمرير أخونة الدولة وفاشستية الإخوان دون أن ينتبه.. إلخ.. لتبدأ الماكينة – التي كانت تشتغل منذ اليوم الأول لتولي مرسي الرئاسة – حملتها المحمومة في كل الاتجاهات ومن كل المواقع مستخدمة كل الأدوات المشروعة منها وغير المشروعة، مسابقة الزمن لتهيِّئَ للمهمة التي يجب أن تنجز قبل بداية شهر “7/2013” أرضها الخصبة (!!)
نكتفي بإيراد هذه الوقائع المهمة التي تكشف عن حجم التهويل في فكرة “خطورة مرسي والإخوان على مدنية الدولة”، وهي الفكرة التي لم تعد تقلق المصريين البسطاء كثيرا بعد مرور الأشهر الأربعة الأولى من حكم “الرئيس مرسي”، أمام ما راحوا يرونه يتجسَّد خلالها أمامهم وإن يكن بصعوبة وبطءٍ، من تعاطٍ مُنتجٍ وفعالٍ مع ملفات الفساد المتجذِّر في البلاد، لإعادة إنتاج المؤسسات على نحوٍ متحرِّر من وقعها وتأثيرها التاريخي الكارثي.. نقول.. نكتفي بذلك لنقف وقفة مطولة ومعمقة أمام ما قلناه من أن “القوى المضادة كانت تسابق الزمن لتهيئة الظروف الصالحة لإنجاز مهمة إسقاط الرئيس والإطاحة بالإخوان المسلمين قبل بداية شهر 7/2013، أي في مدة أقصاها 30/6/2013″، باعتباره التاريخ الذي يمثل “شفرة” المشروع المضاد، و”كلمة السر” في اللعبة كلها (!!)

التاريخ الشفرة الذي كان يجب أن يسقط مرسي والإخوان قبل حلوله
احترامك لمن تراه منافسا أو حتى خصما سياسيا، أو لمن لا تتفق معه في المشروع السياسي وتخالفه وتعارضه فيه، بإنصافه الإنصاف الذي يستحقه، حتى لو كان إنصافه سيعني أنه يسحب بساط الشعبية من تحت أقدامك، تلك هي صفات “فرسان السياسة”، وفي غير هذه الحال فالحديث إنما يكون إما عن “وصوليي وانتهازيي ومتسلقي سياسة” يهمهم أن يكونوا هم من يوصفون بالملائكة، وإلا فإنهم سيصطفون مع “الشيطان”، وإما “غيلان سياسة” يدوسون لأجل أجنداتهم الطبقية المتغوِّلَة ولأجل مصالحهم الفئوية الممعنة في ذاتيتها، كلَّ حلٍّ قد يكون في ذاته نافعا ومفيدا ومنتجا، لمجرد أنه سيحوِّلهم إلى حيوانات أليفة تعجز عن “الخرمشة” التي لا يعيشون بصفتهم “غيلانا” بدونها (!!)
ولأنني لا أفهم السياسة إلا “فروسية” تبتغي طرح الحلول النافعة التي يسعدني أن أراها تأتي من غيري إن أتت، فأحضنها وأضمها إلى قائمة ممارساتي غير مهتم بمن يكون طليعة “الملائكة” مادمت قد نجحت في ألا أكون في صفوف “طليعة الشياطين”..
ولأنني أفهم “التغوُّل” في السياسة باعتباره تجسيدا لـ “مصلحة طبقية” هي في ذاتها متعارضة مع “مصالح الغالبية العظمى من أفراد الشعب”..
أقول.. نظرا لهذا وذاك، فإنني أجد نفسي ومن منطلق “فروسية السياسة” التي أبتغيها نهجا لي، مُلْزَما أخلاقيا بأن أُنْصِفَ الرئيس “مرسي” فيما يستحق فيه الإنصاف، رغم يقيني القاطع بأنَّ سقفَه وسقفَ حركتِه التي ينتمي إليها لن يعدوَ أو يتجاوزَ الإطار التنظيمي القائم على “محاربة الفساد”، بعيدا عن أن يطال الأطر المذهبية للعدالة كما أتصورها وكما يتصورها العقلاء المتحررين من المعتقدات المذهبية المسبقة، لتتحولَ مصرُ تحت حكمه وحكم الإخوان المسلمين، إلى دولة رأسمالية غير فاسدة أو قليلة الفساد على اقصى تقدير.
كما أنني أجد نفسي ومن المنطلق ذاتِه مُلْزَما بانتهاج نهجِ الإنصاف هذا، رغم يقيني بأن الأخطاء السياسية والإدارية لكل من الرئيس “مرسي” وجماعة “الإخوان المسلمين” على الكثير من الصعد ليست بالأمر الذي يستهان به ولا بالذي يُسْكَتُ عليه، لأنها ناجمة في الأساس عن عدم الإلمام الكافي بمواصفات “رجال الدولة” وبمتطلبات إدارة “الدولة”، فكيف إذا كانت هذه الدولة هي “مصر” بكل دلالات ذلك (؟!)
وإنني إذا أنتهج هذا النهج القائم على الإنصاف وفق مبدأ “الفروسية السياسية”، فلأنني على يقين من أن من صنعوا الحدث وحاكوا الخطة في الغرف المغلقة، لم يكونوا على خلافٍ جوهري مع “مرسي” ولا مع “الإخوان المسلمين” – في البدايات على الأقل – إلا في التعاطي مع “إدارة ملفات الفساد” الذي بدا أن النهج الجديد لم يكتفِ بالتعامل معه باعتباره ظاهرة فردية يُحاسِبُ عليها القانون بفروعه “الجنائية” و”المدنية” و”المالية”.. إلخ، وإنما أراد أن يجتثَّ الفسادَ باعتباره منهجا مُقَنَّنا في “إدارة ثروة” الشعب المصري.
وهؤلاء وعندما بدأ الخلاف يدب بأبشع صوره بينهم وبين مرسي وجماعته على هذه الأسس المنهجية، لم يكن أمامهم سوى أن يستدعوا التاريخ والماضي وثارات “الأوس” و”الخزرج”.. إلخ، ليتمكنوا من خوض معركتهم بالأدوات التي تحقق لها النجاح. فلا أحد يستطيع أن يُسْقِطَ رئيسا بالإشارة إلى أنه يستحق الإسقاط لأنه يريد اجتثاث منهج الفساد من الدولة، فمثل هذا الادعاء لو حصل، لكان أدعى به أن يُثَبِّتَ الرئيس لا أن يُسْقِطَه. لذلك كان عليهم – لكي يفشلَ مشروعُه في اجتثاث منهج الفساد بعدم منحه فرصة الاستمرار في إدارة الدولة – أن يقيموا خطتهم في إسقاطه على إفشاله في “الإدارة المعاشية للبلاد”، وفي “تضخيم أخطائه هو وجماعته”، لتظهر تلك الأخطاء وكأنها كوارث لا يمكن تدارك نتائجها إلا بحربٍ ضروس لا رحمة فيها معه ومعهم، وفي “ترصُّد شخصيته” للتقليل من شأنه أمام شعبه، بعد أن ساعدتهم شخصيته غير الكاريزمية على تسهيل مهمتهم (!!)
تعالوا نطَّلِع معا على المفاصل الأساسية في خطة “الرئيس مرسي” لاجتثاث الفساد من مصر في المستوى المنهجي له، وليس في المستوى الشخصي فقط، وكيف تمت مواجهة هذه الخطة..

البدايات الأولى والتأسيس للمواجهة..
من تكليف “كمال الجنزوري” يوم “25/11/2011” بتشكيل الحكومة الجديدة بعد استقالة حكومة “عصام شرف”، تبدأ القصة، فلنتتبع تفاصيلها..
اكتنف الغموض مصير “الموازنة العامة للدولة” للعام المالي 2012/2013، بعد أن تأخرت حكومة الدكتور “كمال الجنزوري” في تقديمها لمجلس الشعب في موعدها المقرر كما جرى العرف في “مطلع أبريل من كل عام”، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات في الشارع المصري..
* ففي 24/4/2012 طلب الدكتور “محمد سعد الكتاتنى”، رئيس مجلس الشعب من الحكومة الإسراع في تقديم مشروع الموازنة العامة إلى المجلس حتى تستطيع اللجان المختصة مناقشته وإعداد تقاريرها عنه، بعد أن تأخرت 24 يوما عن التاريخ العرفي المعتاد. جاء ذلك بعد أن هاجم النائب “أشرف بدر الدين”، وكيل لجنة الخطة والموازنة في مجلس الشعب ما أسماه “عرقلة الحكومة لأهم أدوار المجلس وهو مناقشة مشروع الموازنة العامة قبل إقراره بوقت كاف”، مشيرا إلى أن الحكومة كان يجب أن تعرض هذا المشروع منذ أكثر من شهر على المجلس.
* ولما لم تستجب حكومة “الجنزوري” لهذه المناشدة، وفي يوم 30/4/2012 أكد “محمد معيط” مستشار وزير المالية أن الحكومة الانتقالية تدرس التقدم بمشروع الموازنة الجديدة الأسبوع القادم، مؤكدا على أنه لا يمكن إقرار الموازنة دون عرضها على المجالس التشريعية لمناقشتها وإصدار قانون بها ثم يتم التصديق عليه من المجلس العسكرى. وأشار معيط إلى أنه لا توجد أيُّ أسباب واضحة حتى الآن لتأخر حكومة الجنزوري في عرض الموازنة على البرلمان، ما يضعها في مخالفات دستورية وقانونية، وتجب مساءلتها عن ذلك، وخاصة أنه من الطبيعي أن تُعْلَنَ الموازنة قبل بداية العام المالي المعتمد في مصر وهو “الأول يوليو من كل عام، أي 1/7” بثلاثة أشهر على الأقل، كي يتم إعطاء كامل الفرص لمجلس الشعب لمناقشة جميع بنودها وربما تعديل بعضها.
* ومع قرب انتهاء شهر “آيار/مايو” بأيام قليلة أودعت الحكومة مشروع قانون الموازنة العامة للدولة لدى مجلس الشعب الذي لم يتسنى له أن يبدأ بدراستها الدراسة الوافية، لأنه في يوم الخميس 14/6/2012 أمرت المحكمة الدستورية بحل المجلس بكامله بغرفتيه “النواب” و”الشورى”، مؤكدة على أنه “غير قائم بقوة القانون” بعد الحكم بعدم دستورية قانون الانتخابات.
* وبعد ذلك بيومين، أي بتاريخ 16/6/2012 كشفت المعلومات المتسرِّبة للإعلام أن الدكتور “كمال الجنزوري” رئيس مجلس الوزراء سحَبَ ملف الموزانة العامة للسنة المالية 2012/2013 من البرلمان بعد حله، وأرسل نسخة منها إلى المجلس العسكرى لاعتمادها والتصديق عليها وإصدارها فى صورة مرسوم بقانون خلال الأيام المقبلة.
* وفي يوم الخميس 21/6/2012 أرسلت الحكومة نص مشروع قانون الموازنة العامة للدولة للسنة المالية “2012 – 2013″، إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بعد أن تسلمتها من مجلس الشعب المنحل، وبعد أن قامت الحكومة بمراجعتها. ووفقا لمصدر مسؤول بمجلس الوزراء، فإن المجلس العسكرى سيصدر مرسوماً بإقرار الموازنة الأسبوع المقبل.
* وهذا ما حصل بالفعل، ليتم ذلك مباشرة قبل يوم السبت 30/6/2012 الذي كان يوم أداء الرئيس “محمد مرسي” اليمين أمام المحكمة الدستورية، ليصبح أول رئيس منتخب للبلاد.
* استلم الرئيس مرسي رئاسة مصر إذن في 30/6/2012، أي بعد أن كانت الموازنة العامة للدولة وخطة إدارة البلاد للعام المالي 2012/2013، قد اعتُمِدَت من قبل حكومة “كمال الجنزوري”، وهما – أي الموازنة والخطة – لم تخرجا عن السياق التقليدي المتعارف عليه في موازنات وخطط الحكومات من أيام الرئيس المخلوع “مبارك”، ولم يرد فيهما شيء جديد على أيِّ صعيد ذي طبيعة مذهبية تحرِّر الاقتصاد المصري من ربقة “الرأسمالية وآليات السوق” من جهة أولى، أو ذي طبيعة تنظيمية تضع الأسس اللازمة لمحاربة الفساد الممنهج من جهة ثانية.
أي – وهذا ما لا تتم الإشارة إليه ولا يتم ذكره في أيِّ وسيلة إعلامية ولا من قبل أي محلل أو قارئ للمشهد المصري – أن كل ما حدث في السنة الأولى من حكم “مرسي” في المجال الاقتصادي، كان في الجانب الأكبر منه من تداعيات وبركات تطبيق خطة ومشروع موازنة “كمال الجنزوري”، إلا ما كان منه اجتهادا من قبل الرئيس وفريق عمله وحكومته، فيما كانت تتيحه خطة “الجنزوري” ذاتها من هوامش لذلك، وهو ما سنكتشف أنه – أي الاجتهاد المتاح على هامش الخطة ذاتها – كان وحده الإنجاز الاقتصادي الإيجابي خلال ذلك العام (!!)
لقد كانت الملامح العامة للسياسة الاقتصادية للدولة فيما يتعلق بمنهج محاربة الفساد كما تم الحديث عنه من قبل بعض القيادات الإخوانية، سواء في مجلسي النواب والشورى، أو في الصالونات الحزبية شديدة التجاذبات، واضحة لكلٍّ من قيادات “الجيش” و”الشرطة” و”القضاء” المعنية الأولى والأساس والأهم باستعادة الدولة بشكلها “المباركي” وإن يكن ببعض الرتوش والتعديلات القِشْرِيَّة الطفيفة التي تحافظ لذلك الشكل على مضمونه الجوهري الذي لا يمس بالبُنْيَة الطبقية لتمركزات الثروة في البلاد.
وبالتالي فإن “الموازنة العامة” و”السياسة العامة” للدولة في السنة المالية “2012/2013” كما وردتا في برنامج حكومة “الجنزوري”، كان من المؤكد أنهما لن تحظيا بالثقة في مجلس الشعب، وهذا يعني أنه لو استمر الحال على ما هو عليه، فإن الفكرة الخطيرة الجديدة في منهج “الإخوان المسلمين” في مواجهة الفساد المُمَنْهَج بنمط إصلاحي ممنهج هو أيضا، سوف تُشَكِّلُ عائقا حقيقيا أمام إعادة إنتاج الدولة ومناهجها السابقة على انتفاضة 25 يناير، حتى لو تمَّ انتخاب رئيسٍ للدولة ليس من “الإخوان المسلمين”، مادم الإخوان موجودون في مجلس الشعب بغرفتيه بثقل يعتبر صاحب القرار التشريعي، وماداموا سيكونون موجودين بثقلٍ فاعلٍ أيضا في الحكومة الجديدة التي ستتشكَّل بعد الانتخابات الرئاسية، على نحوٍ يُفْقِدُ الرئيس قدرتَه – حتى لو كان هو “أحمد شفيق” نفسه – على تمرير المشروع المراد تمريره فيما يتعلق باستعادة الدولة عبر إعادة تشكيلها في قلب بعض المنجزات الثورية المتعلقة بالحريَّة.
إن مشروع استعادة الدولة “المباركية” عبر المحافظة على منهجها الاقتصادي برشاوىَ تتعلق بحريةٍ وبدولةٍ مدنية غير مؤهلتين لأن تمسا بالجوهر الاقتصادي للدولة ولبُنْيَتها الطبقية والمصالحية – وهو المشروع الذي اضطلع به “الجيش”، وسانده فيه “جهاز الشرطة” و”مؤسسة القضاء”، فضلا عن كلِّ البنية العميقة للدولة، ومجموعات “الليبراليين الجدد” في كافة مواقعهم قديمةً كانت أو جديدة أو مستنسخة – ما كان له أن ينجحَ إلا إذا تمَّ تغييب “مجلس الشعب” المناكف التشريعي المزعج للحكومات وللرؤساء، ليتسنى تمهيد الطريق لرئيس الدولة إذا لم يكن إخوانيا وجاء من الفريق المساند لمشروع الاستعادة هذا، أو ليتسنى التفرُّغ لمناكفة الرئيس وحده في حال فوز رئيس إخواني، لأنه سيكون رئيسا بلا أيِّ غطاء تشريعي يسانده، وبالتالي سيكون من السهل على تحالف “استعادة الدولة” التحرك بالشكل المناسب للوصول إلى الهدف المقرر سلفا (!!)
لقد كانت حكومة “كمال الجنزوري” واقعة إذن بين فكَّي كماشة مُربكين ومثيرين للقلق، أحدهما يمثله “مجلس الشعب” الذي لن يسمح بتمرير مشروع الموازنة ومشروع السياسة العامة للدولة للعام المالي “2012/2013″، خاصة بعد حزمة التشريعات القليلة التي أصدرها المجلس، والتي بدا أنها تمسُّ مساسا مباشرا بمنهج الفساد في الدولة على نحوٍ قد يخلخل البُنية الطبقية القائمة على الفساد، والمستفيدة منه، والمنتفعة من مَنْهَجَتِه السائدة، وخاصة فيما يتعلق بالصناديق الخاصة وهي المسألة الأكثر خطورة عندما يكون الحديث منصبا باتجاه “مَنْهَجَة الفساد وقوننته”. فيما يمثل الفك الثاني من الكماشة واقعة أن الانتخابات الرئاسية أصبحت على الأبواب، فيما فريق “مشروع استعادة الدولة” يحرص على ألا تبقى مشاريع مثل “الموازنة” و”خطة إدارة اقتصاد الدولة” معلقة ومؤجلة إلى أن تتشكل الحكومة الجديدة التي ستلي الانتخابات الرئاسية مباشرة، فيفقد المجلس العسكري الذي يتولى دور “المايسترو” في جوقة “استعادة الدولة” زمام المبادرة، لأن الانتخابات الرئاسية ستعيده إلى ثكناته، أو هكذا يفترض.
من جانبٍ آخر فإن اللجوءَ إلى حلِّ مجلس الشعب بعد اعتراضه على مشروع الموازنة وردِّه له أو بعد مطالبته بتعديلات جوهرية عليه تفقده قيمتَه في معادلات جوقة “مشروع استعادة الدولة”، سيجعل حلَّه يظهر وكأنه اعتراض على منهجه في محاربة الفساد، فتزداد شعبية ويفقد أعداؤه وعلى رأسهم المجلس العسكري مصداقيتهم، وهو ما يتعارض بالمطلق مع خطة تلك الجوقة لاستعادة السيطرة على الدولة بشكل دستوري يتناغم مع مبادئ 25 يناير.
إن المعضلة التي وقع تحت تأثيرها قادة “الجوقة” إياها هي أن “مجلس الشعب” يجب أن يغيبَ عن الساحة التشريعية كي يتسنى للمجلس العسكري أن يكون هو صاحب القرار فيصادق على مشروع موازنة الجنزوري وخطته لإدارة الدولة في العام “2012/2013″، ويجب أن يكون غيابه مبررا قانونيا ويبعده عن شبهة أنه غياب مسبَّبٌ بالرغبة في تسهيل الطريق التشريعي أمام مشروع الموازنة وما يستتبعه من مشاريع تتعلق بإدارة اقتصاد الدولة، كي لا يحظى تغييه بأيِّ تعاطف شعبي.
وفي الوقت ذاته يجب أن يتمَّ إنجاز كل ذلك قبل الانتخابات الرئاسية التي إن جاءت برئيس من الجوقة وأنصارها فبها ونعمت، وإن جاءت برئيس من الإخوان فسيجد نفسه مُكَبَّلا بمشروع موازنة استكمل كامل الخطوات التشريعية لنفاذه، ما يسَهِّلُ عملية حصاره لاحقا.
وإذن فلابد من أن يكون غياب مجلس الشعب ناتجا عن قرارٍ يحظى بالقداسة والاحترام من مؤسسة تحظى بهاتين الصفتين، وهي “المحكمة الدستورية”، التي كان عليها أن تقوم بحل المجلس لأسباب دستورية وقانونية. وكان لابد في الوقت ذاته من أن تتمَّ المماطلة في التقدم بمشروع الموازنة للمجلس كي يتمَّ حلُّه قبل أن تتاحَ له فرصة إصدار أيَّ قرار بشأنه، وذلك لأجل ألا يبدوَ حلُّه وكأنه إسقاط لقراراته بشأن الموازنة.
وهذا ما حصل، فقد استمرت حكومة الجنزوري تماطل في إيداع مشروع الموازنة لدى مجلس الشعب إلى أن اتخذت إجراءات حل المجلس مسارا متقدما، بحيث غدا واضحا أن المجلسَ سوف يُحَل قبل أن تسمحَ إجراءاتُه البيروقراطية باتخاذ أيِّ قرارٍ تجاه مشروع الموازنة المودَع لديه، ليكون ملائما عندئذ أن تلجأ الحكومة لسحب المشروع من مجلس الشعب المنحل وتقديمه بشكل قانوني ودستوري للمجلس العسكري، لأن السلطة التشريعية ستؤول إليه وفق منطوق “الإعلان الدستوري” المعمول به. وقد كان من الطبيعي أن يصدرَ “المجلس العسكري” قرارَه بالمصادقة عليه قبل أن يؤدي الرئيس مرسي اليمين أمام المحكمة الدستورية، وذلك لأجل أن يجد نفسَه هو وحكومته محاصرين بمشروعٍ لا يمكن تجاوزه أو إلغاؤه، لأن مشروع الموازنة عندما يُقَر يصبح قانونا، والقانون ملزمٌ للرئيس قبل أن يكون ملزما لأيِّ كان (!!)
مع ضرورة توضيح أن حل مجلس الشعب لأسباب دستورية وقانونية تتعلق بعدم شرعية نشأته أصلا بسبب عدم شرعية القانون الانتخابي الذي تأسس بناء عليه، كانت لعبة ذكية من “الجوقة”، لأن هذا المبرِّر للحل يجعل كافة التشريعات والقوانين التي أصدرها غير دستورية وباطلة، فتسقط بالتالي تلك الحزمة من القوانين التي كانت قد بدأت تربك الجوقة بسبب جرأتها في اقتحام “أوكار الفساد المُمَنْهج” (!!)
لم يكن أمام الرئيس “محمد مرسي” وحكومة “هشام قنديل” لاحقا سوى الانتظار إلى أن تنتهي السنة المالية “2012/2013” في “30/6/2013” كي يتسنى له البدء في “1/7/2013” في تنفيذ خطته الجريئة وغير المسبوقة في التعاطي مع ظاهرة “الفساد الممنهج” في مصر وفق مشروع موازنة العام المالي “2013/2014″، بعد أن غدا مُلزما – وعلى مدى سنة كاملة – بتنفيذ موازنة وخطة “كمال الجنزوري” التي صادق عليها المجلس العسكري. وقد راح بالتالي يتحرك في حدود ما لا يتعارض قانونيا مع ما تتيحه خطة “الجنزوري” من هوامش للتحرك، وهي هوامش محدودة، إلا أنه تمكن من تحقيق بعض الاختراقات الإيجابية فيها مكَّنَته من التأسيس لما قد يساعده على تنفيذ خطته هو منذ الأول من يوليو 2013.

جوهر الخلاف الحقيقي مع مرسي والإخوان هو الموقف من “الفساد المُمَنْهَج”..
على ماذا كانت تقوم خطة الرئيس “محمد مرسي” لإعادة إنتاج الاقتصاد المصري من الناحية التنظيمية على نحو يقضي على “مَنْهَجَة الفساد” المستفحل في الدولة (؟!)
لقد قامت خطته على العناصر السبعة الرئيسة التالية..
1 – تخفيض السقف الأعلى للمرتبات التي يتقاضاها أيُّ موظف في القطاع الحكومي، إلى الحدِّ الذي لا تزيد فيه عن “50” ألف جنيه شهريا، مع العلم بأن هناك مرتبات لآلاف الموظفين الحكوميين تدور في فلك ملايين الجنيهات شهريا، دون أن تكون خاضعة لرقابة “جهاز الرقابة الإدارية على المال العام” بسبب “الصناديق الخاصة” التي تمثل أسَّ البلاء في “الفساد المُمَنْهَج” في مصر (!!)
2 – استعادة ما زاد من عن الخمسين ألف جنيه شهريا من أيِّ موظف حكومي ينطبق عليه ذلك بأثر رجعي، وهو ما يعني أن عشرات بل وربما مئات المليارات من الجنيهات من الأموال المنقولة وغير المنقولة، كانت ستعود إلى الشعب المصري عبر عودتها إلى خزينة الدولة بموجب تطبيق هذا البند من “سياسة محاربة الفساد المُمَنْهَج” (!!)
3 – تسوية الأوضاع الضريبية لكافة الشركات والمؤسسات الكبرى التي كانت تتهرب من دفع الضرائب أيام حكم الرئيس “مبارك” ضمن صفقات “فساد الغرف المغلقة”، وذلك عبر اتفاقيات تسوية تجلب دخلا إلى خزينة الدولة من مصدر مالي كان يعتبر وحتى استلام الرئيس مرسي للحكم “مصدرَ أموالٍ معدومة”. وللعلم فإن ما تمكنت حكومة الرئيس مرسي من استعادته عبر هذه السياسة خلال سنة حكمه، بلغ 24 مليار جنيه، وهو مؤهل للزيادة والارتفاع إلى أكثر من ذلك بكثير لو استمر في الحكم وأتيحت الفرصة لهذه السياسة بأن تستمر وتتواصل (!!)
4 – عانى الشعب المصري منذ العام المالي “2009/2010” من توقف غير مُبَرَّر في صرف كافة العلاوات السنوية لموظفي القطاع الحكومي، أي أن الموظفين الحكوميين المصريين حُرموا من صرف أيِّ علاوات يفرضها القانون لمدة أربع سنوات كاملة. فإذا علمنا بأن يوم “30/6” من كلِّ عام هو التاريخ المعتمد سنويا لصرف تلك العلاوات التي يُفترض أن تكون قد أُقِرَّت في قانون الموازنة الذي يُفترض بدوره أن يكون قد أُقِرَّ قبل ذلك التاريخ، لتبدأ السنة المالية الجديدة في “1/7” من العام نفسه بسلاسة يتم من خلالها تنفيذ ما يتعلق منها بالعلاوات فورا.. نقول.. إذا علمنا بذلك، فقد كانت خطة الرئيس مرسي في هذا البند بالذات قائمة على البدء بصرف تلك العلاوات الفائتة لكافة موظفي القطاع العام وبأثر رجعي منذ العام “2009/2010″، وكانت الأموال المستردة من خلال تسويات الضرائب وتلك التي ستُسْتَرَدُّ لاحقا هي العباءة المالية التي ستقوم بتغطية كلِّ تلك العلاوات وتزيد، فمبلغ الـ “24” مليار جنيه المُحَصَّلَة حتى تاريخه تعتبر أرصدة نقدية كافية للبدء في تنفيذ هذا البند من الخطة. وفي هذا ما فيه من رفعٍ لمرتبات كافة موظفي القطاع الحكومي المصري، ومن رفع القدرة الشرائية لهم (!!)
5 – في مصر تعتبر “الصناديق الخاصة” هي الغطاء القذر لـ “مَنْهَجَة الفساد المالي”، والحجاب الذي يختبئ وراءه كل ناهبي المال العام ومفقري الشعب المصري، وذلك بسبب محدودية النهب والسرقة من الموازنة التي تتمُّ متابعة تنفيذها رقبايا إلى حدٍّ ما.
والصناديق الخاصة – لمن لا يعلم – هي صناديق منتشرة بكثرة لدى المحافظات والهيئات الحكومية المختلفة والوزارات.. إلخ، وتُعَدُّ بالعشرات، وهي وكلُّ ما يدخل إليها من أموال “واردات”، وكل ما يخرج منها من أموال “نفقات”، تقع خارج نطاق الخضوع لأيِّ رقابة يقوم بها “جهاز الرقابة الإدارية على المال العام”، ولا تدخل حركة أموال تلك الصناديق في أيِّ مشاريع للموازنة العامة على الإطلاق، وهي تقع تحت التصرف المباشر للمحافظين، ولرؤساء الهيئات الرسمية، ولقادة الشرطة، ولقادة الجيش، ولرؤساء الهيئات القضائية.. إلخ. إنها عالم مظلم قائم بذاته لا يتدخل فيه أيُّ رئيس دولة، ولا تتدخل فيه أيُّ حكومة، ولا يقترب منه أيُّ برلمان.. إلخ.
ومصدر تلك الأموال هو الشعب المصري الذي يدفع الضرائب والرسوم المختلفة التي تصب في تلك الصناديق، متخطية أيَّ جسور قد تفرض عليها العبور إلى أيِّ موازنة محاصرة بالرقابة وبالتشريعات. وتُقَدر الأرصدة الموجودة في تلك الصناديق بمئات المليارات من الجنيهات. وهي تستند في ملئها المستمر إلى نبعٍ لا ينضب من الموارد مصدرها الشعب المصري المغلوب على أمره.
وتعتبر الصناديق الخاصة التابعة لكلٍّ من الجيش والشرطة والقضاء والمحافظين، هي الأهم والأكثر تجسيدا للنهب والفساد والإفساد والاختلال الكبير في الأجور والمرتبات بين موظفي القطاع العام، عندما نجد بسبب هذه الصناديق من يتقاضى ملايين الجنيهات شهريا عن عمل يتقاضى عليه موظف آخر من نفس الدرجة والكفاءة والاختصاص ما لا يزيد عن عدة آلاف من الجنيهات. وهذه هي صورة الفساد الكبرى التي تجسِّدها تلك الصناديق، حيث “يقربط” كلُّ جهاز و”تقربط” كلُّ هيئة أو مؤسسة أو محافظة في “صندوقها الخاص” دون أن تسمحَ بأن يتدخل أحد في كيفية إدارتها لأموال صندوقها بعيدا عن أعين أيِّ رقابة مالية أو إدارية.
استلم الرئيس “مرسي” زمام السلطة في “30/6/2012″، وكان هذا العالم بالنسبة له عالما من الأسرار والظلمات – كما هو بالنسبة لكل من يعلم بوجوده ويعجز عن فهم آلياته – تحركه أشباحٌ لا يعلم أحد ما الذي تفعله. ولأنه يعلم بأن هذه الصناديق هي معقل منهج الفساد والإفساد الرئيسي في القطاع الحكومي برمته، كما كان يعلم ذلك كل العقلاء والمطلعين حتى لو سكتوا و”طنشوا” لأسباب هنا ولأسباب هناك، فقد كان عليه أن يبدأ بالتحرك بوصفه رئيسا للدولة يحمل على عاتقه كما وعد “محاربة الفساد المُمَنْهَج”، مستندا على ما كان مجلس الشعب قبل حلِّه قد أصدره من قوانين تتعلق بهذا الخصوص كمصدر للمعلومات فقط، لأن تلك التشريعات سقطت بحل المجلس، ولأن أحدا لم يتعاون مع الرئيس من بقايا النظام السابق.
وبدأ في هذا السياق من بنود خطته يُقحِم بعضَ رجاله المقربين في مستويات وظيفية من الدرجة الثانية والثالثة في المحافظات والهيئات الحكومية المختلفة وفي الوزارات، فيما عجز عن فعل ذلك في كل من “الشرطة” و”الجيش” و”القضاء” لأسباب تتعلق ببنية تلك الأجهزة الخطيرة الماسكة لزمام الأمور في الدولة – وهو إلى جانب تعيينات أخرى ما كان يعتبره الكثيرون بمثابة سياسة أَخْوَنَة للدولة – كي يتعرف على الحقائق ويكشف ما يدور في الخفاء، آخذا في الاعتبار أن مسألة الصناديق الخاصىة يجب أن يعاد النظر فيها بدءا من مشروع موازنة العام المالي “2013/2014” الذي سيتم البدء بتنفيذها في “1/7/2013”.
وكانت خطته فيما يتعلق بالصناديق الخاصة تقوم على أنها يجب أن تخضع لرقابة “جهاز الرقابة الإدارية على المال العام”، وأن كافة “إيراداتها” و”نفقاتها” يجب أن تكون جزءا من الموازنة العامة للدولة، لتكون تحت سمع وبصر “البرلمان” وكلِّ الأجهزة الرقابية الأخرى في الدولة. وهو ما يعني أن تتم قصقصة أجنحة كلِّ القوى العميقة وغير العميقة المنتفعة من هذا النبع الذي لا ينضب من أموال الشعب المصري بغير وجه حق.
6 – في مصر أيضا – وما أكثر العجائب التي تحدث في مصر – وبموجب القانون يتم اقتطاع نسبة مئوية من دخل أيِّ مواطن عامل سواء في القطاع العام أو في القطاع الخاص على شكل ضريبة يطلق عليها “ضريبة الكسب من العمل”. العجيب في المسألة هو أن هذا القانون ألزم كلَّ المصريين العاملين في أيِّ قطاع بهذه الضريبة مهما كانت مرتباتهم متدنية، واستثنى من ذلك كلَّ العاملين في “الجيش” و”الشرطة” و”القضاء” مهما كانت مرتباتهم مرتفعة. في هذا السياق وإضافة إلى بند تخفيض الحد الأقصى للأجور والمرتبات الذي كان سيعتمده الرئيس مرسي في خطته كي لا تزيد عن “50” ألف جنيه شهريا بعد “30/6/2013″، فإنه وضع على رأس قائمة بنود خطته تعميم “ضريبة الكسب من العمل” لتطالَ كافةَ العاملين في “الجيش” و”الشرطة” و”القضاء” وبما يتناسب مع دخولهم وأجورهم ومرتباتهم المرتفعة.
7 – لقد كان قرار الرئيس مرسي الداعي إلى البدء بسياسة “إقرار الذمة المالية” لكافة موظفي القطاع العام الذين لم يستثنِ منهم لا الجيش ولا الشرطة ولا القضاء، مع العلم بأنه تجنَّبَ ذكرهم لعدم الاصطدام المباشر بهم بما يعلمه منهم من معاداة لنهج محاربة “الفساد المُمَنْهَج” باعتبارهم دهاقنته وكهنته الأساسيون في البلاد.. نقول.. لقد كان لقراره هذا والذي كان سيبدأ بتنفيذه في “1/7/2013” مع بدء العمل بخطته وبمشروع الموازنة العامة المقدم من حكومته، أثر السحر في استفزاز كل الذين يختبئون وراء هلامية ذِمَمِهم المالية للنهب والسلب والولوغ في المال العام من مواقعهم التي تتيح لهم ذلك.
ولقد كانت سياسة الرئيس مرسي في هذا السياق – كما أعلنها – تقضي بأن يتمَّ الإعلان عن الذمة المالية لكل موظفي القطاع العام كما هي في “1/7/2013″، دون أن يكون ذلك اعترافا بمشروعيتها إلا بعد أن تخضع لباقي العناصر المتعلقة بمحاربة “الفساد المُمَنْهج” كما تمت الإشارة إليها في باقي بنود خطته وبأثرٍ رجعي، لتكون الذمم المالية المعترف بها كأرضية للرقابة الدائمة والمتواصلة لاحقا، هي تلك التي تُعْتَمَدُ بعد تصفيتها من الاستحقاقات الواجبة في حقها بناء على ما سبق. ولقد كان من الطبيعي أن يُطيرَ هذا الطرح صوابَ كلِّ من يعرف أن أيَّ بحثٍ وتَتَبُّعٍ بسيطين لماله وثروته سيكشفان عن أن مصدرهما هو النهب والسرقة والرشوة والفساد والاستفادة من الصناديق الخاصة.. إلخ.
إن هذه النقاط السبع – التي ربما كان بالإمكان في سياق تطبيقها ابتكار أفكارٍ جديدة لا يمكننا التنبؤ بها ولا كان الرئيس مرسي نفسه قادرا على التننبؤ بها – هي بمثابة السياسة المالية التي جهزتها إدارة الرئيس “محمد مرسي” لتبدأ بتنفيذها مع حلول السنة المالية الجديدة “2013/2014″، في سياق ما يمكننا أن نسميه “حملة محاربة الفساد المُمَنْهَج في مصر”.
وهي نفسها النقاط التي انتبهت كافة القوى المهيمنة على الدولة وعلى مفاصلها الرئيسة وعلى بُناها العميقة، إلى أنها تمثل البداية الحقيقية – إن قُيِّضَ لها النجاح – لأفول زمن دولة “الفساد المُمَنْهَج”، ولأفول زمن تجذُّر البُنية الطبقية والمصلحية القائمة على هذا النوع الأخطر من أنواع الفساد على الإطلاق، لأنه يحوِّل الفساد إلى نظامٍ يشرعنه القانون بدل أن يجعله جريمة شخصية يحاسب عليها القانون.
كان يجب إذن – ومنذ الأيام الأولى لبروز هذا النهج في مجلس الشعب المنحل منتصف عام 2012 أن تُدار معركة شرسة تهدف إلى ممارسة كل ما من شأنه الإبقاء على بُنْيَة الدولة الأساس والقائمة على “شرعنة ومنهجة الفساد المالي”. ولقد بدأت المعركة واستمرت إلى أن حققت مبتغاها بالشيطنة الكاملة للرئيس مرسي ولجماعة الإخوان المسلمين، ولحشد شرائح واسعة من الشعب المصري لتقف في خندق هذا النهج، دون علم منها بأنه نهج يستخدمها وقودا في محرقة تستهدف الإبقاء على واقع مصر قائما في قلب دولة تُمَنْهِج الفساد وتشرعنه، كي تدفع هي – أي تلك الشرائح الشعبية ذاتها – ثمن هذه المعركة الدائرة من قوتها ومن رفاهيتها ومن مستقبل أبنائها (!!)
بدأت اللعبة بالمماطلة من قبل “كمال الجنزوري” في إيداع مشروع موازنته للعام “2012/2013” لدى مجلس الشعب، ثم بحل مجلس الشعب بغرفتيه “النواب” و”الشورى”، ثم بعرض مشروع الموازنة على المجلس العسكري ومصادقة هذا الأخير عليه، ثم بضمان التزام مرسي بموجب القانون بتنفيذ هذه الموازنة واضطراره إلى تأجيل مشاريعه وخططه إلى “1/7/2013″، ثم بالعمل الدؤوب على مدى عام كامل لمحاصرته وتشويهه هو وجماعته والمبالغة في تضخيم أخطائه والتقليل من شأنه الشخصي، ثم في تحريك كلِّ مفاصل الدولة العميقة وغير العميقة بالصور الملائمة كلٌّ من موقعه لتشتيته والضغط عليه وعلى حكومته، ثم في تحريك الماكينة الإعلامية لتقوم بواجب الحشد والترويج والتعبئة الشعبية ضده.. إلخ، ثم بتهيئة الأرضية في الشارع لتتحرك في الوقت المناسب بالشكل المناسب عبر الأداتين التنظيميتين اللتين غدتا هما الواجهة السياسية لتنفيذ مشروع “استعادة الدولة المباركية” عبر الإبقاء على “الفساد المُمنهج” في حاضنةٍ مدنيةٍ مخادعةٍ تُرْضى النُّخَب الثقافية والسياسية المضلَّلة وتكرس “الليبرالية الجديدة” التي ستقوم في مصر على تلك “المدنية المخادعة”، وعلى “اقتصاد السوق”، وعلى “الإبقاء على مَنْهَجَة الفساد”، وهما “الجبهة الوطنية للإنقاذ” و”حركة تمرد” (!!)
دون أن نمر في هذا السياق مرورا غير متبصِّر بما لا يتحدث عنه أحد – دون أن نعرف سبب ذلك – ألا وهو أن المجلس العسكري خلال فترة السنة والنصف التي كان فيها حاكما فعليا للبلاد قبل انتخابات الرئاسة، كان قد تمكن بقدرة قادر (!!) من تخفيض احتياطي العملة الأجنبية المصرية في البنك المركزي من “29” مليار دولار – الذي كان حليه وضع تلك الاحتياطات لحظة رحيل الرئيس مبارك – إلى “13” مليار دولار لحظة استلام الرئيس “مرسي”، وهو انخافض مهول في نسبة ذلك الاحتياطي لم يحدث أن تعرض لربعها على مدى سنوات الرئيس مبارك الثلاثة والثلاثين بأكملها، ودون أن يسأل أحد “المجلس العسكري” عما فعله ولا كيف أنفق كل ذلك، ليستلم الرئيس مرسي دولة خزينتها على حافة الإفلاس، دون أن يكون لا هو ولا الإخوان المسلمون السبب في ذلك (!!)
ولأسباب أصبحت واضحة بعد هذا التحليل كان “30/6/2013” هو “التاريخ الشفرة” و”نقطة الصفر” في اللعبة كلها (!!)
كان يجب على النظام أن يسقطَ في ذلك التاريخ، وألا تتاح له أيُّ فرصة للمبادرة بتنفيذ مشروعه المحارِب لـ “الفساد المُمَنْهَج” من خلاله بقائه في السلطة بعد ذلك التاريخ (!!)
كانت معركة تكسير عظام حقيقية، معركة وجود، مارست لأجلها “جوقة استعادة النظام المباركي” لأجل “حماية الفساد المُمَنْهَج” كل ما أمكنها ممارسته من أعمال وسياسات من خلال كل ما أتيح لها من أدوات (!!)
وها هو النظام الجديد يصدر قراراته بموجب الإعلان الدستوري الذي كان قد أصدره الرئيس المؤقت بوقف العمل بكل الخطط والبرامج التي كان الرئيس مرسي قد أعدها لينفذها في العام المالي “2013/2014″، بما في ذلك بل وعلى رأسه “برنامج التأمينات الصحية”، و”العلاوات المؤجَّلة”، و”إقرار الذمة المالية”، و”إخضاع الصناديق الخاصة لرقابة “جهاز الرقابة الإدارية على المال العام”، و”تخفيض المرتبات التي تزيد عن “50” ألف جنيه لموظفي القطاع الحكومي” ناهيك عن تطبيق ذلك بأثر رجعي من حيث المبدأ.. إلخ (!!)
ولكي لا يلتفتَ أحد إلى الجوهر الاقتصادي للمعركة، ولا إلى مربط الفرس وبيت القصيد في النزاع المستفحل في الخفاء بين الإخوان وخصومهم، ألا وهو النزاع حول “الفساد المُمَنْهَج” إما مُحاربةً له وإما دفاعا عنه، فقد كان من الضروري أن يتم توجيه كلِّ حلقاتها وكلِّ مُكَوِّناتها لتصب في ثلاث خنادق يستهدف كلُّ خندق منها شريحة من شرائح المصريين، فيتم ضمان انشغال الجميع بالبعد المرسوم للمعركة، وإلهائهم إلهاء تاما عن بعدها الحقيقي الذي هو “محاربة الفساد الممنهج”، وهذه الخنادق الثلاثة هي..
* “أخونة الدولة والاعتداء على مدنيتها”، بهدف استنفار مخاوف المسيحيين الأقباط وكافة النخب السياسية والثقافية المدنية والعلمانية.
* “الفشل في الإدارة المعاشية للدولة وخاصة في قطاعات الأمن والوقود والكهرباء”، بهدف استنفار كلِّ من يمكن استنفارهم من المصريين الذين سيتضررون جميعا من هذا الفشل الإداري المعاشي.
* “التلاعب بمشاعر الشباب عامة والثوار منهم خاصة”، بالتركيز على حقوقهم التي أهدرها حكم الإخوان المسلمين، بهدف استنفار مشاعر وطموحات الشباب الذين تم تحييدهم منذ البدايات الأولى، حتى منذ تولي المجلس العسكري لزمام الأمور في البلاد.
ولكن كل هذا الذي أوردناه حتى الآن إنصافا واعترافا بالوقائع والحقائق كما هي دون أن نزيد فيها أو أن ننقص منها، لن يثتينا عن القول بأن “الإخوان المسلمين” كانوا وما يزالون في مصر هم السبب المباشر فيما آلت إليه أوضاع مصر..
* فهم من أفشل ثورة 25 يناير 2011 بأن حولوها إلى مجرد “انتفاضة” عندما نجحوا في إيقافها عند مستوى إسقاط الرئيس والتعامل مع بقايا نظامه ليستكمل هؤلاء برفقة الإخوان ثورةً توقعوا أن بإمكانهم السيطرة على الدولة بعدها لوحدهم. وما انتبهوا إلى أن ما سعوا إليه من إيقافٍ للثورة عند ذلك الحد، كان هو هدف فلول النظام وبقاياه وجيشه وشرطته وقضاؤه وكل بُنَى الدولة العميقة الخادمة لجميع هؤلاء، بقدرِ ما كان هو هدفهم، فأفشلوا ثورةً نبيلة كانت ستغير وجه العالم، ليُفْشِلَهم بعد ذلك نظامُ ظنوا أنهم قادرون على مواجهة أشباحه العاملة في الخفاء (!!)
* وهم الذين كذبوا على الشعب المصري وخدعوه وضلَّلوه منذ البداية، عندما قالوا له أنهم لن ينزلوا في الانتخابات البرلمانية بكامل ثقلهم، وأنهم سيحرصون على ألا يتجاوز ثقلهم في مجلس الشعب ثلث أعضائه فقط، وأنهم لن يشاركوا في أول انتخابات رئاسية لمصر، لأنهم يفضلون التواجد في موقع المعارضة في المراحل الأولى التي تلي استقرار الأوضاع في مصر، لينقلبوا على كل وعودهم، وينزلوا بكلِّ ثقلهم في الانتخابات، وليرشحوا أحد أعضائهم لمنصب رئيس الجمهورية (!!)
* وهم الذين لم يدركوا خطورة أن يكونوا أول من يستلم السلطتين التشريعية والتنفيذية في بلد يتربص به وبمستقبله نظام مبارك بكل بقاياه المتجذرة والراسخة، قبل أن يشتغلوا ثقافيا ولمدة طويلة في الدولة الجديدة من موقع المعارضة التي لا تحمِّلهم مسؤولية أيِّ فشل وتساعدهم على العلم والمعرفة وعلى اكتساب الخبرات وتأهيل رجال دولة بالمعنى المعاصر، فوقعوا في خطإ الاستعجال للتمكن من السلطة بـ “أنصاف ساسة” وبـ “أرباع خبراء” وبـ “صبيان دولة” (!!)
* وهم الذين لم يحاولوا أن يفهموا أنه كان عليهم إجراء تغييرات وتعديلات كثيرة في خطابهم السياسي والديني بعد أن أصبحوا جزءا من لعبةٍ سياسية شرسة يتربص فيها الجميع بالجميع في دولةٍ مشاع ينخرها الفساد من الرأس إلى إخمص القدمين (!!)
* وهم الذين لم يفهموا أن محاربة “الفساد الممنهج” وإن كان ضروريا جدا في أعقاب الثورات التي تطيح بأنظمة الفساد والاستبداد، إلا أنها لا تكفي وحدها لإنجاز مشروع سياسي واقتصادي ينتشل دولة مثل مصر بأهميتها ومكانتها من براثن التخلف والفقر والبطالة والطبقية وثقافة الرَّيْع وتبرير الرشوة والفساد.. إلخ، لينهضَ بها فتصبح في مصاف الدول المتقدمة في إقليم حساس مثل إقليم المشرق العربي (!!)
* وبعد ذلك وقبله وفي كلِّ وقت، كانوا وما يزالون يفتقرون إلى أيِّ مشروع سياسي متكامل لـ “تمدين الإسلام”، وإلى أيِّ مشروع اقتصادي واضح لحل إشكالية العلاقة بين “قيمتي الحرية والعدالة” بعيدا عن ثقافة التزاوج بين “الليبرالية الديمقراطية” و”الليبرالية الاقتصادية” التي تُعْتَبر بضاعة أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الأفول حتى في موطنها الأم “أوربا” (!!)
فهل بعد كلِّ ذلك يمكننا توقع نجاحهم في إدارة دولة في قلب معركة شرسة يفتقرون إلى كلِّ الأسلحة الفاعلة والمؤثرة فيها (؟!)

لماذا تدعم السعودية “المصريين الجدد” ضد “الإخوان المسلمين” (؟!)
لا يتصور عاقل أن “السعودية” وخاصة في ظل حكم الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز دعمت وتدعم النظام المصري الراهن ضد “الإخوان المسلمين”، لأنها تدعم الديمقراطية ضد الاستبداد، أو لأنها تدعم النزعة القومية ضد النزعة القطرية ونظيرتها الأممية، أو لأنها تدعم أعداء المشروع الإمبريالي الصهيوني ضد حلفائه الذين أريدَ لنا أن نقتنع بأنهم هم الإخوان المسلمون تحديدا وليس غيرهم، أو لأنها تدعم “الإسلام المعتدل” ضد “الإسلام الفاشي”، كما يروِّج الإعلام المصري عند الحديث عن الإخوان المسلمين (!!)
وذلك لسبب بسيط هو أن السعودية “ساسة” و”علماء سلاطين” يعتبرون “الديمقراطية كفرا”، ويعتبرون “القومية العربية زندقة”، وينظرون إلى أيِّ إسلامٍ يمنحُ رخصة قيادة للمرأة باعتباره “انحلالا وخروجا عن جادة الطريق”، ولأن “آل سعود” – وهذا هو المهم – هم الرديف الإقليمي الحقيقي والأول والأهم لـ “إسرائيل” في دعم المشروع الإمبريالي الصهيوني (!!)
فلماذا إذن يدعمون ما يقال أنه “نظام مدني ديمقراطي لا استبدادي لا ديني” يقوده العسكر من وراء الكواليس، ضد ما يقال أنه “نظام فاشي استبدادي ديني” كان يجسِّده “الإخوان المسلمون” على خشبة المسرح (!!)
إن السبب هو التالي..
إن السعودية التي تطرح نفسها نموذجا قويا وعالميا للإسلام السُّنِّي عقائديا وفقهيا بالسلفية “الوهابية”، وسياسيا بزمرة “آل سعود”، لا ترى في النموذج الإيراني “الشيعي” منافسا تخشى منه كثيرا على هذا الصعيد، بسبب الفجوة المذهبية بين السنة والشيعة من جهة، والأطماع القومية الفارسية في الأرض العربية من جهة أخرى..
لكنها تجد في أيِّ نموذج ديني سُنِّي عربي للحكم بالدرجة الأولى، وأيا كان شكله، منافسا حقيقيا لها على صعيد سيادتها التمثيلية للسنة والعرب منهم خاصة على الصعيد العالمي (!!)
فكيف إذا كان هذا النموذج يتصف بصفات أربع مهمة هي..
* أنه نموذج يتجسَّد في أكبر وأعظم دولة عربية وهي مصر..
* أنه نموذج يجسِّد حالة تبدو صادقة وحازمة بوجه عام وبعيدا عن الاستثناءات الفردية، لمحاربة “الفساد المُمَنْهَج”، ما يجعله نموذجا يقرِّبه من شعبه المتدين بالفطرة، فيبدأ بسحب البساط من تحت أقدام النموذج “السلفي السعودي”..
* أنه نموذج ستتاحُ له وستتاحُ لمصر في عهده تدفقات استثمارية عالمية ضحمة ستغيِّر وجه مصر التي يُراد لها أن تبتلعَ الإقليم اقتصاديا لتكون بهذا الابتلاع ظهيرا آمنا لإسرائيل في وجه أيِّ محاولات لمواجهتها ومحاصرتها، وفق الخطة الإمبريالية القادمة، والقائمة على نشر ثقافة “العجز عن الدفاع”، بعد تبيُّن أن ثقافة “العجز عن الهجوم” التي كانت مهيمنة على إستراتيجية المشروع الإمبريالي الصهيوني على مدى العفود السابقة، لن تكون قادرة على خدمة ذلك المشروع في المرحلة القادمة..
وهو الأمر الذي سيتراجع أمامه النموذج “السعودي السلفي” الذي لن ينافسه على صعيد الريادة الدينية السنِّيَّة أيُّ نموذج مصري اقتصادي أيا كان دوره الإقليمي إذا لم يكن على رأسه “نموذج إسلامي سني” آخر غير النموذج “السعودي السلفي الوهابي”..
فأمام واقع أن مصر يخطَّطُ لها كي تصبح نمرا اقتصاديا وظيفيا يناددُ الوضع السعودي في هذا الإطار، فليكن نموذجا ينافسها اقتصاديا ولا ينافسها دينيا، كي لا تخسرَ كلَّ شيء، وهو ما لا يقوم إلا على “الشيطنة الكاملة” لأيِّ نموذج آخر غير النموذج “السلفي الوهابي”، يمكنه تجسيد هذه الحالة التنافسيَّة مع الحالة السعودية..
وربما أن هذا يلقي بعض الضوء على أن “حزب النور السلفي” ذي الولاء الديني إلى السلفية السعودية بقي خارج اللعبة التي تزعمها الإخوان في الأزمة الأخيرة، واندمج في لعبة النظام الجديد الذي عمل على إقصائهم..
* أنه نموذج سيتعايش رغم أنفه مع حالةِ تزاوجٍ بين نمطٍ من التفكير الإسلامي السُّني، والاعتدال المدني في الدولة، لأن مصر غير مؤهلة ولا بأيِّ شكل من الأشكال لأن تكون من ناحية شكل الحكم “سعودية” أو “إيران” أخريين، خلافا للنموذج السعودي السلفي الوهابي الممعن في ظلاميته وبدائيته. وهو ما يجعل السعودية تفضِّل وتحبِّذ أن يكون على رأس الدولة المصرية المرتقبة والتي ستنافسها اقتصاديا في الإقليم، نموذج في الحكم ونماذج من الحكام لا ينافسونها دينيا على الأقل، فهي إن قبلت بالمنافس الاقتصادي فليس أقل من أن تبقى متفردة بالريادة والسقاية (!!!)..
لذلك فإن الأمر لم يتوقف ولن يتوقف عند حد إقصاء الإخوان المسلمين، بل سيتواصل إلى حد استكمال خطة شيطنتهم، كي يخرجوا من دائرة كونهم نموذجا محتملا حتى في المستقبل..
إنها عملية إعادة رسم إقليمية لتقاسم النفوذ بين السعودية ومصر في بُنية العلاقات الإمبريالية الصهيونية القادمة ليس إلا..
نظامان وظيفيان قادمان يستكملان معا بناء عناصر الظهير الاقتصادي الآمن لإسرائيل، ولا تقوم بينهما منافسة ثقافية على “الدين” الذي كان وما يزال صاعق التفجير الخطير في المنطقة..
فالدين يجب أن يبقى آمنا ومُغَلَّفا بكل معاني الرجعية والسَّفه بين يدي “آل سعود”. أما الاقتصاد فيمكن تقاسمه بين الوظيفيتين المرتقبتين بشكلهما المرتقب، مادام هذا التقاسم سيقوى الظهير الحامي لإسرائيل بدل ان يضعفه (!!)

المشروع السياسي للجيش المصري بين “الدولة البوليسية”، و”العلمانية العسكرية”، و”العلمانية القضائية”، و”العسكرية الإسلامية” (!!)
إذا كان هناك فرق بين الدولة المدنية والدولة العسكرية، من حيث أن هذه الأخيرة دولة متراجعة جدا لجهة الحقوق والحريات وشكل انتقال السلطة إذا ما قورنت بالأولى، فإن ما يجري في مصر على وجه الحقيقة ليس حكما للعسكر فقط بما في ذلك من كوارث على الحياة المدنية بكل مفاعيلها أصلا ومن حيث المبدأ، بل هو حكم لـ “سماسرة العسكر” تحديدا، وبكل ما لهذه الكلمة من معاني ودلالات وفضاءات طبقية ومصلحية (!!)
فالمجلس العسكري هو اختراع مصري خالص لا وجود له في أيِّ مكان في العالم، وهو تجسيد لأسوأ ما يمكن تجسيده في الحياة العسكرية من انشغالٍ بالسمسرة والصفقات التجارية والعمولات.. إلخ، على حساب الشعب ومصالحه وحقوقه (!!)
ما نقوله ليس بدعة، وإنما هو عينُه ما تكشفه حقيقة المجلس العسكري نشأة وتأسيسا، وغايات وأهدافا، وبُنيَة وتشكيلا (!!)
وهو عينُه ما تبرِّرُه الحركة الانقلابية الحاصلة حاليا، سعيا نحو تجسيد ضربٍ من ضروب العسكرة الممكنة على الدولة المصرية (!!)
فما هو المجلس العسكري، وكيف نشأ، ولماذا نشأ، وما دوره في الحياة المصرية عسكريا واقتصاديا وسياسيا، وأين تصبُّ مشاريعه السياسية في ضوء أخطر انقلاب شهده الوطن العربي على مدى عصر الانقلابات العسكرية كلِّه (؟!)
المجلس العسكري مولودٌ مسخٌ لاتفاقيات كامب ديفيد (!!)

منذ محادثات السلام التي أسفرت عن اتفاقيات “كامب ديفيد” بين مصر وإسرائيل تبدأ القصة (!!)
كلنا نعلم بأمرين هامين يجسِّدان التبعية الفريدة في العلاقة المصرية الإسرائيلية من جهة، وفي العلاقة المصرية الأميركية من جهة أخرى، الأول هو “حصول إسرائيل على الغاز المصري بأقلِّ من سعر التكلفة”، أي بخسارةٍ حقيقية يتولى تمويلها الشعب المصري من دمه وعرقه وقوت أبنائه. أما الثاني فهو المعونة العسكرية الأميركية لمصر، والتي تبلغ قرابة “1,55” مليار دولار، تنقسم إلى جزءين: الأول وقيمته “1,3” مليار دولار معونة عسكرية عينية، والثاني وقيمته “0,25” مليار دولار معونة عسكرية نقدية (!!)
ما يعرفه الجميع من خلال التعاطي الشكلاني غير المسنود والمدعَّم بالمعلومات، مع هذه الثنائية العجيبة في العلاقات المصرية الإسرائيلية الأميركية، هو أن “بيع الغاز المصري بأقل من تكلفته” هو شكل من أشكال الخيانة غير مفهومة الأسباب والمُبَرِّرات، وأن “المعونة العسكرية الأميركية” هي استحقاق، لأنها تُسَوَّق على أنها بندٌ يقابل المعونة العسكرية الأميركية لإسرائيل بموجب معاهدة السلام، والتي تتجاوز الـ “3” مليارات دولار سنويا (!!)
ولكن لا أحد يعرف، بل ربما سيندهش الجميع عندما يكتشفون أن الـ “1,55” مليار دولار التي تقدمها الولايات المتحدة لمصر، هي في حقيقتها معونة مقدَّمة لإسرائيل وليس لمصر (!!)
كلام خطير وغريب ومثير ويبعث على الريبة والخلط ويصيب بالدوار فعلا (!!)
فما معناه، وكيف ذلك (؟!)
سنثبت لكم ذلك، ومن شاء فليراجع الاتفاقيات وملاحقها السرية، وغير ذلك من الأمور المتعلقة بالعلاقات المصرية الإسرائيلية وبالعلاقات المصرية الأميركية، منذ اتفاقيات السلام المصرية الإسرائيلية وحتى الآن (!!)
فلنتابع بتركيز وتمعن (!!)
إسرائيل كانت تستغل ثروات وموارد ونفط وغاز سيناء بالمجان طول مدة احتلالها لها، والتي تجاوزت الـ “12” سنة عندما حلَّ تاريخ بدء الانسحاب منها بموجب اتفاقيات “كامب ديفيد” عام 1979.
وبدل أن يَعتبرَ قادةُ مصر أن استنزاف ثروات سيناء من قِبَلِ إسرائيل خلال فترة احتلالها لها، أمرٌ يتطلب التعويض، كما تتيحه المواثيق والأعراف الدولية الإنسانية التي أعطت الحق للشعوب الخاضعة للاستعمار في أن تطالب بالتعويض عن مراحل الاستعمار.. إلخ، فإنهم – خلافا لكل منطق وعرف وقانون وحق، بل وخلافا لكل خلق يدل على الشرف والكرامة والكبرياء الوطني – قبلوا بأن تنقلب المطالبات بالتعويض إلى الجانب الإسرائيلي، غير مطالبين بأيِّ تعويض عن مرحلة الاحتلال، حينما أخذ الحوار عن التعويضات منطقا مقلوبا تماما وغير معهود في الأعراف العالمية، حيث بدأت إسرائيل تطالب هي (!) بالتعويض عن مرحلة ما بعد الانسحاب من سيناء (!) مادامت ستخسر الغاز والنفط المصري الذي كانت تحصل عليه، وهو ما يسبب لها مشكلات اقتصادية وتنموية.. إلخ (!!)
لن نناقش المطلب الإسرائيلي الذي يجسِّد أبشع أنواع الصَّلَف والغطرسة والعجرفة غير المسبوقة في التاريخ (!!)
ولكننا سنتوقف مُطَوَّلا عند الموقف المصري الذي راح بالفعل يتعاطى مع الطرح الإسرائيلي لا من منطلق السخرية والاستهزاء به، بل من منطلق مشروعيته. فانحصرت اعتراضات المصريين على كون ذلك سيكبِّد مصر خسائر لا قبل لها بها.. إلخ (!!)
أي أن الجانب المصري وافق من حيث الجوهر على أن ما كانت تحصل عليه إسرائيل خلال احتلالها لسيناء عبارة عن حق يجب أن تُعَوَّضَ على خسارته، ولكن بشكل لا يُرَتِّب ضررا وتكلفة على المصريين (!!)
وكانت النتيجة الغريبة التي لم يسبق أن عُرِفَت في موروثات السياسة والدبلوماسية العالمية، أن طلبت إسرائيل بأن يباعَ لها الغاز المصري بأقل من تكلفته، معتبرة أن الفارق بين سعر شرائه وسعر تكلفته هو التعويض الذي ستكتفي به وتقبله (!!)
وعندما اعترض المصريون على شكل التعويض الغريب وليس على مبدئه (!) تدخلت الولايات المتحدة – الأب الحاني لإسرائيل – وطرحت العرض التالي:
تبيع مصر الغاز المصري لإسرائيل بأقل من سعر التكلفة بكثير، وقد تم الاتفاق على تحديد ذلك السعر، وتتولى الولايات المتحدة دفع الفارق بين سعر تكلفة إنتاج الغاز وسعر بيعه لإسرائيل، للمصريين على شكل مساعدات عسكرية، هي ما غدا يعرف بـ “المعونة العسكرية” التي قلنا أنها تبلغ “1,55” مليار دولار بقسميها العيني والنقدي المشار إليهما سابقا (!!)
أي أن هذه المعونة هي في الأساس والجوهر وبحسب دلالة سياق اعتمادها، معونة مقدمة لإسرائيل، كي تتمكن من شراء الغاز المصري ليس بأسعار تداوله العالمية، بل بسعر تكلفته المصرية فقط، مادامت هذه المعونة هي الفارق بين سعر تكلفة الإنتاج في مصر، وسعر البيع لإسرائيل (!!)
أي أن المعونة العسكرية التي تتلقاها مصر هي فقط لكي يصبح سعر الغاز المباع لإسرائيل معادلا لتكلفة إنتاجه في مصر بدون أيِّ مكسب أو ربح يجسِّد أيَّ قيمة مضافة (!!)
ويتحدثون عن معونة، ويخدعون الشعب المصري (!!!!!!)
المسألة لم تتوقف عند هذا الحد في منظومة الاختراعات المصرية العجيبة، بل هي تجاوزتها إلا ما أصبح يعرف بـ “المجلس العسكري”، فكيف ذلك وما الذي نعنيه به (؟!)
خلافا لـ “هيئة الأركان” التي تُعتبر هيئة عسكرية فنية متخصصة تضم قادة الوحدات والتشكيلات والقطعات العسكرية، لوضع الخطط والسياسات وقواعد الاشتباك.. إلخ، خلال المعارك على الأرض، ما يجعلها مؤسسة عسكرية تمثل ذروة سنام أيِّ جيش في العالم..
نقول.. خلافا لهيئة الأركان، جاء “المجلس العسكري” كتشكيل – وإن كان يضم القائد العام ووزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان والعديد من الضباط المختارين بعناية من هيئة الأركان ومن المسؤولين عن بعض المؤسسات العسكرية الأخرى داخل الجيش المصري – ليمثل مؤسسة غير عسكرية وغير فنية داخل الجيش، ولا صلاحيات عسكرية فنية لها، مُشَكِّلا أعلى سلطة في المؤسسة العسكرية المصرية كلها. وقد تركزت صلاحياتها في إدارة موضوع “المعونة العسكرية الأميركية” لمصر، لجهة التفاوض مع الأميركيين فيما يتعلق بكيفية توزيعها وبالمشتريات التي يحتاجون إليها، وبالخدمات اللوجيستية التي يفترض تزويد الجيش المصري بها خلال السنة المعينة بعد أن تكون قد حددتها “هيئة الأركان”.
وهو ما يعني أن الضباط المنضوين تحت عباءة هذا “المجلس العسكري”، تنحصر مهمتهم في عقد الصفقات وترتيبها وتنظيمها.. إلخ، مع الجانب الأميركي، ومع مؤسسات الصناعة العسكرية الأميركية، ومع المجمع الحربي الأميركي، ومع البنتاغون.. إلخ، بكل ما سيترتب على هذا الأمر من وساطات وعمولات هنا أو هناك.. إلخ (!!)
أي أن هذه المؤسسة العجيبة “المجلس العسكري”، ليست سوى مجموعة من السماسرة الذين يتولون إدارة المعونة الأميركية (!!)
أما القضايا الفنية المتعلقة بالمناورات والدورات العسكرية والاحتياجات العسكرية المصرية من الناحية الفنية، فهي من اختصاص هيئة الأركان التي تمثل وعاء عسكريا فنيا تخصصيا حقيقيا، دون أن يتجاوز دورها إلى أكثر من ذلك، ليكون “المجلس العسكري” الذي يتولى هذه المهمات، معقلَ الفساد المالي في الجيش المصري (!!)
ولقد أُعْطِيَ المجلس العسكري صلاحياتٍ كبرى في إدارة المؤسسة العسكرية، وفي إدارة الاقتصادات التي يشرف عليها الجيش المصري من ثروة الشعب المصري، بل وقد تم تحديد دوره في الحياة الدستورية على نحو منحه السلطة لأن يكون بديلا للرئاسة وللبرلمان في حالات محدَّدَة.. إلخ (!!)
على العموم سوف يعاد النظر في كل ترتيبات هذه المعونة بسبب أن صفقات الغاز المصري لإسرائيل لم تعد متاحة جراء الانهيارات التي أصابت إنتاج الغاز المصري، إلى الحد الذي يبدو معه أن مصر سبتبدأ باستيراد الغاز من إسرائيل.

المشروع السياسي للمجلس العسكري في ضوء البدائل المتاحة أمام الانقلابيين (!!)
إن كل ما حدث وما يحدث في مصر منذ الإعلان عن تنحي الرئيس “مبارك” عقب أحداث ثورة 25 يناير 2011 وحتى الآن يصب – من خلال ممارسات المجلس العسكري – في خانة إعادة إنتاج الدولة المصرية لتحافظَ على البُنْيَة المصلحية والطبقية التي تجسِّد واقع الجيش وواقع مكتسباته وامتيازاته دون أن تُمَسَّ، هذا إن لم تفعَّلَ وتنمو وتتطورَ، مع أخذ بعض مستجدات ما بعد انتفاضة يناير في الاعتبار إذا كان ذلك ضرورة لا مفر منها، رغم أن محوَ هذه الانتفاضة – التي كادت تصبح ثورة لولا أخطاء الشباب وتآمر الجيش مع الإخوان المسلمين – من الذاكرة الجمعية للمصريين كان هدفا إستراتيجيا اشتغلَ الجيش على تحقيقه تأسيسا لثقافةٍ جديدة قادرة على احتضان المشروع السياسي للمجلس العسكري (!!)
ولأجل تحقيق ذلك والحفاظ على شكل الدولة القادر على تمريره، فإن الانقلابيين اتبعوا ويتبعون إستراتيجية تشكيل الدولة المصرية حسب الممكن والمتاح والمقدور عليه، وفق تسلسل في البدائل والأولويات الأربعة التالية..

البديل الأول.. إستعادة الدولة البوليسية بشكل كامل (!!)
وذلك عبر استعادة الدولة التي تسيطر أجهزة المخابرات والأمن والجيش على مختلف مفاصل الحياة والإدارة فيها، وعبر منع ممارسة الحريات والتحكم في مدياتها المتاحة بشكل استبدادي كامل.
وسوف تعتمد هذه الدولة البوليسية على تغذية الشعور القطري الشوفيني بالهوية المصرية العنصرية الاستعلائية المسحوبة إلى الأصول الفرعونية، فيما بدأنا نستشفُّ ملامح الثقافة الغاذية له في الخطاب الإعلامي البائس لمرحلة ما بعد الانقلاب، في شيءٍ شبيهٍ بما راج في مرحلة معينة من الحِقْبَة الساداتية. وذلك بغرض نشر حالةٍ من التعصب الهوياتي “المصراوي” الذي يُفَكِّكُ الروابط بين مصر وبين العالمين العربي والإسلامي. وذلك تحت شعار حماية الهوية القطرية المصرية من الأخطار التي تتعرض لها تلك الهوية.
إن كل الانقلابات العسكرية التي تهدف إلى استعادة مُكَوِّنات دولة بوليسية سابقة، تبدأ مسيرتَها في السلطة وإدارة الدولة بالتخلص من الخصوم السياسيين الحقيقيين والأصليين الذين هم في الحالة المصرية “الإسلام السياسي” عموما، و”الإخوان المسلمين” بالدرجة الأولى.
ثم تبدأ بعد ذلك بالتخلص من القوى السياسية التي أيدت الإنقلاب كي لا تتصور هذه الأخيرة أن بإمكانها أن تكون شريكة في الحكم وفي إدارة الدولة على وجه الحقيقة. وهكذا وفي نهاية الأمر، لا يبقى على رأس السلطة سوى الفئة التي نفذت الانقلاب، من بقايا النظام السابق ودولته العميقة.
ولقد وجد هذا المخطط تأييدا واسع النطاق من الأنظمة العربية العربية التي يقوم فيها الحكم على تزاوجٍ بين “الثروة” و”السلطة”، عبر تحالف طبقي مصلحي يضم “الكومبرادور” و”البيروقراط”، وهي الأنظمة التي تُجسِّد جميعها هذه الفلسفة التي تعمل على ترسيخ القُطرية، عبر خلق الهويات المحلية المفصولة بشكل حقيقي عن الارتباط بالهوية القومية والإسلامية.
كما أننا رأينا كيف حصل الانقلاب على تأييدٍ خجول من الدول الغربية عامة، ومن الولايات المتحدة خاصة. ولقد كان التأييد خجولا ومتذبذبا بسبب خشية هؤلاء من فشل الانقلاب الذي يرغبون في نجاحه، كي لا يتحملوا مسؤولية فشله إذا فشل. أما إسرائيل فلا أحد يستطيع إنكار أنها كانت مؤيدة تأييدا علنيا وواسع النطاق للانقلاب، بعد أن عجزت عن السيطرة على انفعالاتها السياسية، فلم تستطع إخفاء فرحتها به، رغم أن قادتَه وأبواقَه الإعلاميين حرصوا وما يزالون على تنظيف صفحتهم وشيطنة صفحة النظام السابق “نظام مرسي”، عبر وصمهم بالتحالف بهذا الشكل أو بذاك مع إسرائيل والولايات المتحدة، لنزع غطاء الشرعية الشعبية عنهم.

البديل الثاني.. إقامة دولة علمانية عسكرية (!!)
وهو البديل الذي سيتم اللجوء إليه في حال فَشِلَ الانقلابيون في استعادة الدولة البوليسية كاملةً بسبب الرفض الشعبي. والدولة العلمانية العسكرية التي يسعى إليها انقلابيو مصر كبديل من البدائل المتاحة أمامهم، هي دولة شبيهة تماما بالدولة العلمانية العسكرية التي أقامها “مصطفى كمال أتاتورك” في تركيا، والتي لم يتم كَنْسُها من الحياة التركية إلا على أيدي حزب “العدالة والتنمية”.
وهو ما يفسِّرُ لنا سرَّ عداء ذلك الحزب وقادته للانقلابيين الذين يعتقِدُ قادة تركيا أنهم يؤشرون على مقدماتِ نموذجِ مصري علماني عسكري طغياني فاشيستي متطرف في علمانيته، كذلك النموذج التركي الذي عَزَلَ تركيا عزلا كاملا عن محيطها الإسلامي، وأغرقها في هويتها القطرية الطورانية العنصرية.
وهو أيضا ما يفسرُ لنا سرَّ هذا العداء الذي يُكِنُّه قادة الانقلاب لأيِّ تصريحٍ تركي رسمي يعادي الانقلاب ويطالب بإعادة الشرعية، خلافا للموقف من المعارضين الآخرين الذين لا تنطوي معارضتهم للانقلاب على هذه الدلالات الخطيرة المنطواة في المعارضة التركية له.
والدولة العلمانية العسكرية هي دولة تُفْرَضُ فيها العلمانية شديدة التطرف في عدائها لأيِّ مظهر من مظاهار الهوية الدينية للدولة، عبر نصوص دستورية قاطعة غير قابلة للتعديل، وتَمْنَحُ القوات المسلحة صلاحيات مطلقة وواسعة لحماية هذه العلمانية من قبل أعدائها أيا كانوا. وبالتالي يصبح من حق القوات المسلحة الانقلاب على أيِّ سلطة تنفيذية أو تشريعية مُنْتَخَبَة من قبلِ الشعب بحجة خطرها على العلمانية وتهديدها لها، فتتفرغ العملية الديمقراطية من مضمونها، لتغدوَ عسكرية المذاق، مثلما حدث في تركيا على مدى عقود سبقت وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة هناك.
وفي سياق بديل كهذا ستنحصر كافة القوى التي أيدت الانقلاب نفسها في واحدة من فئتين:
الأولى التي تكون قد أيدت الانقلاب اعتقادا منها بأنه سيستعيد لها الديمقراطية التي أُفْهِمَت أنها مفقودة. وستجد هذه الفئة نفسَها وقد خُدِعَت واستُغِلَّت وأنه قد غُرِّرَ بها.
والثانية التي تكون قدد أيَّدته تأييدا راجعا إلى فئويتها وطبقيتها التي رأت في عسكرة الدولة حماية لها أساسا. وهذه ستشاركة الحكم كأدوات تمرِّرُ إرادةَ الجيش ليس إلا.
وفي نموذج الانقلاب المصري الذي نحن بصدده، نجد ثوار 25 يناير وبعض النخب السياسية والثقافية ضمن الفئة الأولى، فيما نجد بقايا النظام السابق، وبلطجيته، ودولته العميقة، وأبواقه الإعلامية، وطبقة الكومبرادور والبيروقراط التي كانت منتفعة من وجوده وشكل إدارته للدولة، في الفئة الثانية.
أما من ناحية ثقافة الهوية التي ستسود في حال تمَّ اللجوء إلى هذا البديل، فهي شبيهة بتلك التي تطلبتها الدولة البوليسية، وهو الاستغراق في مُكونات الهوية القطرية العنصرية المتعصبة القائمة على تفكيك ارتباطاتها بالهويتين العربية والإسلامية.
وفي “الدولة العلمانية العسكرية” يتم الحفاظ على شكلانية الانتخابات والاستفتاءات وتشكيل الأحزاب، ولكن في وعاء نصوص دستورية تمنحُ سلطاتٍ سياسية واسعة للجيش، بغرض حماية الدولة والهوية والعلمانية من المعتدين عليها، فضلا عن منح قوة غير عادية للسلطة القضائية على نحوٍ يجعل الجيشَ والقضاء قوى فوق السُّلُطات المُنتَخبة شعبيا، سواء كانت سلطة تشريعية أو سلطة تنفيذية.
أما بالنسبة للمواقف الغربية عامة والأميركية خاصة من هذا النموذح البديل للدولة البوليسية، فهو موقف مساند له تماما، ويعتبر هو السيناريو الأفضل بالنسبة للدول الغربية. ولا يفوتنا أن نذكِّر في هذا السياق بأن استعادة تركيا لنموذج علمانية أتاتورك العسكرية، يُعتبر حلما يراود الغربيين عموما.
وأما بخصوص الموقف العربي الوظيفي من هذا البديل، فهو مساندٌ له أيضا لأنه سوف يُحَقِّق للوظيفية العربية القائمة على تحالفِ البيروقراط والكومبرادور نتيجتين هامتين هما:
التخلص من تأثيرات الربيع العربي والتحول الدديمقراطي.
التحرر من تأثيرات نموذج إسلامي مدني ديمقراطي، سينجح في التوفيق بين العلمانية المعتدلة والهوية الإسلامية، مهددا النماذج الإسلامية القائمة إما على الإيغال في لا مدنية الدولة، وإما على تفريغ الهوية الإسلامية من أيِّ مضمون ترابطي مع باقي مكونات الهوية الإسلامية على صعيد التحالفات وحضارية المشروع.
وهو ما يجعلنا نتفهم السِّرَّ في موقف السعودية التي لا ترغب في رؤية نموذج إسلامي مغاير لنموذجها الظلامي، في أكبر دولة عربية، يُذَكِّرُها بأنها جعلت من الإسلام الذي تُسَوِّقُه للعالم نموذجا للظلام والتخلف. وهو ما يجعلنا نتفهم أيضا السِّرَّ في موقف الدول الوظيفية التي تُسَوِّقُ الإسلام المهادن والمُفَرِّق والانعزالي داخل دولها.

البديل الثالث.. إقامة دولة علمانية قضائية (!!)
في حال فَشِلَ الانقلابُ في تحقيق البديل السابق وهو “الدولة العلمانية العسكرية”، بسبب ضغط شعبي أشعره بعدم قدرته على منح صلاحيات سياسية واسعة للمؤسسة العسكرية في النصوص الدستورية، فإنه سيلجأ إلى القيام بحركةٍ التفافية توحي بشيء من البعد النسبي عما يُخْشَى أن يكون عسكرة للدولة، وذلك عبر منحِ السلطات الدستورية التي كان يريدها الجيش لنفسه، إلى السلطة القضائية، جاعلا من أعلى مؤسساتها وهي “المحكمة الدستورية” حاميا للعلمانية، بمنحها سلطاتِ عزلِ الرؤساء، وحل البرلمانات، في حال حصول ما يهدد الهوية العلمانية للدولة، ليكون هو مختبئا بسلطته الواقعية خلف هذه السلطة الممنوحة للقضاء الذي سيصبح سلطة فوق الدولة ككل، ولتكون إرادةُ رهطٍ من القضاة متحكمة في الإرادة الانتخابية لكامل الشعب بسلطتيه التشريعية والتنفيذية.
وهو ما يعني أن يقوم الجيش وبسلطة الدستور بتنفيذ أيِّ حكمٍ تصدره السلطة القضائية ممثلة في “المحكمة الدستورية” بشأن حل البرلمانات، أو عزل الرؤساء والحكومات، بحجة الخطر الذي يتهدد علمانية الدولة. وبهذا يحقِّقُ الانقلابيون لأنفسهم عسكرةً كاملة للدولة بغطاء السلطة القضائية نفسها.

البديل الرابع.. إقامة دولة عسكرية بغطاء إسلامي (!!)
إن هذا البديل الذي يُعْتَبُر استنساخا للنموذج “الباكستاني”، سيتم اللجوء إليه في حال فشل الخيارات الثلاثة السابقة بسبب الضغوطات الشعبية وعجز المؤسسة العسكرية وقادة الانقلاب عن تمرير أيِّ ترتيبات دستورية تحقِّقُ لهم دولةً بواحد من الأشكال الثلاثة السابقة.
وفي هذا البديل سوف يُنْجِزُ الانقلابيون دستورا لا ينصُّ على علمانية الدولة، ولا يسحب منها هويتها الإسلامية، ولكنه سيمنحُ للجيشَ سلطاتٍ واسعةً لحماية “الشرعية الدستورية”، جاعلا من هذه الشرعية مجالا رخوا يجسِّد “قميصَ عثمانٍ” يبرِّرُ التدخل العسكري لفض الاشتباكات المحتملة بين السلطات المنتخبة من جهة، وبين تلك الشرعية الدستورية من جهة أخرى. ولأن المتوقع أن تكثرَ حالات المساس بهذه الشرعية المتعارضة أصلا مع طبيعة المُخرجات الانتخابية المتوقعة من وقتٍ لآخر، فإن صلاحيات التدخل الممنوحة للجيش دستوريا ستجعل تدخله سهلا وغير معرقل بنصوص دستورية.
ولعل مبادرة واضعي الصيغة الأولى للتعديلات الدستورية، بسحب الولاء لرئيس الجمهورية من قبل الجيش في “القَسَم” هو بداية الطريق لتحرير الجيش المصري من الخضوع للسلطة التنفيذية، كي يكونَ انقلابه عليها عند اللزوم أمرا مفهوما وليس فيه خروج على الشرعية التي ستكون ممنوحه له هو دستوريا وليس للسلطات المنتخبة سواء كانت تشريعية أو تنفيذية.
إن هذا البديل يكشف إذا تمَّ اللجوء إليه عن أن الانقلابيين لم يتمكنوا بسبب الضغط الشعبي من تمرير العسكرة المباشرة للدولة تحت غطاء البوليسية، أو العلمانية العسكرية، أو العلمانية القضائية، فآثروا استرضاءَ الفئات الشعبية الواسعة، عبر الحفاظ على الهوية الإسلامية للدولة، ومنح صلاحيات واسعة للجيش، لتكون العسكرة قد تمت بغطاء إسلامي مُفَرَّغٍ من مضمونه الترابطي والوحدوي والتقدمي والتغييري، جاعلةً منه شعارا بلا قيمة، لمجرد الخداع والتضليل وتمرير العسكرة المبتغاة من تحت إبطه، تماما كما هو الحال في “النموذج الباكستاني”.
ولعل تمرير مثل هذا البديل يغدو أمرا ممكنا وقادرا على الحفاظ على خطة الانقلابيين بعسكرة الدولة عبر السيطرة العسكرية الكاملة على المؤسستين الهامتين لهذا الغرض، وهما “القضاء” و”الأزهر”.
فبالأولى يتمُّ ضمان “قوننة العسكرة”، وبالثاني تتمُّ “أسلمة العسكرة”، وينتهي الموضوع بتجسيد العسكرة قانونيا وإسلاميا.
في هذا البديل يجد الاتقلابيون أنفسهم وهم يعتمدون على مؤسسة رسمية مثل الأزهر لأسلمة مشروعهم الانقلابي، معنيين باعتماد “الهوية الإسلامية” الرسمية المُفَرَّغَة من أيِّ مضمون حضاري، لتصبحَ جزءا من مُكونات الهوية المصرية القطرية الشوفينية، دون أن يتمدد مفهوم الهوية الإسلامية للمصريين إلى أيِّ فضاءات حضارية خارج الإطار القطري المصري.
وإذا حاولنا أن نستقرئَ المواقف الخارجية من هذا البديل، فإننا نستطيع الجزمَ بأنه بديل قد يحظى بقبول عربي وظيفي رسمي لأنه لا يختلف كثيرا عن بُنْيَة تلك الأنظمة الوظيفية أصلا. بينما سيضطر الغرب للقبول به عند الضرورة وعندما يكون هو الخيار الوحيد المتاح في ظل فشل الخيارات والبدائل الأخرى.
فأمام واقعٍ يؤكد على أن الانقلابيين ومن ورائهم كافة الوظيفيات العربية، وعلى رأسها بالأخص السعودية، يفضلون نجاح الانقلابيين في تمرير النموذج البوليسي للدولة، ويؤكد على أن الغربيين يفضلون النموذج العلماني للدولة، سواء كان نموذجا لعلمانية عسكرية مباشرة، أو لعلمانية عسكرية غير مباشرة بغطاء قضائي، فهذا يعني ألا أحد يقبل بنموذج الدولة العسكرية بغطاء إسلامي رغم شكلانية هذا النموذج، إلا عند الضرورة، مادامت هي الضرورة التي ستكون قد نجحت في إخراج الانقلابيين من مأزق المقاومة الشعبية لمشروعهم المتمثل في العمل على عسكرة الدولة، بهذه الخدعة التي تُقَدَّمُ كطعم للمصريين يظهرهم وقد حافظوا على هويتهم الإسلامية، دون أن ينتبهوا إلى أنهم حافظوا عليها مُفَرَّغَة من أيِّ مضمون حضاري عالمي.
إن تحرك مشروع الانقلاب على مدى المسافة الممتدة من نموذج “الدولة البوليسية”، وحتى نموذج “الدولة العسكرية بغطاء إسلامي”، مرورا بنموذجي العلمانية “العسكرية” و”القضائية”، مرتبط بزخم المعارضة الشعبية لمشروع الانقلاب ذاك من جهة، وبوجهة التغيرات الإقليمية العميقة التي نشهدها منذ أكثر من سنة تقريبا من دهة أخرى.
فعندما تكون الحركة الشعبية المعارِضَة في أدنى مستويات زخمها وفي أضعف طاقتها، فإن الانقلابيين يجدون أنفسهم قادرين على تجسيد الخيار الأنسب بالنسبة لهم، ألا وهو خيار “الدولة البوليسية” الذي يمثل استعادةً لنظام “مبارك” بأسوإ ما فيه من بوليسية ومخابراتية.
وإذا تفعَّل زخم المعارضة الشعبية للمشروع الانقلابي، فإنه سيدفع بالانقلابيين وذلك بحسب مستوى ذلك الزخم، إلى الانتقال إلى الخيارات والبدائل الأخرى الممكنة والمتاحة ضمن جعبة مشروع الانقلاب، بدءا بالنموذج “العلماني العسكري”، مرورا بالنموذج “العلماني القضائي”، وانتهاء بالنموذج “العسكري الإسلامي”.
إلا أن زخم المعارضة الشعبية كي يستعيد انتفاضة 25 يناير وينقذها من الرِّدَّة من جهة، ومن الأخطاء من جهة ثانية، فإن على القيادات الثورية الجديدة أن تنميَ ذلك الزخم الشعبي المعارض على نحوٍ يجعله قادرا على إفشال الانقلاب ككل، لإسقاط كلِّ منجزات 30 حزيران 2013، والعودة من جديد إلى متطلبات الثورة الحقيقية التي لم تُسْتَكْمَل في 11 فبراير 2011، بأن تفرضَ تلك القيادات على المؤسسة العسكرية وعلى النظام الحالي ككل “مجلسا لقيادة الثورة”، و”محكمة ثورية”، يخضع الجميع لهما، مُسقطين المشروعية الدستورية لمؤسستي “القضاء” و”المجلس العسكري”، لتبدأ مسيرة الشعب المصري الجديدة في تجسيد الثورة على أرض الواقع من جديد.
وما لا شك فيه أن الشعب المصري وهو يستعيد ثورته على نحو ينقذها من كافة مثالبها، سواء تلك التي جعلت الإخوان المسلمين يقفزون عليها منذ “موقعة الجمل”، أو التي جعلت الجيش يلتف حولها لاستعادة النظام السابق منذ تنحية الرئيس مبارك، لن يقع في الخديعة مرة أخرى، ولن يثق في الجيش ليسلمه رقبة ثورته الراهنة بعد ما خبر لعبتَه التي أصبح واضحا أنها تريد إعادة إنتاج الدولة المصرية على أسس غير مدنية، تحافظ على مكتسبات المجلس العسكري الاقتصادية والسياسية باعتبارها مقدسات وثوابت تعلو على كل حقوق الشعب المصري بأكمله.
لم تعد المسألة إذن مسألة ما يقال أنه استعادة للشرعية أو عودة للرئيس مرسي، وإنما هي مسألة إعادة إنتاج وعي الشعب المصري بأن مصر إن لم يتمَّ إنقاذها من هذا المشروع الانقلابي، ليتمَّ إنتاج ثورتها من جديد على قواعد سليمة تحميها من قفز القافزين ومن التفاف الملتفين، فإنها ستدخل في نفقٍ مظلم لعقود قادمة من الاستلاب العسكري المستبد، وسيتم شطبُ الربيع العربي من الذاكرة الجمعية للشعوب العربية، وسوف تخلد الأنظمة الوظيفية ومن ورائها العلاقات الإمبريالية الصهيونية في الإقليم، إلى الراحة والهدوء والأمان لثلاثين عاما مقبلة سيتم اقتطاعها من عمر مستقبلنا ومستقبل أبنائنا.

لن نفهمَ ما يجري في مصر حاليا إذا لم نفهم لماذا: حالف “العثمانيون” بريطانيا ضد “محمد علي”، ولماذا حالفها “الهاشميون” ضد “العثمانيين”، وكيف كانت “العروبة” هي “الضحيَّة” (؟!)
مقدمة لابد منها كي نُؤَسِّسَ للفهم..
من يقرأ تاريخ مصر الحديث جيدا، يستطيع اكتشاف ما يساعده على بلورة تصور ناضج عن “المشهد المصري” في سياقه التاريخي، الذي لا يصح فصل حاضره عن ماضيه، ولا ما يحصل فيه اليوم عما حصل فيه بالأمس (!!)
وبالتالي فهو سيكتشف الصورة الحقيقية لـ “المشهد العربي” من خلال سياقه المصري (!!)
إن ظاهرة “العُرابِيَّة/نسبة إلى أحمد عرابي”، هي التي أسَّسَت في الوعي وفي اللاوعي المصريين لطليعية الجيش المصري ولاعتباره المنقذ والمخلِّص عندما تشتد الأزمات الداخلية (!!)
فقد أعلن الضابط المصري “أحمد عرابي” هو وعدد قليل من الضباط والجنود المصريين في الجيش المصري عام 1881 أنهم يريدون مقاومة بريطانيا ومنعها من دخول مصر، لعدم إتاحة الفرصة لاتفاق “الخديوي إسماعيل” مع الإنجليز بأن يتجسَّد على الأرض على شكل “حماية بريطانية لمصر”، ولقد كان ذلك من خلال محاورة تاريخية مشهورة بين “عرابي” و”الخديوي” (!!)
وبعيدا عن التفاصيل والتجاذبات التي حصلت في ذلك الوقت، فقد انقسمت النخبة في مصر آنذاك إلى خندقين، خندق يمثل “الخديوي إسماعيل” وحاشيته وبطانته والضباط الأتراك في الجيش، والإقطاعيين وكبار التجار من الأصول غير المصرية، وقطاع الموظفين الحكوميين، وبعض المثقفين الذين كانوا قلَّة آنذاك. وهو الخندق الذي اعترض على دعوة “عرابي” واعتبرها انتحارا وإضرارا بمصالح مصر العليا (!!)
وخندق يمثل “أحمد عرابي” ومن سار معه من الضباط والجنود المصريين في الجيش، بالإضافة إلى بعض الفلاحين وصغار ملاك الأراضي وقطاع الصناعيين والتجار المصريين، وقلَّة قليلة من المثقفين على قلِّة المثقفين عموما. وهو الخندق الذي اعتبر نفسه مسؤولا عند عدم السماح بتعريض مصر للاحتلال البريطاني عبر مقاومة الهجمة الإنجليزية حتى النهاية، دون أن يكون من أهدافه المساس ببُنيَة الدولة المصرية وبشرعية “الخديوي” ونظامه من حيث المبدإ.. إلخ (!!)
بناء على توصيات بريطانية، لم يَمْنَع “الخديوي إسماعيل” الخندق الآخر من محاربة الإنجليز الذين طمأنوا حليفهم وأتباعه على أنهم سيُفْشِلون “المشروع العرابي” ويقضون عليه، ليكون القضاء عليه وإفشاله من ثمَّ ضربة قاصمة للمشروع الوطني المصري ذي المصير العربي في نهاية المطاف، بدل أن يبقى أملا وحلما يراود المصريين في محافل المعارضة، فيصبح مشروعا غير قابل للقضاء عليه في وقت من الأوقات. وهذا ما حصل بالفعل، حيث خاض “العُرابيون” معركتهم ضد القوات الغازية، فيما وقف الخندق الآخر محايدا متفرجا معلنا بأنه سيقبل بالنتيجة أيا كانت (!!)
فلو انتصر العرابيون ودحروا القوات البريطانية، آلت الدولة المصرية ومستقبلُها إليهم وإلى مشروعِهم الوطني العربي (!!)
وإن هم هُزِموا يكونون قد أثبتوا صحة رؤية الخديوي إسماعيل وخندقه، ويكونون قد انتحروا وأخضعوا مصر للاحتلال بخسائر فادحة، بعدما كانت سوف تخضع للحماية بدون خسائر، كما كان يطرح ذلك الخندق (!!)
وفي المحصلة هُزِمَ “العرابيون” فيما أطلق عليه في أدبيات تاريخ مصر لتلك المرحلة، “هبَّة عرابي” أو “هوجَة عرابي” (!!)
ومنذ ذلك الوقت ترسَّخ في الذهن الشعبي المصري، وفي الوعي واللاوعي المصريين، أن الجيش الذي كان بمثابة الطليعة التي بادرت لمواجهة الإنجليز ومشروع الخديوي، ليلتف حوله المصريون بعد ذلك، هو – رغم هزيمته في نهاية المطاف عام 1881 – المنقذ والمخلِّص عندما يتعرض الشعب لأيِّ أزمة حتى لو كانت أزمةً داخلية (!!)
وجاءت حركة “23 يولية عام 1952” لتثبت ذلك، فقد تولت مجموعة من الضباط في الجيش القيام بمهمة تطهير الدولة من النظام الملكي الفاسد، فيما عُرِفَ بحركة “الضباط الأحرار”. وها هي حركة “3 يولية 2013” العسكرية بناء على ما تعتبره طلبا شعبيا وتفويضا جماهيريا حصلت عليه في “30 يونية” من العام نفسه، تحاول توظيفَ هذا الموروث التاريخي لتحقيق ما يتم الترويج لكونه إنقاذا للشعب المصري من أعداءٍ داخليين مرتبطين بأعداءٍ خارجيين، كما كان عليه الحال دائما في الموروث الشعبي وفي الذاكرة الشعبية المصريين، أولا عندما ثار العرابيون استجابة لمعاناة الفلاحين ومطالبهم الصامتة، إنقاذا لمصر من هيمنة الخديويين المسنودين بالإنجليز، ولاحقا عندما ثار الضباط الأحرار استجابة للحراك الشعبي المصري على مدى عقود، إنقاذا لمصر من نظام الملك فاروق المسنود أيضا بالإنجليز، وحاليا عندما استجاب المجلس العسكري لما قيل أنه مطلب شعبي واسع النطاق، إنقاذا لمصر من أعدائها الداخليين، ممثلين في الإخوان المسلمين المسنودين كما يرَوَّج ويشاع بالولايات المتحدة بوصفها ذروة سنام الأعداء الخارجيين (!!)
إن تاريخ مصر الحديث الذي يبدأ بسياسة بريطانيا لإفشال مشروع “محمد علي باشا” النهضوي في المشرق العربي، والذي تُوِّجَ بالتحالف “العثماني/البريطاني” لهزيمته، والذي تمَّ استكمال إفشاله من خلال تحالف بريطانيا مع “الخديوي إسماعيل”، هو تاريخٌ ينحصر بين مشروعي ثورتين تمّ إفشال المشروع الأول، ويجري العمل على إفشال المشروع الثاني. الأول هو مشروع ثورة “أحمد عرابي” الذي كان مشروعَ “ثورة عسكرٍ” أطاح بها المدنيون، والثاني هو مشروع ثورة “25 يناير 2013” الذي كان مشروع “ثورة مدنية” أطاح بها العسكر (!!)
من هنا سنبدأ، وفي ضوء مكونات هذه السيرورة سننطلق لتشكيل قواعد فهم المشهد المصري (!!)

بريطانيا تحارب “استبدال الإسلام العثماني” قبل سقوط الخلافة بمحاربة “الجامعة الإسلامية”، وتستدعيه بعد سقوطها باستحضار “الإسلام السياسي” (!!)
بريطانيا كانت حريصة كي تتمكن من إنجاح سياساتها فيما يتعلق بـ “المسألة الشرقية”، على “استعادة” الإسلام العثماني بعد سقوط الخلافة عام 1924، في حين أنها كانت قد حاربت محاولة “استبداله” قبل سقوطها. مع الانتباه إلى ضرورة التفريق بين مصطلحي “استعادة الإسلام العثماني”، و”استبدال الإسلام العثماني”، وهو ما سيتبدى لنا بوضوح في سياق هذا التحليل.
تعتبر هذه المسألة من أخطر المسائل التي شكَّلت الرؤية الإستراتيجية للسياسة البريطانية في مصر وفي الإقليم من خلال مصر. ولكي يتم فهمها بوصفها رؤية إستراتيجية للاستعمار البريطاني وإلى جانبه الاستعمار الفرنسي في تعاملهما مع الإقليم من خلال ما كان يُصطلَح عليه في أدبيات السياسة الأوربية في تلك الحقبة من الزمن بـ “المسألة الشرقية”، وبتركة “الرجل المريض” الذي هو الدولة العثمانية المتهالكة.. نقول.. لكي يتم ذلك الفهم، يجب أن نقوم بتفكيك تلك الرؤية الإستراتيجية إلى مُكَوِّناتِها وعناصرها التي قامت عليها ابتداءً.
كانت الدولة العثمانية تتداعى منذ أن بدأت تتفلَّت منها شيئا فشيئا أقاليمها وولاياتها النائية، بعضها انشقاقا وانفصالا، وبعضها احتلالا واستعمارا، وبعد أن لم تعد لها أيُّ سلطة إلا على الأراضي التي خضعت لحيثيات ما تمَّ التعامل معه أوربيا بمصطلح “المسألة الشرقية”، وهي تحديدا أراضي “مصر، والهلال الخصيب/العراق وسوريا الكبرى، وجزيرة العرب”، وإن كانت سلطتها على بعض تلك المناطق تتَّسِم بالشكلانية والبروتوكولية، أكثر من كونها سلطة مركزية حقيقية، وذلك مثل مصر وبعض مناطق الجزيرة العربية.
السياسة الأوربية مُرَكَّزَة آنذاك في قطبيها “فرنسا” و”بريطانيا”، كانت تعمل على استكمال تداعي الدولة العثمانية لتنفرد بالهيمنة على “مثلَّث الإستراتيجية العالمية” ممثلا في المنطقة العربية المشرقية المشار إليها، ولكن بشكل مدروس لا يجعل ذلك التداعي مُبرِّرا لقيام نواة لدولة عربية قوية في الإقليم على أنقاض الإمبراطورية العثمانية المتهالكة، يُفسِد عليها مخططاتها ومشاريعها الاستعمارية، التي كانت تتمحور حول ضرورة تجزئة الإقليم “تجزئة ثقافية” تقوم على فكرة “تجزئة الهوية”، وليس تجزئته تجزئةً سياسية وقانونية فقط مع الإبقاء على “ثقافة الهوية العربية الواحدة” فيه قائمة غير منتهكة بثقافة جديدة من جهة أولى، وحول ضرورة إنشاء كيان استيطاني ترعاه الشرعية الدولية يكون قادرا على دعم مشروع “تجزئة الثقافة” ذاته ورفده بكل مقومات الديمومة والبقاء والاستمرار من جهة ثانية، وذلك بهدف الإبقاء على الكتلة الجغرافية والديموغرافية العربية المشرقية “الهلال الخصيب، مصر، الجزيرة العربية”، بعد انهيار الرجل المريض، كتلة غير فاعلة عالميا، بحيث تعجز عن الإسهام في رسم السياسة الدولية، وتنشغلُ بنفسها وبقضاياها المُرَحِّلَة دوما لكلِّ مشاريع “استعادة الهوية القومية ومتطلباتها”، إما بسبب ما يكون قد استحكَمَ فيها وتغلغل من مضاعفات ثقافية سببتها “تجزئة الهوية”، أو بسبب ما يكون قد ولَّدَه على أرض الواقع من مضاعفات سياسية واقتصادية وقانونية.. إلخ، “المشروع الاستيطاني الاستعماري” الرديف والمُكَمِّل لمشروع “تجزئة الهوية” ثقافيا.
و”التجزئة الثقافية” هي تجزئة على صعيد “الهوية”، بينما التجزئة السياسية والقانونية تنحصر في كونها تجزئة على صعيد “الحدود” و”الحكم”، وهي تجزئة إن لم تكن مسنودة بتجزئة على صعيد “الهوية”، فإنها ستغدو مُوَلِّدا لأزماتٍ آنية لا تلبث أن تزول عند أول استحضار للهوية المشتركة الأكبر من الحدود ومن الحكم. وهو ما حرص المشروع الاستعماري البريطاني الفرنسي على عدم الوقوع فيه، وذلك عبر ربطه مشروعَ “التجزئة الثقافية” الذي انصب باتجاه “الهوية”، بمشروع “الاحتلال الاستيطاني” الذي انصب باتجاه عرقلة أيِّ محاولة لاستعادة مشروع “وحدة الثقافة” الذي هو ذاته مشروع “وحدة الهوية” التي ستكون قد تجزَّأت.
ظهرت أولى بوادر سعي العرب إلى تجسيد مشروعهم القومي على أنقاض الإمبراطورية العثمانية المتداعية في سياسات وطموحات حاكم مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر “محمد علي باشا”، الذي عرف أهمية الاستفادة من عناصر النهضة الأوربية الثقافية والتقنية والعلمية، فراح يؤسِّس لمشروعه بإرسالياته وبعثاته التعليمية إلى فرنسا وبريطانيا، كما راح يعمل على نقل الصناعة الأوربية إلى مشروع دولته الغارقة في ظلامِ نظامٍ أقرب إلى إقطاعيات القرون الوسطى في أوربا، منه إلى الدول الحديثة. بل هو راح يرفد مشروعَه هذا بتحركات سياسية في “سوريا الكبرى” و”جزيرة العرب” للتأسيس لمشروع دولته سياسيا وعسكريا، إلى جانب التأسيس لها ثقافيا واقتصاديا.. إلخ.
أوربا التي كانت تراقب هذا الحاكم الطموح الذي أدرك مخططات البريطانيين والفرنسيين في الإقليم، وبعد أن رأته وهو يسابق الزمن محاولا استعجالَ تاريخٍ يجعل مخلفاتِ الرجل المريض تؤول إليه، وليس للبريطانيين والفرنسيين، شعرت بأن مصر وهي تحتضِن مشروعَ هذا الرجل سوف تكون شوكة في حلق مشاريعها التصفوية لتركة الرجل المريض، خاصة بعد أن ظهر “محمد علي” وهو يتحرك بسرعة دون أن يقف في طريقه أحد في سوريا والحجاز ونجد. فما كان منها إلا أن تآمرت مع عدوتها اللدودة “الإمبراطورية العثمانية” المتهالكة عليه لهزيمته وإفشال مشروعه في مهده، بعد أن التقت مصالح الطرفين الأوربي الطامع في تمزيق الدولة العثمانية، و”الآستانة” المرعوبة من مشروع “محمد علي” الذي ظهر وهو يُعِدُّ العُدَّةَ للإجهاز على ما تبقى لديها من أراض وممتلكات عربية، على ضرورة التخلص منه.
وتمَّ إفشال مشروع “محمد علي” في التأسيس لدولة عربية قوية بزعامة مصر في المنطقة المشرقية، تقوم على وراثة التركة العربية لـ “الدولة العثمانية” من موقع الندِّ للنِّد للدول الأوربية الكبرى “بريطانيا” و”فرنسا”. وتمَّ إدخال مصر في نفق التبعيَّة و”الوظيفية” منذ وقت مُبَكِّر، سبقت فيه غيرها من المناطق العربية الأخرى التي كانت ما تزال باقية تحت سيطرة العثمانيين في “الهلال الخصيب” و”الجزيرة العربية”، وذلك عندما فضَّلَ العثمانيون بتعاونهم مع الإنجليز ضد “محمد علي”، تأجيل انهيارهم وخسارتهم للأراضي العربية الواقعة تحت سيطرتهم عدة عقود أخرى، على أن يروا أمامهم مشروعا عربيا قائما ومتكاملا يقزِّم القوى الأوربية الاستعمارية الطامعة في الطرفين.
أي أن “العثمانيين المسلمين” فضلوا التحالف مع الأوربيين ضد “العرب المسلمين”، ليضعفَ الطرفان، فتستقوي عليهم أوربا الاستعمارية، على أن يدعموا مشروعَ “محمد علي” الذي وإن كان سيضعِفُهم فإنه سيضعف الأوربيين أيضا، إلى الحدِّ الذي سيجعل من تحالف “العثمانيبن” و”العرب” المسلمين لاحقا في أيِّ مواجهة ضد أوربا الاستعمارية يصبّ لصالح العرب والعثمانيين ضد الأوربيين، وليس العكس عندما تمّ تغييب الطرف العربي القوي الذي كان يمثِّل مشروعا ندا، وعندما تمَّ إضعاف الطرف العثماني بهذا التغييب إلى حد اقتراب لحظاتِ احتضاره، ليكون من السهل الإجهاز عليه في الوقت المناسب، بالتعاون هذه المرة مع متآمرين عرب من الجزيرة العربية تم اعتبارهم قادة ثورة عربية كبرى، مع أنهم ليسوا أكثر من قادة لأسوإ انقلاب حليف للاستعمار، هم “هاشميو مكة”.
آلت السلطة في مصر بعد هزيمة “محمد علي” وكسر شوكته، إلى حكامٍ ضعاف ومهزوزين ومحدودي الطموح ومحصوري الرؤية داخل حدود مصر الإقطاعية التي تتلقى تعليمات إدارتها ومصيرها من بريطانيا، بعد أن كانت تُعِدُّ لاحتضان مشروعٍ قومي يكسرُ شوكة بريطانيا وفرنسا معا. كانت تبعيَّة على نحو بائس قبلَ لمصر بالدور الذي قررته لها بريطانيا، ومن خلفها أوربا، في نمط التعامل مع الإقليم في المرحلة التي ستسبق انهيار “الدولة العثمانية” وتلك التي ستليه.
إن تحييد مصر كان في الماضي كما هو في المستقبل ودائما، العنصر الأهم الذي يسبق أيَّ مشروعٍ يستهدف الانفراد بالهلال الخصيب، أو على الأقل بسوريا الكبرى. فكلٌّ من الإقليمين هو الخاصرة الرخوة للإقليم الآخر، والتي بطعنها ستتأذى الخاصرة الأخرى حتما.
نستطيع في هذا السياق أن نستذكر أن تحييد مصر باتفاقيات كامب ديفيد كان هو المقدمة الضرورية لتصفية المقاومة الفلسطينية اللبنانية في بيروت. وتحييد مصر في ما يتعلق بالموقف من العراق منذ غزوه للكويت كان هو الرافعة التي ساعدت الولايات المتحدة على تدمير العراق بل واحتلاله في حربين وحصار مروع. ونرجو ألا نكون مضطرين إلى التذكير بأن تحييد مصر بـ “الفاطمية الإسماعيلية” المتداعية، كان هو بداية الطريق لحملات الاستيطان الصليبي في سواحل سوريا الكبرى.. إلخ.
تمّ تحييد مصر إذن، وما بقي إلى الإعداد للتجزئة الثقافية المستهدفة كي يتمَّ استكمال الخطة الاستعمارية، وهو ما يقتضي أن تكون مصر تحت الإشراف المباشر والإدارة المحكمة السيطرة لبريطانيا، بعد أن تمّ تقاسم الأدوار والغنائم بين الفرنسيين والبريطانيين. ومن هنا وبعد أن تحولت مصر من نواة لمشروع قومي كان سيغير وجه السياسة العالمية لو أنه تجسَّد من خلال مشروع “محمد علي”، إلى عزبة يمتلكها “أفندية” و”خديوية” قصر “عابدين” ومن التف حولهم من الإقطاعيين والتجار المتغولين الباذرين لبذورِ ثقافة ليبرالية مهينة وبائسة بين نخب مصر، أصبح من الضروري تهيئة أوضاعها الداخلية – أي مصر – على نحوٍ يتيح احتلالها تحت مسميات الحماية. وكانت البداية بمشروع “قناة السويس” الذي كان نكبة على الشعب المصري بدفنه مائتي ألف فلاح مصري فقير تحت أنقاض أعمال الحفر في أكبر ملحمة اغتيال جماعي عرفها التاريخ لأجل مشروع اقتصادي لم ينتفع به شعب مصر إلا بعد مرور عشرات السنين، لينتهي الأمر بدعوة “الخديوي إسماعيل” بريطانيا إلى مصر، فتحولت مصر إلى مستعمرة بريطانية لا تختلف كثيرا عن مستعمراتها الأخرى في مختلف بقاع الأرض.
في هذه الظروف نشأ المشروع “العرابي” وفشل، لتدخل مصر في نفق مظلم من المعاناة والغياب عن قضايا العرب، وهو النفق الذي لم تتمكن من البدء في مغادرته إلى بعد أن استكملت أوربا الاستعمارية تفاصيل خطتها الاستعمارية في الخاصرة الرخوة لمصر “الهلال الخصيب/سوريا الكبرى والعراق”، مرسخة “التجزئة الثقافية” بكل مُكَوِّناتها وعناصرها ومتطلباتها، جاعلة للتجزئة السياسية والقانونية معانٍ وقيما ذات دلالة، وهو ما تجلى عبر المُكَوِّنات التالية:
– الثورة العربية الكبرى بقيادة الهاشميين مع تحفظنا على تسميتها بذلك، فنحن نعتبرها مجرد انقلاب هاشمي صغير (!!)
– اتفاقية سايكس بيكو التي جسَّدت أول معالم التجزئة السياسية والقانونية (!!)
– وعد بلفور وصك الانتداب على فلسطين لإقامة دولة الكيان الصهيوني هناك (!!)
– التمكن من التَّحَكُّم في مسار قطعة الأرض السورية التي اقتطعت لغاية محددة والتي سميت بعد ذلك إمارة شرق الأردن لتكون الحاضنة الدافئة لكل استرجاعات المشروع الصهيوني (!!)
– وضع الأسس الأولى لمعالم التجزئة الثقافية بالقضاء على كلِّ محاولات “استبدال الإسلام العثماني”، وتمهيد الطريق لكل محاولات “استعادة هذا الإسلام” (!!)
– وضع الأسس الأولى لإسلام ثالث لا هو “عثماني مستعاد” ولا هو “بديل فعال له”، بل هو عبارة عن إسلام ظلامي هدفه مناكفة الإسلام العثماني المستعاد إذا تغوَّل وأصبح قوة قادرة على التأثير على المشروع الاستعماري الأوربي في الإقليم (!!)
في هذا التحليل لن نتحدث عن العناصر الأربعة الأولى، فموضوعها غير معني بها، ويمكننا أن نناقشها في دراسات أخرى، بل إننا قد ناقشنا الكثير منها في مقالات سابقة نشرت في أكثر من موقع وفي أكثر من مناسبة (!!)
لكننا سنتحدث عن العنصرين الأخيرين باعتبارهما من أخطر مُكَوِّنات الهجمة الاستعمارية علينا منذ وقت مبكرٍ ترافقَ مع انهيار مشروع “محمد علي”، أو لحقه بوقت قصير، مع أنهما العنصران الأقل حضورا في التحليل والمناقشة من قبل دارسي تاريخ نكباتنا الذين ركزوا على العناصر الأربعة الأولى مع أنها مجرد واجهة سياسية وحركية لسيرورة ما جسَّده في واقعنا وفي تاريخنا العنصران الآخران (!!)
فهما العنصران المتعلقان بـ “التجزئة الثقافية” التي ستخلق بلبلةَ “هوية” مدمِّرَة كما سيتبين. وهو الأمر الذي عشنا مائة عام من المعاناة من تبعاته، دون أن تعلمَ نخبُنا في الغالب من حقيقته أو تعرفَ، أكثر مما أراد لها الاستعمار أن تعلمَه وتعرفَه، كي تتورطَ في المعركة المرسومة لها من خلاله قطعا شطرنجية، وأدوات بائسة، تضرب بسيف الأعداء، ظنا منها أنها تحقِّق للأمة مصلحة أو منفعة، لنصحوَ صحوةً شبيهة بصحوةِ أهل الكهف – هذا إن كنا صحونا فعلا ولم نزل بعد نغطُّ في سبات وموات أهل الكهف – على فجيعةِ أن أكثر من مائة عام من تاريخنا قد هُدِرَت بلا أيِّ مردود غير تكريس “القُطْرِيَّة”، و”جدل الهويات”، و”صراع الأفكار والمعتقدات والطوائف والمذاهب”، حدَّ الفناء والإفناء.
فكيف خططت بريطانيا لتجزئتنا ثقافيا كي تمهدَ لإنجاح مشروعها في تجزئتنا سياسيا وقانونيا، عقب نجاحها في تغييب الدور المصري تغييبا كاملا عن أيِّ فعل في سيرورة الإقليم الذي راح يتشظى ويتبعثر في كلِّ الاتجاهات، بعد أن فقد روحَه ورأسَه وحاضنتَه الأم (؟!)
كما أن “محمد علي” استشعر مخاطر المشروع الاستعماري الأوربي سياسيا واقتصاديا، فراح يُعِدُّ لمواجهته سياسيا واقتصاديا، وهو غير مدرك لأبعاده الثقافية الخطيرة التي كانت خارج نطاق اهتماماته ومستويات وعيه على ما يبدو، باعتباره في نهاية المطاف مجرد قائد طموح يسعى بالدرجة الأولى إلى السيطرة والنفوذ والاستبداد، ما جعله يهملها في خططه وهو يؤسِّسُ لمشروعه القومي النهضوي، فإن مجموعة من المفكرين والعلماء المصريين ومن تبعهم بعد ذلك في سوريا والعراق من الذين ظهروا بعد فشل مشروع “محمد علي”، وبعد اتضاح المُكَوِّنات الحقيقية للمشروع الاستعماري الأوربي، من أمثال “جمال الدين الأفغاني” و”محمد عبده” و”محمد رشيد رضا”، وغيرهم، استشعروا البُعد الثقافي الخطير للمشروع البريطاني الفرنسي، والمتمثل في خلق الهوة العميقة في “الهوية” بين “الأتراك” و”العرب” من جهة، وبين “المصريين” و”باقي العرب” من جهة أخرى، في سياق التمهيد الاستعماري لتجزئة الإقليم والسيطرة عليه بعد تفتيته وجعله ضعيفا متهالكا.
انتبه هؤلاء إلى أن الإنجليز يؤسِّسون لثقافة “الهوية المصرية” لتسهيل عملية انتزاع “مصر” من “هويتها العربية” الجامعة لها مع باقي العرب، ويؤسِّسون لثقافة “الهوية العربية” لتسهيل عملية انتزاع “باقي العرب” من “هويتهم الإسلامية” الجامعة لهم مع باقي المسلمين بمن فيهم العثمانيين الأتراك أنفسهم. أي أنهم لاحظوا وانتبهوا إلى جوهر الفكرة الاستعمارية التي تريد أولا أن تفصل مصر عن عمقها العربي، ليتمَّ الانفراد بذلك العمق لاحقا، وذلك بترسيخ “الهوية المصرية” كحاضنة لكل أولويات الشعب المصري على حساب أيِّ هوية أخرى أيا كانت، بعد أن تم النجاح في عزلها نسبيا عن “الهوية الإسلامية الجامعة” بإفشال مشروع “محمد علي”، والتي تريد ثانيا أن تفصلَ العرب عموما عن عمقهم الإسلامي ليتم الانفراد بذلك العمق لاحقا وذلك بترسيخ “الهوية العربية”.
الخطير في الأمر كما اتضح لدى تلك النخبة من العلماء والمفكرين التاريخيين أن الاستعمار كان يتلاعب بهويات هي في ذاتها حقيقية ومشروعة ليضربها بعضها بالبعض الآخر. أي أنه لم يلعب أو يتلاعب بأدوات مكشوفة اللاشرعية كي لا يكون من السهل كشف مشروعه ومناجزته. فاستشعار المصري بمصريته أمرٌ مشروع وهو حقيقي، واستشعار العربي بعروبته أمرٌ مشروع وهو حقيقي، واستشعار العربي سواء كان مصريا أو لم يكن بعمقه الإسلامي هو أمرٌ مشروع أيضا. وبالتالي ولكي لا يظهرَ المشروع الاستعماري وكأنه يخترق منطقة مُحَرَّمة أو غير مشروعة ويتلاعب بها، فإنه لم يفعل أكثر من أنه خلق “لعبة لوغو هويات” وراح يُشَكِّلُها في الثقافة التي يريدها على النحو الذي يريده عبر أدواتٍ وأبواقٍ ونُخَبٍ لن يعدمَ العثور عليها في أيِّ مكان.
لقد كانت التجزئة السياسية والقانونية للدولة العثمانية وللأراضي العربية التابعة لها هدفا استعماريا، وهذا ما أدركه هؤلاء الكبار مثلما أدركه قبلهم “محمد علي” الذي اشتغل على منع تحقُّقِه سياسيا واقتصاديا ففشل (!!)
وإنجاز تجزئة سياسية وقانونية قابلة للدوام والاستمرار والبقاء، يتطلب “تجزئةً ثقافية” تتمحور حول خلق “جدل هويات” يختلط فيه “المصري” مع “العربي” مع “الإسلامي” في المنطقة المستهدفة تجزئتها سياسيا وقانونيا، وهو ما أدركه هؤلاء العلماء ولم يكن قد أدركه قبلهم “محمد علي” ولذلك فشل (!!)
فماذا فعل هؤلاء كي يؤسِّسوا لفكرتهم التي كان عليها أن تسير في حقل ألغام محتقن بالديناميت، كي يقفزوا بشكل منطقي ومقبول على الألغام المبثوثة في كلِّ مكونات المشروع الاستعماري الذي راح ينتشر انتشار النار في الهشيم. أي ماذا فعلوا كي يُفْقِدوا المشروع الاستعماري فعاليتَه التي حققها باللعب المتقن في حقل “الهويات”، عبر لعبة “لوغو الهويات” (!!)
كان مشروع “الجامعة الإسلامية” التي نادى بها “جمال الدين الأفغاني”، ومعه تلك الثلة من العلماء والمفكرين، يقوم على مبدأ الدوائر الثلاث التي أصبح بعضها فيما بعد، وعقب تفريغها من مضمونها الحقيقي واتخاذها فقط طابعا شكلانيا استعراضيا دعائيا، هي جوهر ما أُطْلِقَ عليه “الفكر القومي الناصري” كما ورد في كتاب “فلسفة الثورة” لجمال عبد الناصر، وهذه الدوائر هي:
– إن الأمة الإسلامية أمة واحدة لا يجوز أن نجزِّئها ونقسِّمها لصالح الاستعمار ومشاريعه ومصالحه باعتباره الطرف الوحيد المستفيد والمنتفع من هذه التجزئة، وبالتالي فوحدة الأمة الإسلامية في إطار “الجامعة الإسلامية” أمر محتَّم لضمان استقلال هذه الأمة وكلِّ مُكَوِّناتِها القومية.
– إن هذه الأمة تضم العديد من الأمم القومية التي منها “الأمة التركية”، و”الأمة العربية”، و”الأمة الفارسية”، و”الأمة البنغالية”، و”الأمة الهندية”، و”الأمة الكردية”.. إلخ، ولكلٍّ واحدة من تلك الأمم خصوصياتها التي لا تتعارض مع فكرة الوحدة في إطار الأمة الإسلامية الجامعة، إذا هم استشعروها وعاشوها وحققوا ذاتهم من خلالها، وتحصلوا على كامل الحقوق التي ترتبها لهم المدنية المعاصرة على أساسها، بشكل لا يتعارض مع متطلبات “الجامعة الإسلامية” القادرة على مواجهة قوى الاستعمار العالمي.
– إن استشعار الوحداتِ المختلفة المكونة كلِّ قومية بخصوصياتٍ هوية قُطْرِيَّة تميِّزُها بشكل أو بآخر عن باقي مُكونات الهوية القومية الواحدة، هو أمر قائم وموجود في واقع البشر، ومعترفٌ به ولا يتعارض لا مع فكرة “القوميات” في قلب “الجامعة الإسلامية”، ولا مع فكرة “العروبة” في قلب “القومية العربية”، ومن ذلك استشعار “السوريين” بأنهم يختلفون في بعض مُكونات هويتهم عن “المصريين”، وشعور “العراقيين” بذلك، بل وشعور أي مكون آخر من مُكونات الهوية العربية أيضا.
أي أن دعاة “الجامعة الإسلامية” وضعوا الأساس لحلٍّ ثقافي قائم على فكرة “المصلحة” المرتكزة إلى مبدأ “القوة والمنعة والهيبة الدولية”، يذيب كلَّ التناقضات التي أثارتها الثقافة التي راح الاستعمار يرسِّخُها ويكرِّسُها لتحقيق مآربه مستخدما منظومة الهويات المشروعة في ذاتها ليضربَها بعضها بالبعض الآخر.
ففي مشروع الجامعة الإسلامية، سيجد المصري مصريته ويستشعرها ويحياها ويتحصل على كافة حقوقه المشروعة التي تترتب له بناء عليها بدون أن يَمَسَّ عروبيته وإسلاميته، وسيجد العربي عروبيته بالمستوى ذاته بدون أن يتناقص مع إسلاميته التي يلتقي بموجبها مع التركي والبنغالي والفارسي والكردي والهندي.. إلخ.
لقد كان حلا ثقافيا متقدما جدا على مستوى الفكر الإنساني كلِّه، ومتضمنا كلَّ الزخم الثقافي “الأممي والقومي والوطني” الذي يسَخِّر كل مستوى من مستويات الهوية ليتفاعل مع المستويين الآخرين وينسجم معهما بلا أيِّ تناقضات.
ولهذه الأسباب فقد تمت محاربة هذا الفكر العظيم الذي تجاوز واضعوه حتى الثقافة التي سادت أوربا ذاتها، والتي كانت الضحالة الأوربية بسببها ما تزال لم تتوصل إلى آليات ثقافية لها مردودات سياسية وقانونية تحسمُ بموجبها تناقضَ الوطني مع القومي، والقومي مع القاري الأوربي، بل والقاري الأوربي مع الآخر العالمي خارج القارة. وهو ما لن تتوصل إليه تلك القارة إلا بعد حربين مدمرتين تجاوز عدد ضحاياهما السبعين مليون قتيل، ودمرتا القارة مرتين عن بكرة أبيها، عندما انتبه أحفاد المجانين الذي دمروا قارتهم ودمروا العالم معها، إلى أن الأوربيين الذين يختلفون في كلِّ شيئ، ثقافيا ودينيا وفكريا ولغويا، والذين اقتتلوا على مدى نصف ألفية من السنوات وهم يتنافسون على قتل العالم وإبادته ونهبه وسرقته، يمكنهم أخيرا أن يتوحدوا بعد أن يخلقوا لأنفسهم منظومة مصالح يتوافقون عليها ويعتبرونها مصالحَهم.
نعم لهذه الأسباب تم التشنيع على فكرة “الجامعة الإسلامية”، وتم نفي قادتها والتنكيل بهم، وتم تشويه سمعتهم، وبث الإشاعات المغرضة في حقهم، كي يتمَّ خلق كلِّ الحواجز بينهم وبين الشعوب والنُّخب المتطلعة إلى حلولٍ حقيقية تنقذُهم من مأزق التقسيم القادم.. إلخ (!!)
وفشل مشروع “الجامعة الإسلامية”، بل أُفشِلَ لتخلوَ الساحة إلى “ثقافة التجزئة” وأبواقها ومروجيها كما أرادتها القوى الاستعمارية آنذاك (!!)
فمع كل خطوة كانت تتقدم بها فكرة “الجامعة الإسلامية” إلى الأمام على صعيد حلِّ التناقض المزعوم بين “المصري” و”العربي الجامع” في الهوية المصرية، كانت فكرة “الهوية القطرية المصرية” تنتصر على “العروبية الجامعة” في هويتها، وتنكفئ إلى داخل ذاتها وشوفينيتها وعنصريتها، بالتقدم على هذا المعلم لإحداثياتها خطوتين، بدعم استعماري خالص، بريطاني هنا وفرنسي هناك (!!)
ومع كل خطوة كانت تتقدمها فكرة “الجامعة الإسلامية” إلى الأمام على صعيد حلِّ التناقض المزعوم بين “العربي” و”الإسلامي الجامع” في هويتها، كانت فكرة “الهوية القومية العربية” تنتصر على “الإسلامية الجامعة” في هويتها، وتنكفئ إلى داخل شوفينيتها وعنصريتها وذاتيتها، بالتقدم على هذا المعلم لإحداثياتها خطوتين، وأيضا بدعم استعماري خالص، بريطاني هنا وفرنسي هناك (!!)
إلى أن أصبحت الدعوة القومية العربية لا ترى نفسها إلا في التجسُّد على أنقاض الدولة العثمانية وإن يكن بالتحالف مع الاستعمار ذاته، وهو ما رأت فيه بريطانيا إنجازا تاريخيا كان أقدر من أيِّ شيء آخر على إسقاط ما تبقى من آثار لفكرة الجامعة الإسلامية في نفوس هنا وعقول هناك، وأن عليه فقط أن يتجسَّد على شكل أداة سياسية تابعة لها.
فكان “الانقلاب الهاشمي” البائس بقائده المخدوع إن صحَّ أنه خُدِعَ ولم يكن متواطئا منذ البداية، “الشريف حسين بن علي”، الذي تمَّ تسويق فعله بأنه ثورة، وأتباعه بأنهم ثوار، وإنجازاته بأنها إنجازات قومية.
لقد كانت فكرة “الجامعة الإسلامية” إذن بمثابة دعوة ثقافية عميقة الأبعاد أرادت أن تستبدل “الإسلام العثماني” القائم على الهيمنة والسيطرة والاستعلاء العرقي حتى في قلب سماحة الإسلام وعدالته ومساواته ونبذه للاستقواء العرقي، والقائم على التشدُّد والتحريم، بـ “إسلام آخر” هو “الإسلام العربي”، الأكثر انفتاحا على فضاءات التعدُّد والتآلف المصلحي، والاستقواء بالتحالف لا بالاستضعاف، وبالتعايش المتنادد، لا بالنبذ والإقصاء، والتيسير ولا التعسير، من خلال التأسيس لثقافةٍ تستطيع تشكيل عناصر هذا التعايش والتصالح وهذا التحالف وهذا التيسير الضامنة كلها للقوة والريادة والمهابة الدولية في عالم الأقوياء.
فجاء “الانقلاب الهاشمي” على النقيض تماما، مُكَرِّسا فكرة “الاستعلاء القومي” القائم على الخصوصية المطلقة التي لا تلتقي مع الآخر “المسلم” إلا في الاسم والمعتقد هذا إن التقت أصلا، لا بل والمؤسِّس لثقافاتٍ بشعة في تاريخنا المعاصر، من استقواء بالأجنبي، وتأصيل لمبدأ دوام مطالبة المسلمين بالانفصال في كلِّ مكان يعيشون فيه، استعلاءً وشعورا بالتَّمَيُّز في عناصر هي مدعاة للدونية أكثر منها مدعاة للتميز في واقع الحال.. إلخ.
وبعد أن استَتَبَّ الوضع للمشروع الاستعماري، وحققت كلُّ أداة من الأدوات المستخدمة حتى ذلك الوقت دورها المنوط بها ومهمتها الموكلة إليها، تمَّ تغييب من يجب تغييبها من تلك الأدوات وشخوصها، وتمت إعادة إنتاج وتشكيل ما يمكن أن يعاد إنتاجه وتشكيله، ليستكمل المهمة على النحو الذي تتطلبه المرحلة.
وفي هذا السياق، أي سياق “التجزئة الثقافية”، واصلت قوى الاستعمار بريادة بريطانيا بالدرجة الأولى رسالتَها مُنْجِزَةً ثلاثة أمور غاية في الأهمية تطلبتها تداعيات نتائج المرحلة السابقة، فضلا عن بعض المُتغيرات العالمية التي دخلت فجأة على خط تحديد مسارات مستقبل البشرية، وعلى رأس كل ذلك “ثورة البلاشفة” في روسيا القيصرية، وما نتج عنها من ظهور قوة جديدة إمبراطورية الشكل، عقائدية المضمون، ثورية الأداة، هي الاتحاد السوفياتي. أما الأمور الثلاثة التي أنجزتها بريطانيا على صعيد “التجزئة الثقافية” في الأقاليم العربية التي كانت تحت تصرفها فهي استدعاء نوعين من الإسلام متناقضين تماما هما “الإسلام الوهابي” بنكهة “السلفية الحنبلية التيمية” بوصفه غطاء دينيا لآل سعود الذين أعدوا ليكونوا رموز الوظيفية العربية القادمة، و”الإسلام العثماني” ولكن بنكهة ومذاق “هنديين” هذه المرة جسَّده سياسيا ذلك الانفصال التاريخي الفاجع لباكستان بزعامة “محمد علي جناح” عن الهند، بالإضافة إلى الاستدعاء السريع والمبكر لمخرجات “الثورة البلشفية” التي لم تكن قد لملمت جراحَها بعد، على شكل “أحزاب شيوعية” عربية متناثرة بشكل فسيفسائي يثير الريبة والشفقة شكلا ومضمونا وأهدافا، خاصة عندما سنكتشف لاحقا أن جميع تلك الأحزاب كانت أحزابا وقفت ضد دعوات التحرر الوطني العربي كما كان يطرحها العرب أنفسهم في سياقات مواجهة الاستعمار، وبالأخص إذا تحدثنا عن “شيوعيي فلسطين”، وعن “شيوعيي الجزائر”.
فشيوعيو فلسطين كانوا يرون في مقاومة الصهاينة وتجمعاتهم الاستيطانية المدعومة أصلا من الانتداب البريطاني، إلى جانب مقاومة الإنجليز كقوة احتلال، انحرافا خطيرا في مفهوم النضال الطبقي الذي يرون أنه يجب أن يضم “يهود فلسطين الصهاينة” مع “الفلاحين الفلسطينيين” في خندق واحد ضد سلطات الانتداب التي تُعتبر هي العدو المشترك للطرفين اللذين لا تناقض بينهما، وإنما التناقض بينهما كطبقة واحدة وبين الرأسمالية التي تمثلها سلطة الانتداب وتحالفاتها الرأسمالية، في انحراف بائس عن كل معاني الوطنية والقومية حتى في أبسط معانيها، وهو ما لم يحاولوا التحرُّرَ منه بعد عزلتهم التي فصلتهم عن كل أدوات النضال الفلسطيني إلا بتأسيسهم لعصبة التحرر عام 1943 كشكل خجول من أشكال إعلان عدم ممانعة الاشتراك في الأعمال النضالية لمواجة المشروع الصهيوني، دون أن يكون هذا الذي ننقله عن تاريخهم المبكر مانعا من الاعتراف بأنهم تغيروا وتطوروا كثيرا إلى أن أصبحوا رموزا للنضال الوطني في الأردن وفلسطين لاحقا.
أما “شيوعيو الجزائر” فقد كانوا دون غيرهم من كلِّ أبناء الشعب الجزائري دعاة “اندماج الجزائر” مع فرنسا، باعتبار أن الصراع ليس صراعا على الأرض والهوية، ولا هو بالتالي صراع ضد استعمار، بقدر ما هو صراع طبقي بين عمال وفلاحين فرنسيين يقيمون في الجزائر اسمهم “الشعب الجزائري” وبين قوى وطبقات رأسمالية متغوِّلَة تدعهما سلطة الاحتلال وتمثلها بحسب ما تشخِّصُه مفاهيم الصراع الطبقي ليس إلا، الأمر الذي جعل هذا الحزب يُصنَّف على أنه ليس حزبا وطنيا بالمعنى الصحيح، إلا بعد أن بدأ أعضاؤه ينفصلون عنه لحوقا بالمنظمات الثورية المقاتلة ضد الاستعمار الفرنسي.
أما الإسلامان اللذان استدعتهما بريطانيا وهما “الإسلام الوهابي” و”الإسلام العثماني” بالمذاق الهندي، فلنا معهما ومع السياسة البريطانية بشأنهما وقفة عميقة لاستجلاء الأمر، تعتبر وقفة مع نشأة الإسلام السياسي المعاصر باعتبارهما مكونين أساسيين من ذلك الإسلام في مقالات ودراسات أخرى.

المشرق العربي القادم يُراد له أن يكون: “عملاقا اقتصاديا”، و”قِزما سياسيا”، و”دودة عسكرية” (!!)
إنها إستراتيجية المشروع الإمبريالي الصهيوني في المرحلة القادمة: ومصر وسوريا هما البداية (!!)
والأداة الجديدة هي: نشر ثقافة “العجز عن الدفاع”، بعد استنزاف زخم ثقافة “العجز عن الهجوم” (!!)
هكذا يفكرون.. وهكذا يستعدون.. وهكذا يتحركون (!!)
أما تحن فلا نتقن سوى “الجَعْجَعَة”، و”الادعاء”، و”التنافر”، و”الاقتتال”، وبلع “الطعوم” (!!)
إن إستراتيجية المشروع الإمبريالي الصهيوني تجاه إقليم “المشرق العربي”، في المرحلة القادمة، ستقوم على الفكرة الضد التي كانت تقوم عليها إستراتيجيته في المرحلة السابقة.
فقد قامت تلك الإستراتيجية حتى الآن على زرع ثقافة “عَجْزِنا عن الهجوم”، وهي ستقوم من الآن فصاعدا على زرع ثقافة “عَجْزِنا عن الدفاع”. علما بأن متطلبات زرع ونشر وترويج الثقافة الأولى، تختلف عن متطلبات زرع ونشر وترويج الثقافة الثانية، وذلك من خلال مقاربة دقيقة قد تثير اللبس.
فاقتناعنا بعجزنا عن “الهجوم”، يتطلب إنتاج الواقع على نحوٍ يفقدنا الثقة في قدرتنا على خلق “القوة” القادرة على “الهجوم”، من خلال اقناعنا بضعف مقومات “الهجوم” في واقعنا المتاح لنا استخدامه.
أما إقناعنا بعجزنا عن “الدفاع”، فيتطلب إنتاج الواقع على نحوٍ يفقدنا الثقة في قدرتنا على خلق “القوة” القادرة على “الدفاع” عن الواقع ذاته أصلا في حال تَعَرُّضِه للهجوم.
ولكن لماذا سيلجأ المشروع الإمبريالي الصهيوني من الآن فصاعدا إلى تغيير إستراتيجيته في الاتجاه المضاد تماما؟! وما دلالة ذلك موضوعيا؟! وما الذي حدث في الواقع، فأفقدَ ثقافة “عجزنا عن الهجوم”، قدرتَها على تمرير مصالح المشروع الإمبريالي الصهيوني، ليصبحَ المطلوب بدءا من الآن هو نشر ثقافة “عجزنا عن الدفاع” سبيلا لتمرير تلك المصالح؟!
لقد استنزفت إستراتيجية زرع ثقافة “العجز عن الهجوم” كلَّ إمكاناتها في منعنا من الهجوم لانتزاع حقوقنا ومواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني. ولم تعد هذه الإستراتيجية قادرةً على تحقيق الغاية المتوخاة منها، وهي تلجيم مقاومتنا لذلك المشروع، فأصبحنا نهاجم ونقاوم، ونطور إمكاناتنا، ونفعِّل قدراتِنا، ونعرف كيف نستغل مُكَوِّنات واقعنا.. إلخ. وبالتالي فقد وصلت بنا هذه الإستراتيجية إلى نقطة الذروة التي سنبدأ منها بالانقلاب عليها هي ذاتِها، بعد مجموعة من التغيُّرات والتطورات التي حدثت في بُنيَتنا المجتمعية على كلِّ الصُّعُد خلال العقود الماضية.
وقد كان لزاما من ثمَّ أن يصارَ إلى التفكير على نحوٍ مختلفٍ إمبرياليا وصهيونيا في التعامل مع واقعٍ عربي يتغير بجذرية وعمق، من حيث ثقافة التعاطي مع المشروع الإمبريالي الصهيوني، خاصة بعد أن أثبتت التحولات الأخيرة الحاصلة في الوطن العربي أنها ورغم كلِّ الوهن الذي فيها، ستبقى تحولاتٍ مفتوحةً على أنماطٍ من التغيير الذي لا يمكن أن تتمَّ السيطرة عليها وفق معادلة زرع ثقافة “العجز عن الهجوم” إلى أبعد مما تمَّ إنجازه فيما مضى، لأن تلك التغيرات في ذاتها تنطوي بلا أدنى تحفُّظ على كلِّ معاني “القدرة على الهجوم”، رغم كلِّ اللبس الذي يعتريها لأسبابٍ ليس من الصَّعب فهمها وتفهُّمها، بل وإدانة بعض مظاهرها أيضا، وإن كان من المستحيل اعتبارها لا تنطوي على التمرُّد الكامل على عناصر “العجز عن الهجوم”، مؤذنة بأفولِ أسسِ هذه الثقافة كبُنية تحتية لقيادة المرحلة القادمة في التجاذبات الممكنة والمحتملة مع المشروع الإمبريالي الصهيوني.
فأكبر الأسافين التي تمَّ دقها في نعش هذه الثقافة، هي الهجوم على مختلف أذرع الإمبريالية والصهيونية والوظيفية في الإقليم في الأعوام 2006 و2008 ثم بدءا من العام 2011، لتكون فكرة الاستمرار في هذه الإستراتيجية فكرة لا تخدم المشروع المضاد لنهضة الأمة من الآن فصاعدا.
لقد تحصنا ضد ثقافة “العجز عن الهجوم”، ولم تعد أيُّ فايروسات مُطَوَّرَة من هذه الثقافة قادرة على اختراق قوة الأمصال التي تجرعناها لنخلقَ مكونات قدرتنا على “الهجوم”، أي على “المقاومة”، مقاومة أيِّ شيء يقف ضد إرادتنا في التحرر والنهوض وتحقيق العدالة.
ومن هنا تأتي الفكرة الضد التي تقوم على ضرورة إقناعنا بعجزنا عن الدفاع، كي لا نفكر في الهجوم ذاته.
فمادمنا قد بدأنا نهاجم ونجحنا في هجومنا هنا وهناك، وإن يكن كلُّ ذلك النجاح ما يزال نسبيا ويجسِّد حالةً جنينية سوف تنمو وتتكامل بشكل محتَّم مع مرور الوقت واستكمال عوامل النضج التغييري والثوري.
وما دمنا قد بدأنا نتغير بشكلٍ سيوسِّع من دائرة قدراتنا الهجومية إن آجلا أو عاجلا.
فلم يعد أمام العقول المفكرة في إدارة المشروع الإمبريالي الصهيوني إلا أن تعملَ عل تلجيم هذه القدرات النسبية التي انفتح واقعنا عن آفاقٍ مذهلة لها في المستقبل، وذلك عبر العمل على إعادة إنتاج هذا الواقع على نحوٍ يصبح التفكير في حمايته وعدم تعريضه للمخاطر، والإبقاء عليه في مأمن من الغوائل التي قد تترتب على نوع من التحدي في علاقاتنا بالصهيونية والإمبريالية.. إلخ، تفكيرا غير عقلاني، ما يجعلنا حريصين على عدم المساس به، من خلال عدم التسبُّب – عبر نهج “الهجوم والمقاومة” – في العدوان المدمر عليه، بعد أن يكون هذا الواقع قد أُنْتِجَ بشكل اقتنعنا بأن الدفاع عنه دون خسائر مدمرة تعيدنا إلى نقطة الصفر هو ضربٌ من المستحيل.
إن هذه الثقافة الجديدة لا ولن تقوم إلا على نمطٍ من التنمية الاقتصادية تَبْني الدول بشكل أبعد ما تكون فيه عن الاستعداد لأيِّ شكل من أشكال الحروب والمواجهات في إقليمٍ متوتر وقائم أساسا على عدم الاستقرار، وعلى الحروب والمواجهات منذ زُرِعَ فيه هذا الكيان السرطاني الغاصب “إسرائيل الصهيونية”.
فمصر، الدولة المحورية والمركزية في الإقليم، لابد أن تستقرَّ ليكون استقرارها بثقافتها الجديدة القائمة على حصيلة السنوات الأربع محليا وإقليميا هو مبرر الاستقرار في المنطقة. ولا بد لاستقرارها هذا من أن يتم عبر بنائها بشكل يجعلها قاعدة اقتصادية واسعة وقوية في حاضنةٍ إستراتيجية عسكرية وسياسية رخوة، لا تختلف عن اليابان من حيث هشاشة قدرتها على التأثير الإستراتيجي في الإقليم الذي ستكون قد جعلته يدور في فلكها اقتصاديا.
ولأجل ذلك فسوف يتم ضخ مئات مليارات الدولارات من الاستثمارات التي سوف تغير من وضع الفقر والبطالة ومستوى المعيشة والبُنية الطبقية للبلاد.. إلخ، وإن يكن نسبيا وعلى نحوٍ يتناسب مع طبيعة اقتصاد السوق في التعاطي مع هذه المشكلات الاقتصادية عند الأزمات وعلى قاعدة “الرأسمالية تجدد نفسها”.
وسوف تجد مصر نفسها موطنا لرؤوس أموال أجنبية وعربية هائلة، ولقاعدة إنتاجية واستثمارية لا تحتمل الهزات العسكرية أو الاقتصادية المزلزلة، وسوف تكون كل البُنى التحتية التي شَغَّلَت ملايين العاطلين، وربطت بها محليا وإقليميا دولا وشعوبا أيضا، قابلة للانهيار في أيِّ صراع عسكري واسع في المنطقة، لأنها بُنِيَت في الأساس في دولةٍ قُرِّرَ لها ألا تكون دولة مواجهة، وهو الأمر الذي سيجعل تأثيرها المستقبلي في أيِّ صراع في المنطقة ناتجٍ عن وجود وهيمنة وتغوُّل المشروع الإمبريالي الصهيوني دورا غير فاعل، وستفقد قيمتَها الإستراتيجية ودورها الريادي في توحيد ونهضة الأمة خارج نطاق كونها قاعدة اقتصادية مرفهة وهشَّة وشديدة الرخاوة من النواحي الإستراتيجية العسكرية التي بدونها لن يتغير الشكل العام للإقليم على نحوٍ يؤسِّسُ لوحدته وتحرره واستقراره الحقيقي الذي لا يقوم أصلا إلا بمواجهة المشروع الاستعماري الإمبريالي “إسرائيل الصهيونية”.
وهذا هو على وجه التحديد ما تنطوي عليه الفكرة الضد في الإستراتيجية الإمبريالية الصهيونية القادمة في الإقليم. إنها الفكرة الكامنة في أن تكون الدول قوية اقتصاديا بشكل غير مسبوق، وهشَّة عسكريا بسبب نمط بُنيتها الاقتصادية الرخوة التي سيتم الحرص فيها على أن تكون عاجزة عسكريا، لا من حيث عدم وجود سلاح أو صناعة عسكرية، وإنما من حيث عدم القدرة على قبول فكرة خوض أيِّ صراع يهدد تلك البنية وذلك الرخاء بالزوال والدمار والعودة لا إلى المربعات الأولى الراهنة، بل إلى ما قبلها.
أي – وبكلمة أخرى – يجب أن يعاد إنتاج الإقليم في ظل تداعيات “الحالة المصرية” بالدرجة الأولى، على قواعد جديدة تضخِّم الجانب الاقتصادي غير المدروس ثقافيا بما يتطلبه الوضع العربي الإقليمي من أنماط مواجهة محتملة مع المشروع الإمبريالي الصهيوني، على حساب الجانب العسكري والسياسي الإستراتيجيين اللذين يجب أن يكونا هما الحاضنة التي تؤسِّس لشكل التنمية الاقتصادية المطلوبة والمفترضة محليا وإقليميا في منطقة شديدة الحساسية والتوتر، وذلك بهدف تكريس بُنْيَة إقليمية عربية قادمة تتعايش مع العلاقات الإمبريالية الصهيونية في المنطقة تعايشا إكراهيا واضطراريا، بكل دلالات تلك العلاقات على عرقلة المشاريع الوحدوية والنهضوية، وبكل قدراتها على الترحيل الأبدي للقضية الفلسطينية التي يجب أن تبقى معلقةَ الحلول النهائية – أيا كانت نوعية هذه الحلول – لكي تبقى من ثم حائلا دون تحويل البُنية الاقتصادية التنموية الواسعة والرخوة القادمة، إلى رافعة حقيقية للنهضة والوحدة العربية الإقليميتين على أقل تقدير.
فإذا كانت التنمية الاقتصادية هي أساس النهضة والوحدة العربيتين كما يفهم كل العقلاء، فإنهما – أي النهضة والوحدة – لن تتحققا بالرغم من أيِّ تنمية اقتصادية من أيِّ نوع، في ظل وجود مشروع إمبريالي صهيوني يستمر في تنفيذ الغايات التي يريد تنفيذها في الإقليم عبر الحالة الصهيونية “إسرائيل”، لاعبا لأجل تمرير كل ذلك وتنفيذه، وبشكل دائم ومستمر، على الإبقاء على القضية الفلسطينية معلقة بلا أيِّ حل، حرصا على إفقاد “التنمية الاقتصادية”، قدرتها على تغيير الواقع العربي الإقليمي، بعد أن تكون تلك التنمية ذاتها قد حققت الهدف الإستراتيجي الجديد المتمثل في زرع ونشر وترويج ثقافة “عدم القدرة على الدفاع”، وهي الثقافة التي تقتضي حتما تلجيم أيِّ فعل هجومي ضد المشروع الإمبريالي الصهيوني، حتى لو كان هذا الفعل الهجومي – بصرف النظر عن شكله ومكوناته ونوعه – هو الصيغة المطلوبة لتحقيق النهضة والوحدة الحقيقيتين.
وهنا لا يسعنا إلا أن نستحضر مقولة شهيرة للرئيس الفرنسي الراحل “فرانسوا ميتيران”، عندما وصف أوربا قائلا: “أوربا عملاق اقتصادي، وقزم سياسي، ودودة عسكرية”. وهذا ما يراد للإقليم العربي أن يصبحَه في المرحلة القادمة، بعد أن انتهت المرحلة السابقة بما لها وما عليها. فمادام هذا الإقليم قد بدأ يخرج من القمقم، منذ عام 2006، ليستكمل خروجه بهذه التحولات الخطيرة شكلا ونتائجا منذ مطلع عام 2011، فليس أقل من أن تُحَدَّدَ له طريقٌ يسير فيها خارج هذا القمقم، غير تلك التي قد تجعله قوة عسكرية، أي فلتُحدَّد له طريقٌ تجعل منه دودة عسكرية وقزم سياسي رغم عملقته الاقتصادية.
فالقوة الاقتصادية ليس بالضرورة أن تكون مرفقة بقوة عسكرية وسياسية مماثلة لها في التأثير، فواقعة ألا تولِّد القوة الاقتصادية قوة عسكرية وسياسية مناظرة لها، هي حقيقة لا مجال لإنكارها، مفادها أن القوة الاقتصادية كي تكون مرفقة بقوة عسكرية مماثلة لها تناظرها وتكافئها، تتطلب نوعا آخر من العوامل لا تكمن في القوة الاقتصادية ذاتها، بل في الثقافة أولا، وفي فلسفة القوة الاقتصادية ذاتها وفق تلك الثقافة ثانيا.. إلخ.
وإذا كانت أوربا حسب توصيف “فرانسوا ميتران” مثالا حيا أمامنا لمثل هذا التناقض بين القوتين الاقتصادية والعسكرية، فإن اليابان ذاتها تعتبر نموذجا أكثر وضوحا لتجلي هذا التناقض الصارخ، من حيث أنها تكاد تكون أقوى اقتصاديا من أوربا “نسبيا”، باعتبارها دولة واحدة تعادل قوتها الاقتصادية نصف قوة أوربا الاقتصادية مجتمعة، مع أنها لا تعادل ربع قوة إيطاليا وحدها عسكريا.
خلاصة القول إذن أن المشروع الإمبريالي الصهيوني وهو يخترق الحالة العربية الراهنة ويقفز عليها ليوجهها وفقَ بوصلته، يعرف أن تلجيم هذا المارد المندفع يتطلب إغراقه في وهم النهضة القائمة على التنمية الاقتصادية المنعزلة انعزالا تاما عن مقاومة المشروع الإمبريالي الصهيوني. وهو ما يتطلب ألا يتم نجاح أيِّ مشروع لـ “تصدير الثورة المصرية”، إلى دول وشعوب الإقليم العربية المجاورة. ولا يمكن لذلك أن يتحقق إلا بحرف بوصلة الثورة المصرية لتؤسِّسَ للتغيير أيا كان عمقه وأيا كانت سعته، وأيا كان مستوى الرخاء والرفاهية والنمو التي ستنبثق عنه في الاقتصاد فقط وبمعزل تام عن “المقاومة”، أي بمعزل تام عن مقاومة المشروع الإمبريالي الصهيوني. وهو ما لن يتم بالتالي إلا بتكريس حالة استقرار سياسي مصرية تحتضن حالة رخاء اقتصادي قادمة تؤسِّس لثقافة “العجز عن الدفاع”، بعد أن نجحت الثورة المصرية أكثر من أيِّ حالة عربية أخرى في إسقاط ثقافة “العجز عن الهجوم”.
إن الثورة المصرية غير المكتملة والمفتقرة إلى بلورة مشروعها النهضوي القومي العربي، هي في الرؤية الإمبريالية الصهيونية أشبه ما تكون بالنسبة للجوار الإقليمي العربي، بالتجربة الناصرية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. وبالتالي ولكي يتم إفشالها في إحداث التأثير المتوقع في هذا المحيط العربي على النحو الذي أحدثته التجربة الناصرية السابقة، فإنه يجب أن تنحرف بوصلتها. فإذا كان بالإمكان إفشال التجربة الناصرية بالأساليب التقليدية القائمة على اختراقات مخابراتية هنا وهناك باعتبارها نموذجا للانقلابات العسكرية أكثر من كونها نموذجا للثورات الشعبية، فإن اختراق ثورة شعب على هذا النحو أمر غير ممكن، فكان لزاما أن يكون الاختراق ثقافيا بالدرجة الأولى، ليتم بواسطته حرف وجهة الثورة بالكامل إلى حيث يراد لها أن تتحرك بإفرازاتها وتداعياتها الحتمية، فتفقد تأثيرها المقلق والمخيف.
لذلك تم حرف بوصلة الحركة الشعبية السورية المطلبية منذ بواكيرها، عن تجسيد أداة التغيير التي جسدها النموذج المصري، وهي الثورة الشعبية السلمية، كي تفشل أول حالة تصدير خطيرة وفاعلة للثورة المصرية في دولة مركزية مثل سوريا، والتي كان لنجاح أي ثورة شعبية سلمية فيها في تغيير النظام أن يؤسِّس لتغيرات إقليمية واسعة النطاق لا تمكن السيطرة الإمبريالية الصهيونية عليها، بوجود النظير المصري في الجنوب، ليتم النجاح في إقحامها – أي الحركة المطلبية السورية – في حرب ستضمن تدميرها تدميرا كافيا ليُفرض عليها لاحقا أن تكون أداة فاعلة في شكل التغيير المرتقب اقتصاديا في الإقليم بثقافة “العجز عن الدفاع” المستهدفة.
ولذلك أيضا تتنافس النخب السياسية والثقافية المصرية على الهيمنة على إدارة الدولة وتوجيهها والتحكم فيها على وجه السرعة، على أسس مُعلنة تقنع العامة وبسطاء الناس وسطحيو الثقافة والرؤى السياسة، تتمثل في عجز وفشل الرئيس وجماعته في إنجاز أي شيء من مطالب الثورة وأهدافها، وفي تغول جماعة الإخوان المسلمين وفق فلسفة “التمكين” التي تنتهجها لأخونة الدولة والسيطرة على مفاصلها – وهذا صحيح ربما إلى حدٍّ كبير – ولكنها في حقيقتها منازعات ومنافسات على أسس اقتصادية عميقة يعلمها الجميع، تتمثل في الرفاهية الاقتصادية القادمة التي سوف ترسم معالم الدور المصري الإقليمي القادم، والتي يحرص كل طرف من أطراف تلك النخب المتنافسة على أن يحدث في ظل هيمنته على الدولة لضمان استمرار هذه الهيمنة لمدة عقود قادمة.
وبالتالي..
* فعبر تدمير سوريا على نحوٍ يجعلها تحتاج إلى ربع قرن من الزمن قادم لإعادة البناء والإعمار بمعزل عن ربط إعادة بنائها وإعمارها بمتطلبات مقاومة المشروع الإمبريالي الصهيوني من أنماطِ تنمية واستثمار وإعمار وتشغيل.. إلخ.
* وعبر إغراق مصر في نهضة اقتصادية غير مسبوقة يابانية المُكونات، تنعكس على شعبها وعلى محيطها بالرخاء الاقتصادي وبالجذب الاستثماري، ولكن في حاضنة الهشاشة الأمنية الإستراتيجية، عبر ثقافة “العجز عن الدفاع”، التي ستكون ثقافة الإقليم كله، إذا تم النجاح في جعلها ثقافة “مصر” بالدرجة الأولى، وثقافة “سوريا” بالدرجة الثانية.
* وعبر تعليق القضية الفلسطينية لعقدين قادمين من الزمان في متاهات أوسلوية جديدة، من خلال نوع من التفاعل والتجاذب المدروسين مع السيرورة الأردنية، التي يجب أن تبقى قضاياها مترهلة ضبابية غير محسومة ولا قاطعة، لا حلا ولا غياب حلٍّ، وتدور في حلقة الأحداث الإقليمية الكبرى بسبب علاقتها المباشرة والحساسة بالحالة الفلسطينية أكثر من أي دولة أخرى في الإقليم.
* وعبر إلهاء إيران التي سيضعفها إخراج سوريا من دائرة نفوذها، بطُعم “العراق” ضمن معادلةٍ ترضيها وتقنعها، مع بعض التنازلات في بعض الملفات الإقليمية وبعض المكاسب في أخرى..
نقول.. عبر كل ذلك، ستتم إعادة إنتاج الإقليم العربي المشرقي بشكل يحافظ على مركزية وحيوية الدور الإستراتيجي للمشروع الاستعماري “إسرائيل” في المنطقة عبر الإبقاء على القضية الفلسطينية معلقة بلا حلول، لتبقى تستثير وتستفز أقصى درجات الاختلاف والتنافر والتناقض العربي – العربي، دون أن يكون في مقدور أيِّ طرف عربي مجاور أو غير مجاور لفلسطين أن يفعل أيَّ شيء في ضوء الفلسفة الاقتصادية التي ستهيمن على المنطقة، وهي فلسفة “اقتصاد اللاحرب واللاسلم” التي هي ذاتها فلسفة “اقتصاد العجز عن الدفاع”، وهي الفلسفة التي تقوم على ترسيخ مبدأ “العملقة الاقتصادية” و”الهشاشة العسكرية” و”الرخاوة السياسية”.
لتكون إستراتيجية المشروع الإمبريالي الصهيوني القائمة على ثقافة “عجزنا عن الدفاع”، هي حاضنة استمرار الحالة الصهيونية إسرائيل في أداء دورها الوظيفي التاريخي المرسوم للمنطقة، من على قاعدة “خوفنا من الهجوم” الناتج عن “عجزنا عن الدفاع”، الغارقين في عسل “اقتصاد الوفرة والرفاهية” الذي أرى ألا تسمية تصلح له سوى أنه “اقتصاد غَنْوَجَة”.
هكذا يفكرون.. وهكذا يستعدون.. وهكذا يتحركون..
لكن ما يفكرون فيه ليس قدَرا، إذا كنا نعيه، ونحرص على مواجهته، ونملك البديل لتحقيق ذلك، في حاضنة إرادةٍ تعرف ما تريد، وكيف تصل إلى تحقيق هذا الذي تريد.
والبداية هي في زرع ونشر وترويج وبث ثقافة “اقتصاد الهجوم والمقاومة” الذي يعتبر هو القادر الوحيد على خلق “اقتصاد الدفاع”، لأنه اقتصاد سيُنْشِئ دولا “عملاقة اقتصاديا”، و”عملاقة سياسيا”، و”عملاقة عسكريا”، وهو ما يحرص أصحاب القرار الإستراتيجي في المشروع الإمبريالي الصهيوني ألا يحدث، ويساعدهم في ذلك على قدم وساق، أذرعهم الوظيفيون عن قصد وسبق إصرار وترصد، وجهلة النخب العربية ووصوليوها وحمقاها، عن غباء ورعونة وأوهامِ نجومية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.