www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

سؤال موجه إلى الشيطان/أسامة عكنان

0

في الكثير من الأحيان تستثيرنا بعض المواقف السياسية بسبب غرابتها، فتستغرقنا دلالاتها الأخلاقية الخطيرة.. وبسبب هذا الاستغراق تضيع جذور الموقف الثقافية التي تكون في واقع الأمر أكثر أهمية في دلالاتها الخطيرة تلك من الموقف المثير ذاتِه..

سؤال موجه إلى الشيطان

 

 

في الكثير من الأحيان تستثيرنا بعض المواقف السياسية بسبب غرابتها، فتستغرقنا دلالاتها الأخلاقية الخطيرة.. وبسبب هذا الاستغراق تضيع جذور الموقف الثقافية التي تكون في واقع الأمر أكثر أهمية في دلالاتها الخطيرة تلك من الموقف المثير ذاتِه..

 

فرنسا التي تُعتبر آخر دولة يمكنها المطالبة باعتذارِ كائنٍ من كان عن عمليات الإبادة المرتكبة في حق الشعوب، بسبب الجرائم وحملات الإبادة التي ارتكبتها ضد الجزائريين، فذهب ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء العزل في يوم واحد هو يوم 8 مايو من عام 1945، ناهيك عما ارتكبته من أعمال إبادة على مدى 130 عاما من الاستعمار الهمجي غير المسبوق في تاريخ الإنسانية.. فرنسا هذه يتحرك رئيسها باتجاه العمل على إصدار قانون “تجريم إنكار إبادة الأرمن”..

 

ومع أننا لا نجد هذا الصنف الغريب من القوانين إلا في الدول التي تتدثر بعباءات الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الرأي والتفكير.. “تجريم إنكار إبادة الأرمن”، “تجريم إنكار المحرقة اليهودية”.. إلخ.. إلا أن ما استوقفنا في الأمر ليس هو سر حرص الظاهرة “ساركوزي” على استصدار مثل هذا القانون، وهو الذي أعلن وسابقوه في أكثر من مناسبة عدم استعدادهم للاعتذار عن الحقبة الاستعمارية للجزائر، لأن فرنسا أسهمت – في نظرهم – في تطوير الجزائر والجزائريين باستعمارها لهم ولبلادهم، ولا هو ترافُق استصدار ذلك القانون مع تكريم واحد من أكابر مجرمي الحرب الذين أمعنوا في الجزائريين خلال حرب التحرير وقبلها قتلا وإهلاكا وتنكيلا، بعد أن أعلن حزنة على الخيانة التي ارتكبها الرئيس “ديغول” في حق فرنسا عندما تنازل عن جزء من الأرض الفرنسية لمجموعة من المخربين والإرهابيين..

 

نقول.. ليس هذا ما استوقفنا، فنحن نتفهم أن المجرم يحرص على تبرير جريمته، وعلى إدانة من يرتكبها ضده وضد من يعرف هو كيف يتاجر بدمائهم..

 

إن الذي استوقفنا فعلا هو الموقف الجزائري، بعد أن انطوت ردة الفعل التركية على إشاراتِ تذكيرٍ لفرنسا بجرائمها ضد الجزائريين، وعلى مطالبتها بضرورة الاعتذار عن تلك الجرائم.. إلخ.. وبعيدا عن مبررات ردة الفعل التركية، وتصريحات رئيس الوزراء التركي المتعلقة بالجزائر وبالجزائريين – فهذه مسألة لا تهمنا في هذا السياق، فقد يكون الأتراك صادقين وقد يكونون هم بدورهم براجماتيين في هذه المسألة – صدمتنا ردة الفعل الجزائرية على ردة الفعل التركية، في الوقت الذي لم يكن أحد ينتظر من الجزائر أي تعليق أو رد على الموقف التركي، لأنها غير مطالبة بذلك أساسا في الأعراف السياسية أو الدبلوماسية..

 

فاجأنا ورثة ثورة المليون ونصف المليون شهيد، بتصريحات نارية توبيخية وتقريعية ضد الأتراك، يعلن فيها المصرحون – وهم رسميون بالمناسبة ويعبرون عن الموقف الرسمي للدولة الجزائرية – بأن على تركيا ألا تتاجر بالدم الجزائري، وعليها أن تتذكر أنها هي التي سلمت الجزائر لفرنسا عام 1830.. إلخ..

 

ومع أن هذا الحديث ليس سياسيا ولا دبلوماسيا، فهو أقرب إلى ردة فعل امرأة مُغتصَبة – كي لا نقول مومس – حاول عابر سبيل تقديم بعض العون لها ضد مغتصبها – كي لا نقول ضد من العابثين بجسدها – ليفاجأ بأنها تدافع عن مغتصبها – كي لا نقول عمن تراه دفع ثمن لهوه بجسدها – وتتهم عابر السبيل بالتدخل فيما لا يعنيه!!!!!!!!

 

لم يعلق أحدا على الموقف الجزائري، لأن أحدا لا يعرف على ما يبدو ما الذي يحدث في الجزائر التي أعرفها كما أعرف الأردن، بسبب أنني عشت فيها أكثر من 16 عاما من عمري امتدت من سن الخامسة إلى سن الحادية والعشرين..

 

ولكي لا أقحمكم معي في تفاصيل لا تحصى تتطلب الإثبات، أكتفي بأن أسوق آخر تصريح لوزير الخارجية الجزائري، وهو التصريح الذي أدلى به اليوم 12 /1 / 2012، والذي جاء فيه.. “إن الجزائر بدأت بالتراجع التدريجي عن مطالبة فرنسا بالاعتذار عن فترة الاستعمار.. وأن العلاقة بين الدولتين يجب أن تقوم على أساس النظر إلى المستقبل”..

 

إن من لا يعرف حقيقة ما يحدث في الجزائر يتصور أن هذا الموقف يعد موقفا أخلاقيا متقدما قائما على التسامح، وعلى طي صفحة الماضي، وعلى عدم إبقاء الشعوب متجاذبة على أساس مشكلات لم يكن للأجيال الراهنة يد فيها.. لكن الحقيقة غير ذلك تماما..

 

فالعلاقات بين الجزائر وفرنسا قائمة منذ الاستقلال، وهي كانت وما تزال على أشدها لأسباب مفهومة، دون أن تتنازل الجزائر عن حقوقها الأخلاقية، ودون أن تكف عن إنتاج أفلام سينمائية عالمية تظهر بشاعة الاستعمار الفرنسي.. إلخ.. فما الذي حدث حتى يجعل المستقبل مرهونا بتغيير القواعد الأخلاقية المشروعة؟!!

 

بقدر ما وجدت الإجابة في معرفتي القاطعة بدور “الفرانكوفونيين” الذين قفزوا على كل شيئ في الجزائر منذ الاستقلال، في الدفع بهذا الاتجاه، بقدر ما عرفته عن طريق تجرية شخصية خطيرة الدلالات مررت بها مع أصحاب القرار في الدولة الجزائرية..

 

فبصفتي كاتب سيناريو ومخرجا سينمائيا، اتفقت مع منتجة جزائرية كبيرة تعد من أهم منتجي القطاع الخاص في الجزائر، على كتابة وإخراج عدة أعمال تلفزيونية وسينمائية تتعلق بتاريخ الجزائر وبثورتها العظيمة تحديدا.. وكان من بين هذه الأعمال، فيلم سينمائي كبير يقع في ثلاث ساعات بعنوان “الروح البيضاء”، وتدور أحداثه حول واحد من أعظم صناع وشهداء الثورة الجزائرية وهو “العربي بن مهيدي” الذي من خلال سيرته تم في نص الفيلم أيضا، التأريخ للثورة ولمرحلة امتدت من عام 1930 حتى تاريخ استشهاده عام 1957..

 

علمتُ من منتجة الفيلم لحساب وزارة “المجاهدين”، وهي الوزارة المعنية مباشرة بالموافقة والإشراف على هذا النوع من الأعمال السينمائية، أن هذا الفيلم سيكون واحدا من عشرة أفلام طلب مكتب رئاسة الجمهورية بتمويل إنتاجها على مستوى عالمي، ليتم عرضها بمناسبة الذكري الخمسين لاستقلال الجزائر، والتي ستصادف 5 / 7 / 2012..

 

كتبتُ السيناريو، وتم إجراء التعديلات المطلوبة عليه بناء على توصيات الوزارة المذكورة منذ أكثر من عام.. وحتى الآن ما تزال الأفلام العشرة الذي يعتبر هذا الفيلم واحدا منها، محجوزة في أدراج الوزارة لم يصدر قرار بتمويل إنتاج أيِّ فيلم منها رغم القرار الرئاسي إياه.. وموعد الذكري يقترب، بحيث غدا من المستحيل أيُّ حديث يتعلق بتجهيزها كلها خلال أقل من ستة أشهر!!!

 

المفاجأة الكبرى كانت أن الأسباب الكامنة وراء عدم صدور قرارات التنفيذ حتى الآن، ليست تقنية في دولة تملك أكبر عدد من الكاميرات السينمائية بعد مصر، وحصلت كل أفلامها في السبعينيات على جوائز عالمية خلافا لمصر، ولا كانت مالية في دولة تجلس على أكثر من 160 مليار دولار من الفوائض النفطية التي لا تعرف فيمَ تستثمرها، إلى درجة أنها عرضت سداد كامل ديونها دفعة واحدة على المؤسسات المقرضة التي رفضت وأصرت على إبقاء عقود القروض قائمة كما هي، ولا إدارية في دولة ما تزال إجراءات الحصول على الإقامة فيها، تتبع بالشكل نفسه الذي كان يتبع في الستينيات، بكتابة 16 نسخة منفصلة للبيانات، وإرفاق 16 صورة شخصية.. إلخ، ليتم الحصول على الإقامة بعد ما لا يقل عن سنة من انتهاء هذه الإجراءات البيروقراطية المدمرة، في زمن أصبحنا نحصل على وثائقنا الرسمية عبر الإنترنت وفي أقل من ساعة..

 

أقول.. أن الأسباب وراء عدم صدور قرارات التنفيذ لم يكن أيا مما ذكرته سابقا، وهو ما كنت أتصوره بسبب إطلالي على بيروقراطية الجزائريين وإيقاعهم القاتل لشدة بطئه، وبالتالي كان من الممكن تفهمه، وتقبل واقعة أن يتأخر تنفيذ الأفلام إلى حلول الذكرى 51 وليس 50 للاستقلال!!!

 

أخبرتني المنتجة وهي تعبر عن حزنها الشديد بما علمته من أسباب للتأخير الذي قد يطول إلى أن يتم إلغاء المشروع كاملا، بأن أصحاب القرار مختلفون على نقطة هامة لم تحسم لديهم بعد.. “فهناك اتجاه يرفض أن يتم إنتاج أعمال سينمائية تظهر فرنسا في موقع المدان والمتهم خلال فترة الاستعمار والثورة”.. إلخ.. ويبدو أن هذا الاتجاه كما علمت هو الاتجاه المهيمن والمسيطر وصاحب الكفة الراجحة..

 

لن أقول أكثر من ذلك..

 

ويكفينا أن نقوم بربط الأحداث بعضها بالبعض الآخر، كي نتصور من الذي يحكم الجزائر، وإلى أين يقودها، في فلسفة أشد ما تكون وقاحة وتنكرا لمعاناة الشعب الجزائري ولتاريخه..

 

فأمام حقيقة متعارف عليها في العرف العالمي وفي كل القيم الإنسانية، مفادها ألا أحد يحاسبك على الاعتزاز بماضيك وبثورتك وبتصوير أعدائك وجلاديك بالصورة التي كانوا عليها عندما كانوا يجلدونك ويقتلونك، ولا حتى الجلاد نفسه يستطيع أن يمنعك من ذلك أو ينتقدك عليه، ولا هو يربط مستقبله بك على هذا الأساس، خاصة عندما يكون أكثر حاجة إليك منك إليه، ولا وجود في العالم لشعب حاول شطب الحقب الاستعمارية وحقب المعاناة والنضال من ذاكرته وذاكرة أجياله إرضاء لأيٍّ كان..

 

نقول.. أمام كل هذه الحقائق.. نتمنى على الشيطان نفسه أن يبرر لنا هذه السياسة الرعناء لدى دعاة شطب الذاكرة الجمعية للشعب الجزائري، وضمن أي بند من بنود المنطق والأخلاق تندرج؟!!!!

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.