www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

الدور الوظيفي للنظام الأردني منذ نشأة الدولة القطرية الأردنية 11/أسامة عكنان

0

كان على النظام الأردني بعد أن استرجعَ “الأردنَّ الوظيفي” أرضا وشعبا وهويَةً، عقبَ طرد الثورة من الساحة الأردنية، إثر مسخها من “ثورة أردنية” كبيرة إلى “ثورة فلسطينية” صغيرة، أن يعيدَ إنتاج الدولة الأردنية بكل تفاصيلِها على أساس الدور الوظيفي له كنظامٍ يُجَسِّد الخريطة “السايكسبيكوية” في المنطقة، جاعلا من الأردن – كما كان دائما وخاصة قبل عام 1965 – دولة قُطْرِيَّةٍ ممانعةٍ لمشاريعِ الوحدة والنهضة، ووظيفِيَّة ممانعة لمشاريع التَّحَرُّر بشقيه السياسي والاجتماعي، ولكن هذه المرة وفق متطلبات مرحلة ما بعد 1970.

الدور الوظيفي للنظام الأردني منذ نشأة الدولة القطرية الأردنية
“دراسة في حلقات”
“جزء من بحث قُدِّمَ لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية”

أسامة عكنان
عمان – الأردن
الأردن وطن وليس مزرعة خراف
والأردنيون شعب وليسوا قطيع ماشية
والأردني مواطن يملك وطنا، وليس عابر سبيل يستجدي كسرة خبز
وحكام الأردن خدم وموظفون عند شعبهم، وليسوا سادة عليه أو مستعبدين له
فمن فهم فليعمل بما فهم، ومن لم يفهم فليذهب إلى الجحيم
قراءةٌ في دور الأردن التاريخي كوطن مُهِمٍّ يلد رجالاً أهم، ورفضُ دورِه الوظيفي كمزرعة تسمِّن الخراف لخلق فضاءٍ آمنٍ لأعداء الأمة

الحلقة الحادية عشرة
ملامح الإقليم ما بعد 1970

كان على النظام الأردني بعد أن استرجعَ “الأردنَّ الوظيفي” أرضا وشعبا وهويَةً، عقبَ طرد الثورة من الساحة الأردنية، إثر مسخها من “ثورة أردنية” كبيرة إلى “ثورة فلسطينية” صغيرة، أن يعيدَ إنتاج الدولة الأردنية بكل تفاصيلِها على أساس الدور الوظيفي له كنظامٍ يُجَسِّد الخريطة “السايكسبيكوية” في المنطقة، جاعلا من الأردن – كما كان دائما وخاصة قبل عام 1965 – دولة قُطْرِيَّةٍ ممانعةٍ لمشاريعِ الوحدة والنهضة، ووظيفِيَّة ممانعة لمشاريع التَّحَرُّر بشقيه السياسي والاجتماعي، ولكن هذه المرة وفق متطلبات مرحلة ما بعد 1970.
فبعد أن خاض النظام الأردني بقيادة الملك الداهية “حسين بن طلال”، معركةَ وجوده الرئيسة على مدى الفترة 1965 – 1970، ليخرجَ منها منتصرا محققا للمشروع الإمبريالي الصهيوني أكبر إنجازاته الفعلية في معركة وجوده هو أيضا – رغم أن هذا المشروع وكل النظام العربي المساند له كان يترنح ترنُّحا حقيقيا تحت وقع الثورة الأردنية – كان عليه بعد أن بعثَ الهوية الأردنية القُطْرِيَّة الوظيفِيَّة من برزخها، باثا الحياة في جثتها التي كانت قد تحللت وتفسخت، أن يبدأ بإعادة ترتيب الأوضاع الداخلية للأردن، وبإعادة إنتاج علاقاته الخارجية إقليميا ودوليا، بشكل يُمَكِّنُه من الاستمرار على نهجه القُطْري الوظيفي، ويحول بين دولته التي راح يرسمها من جديد بألوان المرحلة الجديدة، وبين عودة الروح الثورية إلى شعبها وإلى أرضها مرة أخرى، جاعلا من “جدل الهوية” الركيزة الأساس لصيرورة هذه الدولة على مدى الأربعين سنة التي تلت عام 1970.
لقد حرص النظام الأردني على أن يكون الجدلُ الدائر حول “الهويات” – في مرحلة ما بعد أيلول من عمر لعبة “لوغو الهويات”، التي ابتدعها ولعبها بإتقان على مدى الفترة الممتدة من عام “1965” إلى عام “1970” – هو “البوصلة” التي تُحَرِّك الثقافةَ والسياسةَ والاقتصادَ، و”النجم القطبي” الذي يهدي إلى معالم العمل الوطني والقومي، في دولةٍ راح يعيد إنتاجَها على شكلِ حقلِ ألغامٍ، لا يفصل بين لَغمِ من ألغام “جدل الهويات” والآخرَ فيه، إلا حالة من عمى الألوان التاريخي والفلسفي، يأبى أن يرى في الهويات – خلافا لكل منطق – شيئا آخر غيرَ ذواتِها، معلقةً في فراغ، بعيدا عن أي دلالات لها في سياقاتٍ قومية أو نهضوية أو تحرُّرِيَّة، ومعزولةً عن أي ارتباطات تمنحها قِيَمَها الموضوعية، ومردوداتِها التاريخية، وكأنها كائنات أفلاطونية تفيض بها على الواقع نظريةُ مُثُلِ لم تولد ولا ترعرعت ولا ماتت إلا في ذهن أفلاطون وحده. في تجاهل تام لكل العناصر المحيطة بالهويات المتجادَل حولها، وهي العناصر التي تسهم بشكل أو بآخر في تشكيل الدلالات الموضوعية لتلك الهويات من جهة أولى، وفي جعلها هويات متقدمة أو متراجعة بالقياس لصيرورة العمل النضالي ولمردودية هذا العمل في سلم الأهداف القومية من جهة ثانية.
فإذا كانت مسيرة “التقديس اللاهوتي الغيبي” التي نجح النظام الأردني عبرها في تخليق “الهوية الفلسطينية” القُطْرِيَة المُفَرِّقَة، من قلب “الهوية الأردنية” الثائرة المُوَحِّدَة، كما كان عليه حالها في منتصف ستينيات القرن الماضي، ليعيدَ عبر هذا التخليق نفسِه، تخليق “الهوية الأردنية” القُطْرِيَّة الوظيفية من جديد، بعد أن كانت “ثورة الأردنيين” قد نحرتها بصفاتها تلك، فإنه عاد مع انقشاع خريف عام 1970، ليدشنَ مسيرة “تقديس لاهوتي غيبي” جديدة، انصبت هذه المرة باتجاه تلك الهوية التي تربع على عرش تمثيلها بانتصاره الساحق في أيلول، ألا وهي “الهوية الأردنية” الوظيفية القُطْرِيَّة.
منذ ذلك التاريخ وحتى الآن غدا “جدل الهويات”، هو ذلك الجدل الدائر على أشُدِّه بين طرفين، يحاول أحدهما تكريسَ قداسة الهويتين القُطْرِيَّتَين الوظيفيتين “الأردنية” و”الفلسطينية”، وتثبيتَها والدفاعَ عنها، والبحث في مدافن التاريخ ومزابل الماضي عما يؤكدها، بعيدا عن أي مردود قومي أو نضالي أو تحرري أو وحدوي لهما، وذلك على قاعدة أن كلَّ هوية منهما هي في ذاتها مطلبٌ مقدسٌ، تهون أمامه ولأجل تجسيده كلُّ القيم القومية والتحررية والوحدوية.
فيما يحاول الثاني، لملمةَ أشلاء “الوطنية الأردنية” المبعثرة على مذبح “قداسة الهوية”، باستناده – أي هذا الطرف – إلى قواعدَ تَصَوَّرَ قدرتَها على حسم التناقض بين “الهويتين” المُعْتَرَف من قبله بقداستهما معا، بعد أن تمكن النظام المنتصر في أيلول من نشر هذه القداسة، فلسفةَ هوياتٍ أرادها وسعى إليها ودافع عنها ورسَّخها “تيرموميترا” للولاء والوطنية والانتماء لهذه الهوية أو لتلك، حتى لو تعارضت تلك القداسة مع قداسةٍ أسمى منها هي قداسة “الهوية القومية العربية” ومتطلباتها.
ولأن الطبيعة التَّخَلُّقِيَّة والتَّطَوُّرِيَّة للهويتين الأردنية والفلسطينية، قُدِّرَ لها بحسب ما فرضه السياق التاريخي “السايكسبيكوي” لتبادل الأدوار الوظيفية بينهما في لعبة “لوغو الهويات”، أن تكون طبيعةً إحلالية، وهو ما اتضحت لنا معالمه عبر الفصول السابقة كاملة، فلم يكن من الممكن أن تنشأ الهويتان معا، وتعيشا معا، لتكونا معا، متحررتين من إطارهما الوظيفي القُطْري.
فالهويتان “الأردنية” و”الفلسطينية”، إما أن تكونا معا وظيفيتين قُطْرِيَّتين تعملان ضد اتجاه النزوع إلى التَّحَرُّر والوحدة القومية، خالقتين بوجودهما ذاك حالةً من “توازن تَجَسُّد الهويات” الخادم للعلاقات الإمبريالية والصهيونية في الإقليم، وإما أن تكون إحداهما كذلك، والأخرى على النقيض منها، أي ثائرة مُوَحِّدَة تنزع إلى التجاوب مع الرؤية القومية، لينتهي أمرها بابتلاع نقيضتها القُطْرِيَّة الوظيفية في جوفها التزاما بمقتضيات تلك الرؤية. أما أن تكونا معا موجودتين ومتجسدتين وثائرتين ووحدويتين وقوميتي النزعة، فهذا ما أثبتت مائة عام من عمر “سايكس بيكو”، ومن عمر التجاذب بينهما، بحكم طبيعتهما، أنه أمرٌ لم يتحقق، وما كان له أن يتحقق، لأن “السايكسبيكوية” نشأت في الأساس لتحولَ دون تَحَقُّقِه، ولتجعلَ منهما هويتين تتحركان في الواقع على النحو التنافري المذكور. ولا يمكن للمصنوع أن يتحررَ من رؤية صانعة وإرادته، إلا إذا انسلخ من قوانين الصانع، وأخضع نفسه لقوانينه هو.
وإذا كانت هذه الفلسفة التجاذبية التنافرية تنطبق على كافة “الهويات القُطْرِيَّة الوظيفية” – التي خلَّقَتها “الخريطة السايكسبيكوية” – من تلك المتداخلة بُنيويا من النواحي الديموغرافية والجغرافية والتاريخية، فإنها أكثر ما تنطبق على الهويتين الوظيفيتين القُطْرِيَّتين “الأردنية” و”الفلسطينية”.
فعندما نشأت “الهوية الأردنية” كحاضنة قُطْرِيَّة وظيفية في حدودها الجغرافية والديمغرافية المقرَّرَة لها، كان يجب أن تختفي “الهوية الفلسطينية”، التي ما كان لتَجَسُّدها في السياق التاريخي المرافق لنشأة كلٍّ من “المشروع الصهيوني” و”المشروع القطري الأردني”، إلا أن يكون مناقضا للمحتوى الوظيفي والقطري لـ “الهوية الأردنية” المجاورة لها، وهو ما سوف يشكل خطرا حقيقيا على المشروعين “القطري الوظيفي” العربي، برأس حربته “الأردن”، و”الوظيفي الصهيوني”، برأس حربته “إسرائيل”.
وهذا ما حصل بالفعل، حيث تمت المبادرة على الفور بتغييب “الهوية الفلسطينية” في قلب “الهوية الأردنية” عبر “مؤتمر أريحا” ومقدماته ولواحقه، ظنا ممن فعلوا ذلك، أن التَّضَخُّم الحاصل في “الهوية الأردنية”، سينعكس على شكل تَضَخُّمٍ مرافقٍ في مستوى قُطْرِيَّتِها ووظيفيتها، وهو ما تمخض التاريخ عن عكسه تماما، فتغيرت لأجله كل المعادلات وفق لعبة “لوغو الهويات”.
فعندما فشلت “الخطة السايكسبيكوية” في تحقيق المأمول الوظيفي من إذابة “الهوية الفلسطينية” في قلب “الهوية الأردنية”، بأن أسفر التلاقح التاريخي غير المسبوق عن جنين جديد تجسَّدَ في “هوية أردنية” ثائرة مُوَحِّدَة، قومية النزعة، تحررية الأيديولوجيا والسلوك، أي عندما أسفر التلاقح عن انسلاخ “الهوية الأردنية” القُطْرِيَّة الوظيفية، عن قوانين الصانع السايكسبيكوي، لتخلقَ لنفسها قوانينها هي، بشكل بدا متناقضا مع ما أُنْشِئَت لأجله في الأساس، كان لابد من إعادة إنتاج الهويتين بشكل مختلف يعيد التوازن إلى المركب السايكسبيكوي الذي بدأ يترنح.
إن العلاقة التجاذبية بين الهويتين “الأردنية” و”الفلسطينية”، قائمة على حقيقة أن أيا منهما إذا تمكنت من خلق مشروعها الوطني المنسلخ عن الوظيفية والقُطْرِيَّة السايكسبيكوية في سياقاتٍ وضمن ظروفٍ محددة لتَجَسُّدِها، فإن الأخرى لا يمكنها أن تَتَجَسَّد لتحقيق الغرض نفسِه، بل لتحقيق الغرض النقيض. فهما كما قلنا لا يمكنهما أن تقوما معا لتحقيق المشروع الوطني المناقض للسايكسبيكوية نفسِه.
فعندما كانت “الهوية الأردنية” مُمْعِنَة في وظيفيتها وقطريتها منذ نشأتها ولغاية سقوط فلسطين، كانت “الهوية الفلسطينية” تناضل الإنجليز والصهاينة لتتجسد مشروعا نقيضا للوظيفية والقُطْرِيَّة التي تمثلها “الهوية الأردنية” في تلك الفترة. وعندما أصبحت “الهوية الأردنية” هي التي تناجز الإمبريالية والصهيونية منذ منتصف الستينيات، فإن “الهوية الفلسطينية” بدأت تتجسَّد وتتخلق، لا لتكون رديفا للمشروع الوطني القومي التحرري الأردني الذي مارسته “الهوية الأردنية”، بل لتكون مناهضا لذلك المشروع، انطلاقا من قاعدتنا السابقة التي نؤكد بموجبها على استحالة تَجَسُّدِهما معا لتمرير مشروع وطني قومي وحدوي تحرري واحد.
وهذا ما حصل بالفعل في تلك الحقبة من الزمن. فما كان انتصار النظام الأردني في استعادة “الهوية الأردنية” القُطْرِيَّة الوظيفية من قلب “الهوية الأردنية” الثائرة المُوَحِّدَة القومية النزعة، عبر إعادة إحياء “الهوية الفلسطينية” الميتة منذ مؤتمر أريحا، إلا مُتَجَلِّيا في واقعةِ أنه تمكَّن من استعادة “الهوية الفلسطينية”، ولكن بلون “قطري وظيفي” جديدٍ نظيرٍ للقُطْرِيَّة والوظيفية التي أعاد إحياء “الهوية الأردنية” في مستنقعاتها.
وهكذا نجد أنفسنا بإزاء مرحلتين من مراحل حالة التجاذب بين الهويتين “الأردنية” و”الفلسطينية” في لعبة “لوغو الهويات”، مرحلةٌ انتصرت فيها “الهوية الأردنية” القطرية الوظيفية بعد أن هزمت “الهوية الفلسطينية” الثائرة المُوَحِّدَة قومية النزعة، وابتلعتها في جوفها ابتلاعا تاما. وهي المرحلة التي تُغطي الفترة الزمنية الممتدة من بدء الاحتلال البريطاني للمنطقة، ولغاية اندلاع الثورة الأردنية في منتصف ستينيات القرن الماضي.
ومرحلة انسلخت فيها “الهوية الأردنية” التي تمَّ إنتاجها بعد مؤتمر أريحا، عن قطريتها ووظيفيتها، مُتَحَوِّلة إلى “هوية أردنية” ثائرة وموَحِّدَة وقومية النزعة، وهي المرحلة التي تغطي الفترة الزمنية الممتدة من عام 1965 وحتى أيلول عام 1970، حين تمت إعادة التوازن من جديد للمشروع السايكسبيكوي بتجسيد “الهوية الفلسطينية”، هويةً قُطْرِيَّة وظيفية، ما كان لها إلا أن تكون مجاورة لهوية قُطْرِيَّة وظيفية أخرى، هي “الهوية الأردنية” التي كانت عودتها على هذا النحو أمرا طبيعيا ومفهوما، ولا مجال لتجنبه في السياق التاريخي الذي حصل فيه.
أي أن هذه المرحلة انتهت بنجاح “الهوية الفلسطينية” القطرية الوظيفية في قتل “الهوية الأردنية” الثائرة المُوَحِّدَة القومية النزعة، لنصبح أمام مرحلة ثالثة استمرت من عام 1970 حتى الآن، وتحديدا حتى مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وهي المرحلة التي تعايشت فيها الهويتان تعايشَ التجاذب والتنافر والتناقض، القائمة على ممارسة كل منهما لدور وظيفي قطري، وإن كان يختلف في الكثير أو في القليل، عن الدور القطري الوظيفي الذي تمارسه الهوية الأخرى.
ولأن الهوية القادرة منهما على أن تمثلَ المشروعَ الوطني التحرري قومي النزعة، هي تلك التي تستطيع أن تنشئَ هذا المشروع على جغرافيتها التاريخية، أو على جزء من تلك الجغرافيا على الأقل، فإن “الهوية الفلسطينية” منذ فشلت في التجسُّد على جزء من جغرافيتها التاريخية عقب صدور قرار التقسيم أولا، وعقب نتائج حرب عام 1948 ثانيا، وعقب نتائج وتداعيات مؤتمر أريحا ثالثا، وإن يكن بالتآمر، فليس هذا بذي أهمية في سياق ما نود التوصل إليه.. نقول.. منذ حصل ذلك لـ “الهوية الفلسطينية”، فإنها لم تعد صالحة لأن تكون هي الهوية الحاضنة لمشروع التحرير والوحدة في سياقاتهما القومية، لأنها لم تعد تملك أي جغرافيا تستطيع أن تجسِّدَ عليها مشروعا للتحرير والوحدة.
وبالتالي فإن الخيار المتمثل في أن تكون “الهوية الفلسطينية” هي الهوية النضالية الأم التي تمتلك حق ابتلاع الهوية الأخرى – الأردنية – إذا كانت الأخيرة مُعرقلةً للنضال وللمشروع النضالي، لم يعد خيارا ممكنا ولا محتملا، مادامت هذه الهوية قد فقدت كل مُقَوِّمات التَّجَسُّد الفاعلة والمُنتجة لعناصر الحالة النضالية والتحررية، التي تمتلك مبررات السيادة على الهوية الأخرى واحتوائها وتجيير مُكَوِّناتها لصالح مشروع التحرير والمقاومة والوحدة، خاصة بعد أن ترسخت الحالتان، الإمبريالية الصهيونية من جهة، والقطرية الوظيفية الأردنية من جهة أخرى. وهي – أي الهوية الفلسطينية – وبعيدا عن كل معاني القداسة الموهومة التي مُنِحَت لها بغير وجه حق، لا يمكنها أن تكون – كما هو حالها الراهن – إلا هويةً معرقلة ومجزِّئَة ومُفَرِّقَة، ولا مُحَررة ولا قومية النزعة، أي لا يمكنها إلا أن تكون هوية قُطْرِيَّة وظيفية.
في حين أن “الهوية الأردنية” التي يمكنها أن تُجَسِّدَ مشروعَها الوطني المحرِّر والثائر والمقاوم وقومي النزعة، على كامل جغرافيتها المُقَرَّرَة والمرتبطة بها منذ نشأت، قادرة من حيث المبدأ على أن تكون، إما هوية قُطْرِيَّة وظيفية إذا لم تنجح في تجسيد ذلك المشروع، وإما هوية ثائرة مُوَحِّدَة ومقاوِمة وقومية النزعة إذا نجحت في تجسيده. وأن تكون “الهوية الأردنية” هذا النموذج أو ذاك، رهن بما يمكن للهوية الفلسطينية أن تكونَه.
فلكي تحافظ “الهوية الأردنية” على قُطْريتها ووظيفيتها التي انصبغت بها منذ أربعين عاما أعقبت السنوات الخمس التي شهدتها حالة الثورة الكبرى في الستينيات، يجب أن تبقى “الهوية الفلسطينية” متجسِّدَة بهيئتها القُطْرِيَّة الوظيفية، التي ما عرفت هذه الهوية منذ تجسدت شكلا آخر غيرها، بمستويات تزيد أو تنقص بحسب الظروف الإقليمية والدولية. ولأن هذه الهوية تتهاوى وتؤول إلى الاضمحلال بشكل متسارع منذ مشروع “أوسلو” وتداعياته، فإن النظام الأردني يخشي من هذا التداعي والاضمحلال على مستقبله وعلى مستقبل الهوية التي يمثلها، لا من حيث إمكان ذوبانها في “الهوية الفلسطينية” كما يتم الترويج لذلك بخرافة “الوطن البديل”، فهذا أمر مستحيل لا يمكن لهوية متهالكة أن تضطلع به، ولكن من حيث أنه لا يريد تكرار نموذج الستينيات، عندما اختفت “الهوية الفلسطينية” الثائرة، لتثور باختفائها “الهوية الأردنية” الوظيفية. أي أن النظام الأردني يدافع بـ “الهوية الفلسطينية” القُطْرِيَّة الوظيفية بأي مستوى من مستويات تجسُّدها، عن “الهوية الأردنية” القُطْرِيَّة الوظيفية التي يمثلها.
ولعله لهذا السبب يحرص النظام البيروقراطي الكوبرادوري الأمني التبعي الحالي في الأردن، على نجاح “الهوية الفلسطينية” في أن تتجسَّد بأي شكل، هناك على الجغرافيا الفلسطينية، كي يتمكن من الإبقاء على وظيفيته وقُطْرِيَّتِه ناجزةً ومتواصلة هنا على الجغرافيا الأردنية. بينما تحرص الصهيونية والإمبريالية على إعادة الحالة القُطْرِية والوظيفية لـ “الهوية الأردنية” إلى النحو الذي كانت عليه قبل اندلاع الثورة الأردنية في منتصف ستينيات القرن العشرين. أي أن التناقض القائم بين النظام الأردني والصهيونية بشأن التعاطي مع الهوية الفلسطينية، هو تناقض شكلي وليس جوهريا، ومرده إلى خلاف على نمط “القطرية والوظيفية” التي يراد للهوية الأردنية أن تضطلع بها.
فالنظام الأردني يريد لقطريته ووظيفيته أن تقوم وتتواصل على قاعدة توازنٍ مضمون النتائج بينها وبين قطرية ووظيفية “الهوية الفلسطينية” المتجسدة على الأرض الفلسطينية. بينما إسرائيل التي لا ترغب في التنازل عن الأمن والأرض مقابل أي شيء، تريد وظيفية وقطرية أردنية شبيهة بتلك التي كانت قائمة إبان اختفاء “الهوية الفلسطينية” في جوف “الهوية الأردنية” عقب مؤتمر أريحا.
ولعل النظام الأردني يعد أكثر إحساسا بالمستقبل من إسرائيل في هذا الشأن، لأنه يعي جيدا أن “الهوية الأردنية” عند غياب “الهوية الفلسطينية”، وأيا كان شكل هذا الغياب، سوف تعيد إنتاج نفسها – كما فعلت في الماضي – لتضطلع هي بالدرو الوطني المقاوم والمُوَحِّد والمجابه للعلاقات الإمبريالية في الإقليم كله، لتكون فُرَصُها في النجاح أكثر بكثير من فرص “الهوية الفلسطينية”، التي أثبتت على مدى الأربعين سنة الماضية، أنها أكثر النماذج القُطْرِيَّة والوظيفية العربية قدرةً على خدمة مشروع التجزئة وتعطيل مشروع النهضة والتحرير.
أما كي يتحقق النموذج المقابل للنموذج السابق، والذي هو أن تكون “الهوية الأردنية” هويةً مقاومة ثائرة مُوَحِّدَة قومية النزعة، فيجب أن تختفي “الهوية الفلسطينية” في جوفها، كما كان عليه الحال في ستينيات القرن الماضي. لكي تعطيها كل مبررات وعناصر إعادة إنتاج نفسها على النحو المحقق للطموح القومي في الوحدة والتحرر والنهضة. مع التأكيد على ألا علاقة بين هذا الاختفاء الإحلالي وبين بقاء حقوق “العودة” و”تقرير المصير” و”إقامة الدولة المستقلة” للفلسطينيين قائمة بدون مساس، لأنها حقوق قامت واستمرت وتواصلت حتى و”الهوية الفلسطينية” ذائبة في جوف الهوية الأردنية، وبالتالي فإن كل ادعاء بالخوف عليها وعلى مستقبلها كحقوق غير قابلة للمساس بها، من مشروع إعادة تثوير “الهوية الأردنية”، هو ادعاء غير مبرر، ولا يهدف إلا إلى الحفاظ على كافة عوامل تحييد “الهوية الأردنية” عن القيام بدورها القومي في الوحدة والتحرير.
من هنا فإن كل من يعمل في الاتجاه الدافع نحو الإبقاء على “الهوية الفلسطينية” متجسدة بأي مستوى وبأي شكل، إنما هو في واقع الأمر، يعمل في الاتجاه الدافع – من حيث يدري أو لا يدري – إلى الإبقاء على البعد القُطْري والوظيفي لـ “الهوية الأردنية”. لا يمكن للأردن أن يتحرر من وظيفيته وقطريته على نحو جاد وصحيح، بينما “الهوية الفلسطينية” تقف له بالمرصاد، مهدِّدَةً “أردنية” أكثر من نصف سكانه، مرة بدعوى “اللجوء”، ومرة بدعوى “النزوح”، ومرة بدعوى أن “الضفة الغربية” أرض فلسطينية وليست “أرضا أردنية” كما حاول قرار فك الارتباط – غير القانوني وغير الشرعي – أن يقول. كما أنه – أي الأردن – لا يمكن له أن يتحرر من هاتين الصفتين الملازمتين له حاليا، وينهض ديمقراطيا لإعادة إنتاج مؤسساته وبناه السياسسة والمجتمعية بشكل يحرره من الفساد والإقصاء والتفسُّخ، بينما “جدل الهويات” ما يزال يثير على ساحة الأردن ديمغرافياً وجغرافياً وبكل حماقة وإسفاف، مقولات مثل “الأردني الخائف على هويته” و”الفلسطيني المحايد سياسيا بسبب هويته”.
إن “الهوية الفلسطينية” بحكم قُطْرِيَّتها ووظيفيتها هي مشروعُ تحريرٍ فاشل، ثبت فشله منذ إن انسلخ عن أردنيته مع نهاية ستينيات القرن الماضي، والسنوات الأربعون الأخيرة أثبتت ذلك. ولهذا السبب فإن كل من يراهن على التحرير وعلى الوحدة، من خلال تجسيد هذه الهوية، إنما يراهن على الوهم، لأنه في واقع الأمر يدفع باتجاه منع “الهوية الأردنية” من أن تستقر وتتوازن مُكَوِّناتُها وتختفي تناقضاتها، لتجسِّد بعد ذلك مشروعَها التحرري القومي الشامل.
إن ظاهرة “جدل الهويات” أو لنقل “جدل الهوية”، رافقت حالة التجاذب الذي سبغ العلاقة بين الهويتين الأردنية والفلسطينية على مدى الأربعين عاما الماضية. وهي الأعوام الأربعون التي تمكن النظامان الأردني والفلسطيني خلالها من الإبقاء على حالة توازن في مخرجات ومدخلات ذلك الجدل حول الهويات. إن هذا التوازن الذي أعجزَ حالةَ الجدل تلك عن أن تحسمَ موضوعةَ الهوية لصالح الأقدر منهما على إنجاز مشروعها التحرري والوحدوي ذي النزعة القومية، كان له أكبر الأثر في تشكيل معظم مُكَوِّنات الصراع في الإقليم في بعده الذي أطلق عليه “الصراع العربي الإسرائيلي” أو “القضية الفلسطينية”.          
ولقد ساعدت على ذلك، التَّغَيُّرات الكبرى التي شهدها الإقليم بالتزامن مع ما كان قد حققه النظام الأردني في حدود الجغرافيا الأردنية بمجزرة أيلول. فغياب الرئيس العروبي الكاريزمي “جمال عبد الناصر”، وتحوُّل النظام القومي المصري الأشد ممانعة في عهده، إلى نظام قُطْري وظيفي معادٍ لكل أنواع الممانعة في عهد خلفه أنور السادات، وخلف خلفه “محمد حسني مبارك”، خاصة بعد حرب أكتوبر، حال دون تعرض “الملك حسين” ونظامه لأي نوع من الضغوط من تلك التي كان يمارسها ضده من حين لآخر نظام “جمال عبد الناصر”، لولا أن مبادرة “روجرز” اضطرت الرئيس الراحل الكبير إلى الوقوع في مقايضة وطنية كبرى، نجزم بأنه لم يكن راضيا عنها في قرارة نفسه.
كما أن ظهور النظام الرمادي في دمشق بسياساته اللبنانية اللاعبة على كل الحبال، والتي تسببت في محاصرة الثورة الفلسطينية هناك، وأدت في النهاية إلى طردها من جديد لتدخل مرحلة تيه أدت بها إلى الانتحار في نهاية المطاف، حال دون “الملك حسين” واضطراره لمواجهة آفاق عودة ثورية سِرِّيَّة واسعة النطاق إلى الأردن، ما خفف عنه عبء مواجهة الوطنيين وفلول الثورة في دولته التي راح يرسم معالمها القطرية والوظيفية بهيئة غير مسبوقة.
وأخيرا فإن تَجَلِّي الدور الإستراتيجي الخطير للبترودولار الخليجي بقيادة المملكة العربية السعودية، عَقِبَ أزمة النفط العالمية التي رافقت حرب أكتوبر، في إدارة إعادة إنتاج الإقليم سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا وإعلاميا، بعد زوال أخطر عنصرين مهددين للمشروع الإمبريالي الصهيوني، وهما نظام الرئيس “جمال عبد الناصر” و”الثورة الأردنية”، ساعده على نحو غير مسبوق على تحقيق مخططاته في تكريس الدور الوظيفي للدولة الأردنية.
من هنا يَتَحَتَّمُ علينا التَّعَرُّفَ على المعالم الرئيسة للمرحلة التي دخلتها المنطقة بعد خروج الثورة من الأردن، كي نتمكنَ من رصدِ مُتطلباتها، وهو الأمر الذي سيساعدنا من ثمَّ على سبر مُكَوِّنات الدولة الأردنية الجديدة، ومتابعة صيرورتها في إطار الدور الوظيفي لها منذ ذلك التاريخ وحتى الآن.
دشَّنَ الإقليم المشرقي من الوطن العربي عقدَ السبعينيات من القرن الماضي بمرحلةٍ من تاريخه تَحَدَّدَ مستقبلُها في ضوء ثلاثة عوامل أساسية، شكَّلَت مجتمعةً دولابَ الصيرورة التاريخية للإقليم على مدى العقود الأربعة الأخيرة. وهذه العوامل الثلاثة هي..
أولا.. انتهاءُ عصر “الثورة الأردنية” المُوَحِّدَة في الأردن، ليبدأَ عصر “الثورة الفلسطينية” المُفَرِّقَة في لبنان. وإننا إذ نوردُ مُصْطَلَحَيَ التَّوْحيد والتَّفْريق لوصفِ الثورتين الأردنية والفلسطينية بهما، فإننا نوردهما في سياقيهما القومي حسب التوصيف الموضح تاليا..
فالثورة الأردنية كانت ثورةً مُوَحِّدة على الصعيد القومي، لأنها كانت أرضيةً خِصْبَةً لإنتاج مشروعٍ يتعامل مع الصراع المُوَجَّه ضد العلاقات “الصهيونية الإمبريالية السايكسبيكوية” في المنطقة، من منظورٍ قومي يعلو على الهويات القُطْرِيَّة ويتجاوزُها ولا يعطيها أيَّ نوع ٍمن القداسة أو الأولوية، مُعْطِيا هذه القداسة وتلك الأولوية لمبدإ التحرير والتَّحَرُّر بآفاقهما وفضاءاتِهما الواسعة، وتوظيفِ مواقعِ الهويات من ثمَّ لخدمة هذا المبدإ، على قاعدة أنها كلُّها هويات قُطْرِيَّة مُصْطَنَعَة، لا مكان أصيلا لها في مُحَصِّلَة الأهداف القومية الإستراتيجية، ولا قيمة لأيٍّ منها في ذاتها، إذا نُظِرَ إلى هذه القيمة بمعزلٍ عن التوظيف القومي لها، بدليل عدم الوقوف بتَشَنُّجٍ تفرضه – عادةً – النظرة القُطْرية الشوفينية الضيِّقَة، أمام واقعةِ غياب “الهوية الفلسطينية” في قلب “الهوية الأردنية”، إذا أمكن إنتاج الكيان الجديد الذي اختفت “الهوية الفلسطينية” في جوفه، في إطارٍ ثوري مقاوِمٍ للعلاقات الصهيونية الإمبريالية في الإقليم. وهو ما حصل فعلا، عندما تحوَّلت “الهوية الأردنية” الوظيفِيَّة القُطْرِيَّة إلى هوية ثورية مُوَحِّدة، بتفجير الثورة في منتصف عقد الستينيات.
أما “الثورة الفلسطينية” فقد كانت ثورةً مُفرِّقةً على الصعيد القومي أيضا، لأنها كانت نتاجا خالصا لمعركةٍ تمَّ خوضُها على جبهةِ حربٍ اندلعت لتقاومَ المضمونَ الوحدوي القومي في “الثورة الأردنية”، ما جعل تًجَسُّدها ينبثق عن حالةِ تجزئةٍ جديدة أضافت إلى المنظومة الوظيفِيَّة القُطْرِيَّة العربية، كيانا وظيفيا قُطْرِيا جديدا، هو “فلسطين”، وبطاقة تعريف عربية جديدة هي “الهوية الفلسطينية”، التي كانت أداة تجسيدها هي “الثورة الفلسطينية” التي حرص الجميع على تحويلها إلى نظامٍ عربي جديد يؤدي الأدوارَ نفسَها التي أدَّتْها وتؤديها الأنظمةُ العربيةُ الوظيفِيَّة القُطْرِيَّة الأخرى ولا فرق، وهي الأداة الوظيفية القطرية التي ما كان لها أن تتجسَّد إلا على أنقاض “الثورة الأردنية”.
وإذن فلقد بدأ العصر العربي الجديد بملامح نظامٍ وظيفي قُطْري عربي جديد يتشَكَّل، هو “النظام الفلسطيني”، الذي ما كان ليستقيمَ له أمر التَّكَوُّن والتَّجَسُّد والتَّشَكُّل إلا من خلال أداةٍ ثورية فرضتها طبيعة المتغيرات الحاصلة في المنطقة منذ سنواتٍ مضت، قَضَت بأن تكونَ تلك الأداةُ أداةً بديلةً لثورة الأردنيين، فوجبَ أن تكون ثورةً ولكنها للفلسطينيين. لتصبحَ “الثورة الفلسطينية” هي الثورة العربية الوحيدة في المشرق العربي التي قامت على فكرةِ “التجزئة” لا “الوحدة”، وعلى فلسفةِ “القُطْرِيَّة” لا “القومية”، خلافا لكل الثورات العربية “الفاشلة” منها أو “المسروقة” أو “المرتبطة”، والتي قامت كلُّها – إن صدقا أو خداعا – على قواعدَ من الطموح القومي الوحدوي، بما في ذلك تلك الثورة التي لم تُحَرِّر أحدا والتي قادها “هاشميو مكة” من الحضن البريطاني الاستعماري العتيد.
ثانيا.. انكفاء عصر المدِّ القومي العربي تحت مظلة الزعامة المصرية، بغيابِ شخصية الرئيس جمال عبد الناصر الكاريزمية إثر وفاته المفاجِئة، ودخول مصر عهدا جديدا مُمْعِنا في انطوائه على المكَوِّنات القُطْرِيَّة للهوية المصرية، إلى حدِّ سحب تلك المُكَوِّنات إلى أبعد مدى تاريخي لها، بظهور النزعة المصرية “الفرعونية” التي رأت في مصر امتدادا فرعونيا أكثر من رؤيتها فيها امتدادا عربيا وإسلاميا، إلى درجة ظهور ثقافة مصرية غريبة تنظر إلى المُكَوِّن العربي في “الهوية المصرية” باعتباره مُكَوِّنا دخيلا على المُكَوِّنَين الرئيسين وهما “القبطي” والفرعوني”، مع ما راحت هذه الثقافة تربط به المُكَوِّن العربي لمصر من عناصر التقليل من أهميته واعتباره مُكَوِّنا ماسخا للهوية المصرية في أبعادها القبطية والفرعونية، لا بل حتى في بعدها الإغريقي – استعماري الطابع – الذي رأت فيه تلك الثقافة الغريبة مُكَوِّنا من مُكَوِّنات هويَّتِها أكثر إثراء لها من مُكَوِّنِها العربي الإسلامي!!
وبدخول مصر عهدَها الجديد هذا، عملَت القيادة المصرية منذ اعتلاء “محمد أنور السادات” سدَّة الرئاسة في مصر خلفا للرئيس الراحل “جمال عبد الناصر”، على صبِّ الدولة المصرية في قوالب ثقافية وسياسية واقتصادية كان الهدف منها شطبَ المرحلة الناصرية من الذاكرة السياسية الجمعية للشعب المصري أولا، وللأمة العربية ثانيا. ونظرا لكون قادة الدولة المصرية الجديدة لا يستطيعون الاستحواذَ على الشرعية الشعبية لمشروعهم الثقافي والاقتصادي والسياسي الذي بدأوا يُعِدُّون له في كواليس مرحلة ما بعد عام 1970، بوصفهم بديلا للقيادة الناصرية الكاريزمية القومية الغائبة، إلا بتحقيق إنجازٍ يناغشُ الضميرَ الوطني للشعب المصري، ومن ورائه الضميرَ الوطني للشعوب العربية، فقد كان لزاما أن يتمحور هذا الإنجاز كي يُحِقِّقَ تلك الغاية حول مسألة استعادة الأرض المحتلة متمثلةً بالدرجة الأولى بـ “سيناء المحتلة”.
وبالتالي فقد كان واضحا أن أولى أولويات القيادة المصرية الجديدة هي تحريرُ سيناء، كي يكون هذا التحرير بمثابة الرافعة التي ستستندُ إليها شرعيَّتُها التي ستستخدمها في جرِّ مصر ومن ورائها الأمة العربية إلى هاوية الانفتاح والتبعية والانكفاء القُطْري الأشدِّ بشاعةً في خنقِه لكل الطموحات العربية في الوحدة والتحرر والنهضة، كما تَجَلَّى ذلك بوضوحٍ بعد حرب أكتوبر، ليستمرّ إلى ما قبل ربيع الثورات العربية التي هَلَّتْ بشائرها مع مطلع العقد الثاني من هذا القرن. ولقد شهِدَ الإقليمُ بسبب هذا المستنقع الأيديولوجي والسياسي الآسن، نمطا جديدا من التجاذبات السياسية المرتكزة إلى تجاذبات أيديولوجية، بدت واضحةً فيها نزعةُ الحرص على استحلابِ “الشرعية الشعبية” التي كانت تحظى بها القيادة الناصرية من قبل.
وهكذا فقد قضت الأمةُ العربيةُ أربعين سنة أخرى من تاريخها المعاصر وهي تَئِنُّ تحت وطأة صراعٍ بين أنظمةٍ قُطْرِيَّة ادعى بعضها الثوريةَ وارتكز إلى فكرة الوحدة القومية، دون أن يعملَ أيٌّ منها على إعادة إنتاج ثقافةِ الشعوب وبُناها بشكل يُثَوِّرُها ويدفعها إلى المقدمة لقيادة حراكها نحو صناعة مصيرها، بقدر ما عمل على إثبات استحقاقه – كنظام – لشرعية تمثيله للشعوب العربية، بحرصه على إظهار أنه الأقرب للفكر القومي الناصري، أو الأوفى لمبادئ النزعة الناصرية.
ولقد استفاد جميع هؤلاء من انهيار “الثورة الشعبية الأردنية” المُوَحِّدة، ومن ظهور نظام “الثورة الفلسطينية” القُطْرِيَّة، ليُعَزِّزوا مواقعَهم القُطْرِيَّة حتى وهم ينادون بالوحدة وبالأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة. فإذا كانت الثورة المُتَحَرِّرَة من أيِّ التزامات تقع على عاتق الأنظمة – في العادة – تعلن قطريَّتَها وتدافع عن هويَّتِها الوطنية وتحارب وتكافح لأجلها ليل نهار، أفليس الأولى أن تكون الأنظمة نفسُها – وهي الأكثر معاناة من ضغط الالتزامات الدولية، ومن ضغط السياسات الإقليمية – أحرص على هذه النزعة من الثورة؟!
ثالثا.. تَجَلِّي مركزية دور البترودولار الخليجي عامة والسعودي خاصة في إعادة إنتاج الثقافة العربية، لتتناغم مع المتطلبات الجيوسياسية لمرحلة ما بعد “مجزرة أيلول” في الأردن، ولمرحلة ما بعد “حرب أكتوبر” في مصر، وهي الثقافة التي أريدَ لها أن تكون ثقافةً تسهمُ بشكل فعال في إعادة صياغة الأردن ومصر على نحوٍ يخرجهما من ساحة التأثير في الحراك التحرُّرِّي والوحدوي والنهضوي العربي. فأردنُّ الثورة والشعب الثائر وبؤرة الصراع العربي الإمبريالي، ومصر الثقل والقوة والثقافة والتاريخ وقلب العروبة النابض، كان يجب أن يختفيا تماما بقوة “البترودولار” وسحره وتأثيره. وهذا ما حصل بالفعل على مدى الأربعين سنة الماضية.
لقد استطاع البترودولار على مدى العقود الأربعة الماضية امتصاص التداعيات المباشرة وغير المباشرة لـ “أيلول الأردني” ولـ “أكتوبر المصري”. وإن كانت طبيعة التناقض الذي استفحل بين الوظيفِيَّة والقُطْرِيَّة العربية المتغوِّلَة في مرحلة ما بعد أيلول وأكتوبر، إلى درجة استشراء حالةٍ واضحة ومُعْلَنَة من التَّصَهْيُن عربي اللون والمذاق، وبين الشعوب العربية المنكوبة بهزيمتين مدمرتين، هما تَجَسُّدُ “الهوية الفلسطينية” المفَرِّقَة، على أنقاض “الثورة الأردنية” المُوَحِّدَة، واتفاقيات “كامب ديفيد” على أنقاض انتصار أكتوبر العظيم..
نقول.. وإن كانت طبيعة هذا التناقض قد اختزنت في قلب البناء المجتمعي العربي أَجِنَّة الثورات المرتقبة التي أعلنت عن نفسها في ربيعٍ غير مسبوقٍ مع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، مؤكدة أن الوظيفِيَّة والقُطْرِيَّة المرافقتين للخريطة السايكسبيكوية منذ مطلع القرن الماضي، هما بطبيعتهما نتاجُ حالةٍ شديدة التناقض مع الطموح الشعبي العربي في التحرر والوحدة والنهضة، وأنهما بالتالي غير قابلتين للاستمرار في سيادة الأمة العربية ورهن مستقبلها وتكريس تبعيَّتها.
كان على البترودولار أن يستوعب مئات الآلاف من الأردنيين وملايين المصريين للعمل في الخليج، ويربط بهم مئات آلاف وملايين أخرى في البلدين، لتصبح هذه العلاقة الجديدة بين مصدر الرزق “البترودولاري” وشريحة واسعة ومهمة من الشعبين في الدولتين، هي مفتاح المُنْتَج الثقافي الجديد الذي بدأ الإعداد له بعد الهزيمتين المذكورتين. إن العلاقة التي تنشأ عادة بين الإنسان ومصدر رزقه، أو بينه وبين مدخراته، أو بينه وبين مسكنه الذي استنزف كثيرا من سني عمله كي يؤمِّنَه، أو بينه وبين مشروعه الاستثماري الذي استطاع إنجازَه أيا كان حجمه، هي نوع من الخوف من الخسارة، والقلق من التهديد. وكل ذلك يؤدي بالضرورة إلى هيمنة روحٍ من تبرير الاستكانة والتردد والتخاذل والتسويف والترحيل.
لقد نجح البترودولار في تحقيق هذه المعادلات التي خلقت لدى كل من المواطن الأردني والمواطن المصري ثقافة استهلاكية، جعلت الأول يُظْهِر استعدادا لقبول مقولة “الفلسطيني الضيف المحايد سياسيا، والأردني المضيف المتوجس خيفة على هويته في أردن ما بعد أيلول”. فيما جعلت الثاني في مصر ما بعد أكتوبر يكتفي بتحرير سيناء متنازلا عن دوره القومي الذي كرسته الحقبة الناصرية، وغارقا في البحث عن فرصةٍ لمستقبل أقنعوه بوجوده في قلب مصر المنفتحة على الغرب والمهتمة بنفسها بعيدا عن الإرث العربي الثقيل، الذي أفهموه بأنه هو السبب الكامن وراء استنزاف الثروات وتخلف التنمية واستشراء البطالة والفقر.
وراجت بين المصريين منذ الحقبة الساداتية فكرة مفادها: “يكفي ما فعلته مصر للعرب الذين لم يقدموا لها شيئا، ويكفي الشعب المصري نكرانا للذات في سبيل العروبة التي لم تعد عليه بغير الضحايا والاحتلال والخسائر، ويكفي أن مصر خاضت لأجل العرب أربع حروب خلال ربع قرن فقط.. إلخ”. مع أن حسبةً بسيطة منصفة تكشف لنا عن أن مصر لم تخض أي حرب لأجل العرب بشكل يؤصِّل ويؤَسِّس للمقولة الساداتية سالفة الذكر. ومع أن النظام الساداتي لم يخض سوى حرب واحدة إضافة للحروب التي خاضها نظام جمال عبد الناصر، فإن هذا الزعيم الراحل الكبير لم يجد في حربي السويس وحزيران أي مبرر لمثل ذلك الادعاء الذي راج على ألسنة الساداتيين.
فحرب عام 1948 خاضتها كل الدول العربية آنذاك على قدم المساواة، وربما كانت مصر “الملك فاروق” أسوأ الدول العربية أداءً، بحكاية “السلاح الفاسد”، وحرب 1956 خاضتها مصر دفاعا عن نفسها ضد العدوان الثلاثي الذي سببه تأميم الرئيس “جمال عبد الناصر” لقناة السويس، وحرب 1967 وإن كانت مؤامرة أميركية إسرائيلية ضد العرب وعلى رأسهم مصر، فإن العرب لم يحاربوا فيها، بل حوربوا جميعا وعلى قدم المساواة، وتحديدا مصر وسوريا والأردن، وهزموا فيها جميعا وعلى قدم المساواة أيضا، وأما حرب 1973 فهي حرب خاضتها مصر لتسترد أرض سيناء المحتلة، ومع ذلك خاضتها معها سوريا.
هذا ولم يقف دور البترودولار عند هذا الحدِّ من إعادة إنتاج البناءَين المجتمعيين في الأردن ومصر بما يتناسب مع الأدوار الوظيفِيَّة والقُطْرِيَّة المرسومة لهما في حقبة ما بعد أيلول الأردني وأكتوبر المصري. بل إن النفط الذي كان يحرك المنطقةَ والعالمَ من خلالها، عبر بُنى احتكارية ذات طبيعة تقليدية، قامت على مدى عشرات السنين، على مبدإ الامتيازات الموروثة من العهود الاستعمارية. هذا النفط، بدأ ولأسباب لها علاقة بطبيعة تطور الرأسمالية في حاضنة الإمبراطورية الأميركية على مستوى العالم من جهة أولى، وبفضاءات وتطورات ونتائج التنافس الأميركي السوفييتي المحموم على إدارة هذا العالم من جهة ثانية، وبالإستراتيجيات الأميركية التي راحت ترتسم لصيرورة أحداث المنطقة، في ضوء مُكَوِّنات الصراعات القائمة فيها والمرتقبة من جهة ثالثة..
نقول.. بدأ هذا النفط بالارتكاز إلى تلك الأسباب مجتمعة، يأخذ مكانةً مميزةً وبارزةً في الإستراتيجيات الوظيفِيَّة البترودولارية لإقليم الخليج العربي تحت الزعامة السعودية، وهي المكانة التي راحت تترسخ وتتثبت شيئا فشيئا، منذ بدايات عقد السبعينيات من القرن الماضي، متخذة أشكالا مختلفة ضمن الإطار الإمبريالي الإحتكاري ذي النزعة الأميركية الإمبراطورية، بحسب التحولات الكبرى في العالم وفي الإقليم.
كانت هذه العوامل الرئيسة الثلاثة، هي الركائز الجيوسياسية التي وُلِدَت من رحمِها، ثم نمت في حضنها، أربعةُ عقود جديدة من التبعية والارتهان على مفارش الوظيفِيَّة والقُطْرِيَّة التي شهدتها حقبة ما بعد أيلول الأردنية، وما بعد أكتوبر المصرية.
فبين التقلب في أسِرَّة صراع عربي – إسرائيلي اخْتُزِلَ في قضيةٍ فلسطينيةٍ تصدَّت لها ثورةٌ قزَّمَتْها فلسطينيتُها من جهة أولى..
والتمرُّغِ في أحضان نظام عربي قُطْري وظيفي أَبَقَ عن كل معاني القومية التي شهدتها الحقبة الناصرية من جهة ثانية..
والاستمتاع بلسع نظام اقتصادي بترودولاري بشع، مَسَخَ كلّ شيء جميل في حياة العرب، عاملا على تحويلهم إلى كتل بلهاءَ منسوخة ببلادة عن الثقافة الاستهلاكية الأميركية من جهة ثالثة، مُكَرِّسا أبشع أنواع الفساد المالي والإداري، مارسته ودافعت عنه باستماتةٍ تحالفاتٌ طبقية بيروقراطية كومبرادورية حاكمة، مدعومة بأجهزة أمنية متغوِّلَة، وخالقا حالة من التزاوج غير المسبوقة بين الثروة والسلطة وقبضة الأمن الحديدية، على أنقاض ملايين الفقراء والجياع والعاطلين عن العمل، ومُسْهِماً إسهاما فعالا ولا محدودا في أَمْرَكَة وصَهْيَنَة المنطقة والعالم بالتالي، من خلال العمل على تمرير كل ما يخدم الأجندة الإمبريالية الأميركية أقليميا ودوليا، سياسيا واقتصاديا وثقافيا وإعلاميا..
نقول.. بين هذا وذاك، راحت الخرائط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والثقافية للمنطقة تتشكل وتنمو، وتقوى حينا وتضعف حينا آخر، وتتصارع اليوم لتتصالح غدا، من خلال خمسة محاور هي، المحور السوري، والمحور الأردني، والمحور المصري، والمحور العراقي، والمحور الخليجي.
فأما المحاور الثلاثة، الأردني والمصري والخليجي، فقد كانت وما تزال – باستثناء المحور المصري الذي أخرجه من هذا التحالف، سقوط نظام حسني مبارك، عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 – هي محاور التبعية المطلقة للمشروع الإمبريالي الصهيوني، العاملة على تمرير كل علاقاته في الإقليم، وعلى تعطيل كل مشاريع النهضة والوحدة والتحرُّر العربية، وعلى ترسيخ وتكريس كل ما من شأنه أن يخدمَ تلك العلاقات ويُعَطِّلَ هذه المشاريع على الصُّعد الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والإعلامية.
وأما المحور السوري فقد كان هو المحور الرمادي الذي تلوَّن بالطروحات القومية والوطنية على الصعيد النظري، فيما كانت ممارساتُه على أرض الواقع خليطا بين هذا وذاك، لأسباب ليس من الصعب اكتشافها في ضوء التَّغَيُّرات التي كانت تعتري المخططات العالمية والإقليمية التي تستهدف الإقليم، وإن كان من الصعب تفهُّمها دائما، لأنها كانت تتعارض في الكثير من المواقف التي فرضتها صيرورة أحداث الإقليم، مع المحتوى القيَمي العروبي للمقولات النظرية للمحور السوري.
وأما المحور العراقي فقد كان هو محور المشروع القومي الذي حاول وراثةَ المشروع الناصري واستكمالَه، لكنه فشل في تجسيده فشلا ذريعا، لأسباب بعضُها ذاتيٌّ نابعٌ من صميم التجربة العراقية التي أثبت قادتُها عجزا مريعا عن إدراك حساسية الوضع العراقي إقليميا وعالميا، وعن التبَصُّر بطبيعة دوره القومي المفترض في ضوء المُكَوِّنات والمُتَغَيِّرات الإقليمية.
مع التأكيد على أن بعضُ أسباب فشل المشروع القومي العراقي كان خارجيا أنتجته مُكَوِّنات الحراك المعادي لهذا المشروع، وطبيعة التفاعلات التي أنتجتها صيرورة الأحداث في الإقليم، وعلى رأسها الحراك الإمبراطوري الأميركي بأذرعه المختلفة. فيما كانت معظم أسباب الفشل راجعة إلى أسباب ذاتية وداخلية مردها إلى عجز قادة المشروع العراقي عن تحويل مشروعهم من مشروع نخبة وطنية وقومية حاكمة، إلى مشروع شعبي جماهيري كفيل بتحقيق منجزات على الأرض.

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.